في مجمل مسيرة النقاش السياسي في الأردن خلال المئة عام الماضية، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، ربما لم «تتعذّب» مفردة سياسية كما تعذبت مفردة «حزب». يا له من تاريخ مرير متنوع متذبذب عاشته هذه الكلمة! كم مرة هبطت ثم عَلَت؟ شُتمت ثم امتدحت؟ حُوربت ثم صُودقت؟… ولا تزال.
لعل بلدنا ينفرد، على مستوى منطقتنا ككل، في أن أول حكومة نشأت فيه كانت «حزبية» بالكامل، بمعنى تابعة لحزب وتقاد من قِبَل حزبيين. إنه «حزب الاستقلال العربي» الذي عرف باسم الاستقلاليين السوريين الذين شكلوا أول حكومة في شرق الأردن عام 1921 برئاسة رشيد طليع. غير أنه كان حزبًا حاكمًا بلا إعلان وبلا قانون، ذلك أن كلمة حزب دخلت القوانين الأردنية لأول مرة بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود؛ عام 1954، عندما صدر أول قانون للأحزاب. والطريف والغريب في الوقت ذاته، أن أول غضب على هذا الحزب، قاده رئيس الوزراء الثالث علي الركابي الذي تولى موقعه القيادي هذا، بعد دخوله شرق الأردن بخمسة أيام فقط قادمًا من دمشق بعد أن غادرها نحو الحجاز التي أمضى فيها بضعة أيام قبل وصوله الى عمان. وكان قبل قدومه بأيام قد سأل خير الدين الزركلي الذي زاره في دمشق، إن كان في شرق الأردن أحزاب؟ فأجابه الزركلي بأن «الاستقلاليين» هم الحزب الوحيد. لكن الركابي «أبدع»[1] بعد زمن من توليه منصب رئاسة الحكومة فكرة تقول: ضرب الحزب بحزب آخر مقابله!، فأسس حزبًا جديدًا، أكثر موالاة من «الاستقلاليين»، سماه «أم القرى»، تقربًا من الشريف (الملك) حسين، المقيم في الحجاز، والذي كان ابنه الأمير عبدالله يحكم في الأردن حتى تلك السنوات باسمه ونيابة عنه، وكان يعلن ذلك رسميًا للعموم.
غير أن الأمير عبدالله ذاته، كان حينها قد بدأ –تحت ضغط الإنجليز وبطلب من الفرنسيين الحاكمين في سوريا- يختلف مع «الاستقلاليين»، الذين طُلب منهم إما مغادرة الحزب أو مغادرة البلد، فتأسس ممن لم يغادروا البلد من حلفاء الاستقلاليين، حزب ثالث اسمه «العهد»، وهو أيضًا كان في الأصل حزبًا سوريًا. وتلا ذلك دعوة من بعض الزعماء المحليين إلى تأسيس حزب رابع خاص بهم باسم «أحرار الأردن».[2]
حتى عام 1936، كان القانون الذي يختص بشؤون التنظيمات عمومًا هو قانون الجمعيات العثماني الصادر عام 1909، وكان ينص على عدم جواز قيام جمعيات تشتغل بالشأن السياسي، ثم صدر في عام 1936 قانون «وطني» للجمعيات، لم يأت على ذكر السياسة لكنه لم يجز ممارستها صراحة، وبقيت كلمة «جمعية» مفتوحة.
لكن مفردة «الحزب» كانت قد ترسخت في الواقع السياسي والاجتماعي من دون أن تنتظر القوانين التي تنص عليها مباشرة. فقد تأسست أحزاب موالية وأخرى معارضة أو نصف معارضة، واستمرت بالعمل حتى مُنعت من ممارسة نشاطها بعد إعلان أول قانون دفاع عام 1935 ثم إعلان حالة الطوارئ في فترة الثورة الكبرى في فلسطين (1936- 1939) ثم فترة الحرب العالمية الثانية، وقد منعت حينها كافة الأحزاب التي رخصت أو عملت سابقًا وفقًا لقانون الجمعيات المذكور.
بعد ذلك تتالت الأحداث الكبيرة: قيام المملكة وإعلان الاستقلال عام 1946 ثم نشوب الحرب في فلسطين عام 1948 والهزيمة (النكبة) وتوحيد الضفتين ثم اغتيال الأمير عبدالله، ثم اعتلاء الملك طلال ثم تنحيته واعتلاء الملك حسين.
دخل البلد في حالة سياسية جديدة، ميزها اتساع النشاط السياسي المنظم في أحزاب تحمل أسماء وطنية محلية أو ممتدة في مختلف الدول العربية والعالم. قبل ذلك كانت السلطة (والإنجليز) قد سارعت إلى سن قانون يستثني النشاط الشيوعي بالذات، تحت تأثير الوضع السياسي الدولي وموقف الأردن واصطفافاته حينها، فصدر قانون مكافحة الشيوعية الأول عام 1948، أي قبل نشوء أول تنظيم شيوعي بسنوات (فقد تأسس الحزب عام 1951). غير أن كل النشاط السياسي المشتعل في تلك الفترة، لم يكن ينظمه قانون واضح ترد فيه مفردة «حزب سياسي».
عام 1954 صدر أول قانون للأحزاب في الأردن. كانت تلك فترة انفتاح سياسي عام، ترافقت مع بداية عهد الملك حسين وقيام حكومة اتخذت سياسة «ليبرالية» كما وصفت بعد ذلك، وهي حكومة فوزي الملقي. كان يكفي وفق ذلك القانون أن يتقدم عشرة أشخاص ليشكلوا حزبًا، وسوف ينال الترخيص حكمًا بعد الإبلاغ وتلبية بعض الشروط، ووُضع لذلك مدد زمنية محددة ملزمة لوزير الداخلية.
رغم كل هذا النشاط، ابتداء من إعلان نتائج اجتماعات اللجنة الملكية لتطوير المنظومة السياسية، ثم صدور قانوني الأحزاب والانتخاب، إلا أن أحدث استطلاعات الرأي العام لا تشير إلى تبدل إيجابي ملحوظ في موقف الجمهور من الأحزاب
سرعان ما أطيح بحكومة الملقي «الانفتاحية»، وعاد إلى الحكم السياسي المحافظ العريق توفيق أبو الهدى، وشكل حكومته الثامنة التي أصدرت قانونًا جديدًا للأحزاب في عام 1955 وضع بعض العراقيل أهمها السيطرة المباشرة لوزير الداخلية على الأحزاب، كما أعطى القانون رئيس الوزراء حق رفض طلب التأسيس بدون إبداء الأسباب، ويكون قراره قطعيًا غير قابل للطعن في المحاكم، على عكس القانون السابق.
في تلك الفترة، ورغم القانون، وبسبب تطورات الحالة السياسية، تشكلت أحزاب معارضة وموالية كثيرة فرضت نفسها في الشارع. وحتى الحزب الشيوعي الممنوع بنص قانوني خاص، تمكن من العمل العلني، إلى حد كبير، من دون الحصول على ترخيص قانوني، وتحالف مع أحزاب مرخصة أخرى وخاض الانتخابات، ومثّله وزيرٌ في حكومة سليمان النابلسي الشهيرة. وهذا النشاط الحزبي الشيوعي بالذات، سوف يكون المبرر المعلن، للاصطدام مع حكومة سليمان النابلسي عام 1957؛ فكيف تسمح الحكومة للحزب الشيوعي بأن يعمل علنًا ويصدر جريدة مخالفًا القانون؟ هذا السؤال طرحه الملك الراحل حسين في رسالة معلنة وجهها للرئيس النابلسي طالبًا منه تقديم استقالته.
نتيجة التوتر السياسي بعد استقالة الحكومة، أُلغي قانون الأحزاب وأعلنت الأحكام العرفية ابتداء من نيسان 1957، واستمر ذلك حتى عام 1989 وإعلان عودة الحياة البرلمانية والسماح بممارسة النشاط السياسي العلني، وقد تجلى ذلك بصدور قانون جديد للأحزاب للعام 1992، ألغي بموجبه القانون السابق (1955) ولكن من دون أن يبتّ بشأن الأحزاب التي كانت قائمة ومرخصة في ذلك العام. أي أن قانون 1992 تطلب أن نبدأ من الصفر!
لكن العقود الثلاثة التي تلت عام 1957 أدخلت فكرة الحزب، بل ومفردة الحزب بحد ذاتها، في مسارات جديدة ورسخت لها دلالات ومعاني لا تزال حاضرة ومؤثرة وعميقة. ولم تكف ثلاثة عقود جديدة بعد الانفتاح السياسي منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، لإزالة تلك الآثار، بل إن الجيل الجديد الذي ولد مع الانفتاح، لم ينج من تأثير تلك المرحلة، وتدل على ذلك حالة الأحزاب اللاحقة ونتائج استطلاعات الرأي والدراسات ذات العلاقة.
لا يزال مفهوم الحزب مدانًا ضمنيًا وعلنيًا في خطاب أطراف فاعلة في السلطة وحول السلطة، وبالمقابل لا يزال من لا يقبل صيغة «الحزب» خارج تلك الصيغ «الكفاحية» السابقة. والملاحظ أن الجمهور لم يطلق لقب «حزبي» على منتسبي الأحزاب الجديدة غير العقائدية بما فيها تلك التي تأسست قبل ثلاثة عقود، بينما يحتفظ باللقب حزبيون غادروا الأحزاب قبل ثلاثة بل أربعة أو خمسة عقود!
لم يجر أي توافق حول معنى المرحلة الحزبية السابقة للانفتاح السياسي والحزبي الجديد، فالأحزاب التي تضررت وقمعت ولوحقت (الشيوعي والبعثي والقومي وحزب التحرير.. وتفريعاتها)، ظلت تنظر إلى تلك الفترة بتقدير واحترام وأشواق! أما السلطة فلم تتزحزح عن تقييماتها بأن تلك المرحلة سوداء مليئة بالفوضى والاضطراب وأن الأحزاب المعارضة كانت مجرد «أدوات» للخارج. وفي أحسن الأحوال، قيل «عفى الله عما مضى» ولنفتح صفحة جديدة، وقد حصل هذا مثلًا بشكل مباشر مع الحزب الأبرز من حيث حجم القمع الذي طاله، أي الحزب الشيوعي الذي التقت قيادته بالملك بالملك حسين مطلع عام 1990، وتلا ذلك لقاء مماثل مع رئيس الحكومة آنذاك مضر بدران.
أما الأحزاب «الوسطية أو الموالية» فلم تعتبر نفسها معنية بماضيها الحزبي في الخمسينيات وقبلها، لا سيما أنها قبلت حل الأحزاب، ثم تلاشت فعلًا، باستثناء تيار «الإخوان المسلمين» الذي ظل يمارس نشاطه السياسي خلف تسمية «الجماعة» الدعوية، فيما كان سياسيًا يقف في صف السلطة التي استثمرت فيه كثيرًا في أغلب الأوقات، قبل أن تصطدم معه لاحقًا ابتداء من أواخر الثمانينات من القرن الماضي.
في مجمل مسيرة النقاش السياسي في الأردن خلال المئة عام الماضية، وعلى المستويين الرسمي والشعبي، ربما لم «تتعذّب» مفردة سياسية كما تعذبت مفردة «حزب»
ابتداء من قانون عام 1992، بدأت مرحلة جديدة فيما يتصل بالأحزاب، فقد تشكلت من جديد -رسميًا على الأقل- الأحزاب التي كانت قائمة سابقًا، وهي ما صار يطلق عليها لاحقا الأحزاب العقائدية (البعث بشقيه، والشيوعي باسمه القديم وأسماء جديدة أخرى، والجبهة الشعبية (باسم الوحدة الشعبية) والجبهة الديمقراطية (الشعب الديمقراطي)، وقد أضيف إليها حزب جبهة العمل الإسلامي كذراع سياسي للإخوان المسلمين، فيما بقي حزب التحرير خارج العملية لأنه لم يستجب لمتطلبات القانون، وهو موقفه الدائم.
ثم نشأت مجموعة جديدة كبيرة من الأحزاب «الوسطية» أو «غير العقائدية»، لكنها أصرت على وصف نفسها بـ«الأحزاب الوطنية» حائلة بذلك دون تمرير تسمية «الأحزاب الموالية». والطريف هنا أن مفردة «وطنية»، كانت طوال فترة الأحكام العرفية 1957- 1989 تستخدم كوصف مستحب من قبل أحزاب المعارضة معًا، واشتهرت تسمية «أحزاب الحركة الوطنية» في إشارة إلى أحزاب المعارضة السرية. لكن هذه الأحزاب بعد الانفتاح الجديد، لم تصر على التسمية، وقبلت أن تُسحب المفردة منها لصالح الأحزاب الوسطية/الوطنية.
رغم أن المرحلة عمومًا توصف بمرحلة الانفتاح أو التحول الديمقراطي، إلا أن مسيرة العقود الثلاثة مع الأحزاب، لغاية صدور القانون الأخير 2022، تشير بوضوح إلى حالة شد وجذب، وقدر متفاوت من الصراع بين السلطة والأحزاب، ويكفي أن نلقي نظرة على تبدلات القوانين اللاحقة.[3] فقد صدرت بعد قانون 1992 ثلاثة قوانين (2007، 2015، ثم 2022)، وعلى سبيل المثال، ارتفع الحد الأدنى لعدد المؤسسين المطلوب للترخيص من 50 عضوًا عام 92 إلى 500 عام 2007 ثم نزولًا إلى 150 عام 2015 ثم صعودًا مرة اخرى إلى 1000 عضو مع شروط جديدة في القانون الأخير، منها ألا يقل عدد مقدمي الطلب قبل الترخيص عن 300 مواطن، بينما كان قبل ذلك عشرة مواطنين. كما تبدلت بشكل مربك شروط العضوية والتأسيس، فبينما كان قانون 1992 يشترط أن يكون المؤسسون الخمسون قد أتموا الخامسة والعشرين، فإن القانون الأخير يرحب ويبتهج بعمر الثامنة عشرة.
تمثلت أبرز مظاهر الصراع مع الأحزاب خلال العقود الثلاثة الماضية، وخاصة خلال العقدين الأخيرين، في حالتين متناقضتين: الأولى مع حزب جبهة العمل الإسلامي، حيث لم تتوقف محاولات إضعاف الحزب وتمزيقه، مع وجود عوامل داخلية بالطبع سهلت نجاحًا نسبيًا لتلك المحاولات. والثانية هي الموقف من الممثل الفاعل والأبرز للتيار الوسطي؛ فقد بُذِلت جهود لعرقلة «حزب التيار الوطني»، الذي تمكن في عام 2008 من عقد مؤتمر تأسيسي، لعله الأضخم وحضره ما بين 3000 و5000 (وفق أوسع وأضيق التقديرات)، مع توفر 50 نائبًا في المجلس القائم حينها، بقيادة عبد الهادي المجالي. وورث هذا التيار تجربة عدة أحزاب وسطية نشأت ثم تلاشت منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. وقد حضرتُ ذاك المؤتمر الذي عقد في قاعة الأرينا الكبيرة في الجامعة الأهلية في عمان، وأذكر مدى حماس المتحدثين في الكلام عن فكرة الأحزاب البرامجية غير العقائدية، وبشكل يفوق كثيرًا الكلام الحالي عن العنوان ذاته. هذا يناقض الترويج الحالي الذي يحاول الزعم أن فكرة «البرامجية» غير العقائدية جديدة على العمل الحزبي.
مع ذلك، هناك ما هو جديد بعد صدور قانون 2022: اليوم يبدو أن فكرة تشجيع تشكيل الأحزاب جدية أكثر، مع معنى خاص لكلمة «جدية». وهناك تخطيط لذلك ولكن بشروط، بعضها وضعها القانون، وبعضها تستند إلى ممارسات غير مكتوبة أصبحت عرفًا في الحياة السياسية الأردنية. فقد انتقلت مهمة الإشراف على الأحزاب إلى الهيئة المستقلة للانتخاب، بعدما كانت تعود إلى وزارة التنمية السياسية التي أخذتها عن وزارة الداخلية التي ظلت تاريخيًا تشرف على موضوع الأحزاب. غير أن مهمة مراقبة المشهد الحزبي وضبطه لا تزال تتوزع على أطراف عديدة من بينها الأجهزة الأمنية ذات الخبرة في هذا الميدان.
لأول مرة ينص القانون على مسألة تداول السلطة وتشكيل الحكومات الحزبية. ولأول مرة يضع القانون خارطة طريق تقود إلى أغلبية حزبية في عضوية مجلس النواب، كما ينص القانون على اشتراط عضوية الحزب المسبقة للدخول في القوائم الحزبية للانتخابات النيابية، كما يتوسع في السماح باستخدام المرافق العامة والخاصة للعمل الحزبي، إضافة إلى صدور نظام يجيز العمل الحزبي في المؤسسات التعليمية.
اليوم يمكن تلخيص المشهد كالتالي: الأحزاب العقائدية، ورغم أنها خلال السنة الأخيرة (سنة تصويب الأوضاع بما يتناسب مع القانون) انكفأت إلى انشغالات ذات طابع إداري لترتيب أوضاعها وضمان عضويتها، فهي كما يبدو ستبقى مؤسسات احتجاجية نضالية، ولا تزال في جوهر عملها تنفر من السعي للسلطة، وتكرر باعتزاز فكرة «لسنا طلاب سلطة»، وهذا عكس التيار الذي يروج له رسميًا، من حيث تفضيل قيام أحزاب تضع برامج أو بدائل للسياسات القائمة، وهذا يتنافى مع البرامج الكفاحية المعتادة لهذه الأحزاب التي تتناول التغييرات الكبرى (الاشتراكية والتحرير والوحدة…). في هذه الأثناء، لوحظ أن هذه الأحزاب وهي تعمل على «تصويب» وضعها، تخلت عن السعي للتنظيم الجماهيري، فلم يعقد أي منها لقاءات تنظيم وتحشيد عامة، واقتصر النشاط على التواصل مع «الرفاق القدامى» ممن مروا بالتجربة، أو على النطاق الأسري ونطاق الصداقات الشخصية.
الأحزاب التي تفضل أن توصف بـ«البرامجية» انتقلت إلى العمل «الجماهيري» بين الناس، بهدف حشد العضوية الجديدة. وخلال السنة الماضية عقدت عشرات الاجتماعات في شتى المحافظات بهدف استقطاب عضوية جديدة. وبالطبع فإن النشاط الحزبي الجديد هذا رافقه في النقاش العام ملاحظات، حول وجود دعم رسمي سياسي ومالي وإداري غير معلن لأحزاب بعينها، كما روجت حول بعض الأحزاب العديد من الأفكار عن «فوائد» الانتساب لها دون غيرها، وفي الواقع انتشرت فكرة توحي بأن العمل الحزبي سوف يشكل أداة بارزة للتصعيد السياسي (بما في ذلك الوظائف والمناصب) في الفترة المقبلة، فيما جرى نفي ذلك رسميًا من قبل قادة الأحزاب.
ويبدو المشهد اليوم كما لو أن تبادلًا -شكليًا غالبًا- لزوايا النظر قد حصل بين الأحزاب «العقائدية» و«البرامجية»، فالأولى أي العقائدية التي تعتبر الجماهير هدفها وتقدم نفسها تاريخيًا بصفتها ناطقة باسم الجماهير وممثلة لها، توقفت أثناء علمها التنظيمي الأخير عن استهداف الجماهير! بينما توجهت الأحزاب الجديدة نحو الجمهور ساعية وراء العدد الأكبر من الأعضاء. ومن المفارقات مثلا أن حزبًا جديدًا حمل اسم «حزب العمال» أعلن في مؤتمره «اليوم أصبح للعمال حزب» بينما لم تقل ذلك أحزاب العمال والكادحين (ثلاثة أحزاب يسارية)! قلنا إن ذلك التبادل في زوايا النظر شكلي، وذلك لاختلاف معنى تمثيل الجماهير والعمال عند كل من هاتين المجموعتين من الأحزاب.
مرت عملية التصويب بهدوء وبلا معيقات حقيقية باستثناء حالة وحيدة هي حالة «حزب الشراكة والإنقاذ». وهي حالة تسببت بقدر من الإرباك في النقاش العام، فمن جهة فإن الهيئة المستقلة للانتخاب، وهي الجهة المعنية باستقبال طلبات التأسيس والتصويب والبت بها، تقول إنها قامت بتنفيذ القانون بعدالة، وأنها غير مسؤولة عن أي تدخل يدعي الحزب إنه حصل معه فعلًا وتكرر كثيرًا. وبالفعل فإن الحزب لم يوجه تهمة التدخل للهيئة ذاتها، إلا بعد قرار الهيئة باعتبار الحزب محلولًا. بل إن قادة الحزب في البداية اعتبروا في تصريحات علنية أنهم إلى جانب الهيئة ضحايا للمتدخلين.
تحدث الحزب كثيرًا عن تدخلات من قبل شتى الأجهزة الأمنية، وهي التي لم يعد لها ولا حتى لوزارة الداخلية ككل أي دور رسمي في العملية الحالية. فيما أعلنت الهيئة أن احتجاجًا يمكن للحزب أن يقوم به ولكن ضد الجهات المزعوم تدخلها. غير أن الإنصاف يتطلب الإشارة إلى أن الخلاف بين الحزب والحكومة والأجهزة الأمنية كان قائمًا منذ سنوات، وهو خلاف حول السياسات، وهناك الكثير من الشواهد عليه، وقد خسرت الحكومة قضية رفعتها في المحكمة ضد الحزب، كما منعت عدة نشاطات كان ينوي الحزب عقدها.[4]عقد الحزب مؤتمره الخاص في مكان خاص، ووثق -وفق ما أعلن- سجلًا للحضور بلغ 632 عضوًا، أي بما يلبي شروط القانون، غير أن الهيئة لم تحضر، ولم يكتسب المؤتمر صفة الشرعية القانونية والرسمية. واعتبر الحزب أن متطلبات الهيئة جاءت متأخرة بما يجعلها تعجيزية، وقال إن مؤتمره شرعي.
بعد صدور قرار «الحل وفق القانون» لحزب الشراكة إلى جانب أحزاب أخرى، لم تحصل تطورات جديدة، فمقرات الحزب لا تزال مفتوحة، والحزب يرى نفسه قائمًا، وقد رفع دعوى قضائية، بانتظار المجريات اللاحقة. غير أن القصة تفتح عنوانًا جديدًا في علاقة الأحزاب بأجهزة الدولة ككل.
رغم كل هذا النشاط، ابتداء من إعلان نتائج اجتماعات اللجنة الملكية لتطوير المنظومة السياسية، ثم صدور قانونيْ الأحزاب والانتخاب، إلا أن أحدث استطلاعات الرأي العام لا تشير إلى تبدل إيجابي ملحوظ في موقف الجمهور من الأحزاب. كما يؤكد ذلك ملاحظات نشطاء الأحزاب أثناء الاستعدادات للتصويب والتأسيس وعقد المؤتمرات.
يبدو أن على الجميع الانتظار لرؤية الممارسة في الواقع من قِبل كل الأطراف ذات الصلة بما فيها بالطبع الأحزاب ذاتها. فقد اعتاد الجمهور على إعادة صياغة «مجتمعية» للقوانين ككل وخاصة ذات الصلة بالشأن السياسي، بحيث يسعى كل فريق لتحقيق أكبر قدر من الفائدة لفريقه. هذا مع ضرورة الإشارة إلى ملاحظة أشمل تقول: إن السياسة ليست أحزابًا فقط، وليس بالأحزاب وحدها تمارس السياسة، وليست القوانين هي العامل الوحيد المتحكم بالسياسة وبالأحزاب (بصفتها أدوات تمثيل للناس). بل إن هناك تيارًا فكريًا يتسع بالتدريج في العالم يقول بانتهاء أو تراجع أشكال التمثيل المعتادة ومنها الأحزاب. ويستطيع القارئ أن يجد اليوم عناوين تتحدث عن «موت الحزب»!
لقد قلنا في بداية هذا المقال إن مفهوم الحزب تعذب كثيرًا في بلدنا خلال مئة عام، وقد تكون الملاحظة صحيحة أو لا تكون، ولكن الثابت أن المفهوم واصل الحياة تحت التعذيب، فهل يستطيع الحياة تحت الصيغة المعلنة من «الترغيب»؟
-
الهوامش
[1] كلمة أبدع استخدمها الزركلي ذاته في وصف سلوك الركابي.
[2] سجل تفاصيل تلك الأيام، خير الدين الزركلي في كتابه: عامان في عمان 1921- 1923.
[3]راجع\ي دراسة إيمان فريحات بعنوان «التطور التاريخي لقوانين الأحزاب السياسية في الأردن» مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، عدد 2 لعام 2012 وهي مجلة محكمة تصدر عن جامعة العلوم التطبيقية الخاصة.[4] صدر حديثا (نهاية 2022) كتاب بحثي عن معهد السياسة والمجتمع وصندوق الملك عبدالله الثاني للتميز حول الحالة الحزبية بعنوان «على أعتاب التحول» أعده فريق بحثي من 11 باحثًا برئاسة الدكتور محمد أبو رمان (وزير سابق) أشار بوضوح الى خلاف الحكومة مع الحزب، وفي الكتاب نقرأ في صفحة 132: «كان ملاحظًا خلال الأعوام الماضية زيادة التوتر بين حزب الشراكة والإنقاذ والدولة، ما أدى إلى الإعلان عن حل الحزب ووقف أنشطته من قبل وزارة الشؤون السياسية ولجنة الأحزاب، في شهر آذار 2021، إلا أن محكمة استئناف عمان أصدرت قرارًا نهائيًا برفض قرار الوزارة وعودة الحزب إلى ممارسة أعماله وأنشطته والسبب الرئيس الذي يقف وراء التوتر الشديد يعود -وفقًا لمصادر رسمية- إلى أن الحزب أصبح يمثل إطارًا تنظيميًا وحركيًا تقوم الحركة من خلاله بممارسة أنشطتها، فضلًا عن دعاوى رسمية بأن الحزب له أنشطة غير تقليدية في الحياة الحزبية، مثلما حدث عندما وفر وجبات طعام للمتعطلين عن العمل عند الديوان الملكي، فضلًا عن البيانات والسقوف المرتفعة في خطاب الحزب السياسي، ما أدى إلى عدم دعوته للجنة تحديث المنظومة السياسية».