أنس الجمل

أنس الجمل: رأيٌ يعكّر صِلات المملكة

تصميم محمد شحادة.

أنس الجمل: رأيٌ يعكّر صِلات المملكة

الثلاثاء 13 أيلول 2022

ظهيرة يوم 24 أيار الماضي، خرج الشاب أنس الجمل (24 عامًا) من منزله باحثًا عن فرصة عمل، بعدما فقد عمله كبائع على بسْطةٍ إثر اعتقاله في آذار الماضي بتهمة تعكير صلات المملكة بدولة أجنبية. وبينما هو في وسط البلد بمدينة إربد اعتقله رجال الأمن وأخذوه إلى مركز أمن إربد المدينة (الجنوبي). كان صديق أنس متواجدًا في المنطقة نفسها، فتواصل مع أهله طالبًا منهم إحضار بطاقة هويته.

في المخفر، استنكرت والدة الجمل، ميرفت أبو غوش، طريقة توقيف ابنها: «احكوا معاه تليفون، بجيكم لحاله». ولمّا أرادت معرفة سبب اعتقاله، ردّ عليها رجال الأمن: «يمكن كف طلب»، لكنها وجدت بعد الرجوع إلى المحامي أن ابنها لم يكن مطلوبًا أساسًا.

«ظلّينا خمس أيام مش عارفين شو تهمته» تقول والدته، وقد قضاها متنقلًا بين المراكز الأمنية داخل إربد؛ الجنوبي والمديرية والشمالي، ثم جرش، حتى وصل عمّان في 29 أيار وعُرض على المدّعي العام الذي وجّه له تهمة تعكير صلات المملكة بدولة أجنبية استنادًا إلى قانون منع الإرهاب، وأمر بتوقيفه 15 يومًا. وبحسب لؤي عبيدات، محامي الجمل، فإن هذه التهمة تأتي على خلفية منشورٍ على فيسبوك ينتقد حبس أحد المعارضين في سجون دولةٍ عربية، ونُشر عام 2020 على صفحة الجمل التي حذفها فيسبوك. فيما تُنكر عائلة الجمل التهمة وتعتبره غير مسؤولٍ عن المنشور غير المتاح على فيسبوك حاليًا بعدما حُذفت الصفحة.

بعد الأسبوعين الأولين، ظلت تتجدّد أوامر توقيف الجمل، حتى وصلت ثلاثة أشهر تقريبًا دون أن يُعرض على محكمة أمن الدولة المختصة بقضايا منع الإرهاب، فأعلن الجمل في 28 آب الماضي من سجنه في مركز إصلاح وتأهيل ماركا، وعبر تغريدةٍ نشرتها والدته، إضرابه المفتوح عن الطعام. وبعد ثلاثة أيام نُقل أنس مقيّد اليدين والقدمين إلى مستشفى البشير نتيجة هبوطٍ حادٍ في السكّر، فيما رفضت المحكمة طلب محاميه إخلاءَ سبيله بالكفالة. وبعد أسبوعٍ من إضرابه عُقدت الجلسة الأولى لمحاكمته في الرابع من الشهر الحالي، وقد بدا واضحًا لوالدته ومحاميه في تلك الجلسة تدهور وضعه الصحي.

من وقفة أمام الهيئة المستقلة للانتخابات للمطالبة بالإفراج عن الناشط أنس الجمل ومعتقلي الرأي، بتاريخ 11 أيلول 2022. تصوير شربل ديسي.

ينتمي الجمل إلى أسرةٍ فقيرة، لأمٍ هي ربّة منزلٍ في أواخر الأربعينيات من عمرها، ولأبٍ في أوائل الستينيات من عمره، كان يعمل سابقًا سائق شاحنةِ برّاد، قبل أن تسوء حالته الصحية ويعمل بشكلٍ متقطع. وله شقيقة أكبر منه لم تنهِ الثانوية العامة، عملت لفترة بسيطة قبل أن تعطّلها جائحة كورونا، وشقيق أصغر منه يدرس في الجامعة.

أما أنس نفسه، فتعلّم في المدارس الحكومية في إربد، دون أن يجتاز امتحان الثانوية العامة، وهو ما كان يطمح لإنجازه حتى يدخل الجامعة، ورغم توقفه عن إعادة الامتحان لانشغاله في العمل على البسطة كونه معيلٌ للأسرة، إلا أنه قبل اعتقاله الحالي في أيار كان قد سجّل لتقديم امتحانيْ الرياضيات واللغة الإنجليزية، وهو ما قام به فعلًا داخل السجن، دون أن يحالفه الحظ في النجاح.

بدا على الجمل الاهتمام بالشأن السياسي منذ كان في الصف التاسع، كما تقول والدته، فكان يتابع الأخبار ويشارك أحيانًا في الوقفات الاحتجاجية المطالبة بالإصلاح، كما أبدى اهتمامًا بالقضية الفلسطينية وتضامن مع كل المظلومين. ولم تُثنه التضييقات الأمنية والتحدّيات الماديّة عن الاستمرار في المشاركة السياسية، وكذلك الحزبية عبر الانضمام إلى حزب الشراكة والإنقاذ في تشرين الثاني من العام الماضي. وبحسب نائب الأمين العام للحزب، أيمن صندوقة، فإن انضمام الجمل للحزب ضاعف من تضييق الجهات الأمنية عليه، في تناقضٌ مع خطابٍ رسميٍ يروّج لتشجيع الشباب على المشاركة السياسية.

ليست هذه أول مرةٍ يُعتقل فيها  الجمل، فقد سبق أن اعتقل خمس مرات منذ العام 2020 على خلفية نشاطه السياسي ومشاركته في وقفات احتجاجية منها ما هو داعمٌ لنقابة المعلمين، أو مطالبٌ بالإصلاح السياسي والاقتصادي، أو رافضٌ للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي عبر اتفاقيات المياه والطاقة. فضلًا عن اعتقاله لتعبيره عن رأيه في منشوراتٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما حدث معه في اعتقاله السابق في آذار من هذا العام، بعد نشره تغريدة انتقد فيها قمةً ثلاثية جمعت رؤساء دولٍ عربية مع رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي نفتالي بينيت في شرم الشيخ، ليقضي الجمل في سجن ماركا ما يقرب من 27 يومًا موقوفًا بعد أن وُجهت له تهمة تعكير الصّلاتِ بدولة أجنبية، لكن مساعد نائب عام عمّان اعتبر أن الجريمة لا تشكل تعكير الصلاتِ بل قدحَ رئيس دولةٍ أجنبية وفقًا لأحكام قانون العقوبات، وقضى قاضي الصلح ببراءة الجمل ووقف ملاحقته لأن هذه الجريمة -على فرض ثبوتها- تستدعي شكوى من رئيس الدولة المعنية.

قبل ذلك، في آب 2020، اعتقل الجمل من منزله إثر مشاركته في وقفة داعمةٍ لنقابة المعلمين، وقالت القوة الأمنية لوالدته آنذاك «بدنا اياه نص ساعة وبرجع»، لتتحول الدقائق الثلاثون هذه إلى 30 يومًا قضاها في سجن السلط. ويعتقد الناشط سمير مشهور، صديق الجمل وزميله في حزب الشراكة والإنقاذ، أن بداية التضييق على الجمل تعود إلى العام 2019 عندما صادرت له بلدية إربد عربة ذرة كان يعمل عليها برأسمالٍ لا يتجاوز 150 دينارًا، تبعها سلسلة من الاستدعاءات والاعتقالات التي تكرر فيها سؤال: «مين معك؟ مين وراك؟»، بحسب مشهور الذي يعتبر أن التضييق على الجمل هو رسالة حكومية لكل شابٍ مفادها أن العمل السياسي إما أن يكون بالشكل الذي تحدده الجهات الرسمية أو سيعرّض أصحابه للملاحقة.

«حسينا إنه استهداف شخصي» تقول والدة الجمل، معتبرةً أن منشورات ابنها ليست إلا مشاركة سياسية تشكّل حقًا إنسانيًا أصيلًا لابنها، وهي منشورات لا تختلف عما يشاركه مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي من المهتمّين بالشأن العام.

وبالعودة إلى القضية الحالية، يُذكر أن جريمة «تعكير صلات المملكة بدولة أجنبية» منصوص عليها في كلّ من قانون العقوبات[1] وقانون منع الإرهاب،[2] وهو ما يعتبره عبيدات خللًا تشريعيًا متعمدًا إذ يخضع القانون الأول لاختصاص محكمة البداية، فيما يخضع الثاني لاختصاص محكمة أمن الدولة (العسكرية)، وهو ما يُطلق -برأيه- يد السلطة ويتيح لها الخيارات لملاحقة الحراكيّين والتضييق عليهم.

«إذا زبطت معنا هون زبطت، ما زبطت بننقله غاد بتزبط» يعلّق صندوقة، معتبرًا أن القوانين الفضفاضة تتيح التضييق على حريات الناشطين والبطش بهم. فيما يرى علاء العرموطي، المفوض العام للمركز الوطني لحقوق الإنسان سابقًا، أن القدرة على التأثير في قرارات المحاكم العسكرية أيسر منها في المحاكم النظامية، رغم أن الأولى تمتلك القدرة النظرية على الاستقلال لكن الممارسة العملية في الحالات السياسية تشير لغير ذلك.

ليست مقاضاة الجمل وفقًا لقانون منع الإرهاب ومحاكمته حاليًا أمام محكمة أمن الدولة الإشكاليةَ الوحيدة في نظر محاميه عبيدات، بل أيضًا توقيفه من قبل مدعي عام أمن الدولة خلال المحاكمة، معتبرًا أن الأصل هو محاكمة الفرد وهو حرٌ طليق، فيما يكون التوقيف محددًا بأسبابٍ واضحة -لا ينطبق أي منها على الجمل حسبما يرى- وذلك حتى لا يكون أداةً للانتقام والعقاب. علمًا بأن توقيف الجمل حاليًا يستند إلى قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي يعتبر التوقيف تدبيرًا استثنائيًا،[3] لا يجب أن يكون إلا في حالات محددة منها المحافظة على الأدلة، أو الحيلولة دون ممارسة الإكراه على الشهود أو المجني عليهم، أو حماية المشتكى عليه، أو منعه من الفرار.

من وقفة أمام الهيئة المستقلة للانتخابات للمطالبة بالإفراج عن الناشط أنس الجمل ومعتقلي الرأي، بتاريخ 11 أيلول 2022. تصوير شربل ديسي.

إضافة إلى ما سبق، تشكّل الزيارات متنفّسًا للجمل الموقوف حاليًا في سجن ماركا، وهي كذلك نافذةٌ لوالدته للاطمئنان عليه ورؤيته من خلف الزجاج العازل وسماع صوته عبر سماعة هاتفية لمدة 10 إلى 15 دقيقة، بعد رحلة تستغرقها ساعاتٍ، تقطع فيها نحو 100 كم، راكبةً خلالها خمس مواصلاتٍ تنقلها من بيتها في إربد إلى ماركا في عمّان. من جهته، يعتبر عبيدات أن توقيف الجمل في سجن بعيدٍ عن أهله يخالف القواعد العامة لحقوق المحتجزين والموقوفين، الصادرة بمقتضى القوانين الدولية، في عدم قطع صلة الفرد بأسرته وتمكينهم من زيارته بيُسر.

يرى العرموطي أن اعتقال الجمل ما هو إلا جزءٌ من تراجع مستوى الحريات والتضييق غير المبرر على الناشطين ممن يتبنون وجهات نظر مختلفة عن التوجهات الرسمية والأمنية. وكان عضو المكتب التنفيذي للحراك الأردني الموحد قد قال للجزيرة بداية الشهر الحالي إن عدد الناشطين المعتقلين على خلفية قضايا حريات عامة يصل إلى 62 معتقلًا بين محكومٍ وموقوف.

أخيرًا، في جلسة الرابع من أيلول الحالي، أمهلت المحكمة محامي الجمل لغاية 25 أيلول لتقديم مذكرة تدفع بعدم دستورية قانون محكمة أمن الدولة، وعدم دستورية المادة الثالثة من قانون منع الإرهاب، التي يحاكم الجمل بموجبها، رفضًا لمحاكمة شخص مدني أمام محكمة عسكرية، وأملًا في إطلاق سراحه ومتابعة الإجراءات أمام محكمة مدنية سيعمل عبيدات من أجل إقناعها بعدم مسؤولية الجمل عن المنشور، أو أن رأيه ضمن حدود النقد السياسي المباح. فيما يسعى القطاع الشبابي في حزب الشراكة والإنقاذ لتصدير قضية الجمل للرأي العام عبر عدة أدوات، كان منها حملة إلكترونية للتضامن معه أطلقت مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وتنظيم وقفة احتجاجية أمام الهيئة المستقلة للانتخابات قبل أيام.

يحدث هذا بينما يستمر الجمل -حتى وقت كتابة التقرير- في إضرابه عن الطعام، فيما تقول نهلا المومني، مديرة إدارة الحقوق المدنية والسياسية في المركز الوطني لحقوق الإنسان، إن المركز يتابع حالة أنس للتأكد من تمتّعه ببيئة احتجازية مناسبة وعدم تعرضه لأي إساءات في السجن. مضيفةً أن المركز قام بثلاث زيارات للجمل بعد إضرابه، واطمأن على وضعه الصحي الذي كان جيّدًا إلى حد ما، كما أنهم يتواصلون يوميًا مع مركز إصلاح وتأهيل ماركا للتأكد من عرضه يوميًا على الطبيب.

  • الهوامش

    [1] بحسب المادة 118 من قانون العقوبات فإنه يعاقب بالاعتقال المؤقت مدة لا تقل عن خمس سنوات من أقدم على أعمال أو كتابات أو خطب لم تُجزها الحكومة من شأنها أن تعرض المملكة لخطر أعمال عدائية أو تعكر صلاتها بدولة أجنبية أو تعرض الأردنيين لأعمال ثأرية تقع عليهم أو على أموالهم.

    [2] بحسب المادة 3 من قانون منع الإرهاب فإن واحدة من الأعمال الإرهابية المحظورة هي القيام بأعمال من شأنها أن تعرض المملكة لخطر أعمال عدائية أو تعكر صلاتها بدولة أجنبية أو تعرض الأردنيين لخطر أعمال ثأرية تقع عليهم أو على أموالهم.

    [3] المادة 114 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لسنة 1961 وتعديلاته.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية