فجر اليوم الأربعين من العدوان المستمر على غزة، نفّذ جيش الاحتلال الإسرائيلي على مرأى ومسمع العالم تهديده المعلن باقتحام مجمع الشفاء الطبي، بعدما كرر على مدار أسابيع زعمه القديم الجديد بوجود مقر قيادة للمقاومة في «مدينة أنفاق» تحت المجمع. أما ما «كشفه» بعدها، فلولا هول المقتلة، لكان فاصلًا فكاهيًا.
قرابة الرابعة من فجر الأربعاء، وبعد حوالي أسبوع من تشديد الحصار حول الشفاء، قُصفت خلاله خمسة من مباني المجمع، واستهدف فيه القناصون كل من حاول الخروج عبر ما ادعى الجيش أنه «ممر آمن»، دخلت دبابات الجيش باحات الشفاء ليبدأ الفصل الأبرز في عمليته «الدقيقة والمحددة». بدأ الاقتحام بدخول مبنى الطوارئ، قبل أن يمتد لمباني الجراحات والباطنية والكلى وبقية أقسام المجمع، لتعزل قوات الاحتلال أقسامه عن بعضها، وتحتجز فيه المرضى والنازحين والكوادر الطبية الذين يقارب عددهم ستة آلاف، محولةً أكبر صرح طبي في القطاع إلى ثكنة عسكرية.
بدأ الجيش سريعًا بـ«تمشيط» المجمع، بعدما منع أي تحرك للفلسطينيين الموجودين داخله، ما ترك المسرح مفتوحًا أمامه لإدخال أو إخراج أي شيء من المكان. وقد دخل الجيش بالفعل برفقة عدة صناديق كرتونية رُشمت بملصقات كُتب عليها بأكبر خط ممكن «مساعدات طبية» و«غذاء أطفال»، دون أن تتبين في الصور المنشورة إسرائيليًا محتويات هذه الصناديق. فيما نقل الطبيب خالد أبو سمرة من داخل المجمع أن قوات الاحتلال أخذت عبوات المياه المخزنة في المستشفى ووضعت عليها ملصقات وقدمتها على أنها مساعدات.
مرّت الساعات دون أن ينشر جيش الاحتلال نتائج اقتحامه، مكتفيًا مؤقتًا بالقول على لسان الناطق باسمه إنه وجد «أسلحة ومواد استخبارية» في المجمع، وإنه يواصل تمشيطه. وبينما كان أحد أهداف العملية المعلنة على مدار أسابيع هو استعادة الأسرى الإسرائيليين، وهو ما أكده البيت الأبيض الذي زعم قبل يوم واحد من الاقتحام أن المقاومة تستخدم الشفاء «لدعم وإخفاء عملياتها العسكرية واحتجاز الرهائن»، سرعان ما تراجع هذا الزعم بُعيد الاقتحام، لتنقل إذاعة جيش الاحتلال أنه «لا مؤشرات» على وجود رهائن في المجمع، قبل أن تنقل قناة إسرائيلية عن «مسؤول كبير» قوله إن الجيش «لم يكن يعتقد أنه سيعثر على مختطفين بالمستشفى».
في غضون ذلك، كانت أوضاع الجرحى والمرضى والنازحين والكوادر الطبية تزداد سوءًا. فبعدما قطّعت قوات الاحتلال أوصال المجمع مانعةً التنقل داخله، أجبرت العشرات من النازحين والجرحى وذوي الشهداء على التجرد من ملابسهم واعتدت على عدد منهم بالضرب وحققت معهم واقتادتهم لجهة غير معلومة. كما تحصنت قوات الاحتلال لساعات في الطوابق السفلية لمباني المجمع محتجزة الكوادر والنازحين دروعًا بشرية، حسبما قالت وزارة الصحة في غزة. وفجّر الجيش عددًا من بوابات المجمع، كما فجّر مستودع الأدوية فيه، وحطّم أجهزة الأشعة، ودمّر خط المياه الرئيسي الذي يغذي المجمع قاطعًا الماء عنه بالكامل. وفي ظل شل قدرة الطواقم الطبية على تقديم الرعاية المحدودة التي كانت لا تزال تقدمها، تتزايد شيئًا فشيئًا أعداد الشهداء من الجرحى والمرضى وأطفال الخداج. وقد أعلن مدير المجمع مساء الأربعاء عن تمكن كوادره من دفن 82 شهيدًا في باحة المستشفى، فيما بقيت في قسم الطوارئ 60 جثمانًا إضافيًا، هذا إضافة لـ179 شهيدًا دفنوا في الباحة في الأيام السابقة.
بالإضافة إلى تدمير أكبر مؤسسة صحية في غزة وحرمان الغزيين من الرعاية الصحية التي تقدمها، وتعطيل أساسيات حياتهم في محاولة لتهجيرهم قسرًا، سعت «إسرائيل» في اقتحام مجمع الشفاء لتحقيق صورة نصر رمزي
انتظر جيش الاحتلال حتى ساعة متأخرة من ليل الأربعاء ليقدم «الدليل» الذي وصل إليه من اقتحام الشفاء، إذ نشر فيديو من قسم الأشعة، يظهر فيه ضابط وهو يعرض «في لقطة واحدة، دون تعديل» البراهين على «استخدام حماس الممنهج للمستشفيات في عملياتها العسكرية». تتلخص هذه «البراهين» وفق الفيديو في كاميرات المراقبة المعطلة، وحقيبة تضم عددًا من الرشاشات والذخائر والملابس العسكرية «مخبأة» خلف جهاز الرنين المغناطيسي، إضافة لعدد من «المواد الاستخبارية» التي تمثلت في جهاز حاسوب، وعدد من الأقراص المدمجة، وأجهزة اتصال لاسلكي (استبعد كثيرون استخدام المقاومة لها نظرًا لسهولة اختراقها). هذه «الأدلة» التي عرضها الجيش بعد أكثر من 20 ساعة على اقتحامه المجمع، تلخصت بحسب صور أخرى نشرها حساب إسرائيلي رسمي في 10 رشاشات، ومسدس، وتسع قنابل يدوية، وسكينين، وعدد من الذخائر، إضافة لمصحفين، وسبحة، وعدد من الكتيبات، وصندوق من التمر.
لكن هزالة ما عرضه جيش الاحتلال بحد ذاته، مقارنة بما سبق ونشره من «تصوير مبني على معلومات استخبارية» عن وجود أنفاق وغرف قيادة وتحكم ومخازن أسلحة وأماكن لاحتجاز الأسرى، لم تكن كافية. إذ أشار متابعون إلى أن الحساب الرسمي للجيش عرض في البداية نسخة أخرى أطول من الفيديو، قبل أن يحذفها ويعيد نشر الفيديو بعد اقتطاع عشرين ثانية منه، إضافة لحذف عبارة كان قد عنون الفيديو الأول بها تقول «بلا قطع، بلا تعديل، لا شيء سوى الحقيقة التي لا يمكن إنكارها». تظهر العشرون ثانية المحذوفة الضابط الإسرائيلي وهو يشير إلى الحاسوب ويتحدث عن الصورة التي تعرض عليه للمجندة أوري ميغيديش، التي زعم الجيش أنه تمكن من «تحريرها» من حماس في 30 تشرين الأول، على اعتبار أن صورتها وجدت على الحاسوب كدليل لاستخدامه من قبل حماس. وإضافة لحذف هذا المقطع، يظهر الحاسوب في الفيديو المعدل بعد تغبيش شاشته لمحو صورة المجندة.
لم يكن هذا الكشف الدرامي أول محاولة من نوعها في إطار سعي جيش الاحتلال لدعم سردية استخدام المقاومة للمستشفيات. إذ نشر يوم الإثنين فيديو من اقتحام مستشفى الرنتيسي للأطفال، وصفه بأنه «تسجيل خام» رغم أنه محرّر، يظهر فيه ما يصفه بفتحة نفق زعم أنه يمتد إلى أسفل المستشفى الذي يبعد مئات الأمتار، رغم أن الفيديو لا يظهر دخول عناصر الجيش إليه أو خروجهم منه إلى داخل المشفى. أما «الأدلة» التي عرضها من قلب المستشفى، فتتلخص في وجود دورة مياه، ومطبخ، وزجاجة حليب أطفال، وحفاضات، وستارة على الجدار، إضافة لـ«جدول مناوبات» على الحائط، زعم أن «الإرهابيين يكتبون أسماءهم عليه»، لتسجيل مناوباتهم في حماية «الرهائن» الذين ادعى الجيش وجودهم. وكما بات معلومًا، لم يكن هذا الجدول سوى رزنامة تظهر أيام الأسبوع، فيما أصبح مادة عالمية للتندر.
جاء اقتحام مجمع الشفاء المتواصل بعد يوم واحد من منح البيت الأبيض ضوءًا أخضر لجيش الاحتلال، عبر تكرار ادعاء وجود مقر لقيادة المقاومة تحت مجمع الشفاء. جاء ذلك على لسان منسق مجلس الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض، جون كيربي، ثم على لسان المتحدثة باسم البنتاغون، سابرينا سينغ، التي قالت في مؤتمر صحفي إن «حماس والجهاد الإسلامي يشغلون مقر قيادة وتحكم من مستشفى الشفاء»، وإن الولايات المتحدة توصلت لهذه النتيجة بناء على معلوماتها الاستخبارية الخاصة. وحينما سئلت عمّا إذا كان لبلادها أي عناصر أو موارد على الأرض في غزة تمكنها من جمع هذه «المعلومات»، نفت ذلك، رافضة تقديم أي تفاصيل حول مصدر هذا الاستنتاج، بعد سؤالها حول ما إذا كان المصدر إسرائيليًا.
أما جو بايدن، فذهب أبعد من موظفيه ليقول إن «حماس ارتكبت جريمة حرب بإخفاء مقرها العسكري تحت المستشفى»، مكررًا الروايات المفنّدة حول قطع رؤوس الأطفال وإحراقهم في السابع من أكتوبر، ومضيفًا أن «إسرائيل» لم تدخل مجمع الشفاء بقوات كبيرة، ونفّذت عمليتها بـ«دقة وعناية».
قبل الاقتحام وخلاله وبعده، نفت حركة حماس والأجهزة الحكومية في غزة مرارًا مزاعم وجود أي قوات أو قدرات للمقاومة تحت المستشفيات، بما فيها الشفاء. فمنذ الخامس من الشهر الجاري، أعلن المتحدث باسم المكتب الإعلامي الحكومي، سلامة معروف، استعداد الحكومة «لاستقبال أي لجنة دولية أو أممية لتتحقق من الاستخدامات الطبية في مستشفيات القطاع»، وهو ما كرره قياديون في الحركة على مدى الأيام العشرة الماضية، كان آخرها قبل الاقتحام بساعات، دون أي رد.
اقتحم جيش الاحتلال الإسرائيلي على مرأى العالم مجمع الشفاء الطبي، بعدما كرر لأسابيع زعمه القديم الجديد بوجود مقر قيادة للمقاومة في «مدينة أنفاق» تحت المجمع. أما ما «كشفه» بعدها، فلولا هول المقتلة، لكان فاصلًا فكاهيًا.
وقال مسؤول العلاقات الخارجية في الحركة، أسامة حمدان، في مؤتمر صحفي الثلاثاء، إن «هدف الاحتلال من التركيز على المستشفيات واستهدافها وقصفها وتدمير المراكز الصحية (..) هو حرمان شعبنا من الخدمات الأساسية ومستلزمات الحياة الطبيعية دفعًا له إلى الهجرة قسرًا في تكرار لمشهد النكبة عام 48»، مضيفًا أن العدوان أخرج حتى حينه «25 مشفى عن الخدمة من أصل 35، وأخرج 53 عيادة صحية من أصل 72، بالإضافة إلى تدمير 94 مقرًا حكوميًا، و253 مدرسة، و71 مسجدًا، وثلاث كنائس».
أما عقب الاقتحام، فاعتبرت حماس ما عرضه جيش الاحتلال «مسرحية تافهة ومفضوحة»، وذلك في بيان لعضو المكتب السياسي للحركة، عزت الرشق، قال فيه إن الحركة سبق وحذرت من أن «الاحتلال سيقوم بعمل مسرحية كتلك التي زعمها في مستشفى الرنتيسي والتي ثبت كذبها».
وفي مؤتمر صحفي آخر عقد مساء الخميس، علّق حمدان بالتفصيل على الفيديو الذي نشره جيش الاحتلال، معتبرًا روايته «سخيفة وهزلية» وتشكل «فضيحة له في كل جوانبها». وقال حمدان إن الصناديق التي ظهرت في الفيديو بزعم أنها كانت مخبأة خلف جهاز الرنين المغناطيسي هي ذاتها التي أدخلها الجيش، مشيرًا إلى التشابه في الملصقات التي تحملها. وأشار إلى أن الأسلحة التي نقلها الجيش عدة مرات داخل المستشفى لُفّت ببطانيات يستخدمها الجيش. واعتبر حمدان الإدارة الأمريكية شريكة في جريمة اقتحام المستشفى، مضيفًا أنها «وفرت غطاءً كاملًا لعمليات القتل وجريمة الحرب التي ينفذها الاحتلال بمجمع الشفاء».
وفيما أعلنت منظمة هيومان رايتس ووتش يوم الجمعة أن لا أدلة على مزاعم الجيش الإسرائيلي باستخدام المقاومة لمجمع الشفاء، قال مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس غيبرييسوس إن اقتحام المجمع «غير مقبول على الإطلاق»، «حتى لو استخدمت المنشآت الصحية لأغراض عسكرية». فيما صرّح وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارتن غريفيثس، إن الاقتحام «مروّع»، مضيفًا أن «حماية الرضّع والمرضى والطواقم الطبية وجميع المدنيين يجب أن تسمو فوق أي اعتبار آخر».
لكن كل هذا لم يؤثر كثيرًا في تغطية اقتحام الشفاء في الصحافة الغربية، التي كانت قد انبرت قبلها للتعمية على مجزرة المستشفى المعمداني، وترويج الرواية الإسرائيلية في عدة محطات. ففضلًا عن دخول صحفيين مدمجين برفقة قوات جيش الاحتلال إلى داخل المجمع، كررت وسائل مختلفة ادعاء الجيش بأن عمليته «دقيقة وموجّهة»، مستخدمة لغة محايدة في وصف الاقتحام بأنه «دخول» للجيش إلى حرم المستشفى، أو «سيطرة» عليه، دون التشكيك بالادعاء الأساسي باستخدام المقاومة له كمقر قيادة. أما الصحافة الإسرائيلية، فكانت للمفارقة أوضح في الإشارة إلى ضعف رواية الجيش، حيث ساد التعبير عن «الإحباط» والسخرية الكثير من التقارير والمقالات التي اعتبرت أن الجيش فشل في «تسويق» روايته أو تقديم أدلة منطقية عليها، وأن ما لحق بـ«إسرائيل» من ضرر وحرج كان أكبر بكثير من الفائدة المتحققة من الاقتحام.
لم تكن مزاعم جيش الاحتلال بوجود مقر للمقاومة تحت مجمع الشفاء جديدة بأي حال، فهو ادعاء يتردد منذ ما لا يقل عن 14 عامًا. ففي حرب عام 2008-2009، قال الرئيس السابق للشاباك، آفي ديختر، الذي كان حينها وزيرًا للأمن العام، إن الشفاء «لم يعد مجرد مستشفى منذ وقت طويل»، وإن «قادة حماس يتجولون فيه، مرتدين معاطف الأطباء في بعض الأحيان». فيما قال رئيس الشاباك حينها يوفال ديسكن إن قيادة حماس موجودة في «غرفة حرب» محصّنة في قبو «المبنى رقم 2» في المجمع. ونقلت هآرتس حينها أن الجيش واثق من وجود هذا القبو لأن «إسرائيل» هي من أنشأه حين بنت «المبنى رقم 2» في المجمع منتصف الثمانينيات خلال احتلالها للقطاع.
تكررت الادعاءات مجددًا في حرب عام 2014، حين قصفت قوات الاحتلال العيادات الخارجية في مجمع الشفاء، لتدعي، كما في حالة المستشفى المعمداني، بأن ما ضرب المجمع هو صاروخ فلسطيني أطلق من داخل القطاع. كان ذلك واحدًا من 17 مستشفى قصفتها «إسرائيل» في حرب عام 2014، إضافة لـ56 مركزًا صحيًا. ومجددًا، ادعى جيش الاحتلال أن قيادة حماس موجودة تحت مجمع الشفاء، وأن مستشفيات أخرى تحوي أيضًا مقار لحماس، مثل مستشفى الوفاء للتأهيل الطبي في حي الشجاعية الذي قصفته عامي 2009 و2014، ثم مجددًا خلال الحرب الجارية. حينها، زعم الجيش أن الوفاء يحوي «مقر قيادة، وموقعًا لإطلاق الصواريخ، ونقطة مراقبة، ومركز قناص، ومرفقًا لتخزين الأسلحة، وبنية تحتية للأنفاق، وقاعدة عامة للهجمات ضد إسرائيل».
بالإضافة إلى تدمير أكبر مؤسسة صحية في قطاع غزة وحرمان الغزيين من الرعاية الصحية التي تقدمها، وتعطيل أساسيات حياتهم في محاولة لتهجيرهم قسرًا، سعت «إسرائيل» في اقتحام مجمع الشفاء لتحقيق صورة نصر رمزي، بعدما لم ينجح جيشها في عرض أي صورة أو فيديو من قلب المعركة لإثبات تقدمه العسكري، على عكس ما أظهرته الفيديوهات المتكررة لكتائب عز الدين القسام من استهدافات ومواجهات مباشرة. فبعد التقاط جنوده صورًا في مبنى المجلس التشريعي (الذي فجّره لاحقًا) والشرطة العسكرية وقصفه منزل رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، لم يجد الجيش موقعًا يمكن أن يعبّر عن «سيطرته» على شمال القطاع أكثر من مجمع الشفاء. وفي الأثناء، يستمر جيش الاحتلال بعدّ قتلاه في غزة، الذي بلغ عددهم 52 منذ بدء العملية البرية في القطاع حتى ظهر الخميس.