«قال الجيش الإسرائيلي..». بهذه الكلمات، تفتتح وسائل الإعلام الغربية وصحفيوها تقاريرهم ومنشوراتهم ونشراتهم التلفزيونية حول العدوان المستمر في قطاع غزة. فمنذ انطلاق معركة طوفان الأقصى، وعلى مدار 20 يومًا من القصف المدمّر لكل شيء تقريبًا، بدا وكأن كتيبات أساسيات الصحافة، التي يحب الصحفيون الغربيون التبشير بها، قد وُضعت جانبًا.
تجاوزت المسألة «الأخطاء المهنية»، أو حتى «الانحياز» للرواية الإسرائيلية، ليتحول الصحفيون الغربيون المتهافتون على تغطية هذه «الأخبار الساخنة» إلى ناطقين باسم جيش الاحتلال، يطوفون مستوطنات ما يسمى غلاف غزة برفقة جنوده، ويَصفّون تقارير مصدرها الوحيد هو الجيش.
كان المثال الأكثر وضوحًا على هذا الالتحام هو قصة «قطع رؤوس الرضّع» التي انتشرت كالنار في الهشيم في وسائل الإعلام الغربية، وصولًا إلى لسان الرئيس الأمريكي نفسه، قبل أن تُدحض شيئًا فشيئًا ويتراجع عنها من نقلوها، بما فيهم البيت الأبيض، دون أن ينال هذا التراجع الصدى الذي نالته الرواية نفسها. ثم جاءت مجزرة المستشفى المعمداني، لتعيد وسائل الإعلام ذاتها تدوير رواية جيش الاحتلال بأن الصاروخ الذي سقط عليه كان فلسطينيًا، وكأن شيئًا لم يكن.
كذبة الأربعين رضيعًا
في العاشر من تشرين الأول، ظهرت الصحفية الأميركية نيكول زيديك، مراسلة قناة i24 الإسرائيلية الحكومية والناطقة بالإنجليزية في بث مباشر من مستوطنة كفار عزة، وسط مجموعة من جنود الاحتلال والصحفيين، ضمن جولة رتبها الجيش الإسرائيلي للصحافة، لتقول إن «الجيش ما يزال لا يملك عددًا واضحًا [للقتلى]، لكنني تحدثت إلى بعض الجنود حول ما رأوه.. رضّع قطعت رؤوسهم.. عائلات قتلت بالرصاص في أسرّتها.. الجنود لم يتوقعوا ما جرى لكنهم هنا جاهزون للقتال.. ويريدون أن تأتي الصحافة إلى هنا لنقل ما يحدث على الأرض». نال هذا الفيديو المنشور عبر صفحة القناة على منصة X أكثر من 12 مليون مشاهدة.
في اليوم التالي، نُشرت مقابلة أجرتها زيديك مع ديفيد بن زيون، نائب قائد الوحدة 71 في جيش الاحتلال، الذي قال إنه خلال تمشيط الجيش لمستوطنة كفار عزة مساء السابع من تشرين الأول «مشينا من بيت لبيت، قتلنا الكثير من الإرهابيين.. لقد قطعوا رؤوس الأطفال والنساء.. سمعنا عما فعلوه قبل أن نأتي لكننا لم نتخيل أن يكون بهذه الصعوبة. نعرف إنهم حيوانات لكننا اكتشفنا أنهم بلا قلب. لقد دخلوا إلى البيوت ووجدوا نساء وأطفالًا في أسرّتهم، وقتلوهم بالمسدسات والسكاكين».
كان هذا الجندي المصدر الأساس للرواية، التي نقلتها وسائل إعلام غربية، ثم نقلتها وسائل أخرى عنها، قبل أن تجد جهات رسمية إسرائيلية وأميركية فيها هدية ثمينة، وتتبناها وتعيد إنتاجها.
في اليوم التالي، نشرت الإندبندنت البريطانية تقريرًا للصحفية البريطانية بيل ترو، التي كانت أيضًا جزءًا من الجولة الصحفية في كفار عزة. تنقل ترو في التقرير مزاعم بن زيون ذاتها، مضيفة أن «الإندبندنت لم تر دليلًا» عليها. لكن ذلك لم يثنِ الصحيفة عن أن تختار للتقرير، الذي تصدر صفحتها الأولى، العنوان التالي: ««قطعوا رؤوس النساء والأطفال. رأينا رضّعًا موتى»، يقول رائد إسرائيلي. الجثث أخفيت، لذا يستحيل التحقق. لكن رائحة الموت تفوح من القرية».
اجتُرّت القصة على الصفحات الأولى لعشرات الصحف وفي واجهة العديد المواقع الإخبارية والتلفزيونات، من صحيفة التايمز، إلى الديلي تلغراف، إلى سكاي نيوز، وغيرها الكثير. لكن سرعان ما ظهرت الأصوات المشككة في الرواية مطالبةً بالأدلة، خاصة بعدما بدأ بعض الصحفيين ممن نقلوا الخبر بالتراجع شيئًا فشيئًا.
فبينما استبقت ترو نشر تقريرها على الإندبندنت بمنشور على منصة X نقلت فيه مزاعم بن زيون، إلا أنها عادت بعد ساعات وحذفته، لتنشر منشورًا آخر تقول فيه: «لم أقل إن 40 رضيعًا قطعت رؤوسهم. بل قلت إن وسائل إعلام أجنبية قيل لها إن نساء وأطفال قد قطعت رؤوسهم لكن الجثث لم تعرض عليهم… أدركت أن التغريدة كانت أقصر مما يسمح بشرح السياق لذا حذفتها».
تصدّعت الرواية أكثر حين نفى البيت الأبيض في بيان ما قاله بايدن من أنه رأى صورًا أطفال قطعت رؤوسهم. فيما نقلت وكالة الأناضول عن مصدر في الجيش الإسرائيلي قوله إنه لا يستطيع تأكيد الرواية. عندها عاد الناطق باسم رئاسة الوزراء الإسرائيلية لـ«يؤكد» أن لديه صورًا موثقة، لتُخلق بذلك موجة جديدة، توجتها قناة سي إن إن، التي خرجت مذيعتها سارة سايندر لتعلن عن هذا «التأكيد» مصحوبًا بتعبيرات عن التأثر والصدمة.
لكن ذلك لم يصمد طويلًا أيضًا. إذ تهاوت الرواية مع استمرار طرح الأسئلة التي لم يُجَب عليها سوى بتصريحات من المصادر الإسرائيلية العسكرية والسياسية ذاتها، خاصة مع انتشار صور معدلة بالذكاء الاصطناعي لما وُصف بأنه «جثث أطفال محروقة»، قدمت على أنها الدليل المنتظر. وتحت ضغط المطالبات بالأدلة، عادت الحكومة الإسرائيلية لتقول إنها «لا تستطيع تأكيد» قصة قطع الرؤوس.
لكن رغم تراجع واعتذار بعض الصحفيين، ومن بينهم سايندر، إلا أن معظم التقارير التي نقلت الرواية ما تزال منشورة عبر المواقع ومنصات التواصل بلا تعديل أو سحب، وما تزال تُردد على ألسنة المدافعين عن «إسرائيل» كحقيقة ثابتة.
مجزرة المعمداني
رغم هذه الفضيحة، طوى الإعلام الغربي صفحة قصة «قطع الرؤوس» وأعاد الكرة مجددًا في أعقاب مجزرة استهداف المستشفى المعمداني (الأهلي العربي) في غزة، التي راح ضحيتها 471 شهيدًا.
فعقب ورود أنباء المجزرة، سارع الجيش الإسرائيلي للقول إن الصاروخ الذي ضرب المستشفى فلسطيني. إذ نشر بداية على منصة X منشورًا يزعم أن «تحليل الأنظمة العملياتية» للجيش أظهر أن «منظمة الجهاد الإسلامي مسؤولة عن إطلاق الصاروخ الذي ضرب المستشفى». وأرفقه بفيديو يفترض أنه يوضح إطلاق الصاروخ المقصود، قبل أن يعدل المنشور بحذف الفيديو، بعدما أشار معلقون إلى أن تاريخه يسبق وقوع المجزرة. بعدها بيوم، أتبع الجيش ذلك بتسجيل صوتي زعم أنه ينقل حوارًا بين عنصرين من حماس يتحدثان -بما رآه كثيرون لهجة غزاوية مصطنعة- عن أن الصاروخ أطلق من طرف الجهاد الإسلامي.
على الفور، باتت تصريحات جيش الاحتلال أساسًا لرواية عممتها العديد من وسائل الإعلام الغربية حول وقوع «انفجار» في المستشفى. بل إن الصحف التي نقلت في البداية خبر قصفه عادت وغيّرت عناوينها بعد الضغط الإسرائيلي.
فبينما نقلت النيويورك تايمز في البداية خبرًا حول «ضربة إسرائيلية» على المستشفى، منسوبًا لمصادر في غزة، إلا أنها عادت وغيّرت عنوان تقريرها لتتحدث عن «انفجار». ثم نشرت في الأيام اللاحقة تقريرًا يزعم أن «حماس لم تستطع توفير أدلة على أن الصاروخ كان إسرائيليًا»، وذلك لأنها لم تستطع إيجاد بقايا الصاروخ، علمًا بأن التقرير ذاته ينقل رفض قوات الاحتلال تقديم سجل عملياتها وقت وقوع المجزرة، أو تقديم الفيديو الذي تزعم أنه يثبت انطلاق الصاروخ من داخل غزة، دون أن يعني ذلك بالمثل أن «إسرائيل لم تستطع توفير أدلة على أن الصاروخ لم يكن إسرائيليًا».
«قال الجيش الإسرائيلي..». بهذه الكلمات، تفتتح وسائل الإعلام الغربية وصحفيوها تقاريرهم ومنشوراتهم ونشراتهم التلفزيونية حول العدوان المستمر في قطاع غزة، وكأن كتيبات أساسيات الصحافة، التي يحب الصحفيون الغربيون التبشير بها، قد وُضعت جانبًا.
ذهبت النيويورك تايمز أبعد من ذلك في الأيام التالية، لتنشر توضيحًا تحريريًا جاء فيه أن تغطيتها الأولى «اعتمدت أكثر مما يجب» على تصريحات حماس، وأنها لم تتوثق منها، ما «ترك لدى القراء انطباعًا خاطئًا» حول ما جرى. وأضافت الصحيفة أنها عدلت تغطيتها بناء على ذلك، إلا أنه «كان عليها أن تكون أكثر حذرًا». ثم عادت بعدها لتنشر تحليلًا خلُص إلى أن الفيديوهات التي استخدمها جيش الاحتلال لا تثبت أن الصاروخ فلسطيني، لكن الصحيفة نفسها لا تستطيع أن تجزم بأي شيء.
ظهرت الرواية الإسرائيلية بتنويعات مختلفة، إذ قالت الغارديان إنه بناء على «تحليلات استخبارية بريطانية»، فإن الحكومة البريطانية وجدت أن الصاروخ «على الأرجح» فلسطيني. جاء ذلك على لسان رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك في حديثه أمام البرلمان. ولم تكلف الصحيفة نفسها عناء طلب التحليلات التي أشار سوناك لها، فضلًا عن أن تقيّمها أو تتحقق منها بشكل مستقل، بل عززتها بالقول إن «المعلومات الاستخبارية الأمريكية رجّحت» نتيجة مشابهة.
نشرت سي إن إن تحليلها الخاص لما جرى، مُقدّمة استنتاجات تدعم الرواية الإسرائيلية، لكن النظر في مصادره يقود مجددًا إلى الجهات الاستخبارية والعسكرية الأميركية والأوروبية ذاتها. إذ أفاد التقرير بأن «التحليل الجنائي للصور والفيديوهات يشير إلى أن صاروخًا سبّب انفجار مستشفى غزة، لا غارة إسرائيلية». من أجرى هذا التحليل هم بحسب المؤسسة «خبراء أسلحة متفجرات يمتلكون عقودًا من الخبرة». كانت كثير من هذه المصادر مجهّلة، لكن المعروفين من بينهم جاءوا في أغلبية ساحقة من خلفيات عسكرية أميركية، كسلاح الجو الأمريكي، والبنتاغون، والناتو، فضلًا عن مراكز بحثية مرتبطة بوكالة الاستخبارات الأميركية، مثل مؤسسة راند. وبينما وصفت السي إن إن تحليلها بـ«الجنائي»، فقد قالت في الوقت نفسه إنه «في ظل عدم القدرة للوصول للموقع وجمع البيانات، لا يمكن لأي استنتاج أن يكون حاسمًا».
أما البي بي سي، فقد كان لها مع مجزرة المعمداني قصة أطول. فقبلها بيوم واحد، نشر موقعها تقريرًا بعنوان «هل تبني حماس أنفاقًا تحت المستشفيات والمدارس في غزة؟»، ضمن قسم لـ«الإجابة على أسئلة الجمهور». في أقل من 150 كلمة، ردّت المؤسسة بأنه لا يمكن الجزم بموقع الأنفاق، إلا أن شبكتها واسعة ومتشعبة، وفي ظل صغر مساحة غزة، من المرجح أن تمر تحت المستشفيات والمدارس. كما نقلت عن «تقارير» لم تسمّها أن بعض مداخل الأنفاق تقع عند مساجد ومدارس وبيوت ومؤسسات عامة، مرفقةً التقرير بما يفترض أنه خريطة للأنفاق، مصدرها الجيش الإسرائيلي.
عقب المجزرة، تلقت البي بي سي سيلًا من الانتقادات الغاضبة والاتهامات بالمساهمة في الجريمة عبر تصوير المستشفيات كهدف شرعي وتكرار سردية أن «حماس تستخدم المدنيين كدروع بشرية». لكن الواضح أن تأثير هذه الانتقادات على تغطية البي بي سي يؤول إلى الصفر، إذ نشرت بعد يوم من المجزرة «تصحيحًا» لما ورد في إحدى نشراتها على لسان مراسلها من القدس، حين قال إنه «بالنظر لحجم الانفجار، يصعب تخيل أن شيئًا غير قصف إسرائيلي قد سبّبه»، مضيفًا أنه في خبرته كمراسل في غزة، لم يرَ من قبل صاروخًا فلسطينيًا يتسبب بهذا الحجم من الدمار. واعتذرت المؤسسة عما أسمته «تخمينًا» في غير محله، معتبرة أنه لا يمثل «تغطية البي بي سي بمجملها».
لكن لم يكن ذلك كافيًا، إذ نشرت المؤسسة بعد أيام تحليلًا للصور والخرائط والتسجيلات المتوفرة، يشكك في كون «الانفجار» ناجمًا عن قصف إسرائيلي. تواصلت البي بي سي مع 20 خبيرًا، استجاب منهم ستة، لكن ثلاثة فقط من هؤلاء اعتبروا أن المؤشرات المتوفرة «لا تتسق مع ما يمكن توقعه من قصف إسرائيلي جوي اعتيادي بذخيرة ثقيلة». أكدت البي بي سي مرارًا على أن «النتائج غير حاسمة»، إلا أن كل التحليلات الواردة اتجهت نحو التشكيك بضلوع «إسرائيل» في القصف، لا العكس.
أتت تحليلات أخرى بنتائج مناقضة، منها تحليل قناة الجزيرة الإنجليزية الذي قارن الفيديوهات المتوفرة من مصادر عدة للدقائق الأخيرة قبل قصف المستشفى، ليرصد أن الصاروخ الأخير الذي أطلق من غزة قبل «الانفجار»، والذي ادعى الجيش الإسرائيلي أنه تسبب فيه، قد اعترضته صواريخ القبة الحديدية ودمرته بالكامل في الهواء، قبل قصف المستشفى بثوان.
وظهر تحليل أولي آخر أجرته مجموعة «العمارة الجنائية» البحثية، التي أسسها ويديرها الأكاديمي الإسرائيلي إيال وايزمان، مع مؤسسة الحق الفلسطينية ومنظمة «إيرشوت» للتحقيقات الصوتية. بناء على تحليل ثلاثي الأبعاد لموقع الحدث ودراسة أنماط التشظي والتضرر في المكان، انتهى التحليل إلى أن القذيفة التي سقطت على المستشفى أتت على الأرجح من الشمال الشرقي، لا من الغرب كما ادعى الجيش الإسرائيلي. أما التسجيل الصوتي الذي نشره الجيش، فأفاد تحليل «إيرشوت» بأنه تم التلاعب به.
وبعيدًا عن كل هذه التحليلات والتحليلات المناقضة، تجاهلت كثير من وسائل الإعلام الغربية حقيقة بسيطة هي أن المستشفى المعمداني تلقى ثلاث إنذارات بالإخلاء من جيش الاحتلال قبل أن يتم قصفه، وفق المطران حسام نعوم، رئيس أساقفة الكنيسة الإنجيلية التي يتبع المستشفى لها.
صحافة مدمجة، بشكل جديد
يمكن اعتبار انخراط الإعلام الغربي في المعركة الحالية في غزة نمطًا جديدًا من الصحافة المُدمجة (Embedded journalism)، أي تلك التي يرافق فيها الصحفيون طرفًا عسكريًا، ضمن ظروف يحددها هذا الطرف، لينتج عنها تغطية حربية يصعب تفريقها عن البيانات العسكرية. كان هذا النوع من الصحافة تقليدًا أميركيًا بالدرجة الأولى، فبعد الدور الهائل الذي لعبه الإعلام في حرب الخليج عام 1991، التي وصفها المفكر الفرنسي جان بودريار بأنها أول حرب يعلن النصر فيها على شاشات التلفاز قبل تحققه على الأرض (بل لم يتحقق أصلًا)، باتت الولايات المتحدة أشد انتباهًا لضرورة التوظيف الحربي للإعلام.
جاء احتلال العراق عام 2003 ليقدم النموذج الكلاسيكي لهذا النمط من الصحافة. ففي السنة الأولى من الحرب، شارك ما لا يقل عن 775 مراسلًا ومصورًا في التغطية كصحفيين مدمجين في وحدات قتالية أميركية، يسيرون برعاية الجيش الغازي، وضمن الحدود التي يرسمها. لم يكن هذا نتيجة اتفاق ضمني، فقد وقّع هؤلاء الصحفيون عقودًا مع الجيش الأمريكي تحدّ مما يسمح لهم بنقله، وتتيح لقادة الوحدات التي أُدمجوا فيها أن يعلنوا حالة «تعتيم» يُمنع بموجبها إرسال أي تقارير، بناء على «أسباب أمنية» يحددها الجيش.
جرت الكثير من المراجعات الأكاديمية لهذا النمط من الصحافة من حيث عدم نزاهته أو دقته بالحد الأدنى، أو تحويله الصحفيين لجنود يحملون الكاميرات بالحد الأقصى، فضلًا عن تعريضهم للخطر بوضعهم كهدف للمقاومة العراقية، أو أي قوة على الطرف الآخر من القتال. لكن يبدو أن المراجعات أدت إلى تغيير الأسلوب، لا الهدف أو المضمون.
رغم أن الصحفيين المدمجين بالمعنى التقليدي ما زالوا موجودين، كما في حالة نيكول زيديك وبيل ترو، تمارَس هذه الصحافة اليوم بشكل أكثر سيولة، وعلى مستوى أعلى، إذ أصبح التحكم يدار بتوجيه رسائل سياسية مباشرة للمؤسسات الإعلامية. فنظرًا إلى أن تغطية مجزرة المعمداني لم تسر تمامًا على هوى «إسرائيل»، رغم كل ما سبق، خرج كبار مسؤوليها ليحاضروا وسائل الإعلام بكيفية أداء عملهم.
أوضح الأمثلة جاء على لسان الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي شن هجومًا على البي بي سي لعدم تسميتها حماس بـ«المنظمة الإرهابية»، مهددًا بمنعها في «إسرائيل». قبلها بأيام، خرج جون سيمبسون، محرر الشؤون الدولية في البي بي سي، ليبرر عدم اعتماد مؤسسته لهذه الكلمة «المشحونة»، بوصفه التزامًا بـ«خطها الموضوعي». وذكّر بأن الشبكة لم تصف مقاتلي الجيش الجمهوري الإيرلندي بالإرهابيين في الثمانينيات، رغم «ضغوط هائلة» مارستها رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر حينها.
لكن مع توالي الانتقادات الإسرائيلية، التي جاء آخرها على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت على شاشة بي بي سي نفسها -فيما لا يمكن وصفه إلا بالبهدلة العلنية- راح هذا «الالتزام» أدراج الرياح، حين قررت المؤسسة البريطانية أنها ستشير من الآن فصاعدًا لمقاتلي المقاومة لا بوصفهم «مسلحين»، بل «مجموعة تصنفها الحكومة البريطانية وحكومات أخرى كمنظمة إرهابية»، وفق بيان أصدره «مجلس النواب اليهود البريطانيين»، نقلًا عن المدير العام للشبكة، تيم ديفي، الذي اجتمع المجلس معه.
وسط هذه الموجة، لعل الصوت الأوضح في التعبير عن الدور المرسوم للإعلام الغربي كان لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يائير لابيد، الذي خرج في 19 تشرين الأول ليقول إنه «إذا كانت وسائل الإعلام الدولية موضوعية فهي تخدم حماس، وإذا عرضت رواية الجانبين فهي تخدم حماس، إذا كانت تخلق تماثلًا في المعاناة دون أن تتحقق أولًا من مسببها، فهي تخدم حماس.. لا أقول لكم كيف يجب أن تؤدوا عملكم، لكن على ذلك أن يتغير. وسنكون سعداء بمساعدتكم بأي طريقة تقترحونها لنتأكد من أن تتغير الطريقة التي تجري فيها تغطية هذا الصراع بشكل جذري».