«أنا جعان كثير، وعندي جنين في بطن زوجتي جعان كثير، وزوجتي خايف عليها لإنها جعانة كثير».
هذا ما كتبه الصحفي الفلسطيني من شمال غزة أسامة العشي، 28 عامًا، في منشور على فيسبوك أصبح مساحةً يتشارك فيها الغزيون معاناتهم حول توفير قوت يومهم. خاض العشي حربًا لتأمين الطعام له ولعائلته التي تستهلك أقل من وجبة واحدة يوميًا لا تكفي حتى لإطعام شخص واحد. اضطروا في مرات كثيرة لطبخ الحشائش وطحن أعلاف الحيوانات أو البقاء «على لحم بطنهم» جرّاء الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، والتي انطوت على حصار شامل للقطاع وتدمير للأراضي الزراعية ومنع إدخال المساعدات وارتفاع أسعار المنتجات الغذائية.
أسامة وزوجته وابنهما عائلة واحدة صغيرة من أصل مليون نسمة، يقطن حوالي 700 ألف منهم شمال القطاع، تتوقع المنظمات الدولية أن يواجهوا المجاعة بحلول منتصف تموز.[1] ورغم أن الأمم المتحدة لم تعلن بعد المجاعة بمعاييرها الرسمية[2] في غزة، إلا أنها وصفتها بأنها شبه حتمية في ظل استمرار هذه الظروف. في الرابع والعشرين من حزيران الفائت، قال المرصد الأورومتوسطي إن عدد الأطفال الذين استشهدوا بفعل الجوع بلغ 49 طفلًا، فيما يواجه 3500 طفل خطر الموت بسبب سوء التغذية ونقص المُكمّلات الغذائية والتطعيمات، فيما يُحتمل أن تكون الأرقام الفعلية أكثر من ذلك جرّاء نقص التوثيق والبلاغات ودخولات المستشفيات.
تعددت أشكال الجوع والموت واحد
منذ السابع من تشرين الأول الماضي، أصبح تجويع الفلسطينيين في غزة بمثابة هدف سياسي. أعلن وزراء الاحتلال الحصار الشامل على القطاع بما فيه منع إدخال الطعام والمساعدات الإنسانية وإغلاق المعابر، وفقد المزارعون القدرة على الوصول لأراضيهم الحدودية. وبينما كان الغزيون ما زالوا يقطنون منازلهم بعد، بدؤوا يستهلكون ما يتوافر لديهم من الطعام قبل أن تتعطل ثلاجاتهم في الأيام الأولى من الحرب جرّاء انقطاع إمدادات الكهرباء.
في أول رحلة نزوح، غادر أسامة مع عائلته منزلهم في شمال غزة بملابسهم وأوراقهم الثبوتية دون أن يأخذوا معهم ما يصلح للأكل، «كنا خايفين على حياتنا، مين بخطرله إنه يموت جوع؟». وفي مراكز الإيواء، اعتمد الناس على معونات محدودة من المعلبات توزعها الأونروا وبرنامج الأغذية العالمي في ظل الإغلاق والدمار الذي طال المتاجر والمطاعم. وحتى عندما كانت بعض الأسواق مفتوحة، فإنها خلت من الخضروات والفواكه واللحوم، بعد أن أخرج الاحتلال أكثر من 75% من مساحة الأراضي الزراعية عن الخدمة في غزة وجرّف جميع الأراضي على امتداد السياج الأمني الفاصل بعمق يصل لقرابة 2 كيلومتر.
«ابن اختي بس يلاقي رغيف خبر، بوكل نصّه وبخبي نصّه بجيبته لثاني يوم». يقول أسامة إن أسعار المنتجات الغذائية في السوق تضاعفت 25 مرة عمّا كانت عليه قبل الحرب، حيث بلغ سعر كيس الطحين الذي يزن 25 كيلوغرامًا أكثر من 400 دولار. تفاقمت تحديات الوصول للغذاء في غزة جراء انهيار النظم الغذائية بما فيها توقف كافة مخابز غزة البالغ عددها 130 مخبزًا وتعطل محطة تحلية المياه الوحيدة في شمال غزة وحاجة الناس لبيع طرود المساعدات لتأمين احتياجات أكثر إلحاحًا مثل الأدوية أو خيم النزوح.
منذ السابع من تشرين الأول الماضي، أصبح تجويع الفلسطينيين في غزة بمثابة هدف سياسي. أعلن وزراء الاحتلال الحصار الشامل على القطاع بما فيه منع إدخال الطعام والمساعدات الإنسانية وإغلاق المعابر، وفقد المزارعون القدرة على الوصول لأراضيهم الحدودية.
شهدت الهدنة التي بدأت في 24 من تشرين الثاني الماضي تحسنًا نسبيًا في إدخال الشاحنات. لكن المساعدات توقفت بالكامل عن دخول الشمال بعد وقف الهدنة. وفي غضون ثلاثة أشهر فقط من الحرب، بدأت وزارة الصحة بتسجيل أولى وفيات الجوع والتي طالت المسنين والنساء والأطفال خصوصًا ممن يعانون من الأمراض المزمنة. على سبيل المثال، توفي الطفل يزن الكفارنة، 10 سنوات، والمصاب بالشلل الدماغي وضمور العضلات بسبب سوء التغذية وحاجته لنظام غذائي وأدوية خاصة للحفاظ على صحته.
أجبرت المجاعة عائلة يزن على النزوح إلى الجنوب لعلاجه في مستشفى أبو يوسف النجار في رفح، إلا أن حالته الصحية استمرت في التدهور حتى وفاته. ورغم أن الاحتلال تعمّد استخدام المساعدات شمال القطاع كوسيلة لمعاقبتهم وإجبارهم على النزوح، إلا أن حرب التجويع اتسعت بكل الأحوال لتطال بعض مناطق الجنوب أيضًا مثل خان يونس، حيث استشهدت في الثامن من كانون الأول الماضي الطفلة جنى قديح، 14 عامًا، نتيجة الجوع الشديد ودفنت في ساحة مدرسة طيبة التي نزحت إليها. عانت جنى من الشلل الدماغي، ولم تجد أسرتها ما يُعيلها لثلاثة أيام سوى المياه غير الصالحة للشرب.
لم تكن شاحنات المساعدات عبر معبريْ رفح وكرم أبو سالم سوى «قطرة في محيط»، خصوصًا وأن نصيب الشمال منها كان محدودًا جدًا. خلال نيسان الماضي، دخلت 4887 شاحنة مساعدات إلى غزة، 1166 منها عبر معبر رفح، و3721 منها عبر معبر كرم أبو سالم، فيما لم يدخل إلى شمال القطاع سوى 419 شاحنة.[3] عندما دمر الجيش الإسرائيلي معبر رفح مطلع أيار بعد أن أعلن سيطرته على الجانب الفلسطيني منه، أصبح المعبر غير صالحًا للاستخدام وتوقف دخول المساعدات بالكامل.
بعد عشرين يومًا من وقف المعابر، عادت شاحنات المساعدات لتدخل بالتنسيق مع مصر عبر معبر كرم أبو سالم على الجانب الإسرائيلي بمعدلات أقل من متوسط الشاحنات التي كانت تدخل قبل عملية رفح، وخلال هذه المدة، دخلت أيضًا أولى شاحنات الرصيف البحري الأمريكي في 17 أيار الماضي. لم يسفر الرصيف عن تحسين كمية المساعدات الإنسانية التي تدخل القطاع إذ انخفضت إلى أقل من 100 شاحنة يوميًا في النصف الأول من حزيران، خصوصًا وأن تشغيله قد تعثّر أربع مرات خلال شهر من بدء عمله. «لا جدوى للرصيف الأمريكي» قال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة معتبرًا أن الإدارة الأميركية لو كانت جادة لضغطت على الاحتلال لفتح المعابر وإدخال الشاحنات.
عواقب صحية مدى الحياة
«أقل واحد نزل عشرين كيلو، صرنا عظم وجلد»، يقول أسامة إن سوء التغذية انعكس في هزال شديد أصاب معظم أهل القطاع ممن يعتمدون في الغالب على تقنين الطعام وتقاسمه مع أسر أخرى. أكد التقرير الصادر عن لجنة مراجعة المجاعة آذار الماضي إن كامل السكان في القطاع يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، في حين أن نصفهم في المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، أي مرحلة الكارثة/المجاعة، حيث كل تسعة من كل عشرة أطفال تحت سن الثانية وأكثر من تسعة من كل عشر نساء حوامل ومرضعات يتناولن مجموعتين غذائيتين أو أقل في اليوم.
تعرّف الأدبيات العلمية الجوع على أنه استجابة نفسية وفسيولوجية لنقص الغذاء، إذ يشعر الأفراد بالجوع في غضون ساعات قليلة من عدم تناول الطعام، لكنه عندما يستمر لأكثر من ذلك، فإنه يتحول لسوء تغذية في غضون أسبوعين، أو أقل إذا كانت هناك احتياجات فسيولوجية أخرى للغذاء، مثل النمو ومكافحة العدوى. وعندما ينتشر سوء التغذية على نطاق واسع، تظهر المجاعة وهي أشد أشكال انعدام الأمن الغذائي التي تنطوي على أن يموت الناس جوعًا بسبب عدم حصولهم على ما يكفي من الطعام والعناصر الغذائية.
تابع جراح الأطفال في مستشفى العودة، محمد السبع، حالات سوء التغذية عند الأطفال خلال هذه الحرب. تبدأ الأعراض في الظهور على الأطفال خلال أسبوع، حيث يؤدي نقص العناصر الغذائية إلى أعراض أوليّة تظهر خلال الأيام الأولى من سوء التغذية وتشمل التعب والنعاس والإسهال والشحوب والقيء وفقر الدم والعينين الغائرتين وآلام المفاصل. لا يمتلك الأطفال مخزونًا كبيرًا من العضلات والدهون، ولذلك على عكس البالغين، فهم يحتاجون للغذاء من أجل النمو إلى جانب الحفاظ على وظائف الجسم الأساسية. يقول السبع إن الأطفال ربما يحتاجون لمتوسط سعرات حرارية أقل مما يحتاجه الكبار، إلا أن احتياجاتهم الغذائية متقدمة مقارنة بالبالغين.
يحتاج عكس آثار سوء التغذية لبروتوكولات طبية خاصة لا إمكانية لتقديمها في مستشفيات غزة، تعتمد بشكل رئيسي على التغذية المعوية والوريدية حيث تُوصِل الأنابيبُ العناصرَ الغذائية اللازمة إلى الدم مباشرة.
يضيف أستاذ الصحة العالمية في كلية رولينز للصحة العامة بجامعة إيموري، أرييه د. ستاين، إن معدة الأطفال صغيرة بالنسبة لاحتياجاتهم ولذلك فهم يحتاجون إلى وجبات متكررة أكثر، بالإضافة إلى أنهم أكثر عرضة لمجموعة من الأمراض المُعدية التي تعرض لها البالغون بالفعل في طفولتهم، وتتطلب مكافحة العدوى استهلاكًا كثيفًا للطاقة والغذاء.
أزمة الجوع شمال غزة غير مرتبطة بنقص الغذاء فحسب، بل بجودة الطعام المتوافر أيضًا. يعتمد أهالي الشمال على طحن اكل المواشي والطيور من الشعير والذرة أو طبخ الأعشاب البرية التي قد تكون سامة أو استهلاك اللحوم الصناعية والمعلبات. أظهرت الأبحاث العلمية أن استهلاك الأطعمة المعلبة لفترات طويلة يزيد من المخاطر المحتملة للإصابة بالسرطان وخفض امتصاص المعادن والفيتامينات. في كثير من الأحيان، اضطر الغزيون لاستهلاك هذه المعلبات بعد انتهاء صلاحيتها ما تسبب بالإصابة بالتسمم. في ضوء ذلك، يعاني في قطاع غزة نحو 700 ألف شخص من أمراض مُعدية، بينهم نحو 8 آلاف حالة مصابة بالتهاب الكبد الوبائي الفيروسي، والناتج بشكل رئيسي عن تناول طعام أو شراب ملوّث أو انتقال العدوى من شخص مصاب.
تؤدي الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي من نوع A إلى الحمى والإرهاق والغثيان والقيء والإسهال المفاجئ وآلام البطن والمفاصل، وتسوء هذه الأعراض في ظل الكارثة البيئية المحيطة واكتظاظ أماكن النزوح وتلوث المياه. قلما تتمكن المستشفيات من استقبال حالات سوء التغذية والأمراض الناتجة عنها، جرّاء غياب الموارد الطبية اللازمة واستقبال الإصابات. «50-60% من حالات سوء التغذية ما بنلحقهم»، يقول طبيب الأطفال في مستشفى كمال عدوان، عماد دردونة، إن الطواقم الطبية لا يتوافر لديها الإمدادات اللازمة لعلاج الحالات بشكل مناسب، وأغلب الأحيان يكون أقصى ما يمكنهم القيام به من أجلهم هو إعطاؤهم محلولًا ملحيًا أو محلولاً سكريًا. من المفترض أن تساعد هذه المحاليل في عكس آثار الجفاف،[4] لكن استخدامها في مراحل متقدمة من سوء التغذية أو الاعتماد عليها حصرًا بدون خطة تشمل تزويد الجسم بالمواد الغذائية اللازمة قد لا تنعكس على صحة المريض بأي تحسّن.
يحتاج عكس آثار سوء التغذية لبروتوكولات طبية خاصة تعتمد بشكل رئيسي على التغذية المعوية والوريدية حيث تُوصِل الأنابيبُ العناصرَ الغذائية اللازمة إلى الدم مباشرة. يقول السبع إن مستشفيات غزة لا تتوافر فيها أنابيب التغذية اللازمة لإطعام المرضى الذين لا يستطيعون إطعام أنفسهم، عدا عن انتهاء مخزوناتها من المكملات الغذائية الخاصة، ما يعني أن الأعراض المبدئية لدى الأطفال تتفاقم على المدى القصير لتصبح عواقب صحية وخيمة تظهر في غضون أشهر وتشمل الإسهال المزمن والانتفاخ بالسوائل وتباطؤ الجهاز الهضمي والتهاب السحايا وفقر الدم.
قد تستمر فترات علاج مرضى سوء التغذية وخصوصًا من الأطفال لسنوات جراء الحاجة للمتابعة ومراقبة العلاج وإجراء الفحوصات قبل البدء تدريجيًا في تناول نظام غذائي طبيعي. وأحيانًا، يكونون عرضة للإصابة بـ«متلازمة إعادة التغذية» وهي ردة فعل سلبية للجسم نتيجة دخول الطعام إليه بعد فترة طويلة من الانقطاع عنه. تؤدّي هذه المتلازمة لمجموعة من الأعراض القلبية والرئوية والعصبية وقد تفضي للوفاة. بالنسبة لدردونة، فإن الأطفال الناجين من سوء التغذية قد يعانون من عواقب طويلة المدى مثل تقزم النمو وتراجع القدرة على التعلم وضعف الجهاز المناعي واضطرابات التمثيل الغذائي، إذ تظهر الدراسات أن علامات التهاب الأمعاء استمرت في الظهور حتى بعد مرور 48 أسبوعًا على تعافي الاطفال من سوء التغذية الحاد.
إذا حدث سوء التغذية أثناء الحمل، فإن المواليد أكثر عرضة للإصابة بمشاكل صحية مثل أمراض القلب والأوعية الدموية مقارنة بأولئك الذين ولدوا مباشرة بعد انتهاء المجاعة. يقول ستاين إن أطفال النساء اللواتي أنجبن بعد التعرض للمجاعة أثناء الحمل هم أكثر عرضة للسمنة في الخمسينات وارتفاع في خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني، كما أنهم يواجهون زيادة في بعض الأمراض العقلية النادرة (مثل الفصام) نتيجة نقص حمض الفوليك لدى الجنين.
واجه أسامة تحديات كثيرة في تأمين الطعام المناسب لزوجته أثناء حملها، إذ كان يعتمد على «أهل الخير» من أجل تغذيتها وتغذية الجنين قائلًا «اللي بشتري شوية خيار، بخبيلي حبتين معزّة»، إلا أنها أصيبت بتسمم الحمل جراء استهلاكها المياه المالحة. أنجبت زوجته ريما ابنهما البكر صهيب في 21 حزيران الجاري في ولادة مبكرة مطلع شهرها التاسع. ورغم أنه يحمل الكثير من ملامح والديه، إلّا أنه يحمل كذلك اصفرار العينين، ويعاني من ضعف شديد في الوزن، ومن الكبد الوبائي.
-
الهوامش
[1] بحسب تقرير مشترك صادر عن منظمة الغذاء والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي مطلع حزيران الماضي.
[2] والتي تشترط أن يعاني 20% من العائلات من نقص حاد في الغذاء ويواجه 30% من الأطفال من سوء تغذية حاد ويموت يومياً شخصان بالغان على الأقل أو أربعة أطفال من كل 10 آلاف شخص بسبب الجوع أو المرض المرتبط بسوء التغذية.
[3] بلغ متوسط عدد الشاحنات التي تصل القطاع يوميا (خلال شهر نيسان) 163 شاحنة، مقارنة بـ500 شاحنة من المواد الغذائية والسلع كانت تصل غزة كل يوم قبل الحرب.
[4] عند التعرض للجوع لفترة طويلة، تصبح الوظائف الحيوية للإنسان أبطأ، وهو ما يعني أنه حتى لو شرب الإنسان الكثير من الماء، فإن جسده سيظلّ يتخلص من هذا الماء، وهو ما يعني الإصابة بالجفاف، أو الإصابة بانتفاخ السوائل.