في 28 أيار الفائت، أُعلن في حفل كبير عن إطلاق «الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية 2019- 2025»، برعاية رئيس الوزراء وبحضور عدد كبير من الوزراء والأمناء والمدراء العامين وعدد من السفراء.
كانت الحكومة قد مهدت لأهمية الوثيقة من خلال الإعلان المتكرر عنها، وورودها في كلمات رئيس الوزراء وردوده على أسئلة النواب ووسائل الإعلام. وبعد الإطلاق مباشرة، نشرت وزارة التخطيط والتعاون الدولي نص الاستراتيجية باللغة العربية على موقعها الإلكتروني.
سيتناول هذا المقال الوثيقة من حيث المضمون، لكنه سيتناول كذلك شكل الوثيقة وشكل الإعلان عنها، لأن الشكل في حالة هذه الوثيقة، لم يكن أقل أهمية من المضمون، وذلك بالنظر إلى الملابسات التي طالت أرقام الفقر والنقاش حولها خلال الأشهر الستة الماضية.
تخص هذه الوثيقة الموقف الرسمي من الفقراء والمهددين بالفقر، أي الفئة التي تعلو مباشرة فئة الفقراء، أو الذين يمرون بحالة فقر مؤقت، وتستهدف توسيع إطار الحماية وصولًا إلى هذه الفئات، وتشمل هذه الحماية جوانب عديدة منها الجانب المالي ومنها ما يتصل بالخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والنقل والسكن.
لقد بدأ طرح هذه الأفكار منذ حولي سنتين، عندما أعلن البنك الدولي في سياق تحديثه المتواصل لمفاهيمه وشعاراته حول العالم، أن هناك نقصًا في العناية بالفئات القريبة من دائرة الفقر، وقد أصدر تقريرًا خاصًا بالأردن جاء فيه أن ثلث السكان فقراء او مهددون بالفقر. مع العلم أن الأرقام الرسمية تعترف بنسبة فقر تصل إلى 14.2% حتى آخر إحصاء معلن عام 2012 استنادًا إلى بيانات 2010، ثم أُعلن بشكل غير رسمي عن ارتفاع النسبة إلى 15.7% وفق إحصاء 2017/ 2018.
لقد حاولت الحكومة أن توحي أن الإعلان عن هذه الوثيقة يغني عن إجابة الأسئلة التي تكررت خلال الشهور الماضية فيما يتصل بالفقر وإحصاءاته ونسبه وأرقامه. والواقع أن القراءة المتمعنة للوثيقة يكشف جوانب من سر تردد الحكومة وتأخرها أو امتناعها عن الإفصاح عن نتائج إحصاءات الفقر الأخيرة التي اكتملت في آب الفائت.
من سوء حظ الوثيقة، أن زمن إعدادها جاء بين إحصاءين، أي بين مجموعتين مختلفتين متباعدتين من الأرقام، ولهذا لم يكن سهلًا أن تأتي الصيغة منسجمة مع أي منهما، فقدمت لنا بالتالي خليطًا يحاول التورية على هذه الخلل.
إن المسح الذي تجريه دائرة الإحصاءات العامة بعنوان «مسح نفقات ودخل الأسرة الأردنية» يعد من أهم مصادر المعلومات، وهو بالطبع لا يخص الفقر والفقراء فقط، بل هو شامل للسكان، ولكن الجهات المعنية بالفقر تأخذ منه ما يلزمها من أرقام ونسب وبيانات.
كان خط الفقر المطلق (خط الكفاية أي ما يلبي الحاجة للطعام والشراب والحاجات الأساسية الأخرى كالتعليم والصحة والسكن والنقل)، بلغ عام 2010 للفرد الواحد 68 دينارًا في الشهر، وللأسرة 367 دينارًا محسوبًا على أساس معدل أفراد الأسر، حيث تتكون الأسرة الأردنية بالمعدل من 5.4 فردًا. وكما أسلفنا منذ قليل، كانت نسبة الفقر المعلنة 14.2%.
أجري آخر مسح معلن عام 2010 (وقد أعلنت نتائجه عام 2012)، ثم أجري مسح آخر واكتمل وتقرر الإعلان عن نتائجه كما هو منتظر عام 2014 لكن الحكومة امتنعت عن إعلان النتائج، إلى أن أجري مسح أخير 2017/ 2018، ولم تعلن نتائجه التفصيلية حتى الآن باستثناء ما نشر عن اتجاهات الإنفاق عند الأسر الأردنية، ثم إعلان رئيس الوزراء بشكل عرضي عن أن نسبة الفقر المطلق هي 15.7%، وفي 30 أيار أعلنت دائرة الإحصاءات هذه النسبة رسميًا، من دون التطرق إلى باقي المؤشرات.
خليط من الأرقام
لم تعلن أهم النسب والبيانات المتعلقة بخطوط الفقر التي توصل إليها المسح الجديد، كما لم يعلن التوزيع الجغرافي للفقر، ولم تعلن المعلومات الخاصة بالدخل، مع أن المسح يشمل الدخل والإنفاق. وبهذا نعود إلى سؤال سبق أن أرهق كل الجهات المعنية بالفقر عند انطلاق أول مشروع حماية اجتماعية بعد دخول وزارة التخطيط على ميدان الفقر عام 1997 تحت اسم «حزمة الأمان الاجتماعي»، ثم أجريت عدة تعديلات على التسمية. لقد قيل حينها: لقد عرّفنا الفقر وحسبنا أرقامه، ولكن أين هم الفقراء؟ وكيف نصل إليهم؟ واحتاجت الإجابة لسنوات واستدعت تغيير منهجيات الحساب والإحصاء.
بالمحصلة، بُنيت الاستراتجية على أرقام مبهمة، فلم يكن بمقدور وزارة المالية أن تحسم موقفها بسبب غياب المعلومة المُحدّثة حول خط الفقر، وقد نشرت تقارير صحفية عن ذلك في نهاية العام الفائت أثناء إعداد الموازنة.
لكن الأكثر غرابة في ميدان الأرقام أن عنصرًا بارزًا في الاستراتيجية، وهو المتعلق ببرنامج الدخل التكميلي الذي سينفذه صندوق المعونة الوطنية، يتعامل أيضًا مع خط الفقر الدولي (وهو خط يعتمده البنك الدولي يبلغ 1.9 دولار في اليوم أي حوالي 41 دينارًا في الشهر، وهو يقل عن خط الفقر الوطني بمقدار 27 دينارًا)!
هذا الخليط من الأرقام المحلية الجديدة والقديمة والأرقام الدولية القديمة والجديدة أيضًا، دفع -على الأرجح- معدي الاستراتيجية إلى سلوك التفافات معقدة بحيث تتيح تجاوز الإحراج الذي سينجم عن التناقض والاختلاف.
جولة في الاستراتيجية
لنعد مباشرة إلى نص الاستراتيجية، وسوف نأخذ القارئ في جولة سريعة بين صفحاتها.
تتكون الاستراتيجية من 54 صفحة بما فيها الغلاف، منها 18 صفحة خالية من الكلام تقريبًا، بعضها أبيض بالكامل وبعضها وُضعت عليه صور أو عنوان قصير. كما توجد خمس صفحات كاملة مخصصة لقوائم المعدين والمشاركين في صياغة ونقاش الاستراتيجية، وتضم أسماء شخصية أو أسماء وزارات ودوائر وممثلين لهيئات رسمية وأهلية ودولية. ومن الطريف أن قائمة من 12 اسمًا تكررت مرتين، مرة تحت اسم اللجنة الفنية ومرّة تحت اسم لجنة الخبراء!
أما نص الاستراتيجية فهو مكون من حوالي 4000 كلمة، وقد وزعت من قبل المصمم الفني على باقي الصفحات بين عشرات الرسوم البيانية والمنحنيات بألوان مختلفة منسقة جيدا، ويأتي ذلك على سبيل الانسجام مع تعزيز التقارير بما يعرف بـ«الإنفوغراف»، التي يفترض أن تشكل بديلًا أكثر قابلية للفهم من الكلمات ولكن بما يزيد من الوضوح.
يبدو النص وكأنه مترجم ترجمة غير موفقة وغير مفهومة في كثير من الأحيان، لأن القارئ مهما أعطى النص وقتًا فلن يتمكن من السيطرة عليه، على سبيل المثال أمضيت أكثر من ثلاث ساعات على نص يفترض أن يقرأ في أقل من ساعة، ولكني فشلت في تفسير معنى وجود بعض الفقرات والجمل، ومعنى قطع الكلام في بعضها، أو الاستغراق في التفاصيل عندما يمكن الاختصار، والقيام بالعكس، أي الاختصار عندما يتطلب الأمر التوضيح.
جماليات الاستراتيجية
قدمت الاستراتيجية نفسها من خلال ثلاثة محاور رئيسية تعد مطمحًا نبيلًا لأي تخطيط تنموي، غير أنها لم تقدم أي تأكيد على انسجامها مع سياسات تقشفية تعلن الحكومات منذ سنوات عن ضرورة اعتمادها، وقد اعتمدتها فعلا. إن الاستراتيجية تتحدث عن خطوات وإجراءات لو طبقت ستتطلب زيادة كبيرة في الإنفاق على دعم الكثير من الخدمات، تتجاوز التعليم والصحة وصولًا إلى الإسكان والنقل، دون أن تورد الاستراتيجية أهدافًا كمية تتعلق بهذا الإنفاق. ولكن يكفي أن نتذكر كيف عجزت وزارة التربية والتعليم عن توفير النقل إلى المدارس التي تعرّضت للدمج وأصبح متعذرًا أو صعبًا على أسر التلاميذ الإنفاق على نقل أبنائهم إلى المدارس الجديدة.
تعتمد الاستراتيجية تقسيمًا عشيريًا للسكان، أي تقسيمهم إلى عشر مجموعات من الأفقر إلى الأغنى وفق الاستهلاك، وقد اختلف المعنى بين عشيرات السكان وعشيرات الأسر، باعتبار الفوارق في عدد أفراد الأسرة بين الفقراء والأثرياء، وهذا الاختلاف انتقل أصلًا من دائرة الإحصاءات على الأغلب، فلننظر مثلًا إلى الفقرة التالية المنقولة حرفيًا من منشور رسمي حول المسح الأخير:
«بعد تقسيم الأسر إلى عشيرات، يتضمن كل عشير 10% من الأسر وترتيبها تصاعديًا اعتمادًا على إنفاق الفرد السنوي، تبين أن ما نسبته 6% من الأسر الأردنية تقع ضمن العشير الأول «الأفقر» وشكّل إنفاق هذه الأسر 2.4% من إجمالي إنفاق الأسر في المملكة».
ثم تحول الأمر بعد ذلك إلى ارتباك في النص، فبينما اعتمدت نسبة الفقر (أي 15.7%) على الطريقة التقليدية التي تُبنى منذ عقدين على مقياس الدخل المالي، حيث تمثل نسبة الفقر عدد السكان الواقعين تحت خط الفقر المحسوب بناء على حجم الدخل، اعتمدت الاستراتيجية الاستهلاك، الذي حُسب بناء على سؤال أفراد العينة عن إنفاقهم وليس عن دخلهم.
بالمحصلة، فإن الكلام الرسمي، ممثلًا بوزارة التخطيط ودائرة الإحصاءات العامة، عن منهجية جديدة في حساب الفقر، قاد إلى مزيد من الخلط والتعقيد، لا سيما مع امتناع الوزارة والدائرة عن الإفصاح عن النتائج الكاملة المحدثة، وهو الأمر الذي يبدو أنه قد حسم لصالح عدم الإفصاح نهائيًا.
إن قراءة الاستراتيجية قد يدخل السرور، فمن لا يسر وهو يرى أن الحكومة ستنظر إلى ثلاثة أعشار السكان وتعتبر نفسها مسؤولة عن توفير الحماية الاجتماعية لهم، بعد أن كانت البرامج السابقة تركز على نصف هؤلاء (يمثّل الفقراء عشرًا ونصف العشر فقط). غير أن السرور سوف يتوقف عند ظاهر الأمر، إذ لا يوجد ما يكفي للتأكيد على أن الاستراتيجية تعني فقراء الأردن، بالذات الذين تغيب خصائصهم وتوزيعهم الجغرافي وتجربتهم السابقة مع مكافحة الفقر، مثلما تغيب أيضًا استراتيجياتهم الذاتية لمواجة فقرهم، بحكم مهارة البقاء التي يتمتع بها الفقراء.
جرب أن تضع باللغة الانجليزية عبارة (national strategy 0f social protection) وستعثر على العديد من النصوص المماثلة التي تخص العديد من الدول في العالم الثالث، تمامًا مثلما حصل مرات عديدة مع مفاهيم ومشاريع وشعارات جديدة تضعها المؤسسات الدولية للتعامل مع قضايا العالم الثالث.
لقد دخلت المؤسسات الدولية إلى معالجة الفقر الوطني عام 1994 من خلال تقرير للبنك الدولي حمل عنوان «تقييم الفقر في الأردن» وقد كان هذا التقرير نصيب الأردن من أكثر من 60 تقريرًا تحمل العنوان ذاته تخص بلدانًا أخرى.
ليست هذه دعوة لمقاطعة المؤسسات الدولية التي تعتبر جزءًا من الأمم المتحدة، ولكن لماذا لا نجري عملية «التوطين» اللازمة للأفكار؟ أين دور ماكنة التفكير الوطني في مسألة على درجة عالية من الحساسية؟
على سبيل المثال، إن الكلام في الاستراتيجية عن عمل المرأة وأساليب تحسين فرصها أو حصتها في سوق العمل، يبدو وكأنه تفكير في مختبر لا في واقع اجتماعي أردني معروف المواصفات، بل إن الخطة التي وردت في الاستراتيجية وأعلن عن بدء تنفيذها في اليوم التالي لإطلاق الاستراتيجية، والخاصة بتقديم دعم مالي نقدي للأسر المعرضة للفقر بحيث تشمل 85 ألف أسرة خلال ثلاث سنوات، تبدو وكأنها «تمرين» في مجتمع افتراضي، فهي تتيح أمام الأسرة التي ترى نفسها بحاجة للدعم أن تتقدم بطلب، ثم يقوم صندوق المعونة المشرف على المشروع، بترتيب مئات ألوف الأسر المتقدمة، في قائمة تبدأ من الأكثر حاجة، وسوف تتعرف الأسرة على موقعها في القائمة، لكي تعرف دورها. هذه فكرة لها تداعيات ثقافية واجتماعية لم تؤخذ بالاعتبار فضلًا عن تناقضها مع أنظمة الصندوق نفسه التي تحدد بوضوح الفئات التي يتعامل معها.
يعتمد منطق الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية على فكرة يرفض أصحاب القرار الاعتراف بتآكلها بعد ثلاثة عقود من تطبيقها في الأردن نفسه، تقول الفكرة: إن النهج الاقتصادي سليم وأن النمو المستهدف سيفيد الجميع، ولكن هناك فئات ستتضرر مؤقتًا قبل أن تصلها الفوائد، وفي هذه الأثناء نشأت أفكار تقول بشبكة الأمان الاجتماعي التي ستحمي المتضررين من السقوط، ولكن من الواضح اليوم أن فئات جديدة مهددة بالسقوط، باعتراف البنك الدولي نفسه الذي أخذ يتحدث عن أن المعرضين للفقر يشكلون ثلث السكان.
هل تكفي تجارب دول غيرنا سبقتنا في الاستجابة الحرفية لنماذج الأفكار الدولية، وهل تكفي تجربتنا الخاصة التي ستكمل عقدها الثالث قريبًا، لكي نطرح، كفرضية على الأقل، أن مسألة إفقار فئات واسعة من السكان هي جزء مكون رئيسي من النهج الاقتصادي ذاته وليست مجرد عرض من أعراضه؟