في الخامس من تشرين الأول الجاري، وجه ضابط إسرائيلي إنذارًا لمستشفى الشهيد صلاح غندور في منطقة بنت جبيل جنوب لبنان يطالبه بإخلاء المستشفى تحت ذريعة استخدامه «لأنشطة غير طبية». وقبل انقضاء مهلة الساعات الأربعة، قصفت «إسرائيل» المستشفى وأصابت تسعة من طاقمها الطبّي، ثلاثة أطباء منهم في حالة خطرة. «إمّا أن نترك جرحانا يستشهدون ونستشهد معهم (..) أو نخاطر بالخروج»، يقول مدير المستشفى محمد سليمان تعليقًا على منع قوات الاحتلال وصول الإسعاف للمصابين ومرور أكثر من ساعة على الاستهداف من دون وصول أيّ من الجيش اللبناني والصليب الأحمر اللبناني واليونيفيل.
أخلت إدرة المستشفى معظم موظفيها من أطباء وممرضين وإداريين، وأخذوا معهم في سياراتهم زملاءهم الجرحى وبعض المرضى على أنابيب الأكسجين متوجهين إلى مستشفى تبنين الحكومي الأقرب إليهم، قبل أن يَجري توزيعهم على مستشفيات أخرى. قدمّ مستشفى صلاح غندور، الذي يخدم حوالي ثلاثين ألف نسمة في قضاء بنت جبيل، أكثر من 25 ألف خدمة صحّية خلال عام من العدوان الإسرائيلي الحالي، لكن هذا الاستهداف المباشر جعله واحدًا من ست مستشفيات حكومية[1] أخرجها العدوان عن الخدمة حتى الآن.
صحة لبنان: استعداد مبكر ينقصه التمويل
قبل الحرب، عانى القطاع الصحي اللبناني من أزمات متعددة، مثل نقص عدد الأطباء والموظفين نتيجة هجرة عدد منهم منذ بداية الأزمة الاقتصادية عام 2019، وقلة مخزون الأدوية والمستلزمات الطبية وأزمة تأمين الوقود وتضرر بعض المنشآت جراء انفجار مرفأ بيروت عام 2020.
في تشرين الثاني من العام الماضي، أعدّت الحكومة اللبنانية خطة للطوارئ خصصت فيها 50 مستشفى لعلاج الجرحى بمتوسط ألفي جريح يوميًا، إلا أن هذه الخطة واجهت نقصًا في التمويل بما في ذلك التكلفة التقديرية لعلاج الجرحى والبالغة 11 مليون دولار، بحسب تقدير نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون. مع نهاية تموز واشتداد حدّة المعركة في الجنوب، كشفت وزارة الصحة عن خطتها الداخلية لتهيئة القطاع الصحي عبر خمسة مجالات وهي إطلاق غرفة طوارئ صحية مهمّتها التنسيق بين مختلف الجهات الصحية، وإعداد الكوادر البشرية في المؤسسات الصحية على أسس استقبال ومعالجة جرحى الحروب، واستقدام مستلزمات طبية خاصة بالحروب وتوزيعها، والتنسيق بين الأجهزة والفرق الإسعافية العاملة، ووضع خطة خاصة لمعالجة آثار النزوح.
وبالفعل، نفذت غرفة عمليات طوارئ الصحة العامة تدريبات للكوادر الصحية في المستشفيات الحكومية والخاصة. يقول مدير العناية الطبية في وزارة الصحة اللبنانية جوزيف الحلو لحبر إن الوزارة وبالتعاون مع الجهات المختلفة، دربت الطواقم الطبية العاملة في 118 مستشفى، من أصل 145 مستشفى خاص وحكومي في لبنان، بدءًا من مستشفيات الجنوب.
كما أعدّت الوزارة جردًا للمستلزمات الطبية والأدوية الموجودة في مخازن المستشفيات الخاصة والمستوردين وتبين أنها تكفي لثلاثة أشهر. وجرى توزيع شحنة مستلزمات طبية وصلت لبنان من منظمة الصحة العالمية على المستشفيات والمراكز الطبية المختلفة.
العدوان يخرج مستشفيات الجنوب عن الخدمة
قبل أن تستهدف مباشرة، كانت مستشفيات جنوب لبنان تواجه أصلًا واقعًا صعبًا، إذ مع تصاعد العدوان عانت هذه المستشفيات نتيجة النزوح الكبير من البلدات الحدودية مع فلسطين المحتلة، وعدم تغطية نفقات علاج الجرحى من قبل وزارة الصحة وغيرها من الجهات الضامنة.
ومع خطورة الطرقات، لم تعد شركات الأدوية ترسل المستلزمات الكافية للمستشفيات والمراكز الصحية، وبات توفيرها أصعب، من ذلك مثلًا ما حدث مع مستشفى حاصبيا الحكومي الذي انقطعت عنه المساعدات العينية ما تسبب بنقص الأكسجين وتوليد الكهرباء، وأدى في النهاية إلى إغلاق وحدة العناية الفائقة فيه. كما أشار نقيب الصيادلة جو سلّوم إلى أن نصف الصيدليات على الأقل في مناطق الجنوب قد أغلقت بسبب الوضع الأمني على الحدود، وتعرّض بعضها لإصابات مباشرة.
أعلنت إدارة مستشفى ميس الجبل جنوبيّ لبنان مطلع تشرين الأول الجاري إخلاء المستشفى ووقف العمل في جميع أقسامه إثر «اعتداءات واستهدافات غادرة من قبل العدو الإسرائيلي طالت المستشفى والعاملين فيه، واستخدام الفسفور الأبيض المُحرّم دوليًا»، إلى جانب إغلاق مستشفيات صلاح غندور وقانا ومرجعيون وبنت جبيل. وبذلك لا يتبقّى اليوم في جنوب لبنان سوى مستشفى واحد هو مستشفى تبنين.
يقع مستشفى تبنين في منطقة بنت جبيل ويضم 85 سريرًا وأكثر من 200 موظف بين إداريين وممرضين وأطباء، وقد وصل لنسبة تشغيلية بلغت حوالي 95% جراء استهداف البلدات الجنوبية. وبحسب رئيس الإدارة في المستشفى محمد عواركة، فإن «المستشفى صمّام أمان صحي وحيوي في المنطقة».
في البداية كان استقبال الأعداد الأكبر من الجرحى مقتصرًا على مستشفيات جنوب لبنان، قبل أن يتم إخراج عدد منها بفعل العدوان. لكن الوضع تغير كليًا مع استمرار التصعيد، وتحديدًا انطلاقًا من مجزرة البيجر، والتي حصلت في 17 أيلول الفائت، وتبعتها في اليوم التالي عملية تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية، حيث أُبلغ عن إصابة المئات بجروح خطيرة في عدة أماكن في لبنان جراء انفجار أجهزة الاتصالات الخاصة بهم. فاستقبلت مستشفيات لبنان في غضون ساعات قليلة خمسة آلاف جريح، أكثر من 400 منهم إصاباتهم حرجة، وتطلّبت إجراء عمليات جراحية، أو إدخالًا إلى أقسام العناية الفائقة. يقول الحلو إن هذا الاستهداف زاد الضغط على المستشفيات التي تمتلك أقسامًا خاصة بالعيون، حيث أصيب معظم الجرحى، وتمكنت هذه المستشفيات من تنفيذ ثلاثة آلاف عملية في عمل أثبتت فيه خطة الطوارئ فاعليتها.
بعد أيام قليلة من هذه المجزرة، وسّع الاحتلال نطاق الحرب عبر غارات جوية غير مسبوقة، ليرتفع عدد الشهداء حتى الثامن من تشرين الأول، إلى 2119 شهيدًا، والمصابين إلى حوالي 10 آلاف. وللتعامل مع هذا الارتفاع في الضغط على المستشفيات قرّرت الحكومة اللبنانية وقف كل العمليات غير العاجلة في بعض المستشفيات القريبة من المناطق المستهدفة لإفساح المجال لمعالجة الجرحى.
كوادر على خط النار
تعاملَ طبيب الطوارئ والعناية الفائقة في مستشفى حمود الجامعي في مدينة صيدا، سامر سعادة، مع عشرات الحالات من الجرحى المتوافدين إلى المستشفى، بدءًا من عملية البيجر، حيث تم تحويل الكثير من الحالات من مستشفيات الجنوب إليهم لإجراء عمليات بتر الأطراف أو استئصال العين، حتى التصعيد الحالي الذي كانت إصاباته في مختلف أنحاء الجسم. ونظرًا لكثرة الإصابات فإن المستشفى يتعامل مع هذه الحالات عبر تقسيمها إلى طارئة و«باردة» أي تلك التي تستطيع الانتظار.
يسكن سعادة في منطقة آمنة نسبيًا بعيدة عن المستشفى، ودائمًا يفكر وهو في طريقه إليها إن كان سيصل وجهته آمنًا أم لا. لكنه ينظر لعمله بوصفه «واجبًا طبيًا وإنسانيًا» تحديدًا في ظل معاناة مستشفيات الجنوب نقصًا في الأطباء بعد أن نزح بعضهم وتوجهوا للاستقرار في مدن أخرى، خصوصًا في ظل تزايد استهداف الكوادر الطبية.
في آذار الماضي، استهدف الاحتلال مركزًا للطوارئ والإغاثة ذهب ضحيته سبعة مسعفين من بلدة الهبارية. «كانوا شباب بسهروا مع بعض، بس يدقلهم حدا دغري بكونوا جاهزين لمساعدته، هذول زعجوا وقهروا العدو الغاشم»، تقول بهاء عقل، والدة التوأم الشهيدين المسعفين أحمد وحسين الشعار، وتعتبر أن استشهادهم أثناء واجبهم الإنساني «شرف وكرامة لها».
وقد تكثفت استهدافات الكوادر الطبية منذ بداية التصعيد، ففي أوائل تشرين الأول، استهدفت غارة إسرائيلية سبعة من كوادر الهيئة الصحيّة الإسلاميّة بعد عودتهم من مهمّة إسعاف وإنقاذ في ضاحية بيروت الجنوبية بعد يوم عمل شاق وخطر إلى مركز الإسعاف الأوّلي المختص بالتدخّلات الطارئة، ليقضوا جميعًا شهداء إلى جانب شهيدين مدنييّن من المارّة. «كنّا نعتقد أنّ المركز بعيد عن دائرة الاستهداف باعتباره خارج الضاحية، [لكن] الإسرائيلي مستثار من عملنا»، بحسب تصريح سابق لمحمود كركي مسؤول الملف الإعلامي في الهيئة الصحية الإسلامية التي تقدم الإسعافات الأوّلية والخدمات الطبية.
يقول مفوض الدفاع المدني في جمعيّة الرّسالة للإسعاف الصّحي لحبر، علي مناع، إنه مع اشتداد المعارك، يصبح نقل المصابين من مستشفيات الجنوب إلى مستشفيات بيروت وصيدا أصعب مما كان عليه، في ظل تزايد أعداد الجرحى والمخاطر التي تحيط الطرق ومخاوف الاستهداف المتكرر، «في برج الشمالي، ذهب مسعفونا لإنقاذ الجرحى والمصابين من تحت الركام في إثر الاستهداف، لكن الطيران الإسرائيلي أغار مرّة جديدة على المكان نفسه واستشهد مسعفونا مع من أرادوا إنقاذهم».
بحسب الأرقام الأخيرة لوزارة الصحة اللبنانية، بلغ عدد الشهداء من العاملين في القطاع الصحي 102 شخصًا، إضافة إلى 225 جريحًا وتضررت 128 آلية، كان للهيئة الصحيّة الإسلاميّة النصيب الأكبر منها، إذ استهدف الاحتلال الإسرائيلي 17 مركزًا و62 آليّة تابعة للهيئة، كما قتلَ 68 من طواقمها الطبية، بالإضافة إلى كوادر ومرافق جمعية الرّسالة الإسلاميّة الذين قتل الاحتلال 18 من مسعفيها، ودمّر 15 مركزًا طبيًا تابعًا لها و57 آليّة من آلياتها.
يعتبر محمود كركي، مسؤول الملف الإعلامي في الهيئة الصحية الإسلامية، أن عمل الهيئة الصحية الطبية الإسلامية الإنساني هو بحد ذاته تحدٍ للعدوان الإسرائيلي: «كان يقفل طرقات في القرى المأهولة فنقوم بفتحها، ويشعل الحرائق في البساتين والأحراج فنطفئها، ويقصف الأُسر في المنازل فننقذهم، ويحاصر العوائل بالنار فنخرجهم».
وقد طالت جرائم الاحتلال مختلف الهيئات الإسعافية الأخرى في لبنان بما فيها هيئة الإسعاف اللّبنانيّة والدفاع المدني اللبناني والصليب الأحمر اللبناني وجمعيّة «عامل» الدولية. وبحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، تلقى جهاز الدّفاع المدني اللّبناني تهديدات إسرائيليّة بعدم التوجّه إلى المناطق المستهدفة وإلّا فسيتم استهدافهم في حال الاقتراب من مواقع الغارات لإغاثة الضحايا وتحديدًا إلى الضاحية الجنوبيّة لبيروت.
مع استمرار العدوان الإسرائيليّ الذي يقوّض بشكل ممنهج البنية التحتية الطبية والإنقاذية والإغاثية في لبنان، كما يعيق عمليات البحث وإنقاذ الجرحى والضحايا من تحت الأنقاض، يتخوف وزير الصحة اللبناني فراس الأبيض من انهيار النظام الصحي بالبلاد. فيما قال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية إن النظام الصحي في لبنان يكافح لأجل التعامل مع أعداد المصابين الذين تكتظ بهم المستشفيات.
استهدفت «إسرائيل» مؤخرًا محيط مستشفى سانت تيريز في ضاحية بيروت الجنوبية بغارة قريبة، إلا أن المستشفى رفض إغلاق أبوابه أمام المرضى والمصابين. «لن نقفل أبوابنا»، أكد مسؤولو إدارات مستشفيات الرسول الأعظم وسانت تيريز وبهمن والساحل وسان جورج، وهي المستشفيات الخمس الرئيسة في الضاحية الجنوبية،. فيما قامت بعضها باستحداث غرف منامة لكوادرها الطبية تجنّبًا لتعريضهم للخطر خلال التنقّل.
أمّا المستشفيات التي توقفت عن العمل في البلدات الحدودية جنوبًا، فتتطلع لاستعادة عملها قريبًا. يقول مدير مستشفى مرجعيون مؤنس كلاكش إن استهداف المستشفى بمسيّرة إسرائيلية واستشهاد سبعة من طاقم إسعاف الهيئة الصحية الإسلامية كان ينقل الجرحى والمرضى دفع لإخلاء المستشفى حرصًا على سلامة الموظفين والفرق الطبية، لكن المستشفى سيعاد فتحه في أقرب فرصة ممكنة.
-
الهوامش
[1] مستشفيات صلاح غندور وقانا وميس الجبل ومرجعيون وبنت جبيل في الجنوب ومستشفى المرتضى في بعلبك.