(هذا هو المقال الأول ضمن سلسلة مقالات ملف الأردن وصندوق النقد الدولي، والذي تستعرض مقالاته ثلاثين عامًا من العلاقة بين الأردن وصندوق النقد، والتي تنشر كل ثلاثاء على مدى الأسابيع القادمة)
في نهاية شهر أيار من العام 2018، شهدت عمّان ومحافظات أردنية أخرى حركة واسعة من الاحتجاجات، بعد أن تقدمت الحكومة بمشروع للإصلاح الضريبي يتضمن زيادة في معدلات الضريبة وتوسعة للوعاء الضريبي. وقد تم الإعلان كذلك عن زيادة في أسعار الكهرباء والمحروقات. كان الهدف المُعلن لهذه الإجراءات هو احتواء الدين العام البالغ قدره 38.5 مليار دولار أمريكي أي ما يعادل 95.8% من الناتج الإجمالي المحلي لعام 2017. ويأتي هذا الإصلاح في وقت تشهد فيه البلاد فقرًا مزمنًا[1] ومعدل بطالة مرتفعًا 18.5%، في حين أن المشاركة بسوق العمل، أي نسبة العاملين ممن هم في سن العمل هو من أقل المعدلات في العالم ويبلغ 38.1%.[2]
وعليه، دعت النقابات المهنية فورًا إلى إضراب عام وأصبح التظاهر في الشارع حدثًا يوميًا. فتم تجميد قرار رفع الأسعار المُعدّ مسبقًا بشكل فوري، واضطرت الحكومة برئاسة هاني الملقي إلى الاستقالة وتم استبعاد مشروع القانون بشكل مؤقت، ليكلف الملك عبد الله الثاني عمر الرزاز بتشكيل حكومة جديدة تقدم مشروعًا جديدًا للقانون، تم الإعلان عنه في أيلول 2018. أدخل مجلس الأمة تعديلات جزئية على المشروع قبل أن يوافق عليه أخيرًا في تشرين الثاني من العام نفسه، الأمر الذي أثار موجة جديدة من الاحتجاجات.
أدت احتجاجات حزيران 2018، التي تعتبر غير مسبوقة إلى حد كبير، من حيث حجمها واتساع الطيف الاجتماعي للمتظاهرين، إلى إضعاف الخطاب التقليدي في ما يتعلق بديون الأردن وأصبح السؤال المتعلق بالتوجهات الاقتصادية للحكومة يطرح في صلب النقاش العام لعدة أشهر، وامتد هذا النقاش ليطال كل السياسات المنتهجة منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي اتخذ فيها الأردن الغارق في الديون سلسلة من الإجراءات التي كان من المفترض أن تكبح التدخل المفرط للدولة وتشجع بروز اقتصاد رأسمالي تنافسي. جاء ذلك ضمن برنامج كان الأردن يتبعه مع دول أخرى في المنطقة في إطار الاتفاقيات الموقعة مع صندوق النقد الدولي.
بعد مرور ثلاثين عامًا على هذا التحول، لا تزال المملكة تعتمد بشكل كبير على الدخل المتأتي من الخارج سواء أكان ذلك مساعدات وقروضًا أجنبية أو حتى تحويلات مالية من قبل الأردنيين العاملين في الخارج. لهذه الموارد الخارجية خصوصية تتمثل في كونها غير متصلة بالجهد الإنتاجي الوطني، وخاضعة لتقلبات الظروف الإقليمية والعالمية، مما يمكننا من وصف الأردن بالدولة «شبه الريعية».[3] لم يُحسّن الحماس في تنفيذ الإصلاحات المستوحاة من النيوليبرالية من موقف الأردن الضعيف تجاه الدائنين أو حتى إزاء الصدمات القادمة من الخارج كالحروب والأزمات الاقتصادية أو حتى موجات اللجوء بأعداد هائلة.
تدخل الصندوق من أجل إصلاح الاقتصاد واحتواء الديون
تدخل صندوق النقد الدولي لأول مرة في الأردن عام 1989، وكان البلد آنذاك متأثرًا بالركود الاقتصادي الذي أصاب البلدان العربية المجاورة، لا سيما مع نهاية الطفرة النفطية وطول أمد الحرب بين العراق وإيران. تقلصت المساعدات المالية العربية المقدمة للأردن بشكل حاد خلال بضع سنين في تلك الفترة، وكذلك التحويلات المالية من قبل الأردنيين العاملين في الخارج ومعظمهم في دول الخليج. وارتفعت نسبة البطالة وكذلك نفقات الدولة، وشهد البلد أزمات متتالية ولم يعد قادرًا على سداد خدمة دينه.[4] ومن ناحية أخرى، فإن هذا الدين في جزئه الأكبر مترتب على الأردن من العقد السابق بسبب تزايد الاضطرابات الاقتصادية العالمية والكلفة المتنامية للمستوردات من المواد الغذائية والطاقة مما أدى إلى عجز في الميزان التجاري وعجز الموازنة. وتفاقم مستوى المديونية كذلك إثر القرار الأمريكي برفع أسعار الفائدة عام 1979.[5]
وعلى أية حال، فإن الأردن بين عامي 1986 و1988 خصّص ما معدله 35.4% من مجموع إيراداته السنوية من الصادرات لدفع خدمة دينه،[6] وهذا مبلغ معتبر. استمرت المديونية في الازدياد بالرغم من كل ذلك، وازداد مقدارها من 607 ملايين دينار أردني[7] عام 1980 إلى 1.8 مليار دينار أردني عام 1987 وإلى 6.4 مليار دينار أردني في العام 1989 أي ما يعادل 264% من الناتج الإجمالي المحلي لتلك السنة.[8] اضطرت الحكومة لإعادة التفاوض على مواعيد السداد، وقبلت من أجل ذلك أن تعمل على اتباع برنامج الإصلاح الهيكلي المقترح من قبل صندوق النقد الدولي. وحصلت في المقابل على قرض أول مقداره 125 مليون دولار أمريكي تم تحويلها على عدة دفعات بحسب سير التقدم في البرنامج. وعليه، فقد دُعي الأردن إلى اتخاذ إجراءات تقشف ملائمة لتخفيض الدين وتحقيق فائض مالي. كما تهدف الإصلاحات المتبناة كذلك إلى تسهيل الانتقال بالأردن نحو اقتصاد ودولة ومجتمع «ما بعد ريعي».[9]
يستند هذا البرنامج الذي يتشاركه الأردن مع معظم البلدان العربية على أساس هيمنة الموارد الريعية وضعف البنى الإنتاجية في المنطقة. وهذا الوضع يشجع على إرساء نظم سياسية متسلطة وغير مسؤولة. وتستخدم هذه الأنظمة مداخيلها لضمان السيطرة على اقتصادات باتت غير فعالة بسبب الفساد والمحسوبية وهدر المال العام.[10] شكلت هذه الموارد الخارجية في الأردن ما نسبته 54% من إيرادات الحكومة في العام 1980،[11] ما مكنها من المحافظة على مستوى مرتفع نسبيًا من النفقات العامة والحماية الاجتماعية. إلا أن الأزمة الاقتصادية وإعادة تشكيل المنطقة جيوسياسيًا (بفعل الهيمنة الأمريكية) تهدد هذا «العقد الريعي» وتحدد شروط إصلاحه.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، تم اعتماد إطار «إجماع واشنطن» كأساس لإصلاح هذه الاقتصادات، وهو عبارة عن مجموعة من الإجراءات «الرشيدة» المستوحاة من النيوليبرالية والهادفة إلى تشجيع نشوء اقتصادات سوق يباركها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي وعدد متزايد من الحكومات حول العالم. وتُقدَّم سياسات تحرير المبادلات وخصخصة الاقتصاد وإزالة القيود المالية على أنها علاج ناجع للآفات العديدة التي يعاني منها العالم العربي. بالرغم من ذلك، فقد تأخر نشوء «عقد اجتماعي»[12] جديد في الأردن لا يرتكز على إعادة توزيع الموارد الريعية وإنما على نمو القطاع الخاص. ولم تحظ الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة بالشعبية، وولّدت بشكل متكرر حراكات اجتماعية كبيرة ما أدى بدوره إلى تبدلات كبيرة في الحكومات. ففي السنوات العشرين الأخيرة، مرت على المملكة 17 حكومة، بمعدل حكومة كل سنة وشهرين تقريبًا.
وقّع الأردن منذ 1989 ولغاية 2019 ما لا يقل عن تسع اتفاقات مع الصندوق مقابل الحصول على ائتمانات متعددة .[13] أدت هذه الالتزامات المتتالية إلى سلسلة من السياسات ذات الأثر الملموس والمتمثلة بخفض النفقات الاجتماعية، وزيادة الإيرادات الضريبية، وإلغاء الرسوم الجمركية، وخصخصة الشركات الحكومية، وتحرير سوق العمل، وتطوير القطاع المصرفي والمالي. كان أداء الأردن جيدًا بالقدر الكافي ليتم اعتباره وبشكل سريع جدًا أنموذجًا يُحتذى لجيرانه، من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لقد كان لجلب رؤوس الأموال الأجنبية دور حاسم في تخفيف وطأة الدين العام بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي. إذ شملت هذه الأموال القروض، والمنح (ضمن إطار عملية السلام مع «إسرائيل»)، وتدفق رؤوس الأموال العربية (لا سيما العراقية بعد العام 2003)، والتحويلات المالية من قبل الأردنيين العاملين في الخارج. حيث انخفضت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 55% في العام 2008. إلا أنها عادت وارتفعت بعد ذلك.[14]
يُعزى هذا التحول في اتجاه الدين العام أولًا إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008. حيث طالت هذه الأزمة وبشكل خطير البلدان العربية في الخليج وتسببت مرة أخرى في انخفاض التحويلات المالية وكذلك في عودة الكثير من الأردنيين العاملين في الخارج. ثم جاءت الانتفاضات العربية عام 2011 والتي أدت إلى تدفق اللاجئين السوريين إلى الأردن وإلى تباطؤ وتقلّص النشاط السياحي في البلد. دائمًا ما تستخدم الأزمات والصراعات في المنطقة لتفسير الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها الأردن، ولذلك أسبابه: فقد وجد الأردن نفسه خلال السنوات الثلاثين الماضية مكبلًا وفقد الكثير من الأسواق بسبب الحروب في العراق وسوريا، وذلك دون ذكر القيود الإسرائيلية على الدخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. إلا أن هذا السياق الصعب هو نفسه الذي يتيح للدولة الحصول على التمويلات الأجنبية اللازمة للحفاظ على قدر من الاستقرار يلزم حلفاء المملكة.
نحو اقتصاد سياسي للإصلاح
إذا كانت الإصلاحات التي تم تبنيها لم تضع حدًا للآليات الريعية ولم تسمح حتى بتحصين البلد ضد مخاطر أزمة دين عام جديدة فإنها أفضت على الرغم من ذلك إلى تحولات كبيرة على الصعيد الاقتصادي.
تشكل الخصخصة شبه الشاملة للموارد والصناعات الوطنية جزءًا جوهريًا من هذه الإصلاحات. تم في بداية الألفية الجديدة خصخصة قطاعات التعدين، والكهرباء والاتصالات بشكل كلي. وتخلت الدولة كذلك عن مينائها البحري الوحيد الموجود في العقبة. يخدم هذا التملك الخاص لثروات البلد أقارب من هم في السلطة ويساهم في مَركزة السلطات الاقتصادية والسياسية.[15]
من ناحية أخرى، فقد ذهب ما نسبته 88% من عوائد الخصخصة لسداد وإعادة هيكلة الدين أي ما يزيد بقليل عن 1.5 مليار دينار أردني،[16] وكان ذلك باشتراط من صندوق النقد الدولي.[17] أي أن هذا القدر الكبير من المال دُفِع للدائنين بدلًا من أن يتم استثماره لأغراض التنمية. وفي الوقت ذاته، تجد الدولة نفسها محرومة من مصادر دخل مهمة ما يزيد من ضعفها واعتمادها على المؤسسات المالية.
في نهاية المطاف، يبدو أن نظام الاقتصاد الريعي ما زال قائمًا على الرغم من أن الإصلاح الهيكلي المدعوم من قبل صندوق النقد الدولي غيّر بشكل طفيف قنوات تراكم رؤوس الأموال وإعادة توزيعها
يتعلق الجانب الثاني لهذه السياسات بإضفاء «المرونة» على العمل و«تخفيض التكلفة» بهدف تشجيع الاستثمار الخاص. ويمر ذلك عبر عدة إجراءات من بينها تقليص الأعباء الاجتماعية وتعويضات التسريح من العمل، وتسهيل إجراءات التسريح من العمل، واستحداث عقود العمل المؤقتة. أما بالنسبة للحد الأدنى للأجور فقد ازداد بشكل خجول ليصل إلى 220 دينارًا شهريًا عام 2017 وذلك نتيجة لتحركات عمالية كبيرة. في الوقت عينه، كشف توجّه الأردنيين للعمل في الخارج وتعبئة عمال مهاجرين في الأردن من عرب وآسيويين وجهًا آخر لهذه الإصلاحات التي تشجع حرية تنقل اليد العاملة ورأس المال. تعبر نسبة البطالة المرتفعة والتوترات الهائلة التي تمس العمل والأجور بهذا المعنى بشكل تام عن رفض العمال الأردنيين الخضوع لظروف عمل تفتقر للأمان والاستقرار بشكل متزايد.[18]
في ما يتعلق بالسياسات التجارية، تنصب الجهود الأردنية على تخفيض الرسوم الجمركية وإزالة العوائق أمام الاستيراد وتنصب كذلك على توقيع الاتفاقيات التجارية.[19] وقع الأردن عام 1997 اتفاقية شراكة بهدف إنشاء منطقة تبادل حر مع الاتحاد الأوروبي (فعالة منذ العام 2002) ويشارك في إنشاء منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى. علاوة على ذلك، فقد انضم الأردن إلى منظمة التجارة العالمية عام 2000 وشارك في اتفاقية أغادير في العام 2004 مع تونس، والمغرب ومصر تمهيدًا لمنطقة التبادل الحر الأورومتوسطية المستقبلية. كما عقد الأردن عام 2000 اتفاقية للتبادل الحر مع الولايات المتحدة (استكملت في العام 2010) على أثر إنشاء المناطق الصناعية المؤهلة بعد العام 1996 والموجهة للتصدير الحر إلى الولايات المتحدة والتي تهدف كذلك إلى تعزيز التعاون مع «إسرائيل». تبع ذلك عدة اتفاقيات ثنائية: مع سنغافورة (2005)، ومع كندا (2010) ومع تركيا (2001).[20]
تعد هذه الاتفاقيات كلها بمثابة تعهد من الأردن بمواصلة وزيادة تحرير اقتصاده، كما أنها تمثّل في الوقت نفسه ميزة توظّف باستمرار في الخطاب الحكومي من أجل الترويج للفكرة القائلة أن الأردن يشكّل منصة تبادل مثالية للأعمال. وعلى صعيد موازٍ، برز انتشار المناطق الحرة والتنموية التي تستفيد من رسوم ضريبية تفضيلية وتعرفات مخفّضة بهدف تشجيع الاستثمارات الخاصة. وعلى الرغم من ذلك، يجهد البلد في زيادة قدراته الإنتاجية أو تنويع صادراته.[21] تبقى الصناعات الاستخراجية (المعادن الطبيعية والأسمدة) خاضعة بقوة لتقلبات الأسعار في الأسواق العالمية وتولد عددًا قليلًا جدًا من فرص العمل، في حين أن قطاع المنسوجات في المدن الصناعية المؤهلة يوظف يدًا عاملة تتكون في معظمها من الأجانب، في ظروف عمل ومعيشة قاسية بشكل هائل. وعلى الرغم من كل شيء، يبقى هذا القطاع ضعيفًا أمام منافسة البلدان الصاعدة.[22]
يتعلق العنصر الأخير لهذه الوصفات بتنمية أسواق المال وإعادة هيكلتها. حيث تم تحرير نسب الفوائد على القروض بالإضافة إلى تسهيل إجراءات منح القروض منذ العام 1990، ما أدى إلى زيادة سريعة في عدد القروض التي أعطتها البنوك للقطاع الخاص. شهد القطاع المصرفي في الوقت عينه تحولات تمثلت بتركّز متزايد لموجوداته ودخول بنوك أجنبية إلى السوق المحلية وقيام رؤوس أموال أجنبية بشراء بنوك وطنية وأخيرا نشوء أسواق الأوراق المالية (البورصات) في العام 1997، وقد شجع ذلك تركزًا أكبر لرؤوس الأموال.[23]
كان أثر هذه الأَمْوَلة (Financialization) على الدين العام واضحًا. ففي حين أن الدين الداخلي كان يساوي 32.7% من إجمالي الدين العام عام 1989 (ما يعادل 17% من الناتج المحلي الإجمالي)، فقد وصلت نسبة هذا الدين الداخلي إلى 72.5% عام 2012 (58% من الناتج المحلي الإجمالي).[24] يعني هذا الأمر أيضًا أن تحويل الثروات بواسطة آليات الدين بدأت تتم من هذه اللحظة فصاعدًا لمصلحة فاعلين ماليين يأتي معظمهم من القطاع الخاص.
ومع ذلك، فإن المسألة بالنسبة للمجتمع الأردني لا تقتصر على الوضع الاقتصادي. تأتي كل هذه الإصلاحات وبشكل جلي كجزء من جهد استراتيجي للدولة الأردنية لإعادة ترتيب صلاحياتها وزيادة صلابة قدراتها الحكومية في بيئة سياسية اقتصادية غير مستقرة. وتستند الدولة في أداء هذه المهمة إلى الشرعية والدعم الموفرين لها من قبل حلفائها ومن قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. يتمثل جزء من هذه المهمة في تخفيض النفقات العامة وهدم المكتسبات الاجتماعية الموروثة من الفترة السابقة. ويترجم ذلك أيضًا بتعزيز الآلة القمعية والأمنية المكلفة بالمحافظة على الاستقرار في البلاد ومنع أي موجة احتجاجات شعبية ضارّة.[25] وعليه فإن الجزء المخصص من النفقات للنواحي الأمنية العسكرية والأمنية الداخلية لم يتوقف عن الزيادة وصولًا إلى تخطي ميزانية كل من التعليم والصحة مجتمعتين. فيما وصلت النفقات الأمنية عام 2010 إلى ما نسبته 34.1% من الإنفاق الحكومي،[26] لتصبح الأردن خامس دول العالم من حيث الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
إصلاحات ضريبة الدخل: لماذا الاحتجاجات؟
عودةً إلى النقاش المتعلق بعملية الإصلاح الجارية والاحتجاجات التي تواجهها، قدم صندوق النقد الدولي عام 2016 قرضًا جديدًا للحكومة بهدف دعم متابعة «برنامج ضبط المالية العامة من أجل تقليص الدين وتوسيع الإصلاحات الهيكلية».[27] التزمت الحكومة من جانبها بإيجاد إيرادات جديدة من خلال تعديلات على ضريبة الدخل. وكان الهدف من ذلك هو «تطمين المانحين، والدائنين، والأسواق الدولية»،[28] بشأن قدرة البلد على تسديد قروضه المستقبلية، من أجل الحصول على مزيد من القروض، وبالتالي على نسب فائدة أقل. ويشير رئيس الوزراء عمر الرزاز كسابقه إلى عدم وجود أي بديل للقانون الجديد، مصرًّا في الوقت نفسه على تمسكه الشديد جدًا بعدم التضحية بالعدالة الاجتماعية.
تتبع ضريبة الدخل في الأردن النموذج التصاعدي، بمعنى أن نسبة الضريبة تزداد بحسب شريحة الدخل المستهدف بالضريبة. تحقق هذه التصاعدية مبدأ العدالة الاجتماعية الذي يمكن الوصول إليه بشكل أفضل عند تعدد شرائح الدخل وعندما تكون الزيادة في النسبة واضحة. أدت الإصلاحات المتتالية بدعم من صندوق النقد الدولي بين عامي 1995 و2009 إلى تخفيض عدد شرائح الدخل من عشر إلى اثنتين. وتقلصت في الوقت نفسه نسبة الضريبة على الشريحة الأعلى من 45% إلى 14% ومن الواضع أن هذا الإجراء كان بمثابة هدية ضريبية منحت للفئة الأغنى من دافعي الضرائب. حصل تغيير طفيف في هذا التوجه عام 2014 تمثل في إصلاح أدى إلى رفع عدد الشرائح إلى ثلاث ونسبة الضريبة على الشريحة الأعلى إلى 20%. كان من الواجب أن يؤدي مشروع القانون في أيار 2018 إلى إيصال عدد الشرائح إلى خمس ورفع الضريبة على الشريحة الأعلى إلى 25%. أدت الإصلاحات المتبناة في نهاية العام 2018 إلى تحديد عدد الشرائح بست ونسبة الضريبة عند 30%، الأمر الذي يصب في التوجه الرامي إلى تحقيق تصاعدية أكثر إلا أنه يبقى أقل مما كان سائدًا في السابق.[29]
تقود الإصلاحات الجارية أيضًا إلى توسعة الوعاء الضريبي ليشمل فئات من الشعب أقل دخلًا. فلغاية ذلك الوقت لم يكن الدخل يخضع للضريبة إلا إذا تجاوز عتبة الـ 12,000 دينار سنويًا للأفراد، وتزداد عتبة الإعفاء في حال كان دافع الضريبة ملزمًا بنفقات دراسة واستشفاء. كان مشروع القانون الذي تقدم به الملقي معدًا بحيث يخفض هذه العتبة إلى 8000 دينار سنوًيا مع إلغاء أية إمكانية لإعفاءات إضافية. أدت إصلاحات الرزاز بعد مراجعتها وإقرارها من قبل البرلمان إلى تحديد هذه العتبة عند 9000 دينار سنويًا كما أرست إمكانية للإعفاء الضريبي.[30]
إذا كان الأردن يُشهد له بالنجاح في الإصلاحات، فإن ذلك لا ينبع من أدائه الاقتصادي وإنما يأتي لتبرير الدعم المقدم لأحد الحلفاء الأساسيين للولايات المتحدة في المنطقة.
يضاف إلى ذلك أن الجزء الأكبر من الإيرادات الضريبية (69% عام 2017) يتأتى من ضرائب غير مباشرة على المبيعات (مرادفة لضريبة القيمة المضافة). تم إقرار هذه الضريبة للمرة الأولى عام 1994، تزايد مقدارها ليصل إلى 16% عام 2004. إلا أن هذه الضريبة العامة على المبيعات تُطبق على جميع المستهلكين دون الأخذ بعين الاعتبار مستويات دخولهم.
طالت هذه الإصلاحات الشركات أيضًا. فقد توقف الأخذ بمبدأ التصاعدية في دخل الشركات عام 1989، وبدأت الضريبة تفرض بحسب القطاع الذي تنتمي إليه الشركة فقط دون النظر إلى حجم الشركة والأرباح. شهدت نسبة الضريبة بين العامين 1995 و2009 تناقصًا كبيرًا بالنسبة لـ: البنوك (من 50% إلى 30%)، وشركات التأمين والشركات المالية (من 50% إلى 24%) والتجارة (من 40% إلى 14%)، وبقيت هذه النسبة ثابتة تقريبًا في ما يتعلق بقطاع الصناعة (من 15% إلى 14%) والاتصالات (من 25% إلى 24%).[31] ومن المهم الإشارة إلى أن مشروع القانون الذي تقدم به الملقي سيرفع الضريبة على دخل البنوك، وشركات التأمين، والشركات المالية إلى 40%. إلا أن إصلاحات الرزاز بعد تعديلها في البرلمان حددت هذه النسبة عند 35% للبنوك، و24% لشركات التأمين والشركات المالية وشركات الاتصالات، و20% بالنسبة للتجارة والصناعة. وعلاوة على ذلك فقد أنهت هذه الإصلاحات الإعفاء الضريبي الكامل الذي أقر عام 2014 بالنسبة للقطاع الزراعي.[32]
تنطوي هذه الإصلاحات على غموض يجمع بين توسعة الوعاء الضريبي وزيادة نسبة الضريبة، وتعزيز مبدأ التصاعدية في الضريبة في الوقت نفسه. ويلعب الرزاز على هذا الغموض أكثر من سلفه بهدف التخفيف من موجة الاحتجاجات. تأتي زيادة العبء الضريبي المباشر على الدخل لتزيد العبء غير المباشر الثقيل أصلًا لضريبة المبيعات بدلًا من استبداله، في الوقت الذي يمر به البلد في سياق اقتصادي بالغ الصعوبة. ويولد هذا الأمر مخاوف واضحة لدى المتظاهرين مفادها أن هذه الإصلاحات قد تؤدي إلى إفقار طبقات جديدة من الشعب بدلًا من أن تصلح أوضاع الناس الأكثر فقرًا. وجزء مركزي من النقد الموجه للحكومة ينبع من حقيقة أن هذه الإجراءات اتُخذت بالتوافق مع صندوق النقد الدولي، دون توفر الشفافية ودون التشاور مع الشعب الذي فُرضت عليه.
أية إعادة هيكلة للدولة الأردنية؟
اعتُبر الأردن لوقت طويل نموذجًا للنجاح في الإصلاحات الاقتصادية، وقد راكم البلد فعلًا سياسات تحرير الاقتصاد، والخصخصة والتقشف منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. هذه التي انتهجت باسم تخفيض عجز الموازنة وتسديد الدين العام بالرغم من إنها سببت تآكلًا متزايدًا للأمان الاجتماعي وإفقارًا للشعب. لم تُتِح هذه السياسات تعديل بنية النسيج الإنتاجي الأردني ولا حتى تُقلّل من اعتماد الأردن على التمويل الأجنبي. في نهاية المطاف، يبدو أن نظام الاقتصاد الريعي ما زال قائمًا على الرغم من أن الإصلاح الهيكلي المدعوم من قبل صندوق النقد الدولي غيّر بشكل طفيف قنوات تراكم رؤوس الأموال وإعادة توزيعها.
لم يمر هذا التحول دون إحداث هزات على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، وبالكاد تم احتواء آثاره بفضل تدفق العمالة والأموال الأجنبية. لذلك ما زال الأردن وبعد ثلاثين عامًا من الإصلاحات رهينة دينه العام و«توصيات» الدائنين. بهذه الطريقة، تبقى الملاءة المالية للدولة وقدرتها على إعادة تمويل نفسها في صميم أي اقتصاد سياسي للإصلاح، كما أنهما تلعبان دورًا كبيرًا في تحديد سياسة البلد الخارجية.[33] وبالطريقة نفسها، فإذا كان الأردن يُشهد له بالنجاح في الإصلاحات، فإن ذلك لا ينبع من أدائه الاقتصادي وإنما يأتي لتبرير الدعم المقدم لأحد الحلفاء الأساسيين للولايات المتحدة في المنطقة.
لم يعد التمييز بين «الاقتصاد الريعي» و«الاقتصاد الرأسمالي» مقبولًا، ذلك أن الأول هو ببساطة شكل معين من أشكال الثاني في السياقين الأردني والعربي. في الواقع، ترتبط النماذج الريعية المختلفة القائمة في المنطقة ومنذ الأزل بشكل وثيق بالموقع الذي تشغله هذه المنطقة في نظام مراكمة رأس المال على المستوى العالمي.[34] في الأردن كما في مناطق أخرى، مكّن التواطؤ بين النخبة في القطاع العام والنخبة في القطاع الخاص كلا الطرفين من الاستفادة من عمليات تحرير الاقتصاد والخصخصة. في المحصلة، أدت الوصفة النيوليبرالية للإصلاح وانسحاب الدولة الأردنية إلى تطور نمط حكمها، الذي يعتمد الآن على تعزيز انعدام الأمن الاجتماعي وإدارة لاتزال سلطوية للاحتجاج.
-
الهوامش
[1] أعلنت الحكومة مؤخرًا عن ارتفاع نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر المطلق إلى 15.7% مقارنة بـ 14.4% في العام 2010، دون أن تنشر حتى الآن الدراسة الكاملة التي اعتمدت عليها.
[2] World Bank, Jordan Economic Outlook – Spring 2018 (English). MENA Economic Outlook Brief. Washington, D.C., World Bank Group, 2018.
[3] Laurie A. Brand, «Economic and Political Liberalization in a Rentier Economy : The Case of the Hashemite Kingdom of Jordan» in Privatization and Liberalization in the Middle East, Bloomington, Indiana University Press, 1992, pp. 167-188.
[4] Curtis R. Ryan, «Peace, bread and riots: Jordan and the international monetary fund», Middle East Policy, 6:2 1998, pp. 54-66
[5] Adam Hanieh, Lineages of Revolt: Issues of Contemporary Capitalism in the Middle East, Chicago, Haymarket Books, 2013, p. 47
[6] البنك الدولي، إحصائيات الدين الدولية [عبر الإنترنت] http://datatopics.worldbank.org/debt/ids/country/jor تمت زيارة الموقع بتاريخ 5/5/2019.
[7] يشار إلى أن سعر صرف الدينار الأردني مقابل الدولار الأمريكي هو 1.4 دولار خلال السنوات العشر الأخيرة. وقد ثبت سعر صرف العملتين منذ كانون الأول 2017 عند 1.41 دولار لكل دينار.
[8] راضي العضايلة، حسن العمرو، حذيفة القرالة، «هيكل الدين العام في الأردن وتأثيره على النمو الاقتصادي (1980-2012)» في العلوم الإدارية، مجلد 42، رقم 2، 2015، ص520-523
[9] Ibrahim Saif, The Process of Economic Reform in Jordan 1990-2005, The Political Economy of Governance in the Euro-Mediterranean Partnership, Go-EuroMed Working Paper 0709, 2007.
[10]Hazem Beblawi and Giacomo Luciani (éd.), The Rentier State, Londres, Croom Helm, 1987.
[11] Laurie A. Brand, Jordan’s Inter-Arab Relations, New York, Columbia University Press, 1994, p.48.
[12] البنك الدولي (2003)، «التخلص من البطالة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: نحو عقد اجتماعي جديد»، واشنطن. (باللغة الفرنسية).
[13] مركز الدراسات الاستراتيجية، الجامعة الأردنية، «برامج صندوق النقد الدولي (الأردن) 1989-2016: النتائج والدروس المستفادة»، 2017، ص8.
[14] راضي العضايلة المرجع المشار إليه سابقا، ص523
[15] Scott Greenwood, «Jordan’s «New Bargain»: The Political Economy of Regime Security», Middle East Journal, 57:2, 2003, pp. 248-268
[16] حسب تقرير تم نشره في العام 2014 من قبل اللجنة الحكومية لتقييم الخصخصة (كانت برئاسة عمر الرزاز آنذاك).
[17]جين هاريغان، وحامد السعيد، وتشينغانغ وانغ، «صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الأردن: حالة من الإفراط في التفاؤل والنمو بعيد المنال»، دورية المنظمات الدولية، ٢٠٠٦، ترجمة محمد زيدان.
[18] فرانسواز دي بل آر واردا ديرجارابيديان، «هجرات العمل، العولمة والسياسة: المدن الصناعية المؤهلة في الأردن» في الهجرة والسياسة في الشرق الأوسط، بيروت، مطبعة المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، 2006، ص 48. (باللغة الفرنسية).
[19] Shikuza Imai, Economic and Trade Liberalization in Jordan: An Analysis of Policy Orientation in the 2000s, Kyoto University, Center for Southeast Asian Studies, Kyoto Working Papers on Area Studies n°127, 2012
[20] في المحصلة تم إلغاء اتفاقية التبادل الحر مع تركيا في العام 2018 بطلب من الجانب الأردني والذي قدر أن الاتفاقية تضر بمصالحه.
[21] Luis Abugattas-Majluf, «Jordan: Model Reformer Without Upgrading?», Studies in Comparative International Development, 47:2, pp. 231-253, 2012
[22] Al-Bakhit et al., Ten Years of Qualified Industrial Zones: Absolute Success or Relative Success, Amman, Royal Scientific Society of Jordan et the Friedrich-Ebert-Stiftung, 2009
[23] Adam Hanieh, ibid. pp. 101-102
[24] راضي العضايلة، المرجع المشار إليه سابقا، ص523.
[25] Anne Marie Baylouny, «Militarizing Welfare: Neo-liberalism and Jordanian Policy», The Middle East Journal, 62:2, 2008, pp. 277-303
[26] Adam Hanieh, ibid. pp. 101-102
[27] FMI, «IMF Executive Board Completes Second Review Under the Extended Fund Facility for Jordan», Communiqué No. 19/144
[28] كلمة رئيس الوزراء عمر الرزاز بتاريخ 9 أيلول 2018.
[29] شاكر جرّار، دانة جبريل، عمر فارس، دعاء علي، «الانفتاح الاقتصادي على حساب العدالة الاجتماعية: ثلاثة عقود من قوانين الضريبة على الدخل»، حبر.
[30] Ronja Schiffer, Protest as the last straw – A report on Jordan’s tax reform in 2018, Amman, Friedrich-Ebert-Stiftung, 2018
[31] شاكر جرّار وآخرون، المرجع المشار إليه سابقًا.
[32] Ronja Schiffer, ibid.
[33] Scott Greenwood, ibid.
[34] Adam Hanieh, ibid.