للمرّة الأولى في حياته، يجرّب الخمسينيّ عبد الله[1] الاعتقال عند جيش الاحتلال الإسرائيلي؛ فهو مذ وعى على الدنيا يشتغل عامل مياومة، حياته تقريبًا موزعة بين البيت والعمل ليؤمن بالكاد لقمة عيشٍ لأولاده السبعة وإيجار البيت الذي يضمّهم.
أواخر تشرين أول الماضي، أوقفت دوريّة لجيش الاحتلال الإسرائيلي سيارةً فيها عبد الله، وبالتفتيش على بطاقته الشخصية اكتشفوا أنه قريبُ مطلوبٍ للجيش، فأنزلوه وأمره الضابط أن يتصل بعائلته ليخبرهم، في دقيقة واحدة، أنه موقوف بدل قريبه المطلوب.
اقتيد عبد الله معصوب العينين ومكبّل اليدين، وتحت الضرب بكل شيء يملكه جنود الدوريّة؛ أعقاب البنادق، ومعدات عسكريّة، والصفع بالأيدي، والركل بالأرجل، ثم البصق والشتائم، حتّى وصل إلى مركز التحقيق عند حاجز حوّارة مع موقوفين آخرين من مدن الضفة الغربية وقراها.
خلال يومين هناك، بدون أكل أو شربة ماء، وبجسدٍ ينزف، اشتدّ الضرب وتمنّى عبد الله الموت. لكن نوعًا آخر من التعذيب سيترك أثرًا كبيرًا في نفسه، حين صار الجنود يتسلّون بضربه بالبساطير بين الفخذين، ومن ثم إلقائه على الأرض والدوس على رأسه، والمجنّدات حاضرات «يصورنّا وهن يضحكن ويكهكهن».
عبد الله واحدٌ من قرابة ثلاثة آلاف فلسطيني اعتقلوا في الضفّة الغربيّة بعد السابع من أكتوبر، أي بمعدل يوميّ يبلغ 70 حالة اعتقال. وقد أُوقِف هؤلاء عبر مداهمة الجيش لمنازلهم، أو عند الحواجز العسكرية، ومنهم من سلّم نفسه بعد أن أخذ الجيش أحد أفراد عائلته رهينة، أو بعدما استُدعي للتحقيق، فضلًا عمّن اعتقل بهدف التحقيق الميدانيّ، بحسب نادي الأسير الفلسطيني.
تطال هذه الاعتقالات بالدرجة الأولى المنتمين والناشطين في حركتيْ حماس والجهاد الإسلامي في الضفة، وأعضاء من فصائل أخرى، وأسرى محررين، وأقارب مقاومين مطلوبين للجيش، وناشطين اجتماعيين، ومدونين على وسائل التواصل الاجتماعي.
في الـ30 من تشرين أول، أي بعد يومين على توقيفه في حاجز حوّارة، حوّل الجيش عبدالله إلى سجن «مجدو»، وحين دخلَ دبّ الرعب في قلبه لمّا سمع صوت صياح الأسرى من التعذيب ومشهد الدم «يسحّ» من الزنازين.
أمضى عبد الله عشرة أيّام في السجن، داخل زنزانة فيها 14 أسيرًا لهم 10 أسرّة، تدبّر الأربعة الباقون النوم على ثلاث فرشات خفيفة صفّت بالعرض لتكفيهم، يقول عبد الله عنها: «هي وقلّتها واحد، وحرام بغطيش نصّ جسمه». كانت الزنزانة فارغةً تقريبًا، فلا أجهزة تلفاز أو مقتنيات شخصيّة، إذ صادرت إدارة السجون حاجيات الأسرى بما فيها غياراتهم مع بدء معركة طوفان الأقصى، وعاين عبد الله كيف ارتدى بعض الأسرى ملابس مبللّة من آثار ماء الغسيل.
منذ السابع من أكتوبر تشتدّ الإجراءات العقابيّة على الأسرى. في البداية قلّصت سلطات الاحتلال كميّات وجبات الطعام فيما أغلقت دكّان السجن، ومنعت عن الأسرى القهوة والشاي والفواكه. والآن صاروا بالكاد يحصلون حتى على الماء، وهو ما يصفه أحد الأسرى قائلًا إن «الشبع ممنوع بقرار». اقتصر الطعام في زنزانة عبد الله على بيضة مسلوقة في الصباح، ونصف حبّة بطاطا مسلوقة في المساء، ولاحظ عبد الله أن الكثير من الأسرى يلجأون إلى الصوم يومًا بعد يوم من أجل التوفير في الطعام.
مع نهاية اليوم العاشر، دون أن يحقق معه أو توجه له تهمة، جاء جندي ليفرج عن عبد الله، وبعد أن خطى أولى خطواته خارج الزنزانة سمع الأصوات تصيح له: «وصّل شو الوضع اللي إحنا بنعيشه، كل واحد عنده شرف يحاول يساعدنا بأيّ طريقة، يعملوا المستحيل، قلهم أولادكم بالسجن قاعدة تنعدم». يقسم عبد الله أنه سيوصل الأمانة، وهكذا تحدّث لنا بالرغم من تهديد الجيش له بمعاودة توقيفه إن هو تحدّث للصحافة.
يتركّز المعتقلون الجدد في ثلاثة سجون رئيسيّة، وهي السجون الأسوأ سمعةً من بين سجون الاحتلال: مجدو والنقب وعوفر. وقد استشهد في سجون الاحتلال منذ معركة طوفان الأقصى ستة أسرى، خمسة منهم في السجون الثلاثة هذه، وهم عمر دراغمة (58 عامًا)، وعرفات حمدان (25 عامًا)، وماجد زقول (32 عامًا)، وقد اعتقل هؤلاء بعد بدء المعركة، بالإضافة إلى عبد الرحمن مرعي (33 عامًا) المعتقل قبل أشهر من المعركة، وثائر أبو عصب المعتقل منذ 18 عامًا.[2]
مساء 18 تشرين الثاني، في سجن النقب، اقتحمت قوّة من السجّانين إحدى الغرف واعتدت على الأسرى بالضرب، وكان بينهم أبو عصب الذي تدهورت حالته الصحيّة. طلب الأسرى من إدارة السجن ممرضًا للكشف على أبو عصب. رفضت في البداية، ثم أرسلت ممرضًا بعد ساعة ونصف ليكتشف أنه يُعاني من «مشكلة في النبض»، فنقل إلى مكان مجهول ووصل بعدها خبر استشهاده لعائلته من الأخبار.
لم يكن أبو عصب يعاني من أيّة أمراض مزمنة، بل كان بصحة جيّدة، ولا يتناول ولو حبّة دواء واحدة لأي مرض كما تقول عائلته التي كانت على تواصل معه قبل 7 أكتوبر، وتسمع أخباره من المفرج عنهم بعد هذا التاريخ، وكان آخرها قبل إعلان استشهاده بيومين. الآن، تطالب عائلته بالإفراج عن جثّته التي يحتفظ بها الاحتلال، وبالكشف على الجثّة للتأكّد من سبب وفاته.
تحديث: بحسب تصريح أدلى به الأسير الطفل المحرر مؤخرًا، عمر العطشان، فقد تعرّض أبو عصب للضرب المبرح من السجانين الإسرائيليين بعد سؤاله أحدهم إن كانت هنالك هدنة قادمة، وقد استشهد إثر هذا الضرب.
انتقام من عائلات المطلوبين
تقسّم سلطات الاحتلال الإسرائيلي الضفة الغربية عبر حواجز رئيسيّة مثل حاجز حوارة قرب نابلس، والكونتينر قرب الخليل. في المنطقة الواحدة يغلق الجيش مداخل المدن والبلدات الفلسطينية والمخيمات وطرقها الفرعية بسواتر ترابية أو اسمنتيّة، أو حواجز وبوابات حديدية عسكرية.
تعزل هذه السواتر والحواجز بعض القرى في الجهة الواحدة عن بعضها، خاصةً تلك القريبة من المستوطنات والشوارع الالتفافية الاستيطانية، التي تشهد نشاطًا مقاومًا ضد الجيش والمستوطنين.
تكمن سيارات الجيش على مداخل القرى أو المعسكرات وأبراج المراقبة القريبة من تلك القرى فيما تحوم الطائرات المُسيّرة في سمائها «الطيارة بتفارقش روسنا»، وتراقب التجمّعات الشبابية والسيارات، تحديدًا بالقرب من الشوارع الالتفافية والمستوطنات المحاذية للبلدات.
كانت إحدى تلك القرى تتحضر لتشييع جثمان شهيدٍ حين اقتحمتها قوة خاصة إسرائيلية تستقل سيارة مدنية بلوحات تسجيل فلسطينية، واقتحمت منزل الشاب فراس. خلعوا باب بيته حيث ينام الأب والأم وأطفالهم، لكنهم لم يجدوا فراس، فجمّعوا العائلة في غرفة صغيرة تحت الضرب، وفتشوا البيت، وحاولوا أخذ المصاغ الذهبيّ فوقفت البنات والأم لهم، فضربوهنّ بأعقاب البنادق والمعدات التي يحملونها من دروع وخوذ وداسوا على المصاغ وصادروا الهواتف.
«قول لمرتك تجهّز حالها بدي آخذها، وبدي أخذ كل اللي بالدار»، قال الضابط للأب ووضع عصابة على عينيه وقيودًا في يديه. وهكذا فعل مع بعض الأطفال كذلك، ثم اقتادهم جميعًا إلى أحد معسكرات الجيش القريبة من القرية وتركهم على الأرض لساعات.
ظنّ الأب -كونه أول من عُصبت عيناه- أن العائلة كلها معه، لكن الأطفال أخبروه أن أمّهم بقيت في البيت. «المرّة الجاي راح ناخذها» قال الضابط للأب طالبًا منه مهاتفة ابنه فراس وإقناعه بتسليم نفسه: «قالّي بحوّل حياتك وحياة عائلتك لجحيم، بجيك على البيت كل ساعة، من الباب، من الشباك، من السقف، بجرّافة بجيك». سلّم فراس نفسه بعد عدة مكالمات، ثم أفرج عن الأب والأطفال، ومضت أيامٌ دون أن يعرف أحدٌ من العائلة مكان الابن أو التهمة الموجهة له.
اختلفت مداهمة الجيش هذه المرّة عن المرات السابقة التي كان يقتحم فيها البيت لاعتقال أحد الأبناء، يقول الأب إنها أشبه ما تكون بعملية انتقام، وأن أيدي جنود الجيش مبسوطة في العنف والتخريب وتعمّد إهانة الناس، لكنّه يضيف «فشروا بعينهم يذلّوا حدا، بدهم يرضوا داخلهم المهزوم، بروحوا يذلوا الناس، بدهم يبينوا حالهم مسيطرين».
بعد عدّة أيّام أخبر الصليب الأحمر العائلة أن فراس موجود في أحد مراكز التحقيق لكن دون توجيه تهمة، هكذا يكون فراس واحدًا من بين أكثر من ألفيْ معتقلٍ إداريّ من بين ثلاثة آلاف معتقل بعد السابع من أكتوبر.
وقد ارتفعت وتيرة الاعتقال الإداري بعد طوفان الأقصى. وثمة عدم وضوح في هذه الاعتقالات وفقًا لنادي الأسير، فبعض الأسرى صدرت بحقهم اعتقالات إدارية لمدة ستة أشهر ليفرج عنهم بعد عدّة أيّام. تقول مسؤولة الإعلام في النادي أماني سراحنة إن شكل التوقيف -بحسب متابعتهم- يأخذ شكل الانتقام والعشوائيّة.
يُذكر أن عمليات الاعتقال طالت مسنّين، وما يقرب من 200 طفل، وطالبات جامعيات مثل طلبة جامعة الخليل وبيرزيت، ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي. وفي حالات كثيرة يكون وجود صورة شهيد أو مقطع فيديو لعملية في غزّة على الهاتف سببًا في توقيف الشخص على إحدى حواجز الجيش، إذ يطلب الجنود على الحواجز هواتف الناس، ومبدئيًا يعرّض وجود تطبيق تيليجرام صاحب الهاتف للضرب أحيانًا، وإن كان مشتركًا في قنوات إخبارية لفصائل المقاومة في غزّة فهو معرّض للاعتقال.
التضامن مع غزة ممنوع
في حالات كثيرة، ووفق شهادات متطابقة، يشارك مستوطنون مسلّحون في عمليات الاعتقال، يروي أمير[3] -وهو أسير سابق- لحظة مداهمة بيته مؤخرًا من قبل عشرات الجنود وسحبه إلى الشارع حيث تجمّع مستوطنون مسلحون: «نفخة الموت إجت بين عينيّ لما شفت دخلة المستوطنين علينا».
اقتيد أمير إلى مستوطنةٍ قريبةٍ، وبدأ عناصر الجيش بضربه ومعتقلين آخرين من قرى مجاورة؛ أحدهم اعتقل لوجود راية حماس في بيته: «الشبّ من كثر ما أكل ضرب بيقوله أنا مش حماس، قاله [الجندي] بدنا نصفّي كل الشعب الفلسطيني، وهاي أرضنا وبدكم تطلعوا منها». وفي الليل، دون أكل أو شرب، يأتي المستوطنون بسمّاعات صوت كبيرة وتقام حفلةٌ يتخللها الضرب والشتم والرقص على أجساد الأسرى، ويقدّم المستوطنون أحذيتهم أمام وجوه الأسرى لتقبيلها. «خبطوا على روسنا وتفوّا علينا، وسبوا على خواتنا وإمياتنا». في اليوم الرابع أُفلِت أمير دون أن يعرف سبب اعتقاله أو سبب الإفراج عنه، لكن مع ذكرى مؤلمة حيث كسروا أصابع قدميه إصبعًا إصعبًا.
لا تجري مشاركة المستوطنين في تعذيب المعتقلين أو إهانتهم بعيدًا عن أعين الجيش والحكومة الإسرائيليّة، وقد نشرت شخصيّات في الحكومة مقاطع فيديو تتضمن إهانات للمعتقلين، مثلما فعل وزير الأمن القومي الإسرائيليّ إيتمار بن غفير عندما نشر أكثر من مرّة صور معتقلين من الضفّة مكبّلين أو مجبرين على أخذ صورة مع العلم الإسرائيلي.
كانت الصور التي نشرها بن غفير لمعتقلين على خلفيّة نشرهم منشورات على وسائل التواصل الاجتماعيّ، عبّروا فيها عن تأييدهم للمقاومة، أو انتقدوا فيها الجيش الإسرائيلي، وهو نوع من الاعتقال يجري التوسع فيه ويمكن أن يطلق عليه اعتقال الفعل التضامنيّ لأهل الضفة مع ما يجري في غزّة، وتكون تهمته التحريض على العنف والإرهاب، ويمكن أن يوقف الشخص بسببه أو يتعرض بيته أو مكان عمله للهدم، حتّى وإن كان المنشور على سبيل النكتة.
يهدّد الجيش المفرج عنهم، أو عائلات من بقي منهم في الاعتقال على الدوام، بضرورة عدم التحدّث للصحافة عمّا جرى لهم، أو النشر على مواقع التواصل الاجتماعي، يقول والد أحد الموقوفين: «قالولي ابنك عنّا، دير بالك تحكي».
-
الهوامش
[1] اسم مستعار حفاظا على خصوصيته.
[2] بالإضافة إلى شهيد آخر من عمّال غزة لم تعرف هويته في سجن (عنتوت)
[3] اسم مستعار حفاظا على خصوصيته.