دخلت الجمهورية التركية مرحلة جديدة من التصعيد بين السلطة والمعارضة عقب اعتقال أحد أبرز وجوهها رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو، وعشرات المقربين منه بينهم رؤساء بلديات، وأعضاء مجالس بلدية، وصحفيون ومستشارون. تأتي هذه الاعتقالات الضخمة في إطار تهمتين رئيستين بحسب النيابة العامة التركية الأولى تأسيس منظمة إجرامية ترتكب جرائم الرشوة والنصب والاحتيال والفساد الإداري، والثانية دعم حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا في تركيا بحجة التعاون مع حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب في الانتخابات المحلية الماضية. جاءت هذه الخطوة الصدامية بعد ساعات قليلة فقط من قرار جامعة إسطنبول إلغاء شهادة إمام أوغلو الجامعية وآخرين بحجة حدوث «خطأ واضح» يجعلها بحكم العدم، دون تقديم تفاصيل أخرى. وهذا الإلغاء لشهادته الجامعية، والذي يجيء بعد تحقيق قضائي وفي ظل جدل سياسي حول صحته، يعني عدم قدرة إمام أوغلو على الترشح للرئاسة في ظلّ كون الشهادة الجامعية متطلبًا أساسيًا للترشح.
ليست هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها إمام أوغلو لخطوات قضائية، إذ ومنذ فوزه برئاسة بلدية إسطنبول الكبرى في العام 2019 يواجه خمس منها دعاوى قضائية مستمرة، طالبت فيها النيابة العامة بعقوبات يصل مجموع سنوات السجن فيها لـ25 سنة مع فرض حظر سياسي عليه.
هذه التطورات الكبيرة تتزامن مع عقد حزب الشعب الجمهوري انتخابات تمهيدية لاختيار مرشحه الرئاسي ودعوته لانتخابات مبكرة في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية في تركيا اليوم. تزعّمَ إمام أوغلو هذا المسار وقدم نفسه كمرشح في انتخابات حزبه وكزعيم لـ«ثورة ديمقراطية» توصله للمنافسة على كرسي رئاسة الجمهورية. قبل اعتقاله، قام أوغلو بجولات على مختلف المدن التركية فيما يشبه حملة انتخابية تقوم على انتقاد السلطة السياسية القائمة والرئيس أردوغان شخصيًا والتأكيد على فكرة «انتهاء عصره».
السياسة التركية تغلي
هناك حالة إجماع واسعة في مختلف تيارات المعارضة التركية على أن ما يجري مع إمام أوغلو ما هو إلا محاولة لتصفية خصم سياسي يهدد السلطة الأردوغانية. حيث شدد زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزل، على أن ما تقوم به الحكومة التركية هو «انقلاب استباقي» ضد رئيس الجمهورية المقبل موضحًا أنه لا يمكن تجاهل التزامن بين خطوات السلطة ضد إمام أوغلو وموعد الانتخابات التمهيدية في حزبه. وأكد على أن هذا التزامن دليل على أن أردوغان يعلم أن إمام أوغلو سيهزمه في الانتخابات لذلك يحاول قطع الطريق عليه، وأن تركيا أمام فرصة وحيدة لهزيمة «الانقلاب» وإلا فإنها لن ترى صناديق الاقتراع من جديد على حد زعمه.
حرّض أوزل المواطنين على النزول إلى الشوارع عوضًا عن إهدار الوقت بلعب السياسة في الصالات مؤكدًا على أن المواجهة السياسية من الآن فصاعدًا ستكون في الشوارع والميادين. توازت هذه الدعوات مع تنظيم الشعب الجمهوري مظاهرات متزامنة في عشرات المدن التركية واجهتها السلطات بفرض حظر التجمعات في بعض المدن الكبرى من بينها إسطنبول وأنقرة وإزمير. وتعتبر هذه الدعوات للنزول إلى الشوارع والميادين خطوة تصعيدية لم تشهدها السياسة التركية منذ مظاهرات غيزي بارك قبل 12 عامًا.
وفي الأثناء، علّق منافس إمام أوغلو الداخلي، رئيس بلدية أنقرة الكبرى منصور يافاش، مسار ترشحه للرئاسة احتجاجًا على الممارسات السلطوية ضد إمام أوغلو وحتى يتمكن من المنافسة وفق شروط عادلة في ظل حالة تضامن واضحة بين مختلف التيارات المتنافسة داخل الحزب المعارض.
كما استنكرت الحركة الكردية الخطوات ضد إمام أوغلو لا سيما اعتبار التحالف معها في الانتخابات الماضية سببًا للاتهام بالإرهاب مع التشديد على وقوفها ضد كل هجوم على الديمقراطية في تركيا. وكذلك شدد القوميون في المعارضة كالحزب الجيد على رفض ترشح أردوغان من جديد باعتباره مخالفًا للدستور متهمين الرئيس التركي بمحاولة تصفية خصومه للانقلاب على الدستور التركي. وأكد زعيمه مساوات درويش أوغلو، على ضرورة تبني المعارضة موقفًا موحدًا بمقاطعة الانتخابات الرئاسية في حال استمرار انتهاك الدستور والممارسات التعسفية ضد المنافسين السياسيين.
بالمقابل، قاربت الحكومة وحزبا العدالة والتنمية والحركة القومية المسألة من زاويتين؛ الأولى التأكيد على استقلال القضاء وضرورة احترام قراراته وعدم تدخلها بالخطوات القضائية ورفضها ربط التطورات ضد إمام أوغلو بالرئيس أردوغان واستهجان وصف الأحداث بالانقلاب. والزاوية الثانية هي الهجوم على المعارضة من باب دعوتها للنزول للشوارع عبر التأكيد أن مكان الاعتراض هو المحاكم، وأن الدعوات تأتي لإثارة الفوضى في البلاد. كما تجاهل الرئيس أردوغان مطالب المعارضة عبر القول إنه ليس لديه الوقت لتخصيصه لمشاكل المعارضة زاعمًا أن معظم المعلومات في التحقيقات مقدمة أصلًا من أعضاء الشعب الجمهوري أنفسهم، وأن النزول للشارع يؤدي إلى طريق مسدود مستنكرًا محاولات خلق الفوضى في شوارع البلاد ومتعهدًا بأنه لن يغض الطرف عن السعي لترويع تركيا وزعزعة استقرارها.
في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل السياق الخارجي لهذه التطورات المتسارعة. إذ تجري هذه الأحداث في ظل تغيرات جيوسياسية عميقة في العالم نتيجة التحولات في الولايات المتحدة، والتي تبتعد إدارتها الجديدة عن توظيف دعاية الديمقراطية كالسابق. كما ويعاني الاتحاد الأوروبي اليوم من مأزق روسي أمريكي يجعل من تركيا شريكًا مصيريًا في التعامل مع العديد من التحديات الجديدة. وبالتالي يمكن القول إن تركيا تتوقع أن تكون الظروف الدولية حائلًا دون ممارسة الأطراف الدولية لضغط جدي على أنقرة في قضية إمام أوغلو.
ماذا بعد؟
تسعى هذه الإجراءات الموجهة ضد إمام أوغلو، من وجهة نظر الكثيرين، لقطع الطريق على أحد أبرز المنافسين الأقوياء على كرسي رئاسة الجمهورية قبل الانتخابات المقررة بعد سنوات وامتصاص أي ردود أفعال محتملة من قبل المعارضة حتى حينه.
يمكن للحكومة في حال تثبيت اعتقال إمام أوغلو واستمرار عملية التقاضي عزله من منصبه كرئيس للبلدية وإبقاء المجلس تحت سيطرة حزب الشعب الجمهوري كما هو. لذلك، أكد أوزل أن تعيين وصي حكومي على البلدية -في حال حصل- يعني التدخل المباشر في إرادة الشعب، وأن حزبه لن يترك مبنى البلدية متعهدًا بإظهار أقوى رد فعل ديمقراطي لإحباط ما وصفه بالتدخل العنيف ضد الديمقراطية. وبالفعل تناقلت وسائل إعلام تركية أن أوزل وقيادات بارزة في الشعب الجمهوري تقيم داخل المبنى الرئيس للبلدية في تحدٍ لأي خطوات شبيهة محتملة. ليس هذا وحسب، فقد أعلن أوزل بشكل مفاجئ أن حزب الشعب الجمهوري سيذهب لعقد مؤتمر عام استثنائي موضحًا أن هذه الخطوة تأتي لقطع الطريق على محاولة السلطة تعيين وصي حكومي على حزب الشعب الجمهوري نفسه.
من ناحية أخرى، يركز الشعب الجمهوري على حشد الشرعية لإمام أوغلو لا سيما من خلال بوابة الانتخابات التمهيدية داخل الحزب والرهان على مشاركة واسعة فيها كأداة اعتراض ضد السلطة. فبعد أن كان التصويت مقتصرًا على أعضاء الشعب الجمهوري أعلن الحزب أنه يفتح المجال أمام الجميع للمشاركة في الانتخابات لتشكيل أكبر حالة تضامن مع إمام أوغلو. وهنا يحاول حزب الشعب الجمهوري توظيف مظلومية أوغلو لحشد الناس للوقوف معه، في حالة شبيهة لما حصل مع أردوغان في التسعينيات حين حاربته المنظومة العلمانية وفرضت حظرًا سياسيًا عليه وحكم عليه بالسجن في العام 1999.
إضافة لذلك، يبدو من الواضح أن الشعب الجمهوري حريص على توظيف ورقة النزول للشارع كمحاولة لردع أي خطوات إضافية وتكثيف الاحتجاجات للضغط على سلطة أردوغان. يترافق ذلك مع حالة وِحدة لافتة بين تيارات الحزب وبين مختلف أحزاب المعارضة ما قد يفتح المجال أمام تحركات مشتركة ومنسقة.
وبالفعل، شهد يوم الأحد (23 آذار) قرار المحكمة التركية تثبيت اعتقال إمام أوغلو على ذمة التحقيقات في تهمة الفساد مع رفض سجنه بتهمة دعم الإرهاب. وبذلك أُرسل رئيس بلدية إسطنبول الكبرى إلى السجن مع قرار رسمي من وزارة الداخلية بعزله من منصبه لكن مع السماح لمجلس البلدية الكبرى بانتخاب وكيل لرئاسة البلدية، أي دون تعيين وصي حكومي كما كان قد يحصل في سيناريو تثبيت اعتقاله بتهم الإرهاب. وبالتالي يمكن القول إن القضية الحالية ركزت على إمام أوغلو وأدخلته في عملية تقاضٍ طويلة قد تستمر لسنوات.
من جانبها، صعّدت المعارضة بالتزامن مع قرار المحكمة ضد إمام أوغلو من المظاهرات والحشد المستمر للانتخابات التمهيدية. وفي نهاية يوم التصويت في انتخابات من مرشح واحد هو إمام أوغلو أعلن حزب الشعب الجمهوري أن قرابة 15 مليون مواطن تركي صوتوا لصالح إمام أوغلو مشددًا على لسان العديد من قادته أن ذلك دليل على رفض الخطوات الرسمية ضده وتأكيد على أن الشعب يريد الذهاب إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
ليس من المعروف بعد أين ستقف التطورات الحالية خاصة أن الأيام وربما الساعات القادمة قد تحمل مفاجآت كثيرة. لكن لا يختلف أي متابع للشأن التركي على أن استهداف إمام أوغلو حدث مؤسس في السياسة التركية الحالية وقد يفتح مسارات جديدة في الحياة السياسية. من المبكر الحديث عن انعكاسات هذه التطورات التي تنطوي على الكثير من السيناريوهات المختلفة لكن تداعياتها السلبية بدأت تلقي بظلالها على مجالات مختلفة كما هو الحال في المؤشرات الاقتصادية مثل سعر الصرف، والبورصة، وتكلفة التأمين على الديون.
لا يمكن الجزم بالمستقبل لكن يبدو المنحى التصعيدي للأحداث هو الغالب في ظل أن كلا الطرفين في السلطة والمعارضة يريان أنهما أمام تحدٍ وجودي يتطلب منهما سياسة تصعيدية قد تتمثل عند السلطة في تصعيد الحملة ضد إمام أوغلو وربما غيره، وقد تنطوي عند المعارضة على تبني خيار تحدي قرارات الحكومة والتوجه نحو الاحتجاج الواسع والصدامي في الشارع.