تجاوزت تركيا معركتها الانتخابية المصيرية وتمكن الرئيس وحزبه وتحالفه من اجتراح معجزة الفوز في هذه الظروف التي يتفق الجميع على أنها لم تكن مواتية لهم، خاصة في ظل العديد من الأزمات التي تعكر صفو حياة المواطنين الأتراك وتزيد غضبهم على الحكومة. إذ يمكن القول إن أبرز خصوم أردوغان لم يكن منافسيه السياسيين، بل الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد طوال السنوات الماضية، لا سيما في ظل توظيف المعارضة المكثف لهذا الملف وتحميل مسؤوليته للعدالة والتنمية وحكومته. ورغم فوز أردوغان وتحالفه في معركتيْ الرئاسة والبرلمان، لا يخفى على أحد أن الأزمة الاقتصادية كانت من أهم أسباب تراجع العدالة والتنمية بنسبة قاربت 7% عن نسبة أصواته في العام 2018، بل وربما العامل الأساسي في ذهاب الانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية أيضًا.
النموذج الاقتصادي التركي في الميزان
«الفائدة هي السبب، والتضخم هو النتيجة»
– الرئيس رجب طيب أردوغان
على مدى السنوات الماضية، تبنّت تركيا ما أسمته رسميًا «النموذج الاقتصادي التركي»، والذي يمكن القول إنه نموذج اقتصادي غير تقليدي، ويلخص في عبارة أردوغان، التي دافع عنها مرارًا: «الفائدة هي السبب، والتضخم هو النتيجة». وهو ما عنى تخفيض معدّلات الفائدة، -حتى بالصدام مع محافظي البنك المركزي وإقالتهم- على اعتبار أن ارتفاعها مضرّ بالنمو الاقتصادي، بل ويسبّب التضخم نفسه. ولذا بعد أن كانت الفائدة عند 24% في 2021، تم تخفيضها تدريجيًا حتى وصلت 8.5% قبل حزيران الفائت.
وفي دفاعه عن هذه السياسة، اعتبر الرئيس أن هذه السياسة غير التقليدية تمنح تركيا فرصًا أفضل في مؤشرات الإنتاج، والتوظيف، والاستثمار، والنمو، والصادرات، خاصة وأن البلاد حققت بالفعل أرقامًا قياسية تاريخية لا سيما في مؤشري الصادرات، والتوظيف والنمو، وغيرها. ولها تم عزو الحفاظ على معدّلات نمو مرتفعة، وصلت عام 2022 إلى 5.6%.
في المقابل، رأى مراقبون أن هذا النموذج ساهم، ضمن عوامل أخرى، ليس فقط في تعميق نزيف الليرة التركية التي فقدت أكثر من 80% من قيمتها خلال السنوات الخمس الماضية، بل وأيضًا في تعزيز مشكلة التضخم الذي شهد، في السنتين الأخيرتين، أعلى معدلاته طوال أكثر من عقدين من حكم العدالة والتنمية.
يرد حزب العدالة والتنمية هذا التضخم والغلاء المعيشي الذي أرهق المواطنين إلى أزمات إقليمية ودولية منها جائحة كوفيد وما صاحبها من «إشكاليات» في سلاسل التوريد، ومنها كذلك الحرب الروسية الأوكرانية وغيرها. وقد حاولت حكومة العدالة والتنمية الأخيرة الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة عبر التدخل في الأسواق، من خلال بيع احتياطيات البنك المركزي من الذهب والعملات الأجنبية لخفض سعر الصرف أو ضبطه عند مستوى معين، لا سيما في فترة الانتخابات، نظرًا للتأثير السياسي السلبي لهذا المؤشر. والآن وبعد سنوات من التدخلات للحفاظ على استقرار الليرة، انخفض صافي احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي التركي إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، ليصل إلى سالب 5.7 مليار دولار بتاريخ 2 حزيران 2023.
واليوم، ومع انحسار الأدوات التي يمكن أن يستمر عبرها «النموذج الاقتصادي التركي»، ومع ما فرضته كارثة الزلزال من تكاليف باهظة على تركيا، يقف أردوغان في ولايته الجديدة أمام تحدٍ صعبٍ لحل الأزمة الاقتصادية، يمكن القول إنه قد دفعه للعودة عن سياسته تلك.
تركيا في ولاية أردوغان الجديدة: سياسة اقتصادية جديدة
حمل تعيين أردوغان للاقتصادي التركي الشهير محمد شيمشيك وزيرًا للخزينة والمالية مؤشرًا واضحًا على الرغبة في تبني سياسة جديدة. كان شيمشيك في السابق قد تولى هذا المنصب، لكنه استبعد عام 2018 بسبب خلافه مع توجهات الرئيس أردوغان حينها. واليوم يقال إنه قد عاد إلى هذا المنصب بعد مفاوضات خاضها مع الرئيس، وحصل بموجبها على صلاحيات واسعة واستقلالية في إدارة الملف الاقتصادي بما يتوافق مع مقاربته التقليدية، والتي تشمل إمكانية رفع معدلات الفائدة عند الحاجة.
وبالفعل لم يتأخر الوزير الجديد عن الإعلان عن توجهاته الاقتصادية منذ اليوم الأول، حيث أكد خلال حفل تسلمه الوزارة من سلفه على أن تركيا «لم يبق لها خيار إلا العودة إلى الأسس العقلانية» في تصريح يحمل بين ثناياه انتقادًا للسياسات السابقة. كما أعلن أنه ملتزم بمبادئ أساسية مثل الشفافية والاتساق وقابلية التنبؤ والامتثال للمعايير الدولية، إمعانًا في التأكيد على أنه ينوي الذهاب إلى سياسات أكثر تقليدية.
سمعة شيمشيك وصراحته في الحديث عن التحول في المقاربة الاقتصادية التركية أشاعت الأمل داخل تركيا وخارجها، وبعد تعيينه تراجع مؤشر مبادلة مخاطر الائتمان (CDS) من مستوى 700 نقطة أساس، والذي وصله خلال فترة الانتخابات، إلى أقل من 500 نقطة أساس بداية حزيران 2023، وهو أدنى مستوى له منذ العام 2021، الأمر الذي اعتبره البعض مؤشرًا إيجابيًا. وبناء على ترشيح شيمشيك، جاء تعيين أردوغان، لحفيظة غايا أركان، لرئاسة البنك المركزي التركي، وهي التي سبق بها العمل في القطاع المصرفي الأمريكي، في إشارة إلى نية أردوغان إفساحَ المجال لشيمشيك وفريقه للعمل وفق رؤيتهم.
لكن وفي الوقت نفسه، قرأ محللون في تركيا، تعيين أردوغان لجودت يلماز (شخصية اقتصادية من داخل العدالة والتنمية، وأحد كتاب برنامجه الانتخابي الأخير) في منصب نائب رئيس منخرط في الملف الاقتصادي خطوة نحو خلق صمام أمان للحفاظ على التوازن بين رؤيتي شيمشيك وأردوغان. والحال نفسه ينطبق على تعيين محافظ البنك المركزي السابق، شهاب كافجي أوغلو، الذي يعتبر أحد أهم الشخصيات التي قادت عملية خفض الفائدة على رأس مؤسسة اقتصادية مهمة هي هيئة التنظيم والرقابة المصرفية. وقد اعتبر البعض هذه الخطوة سعيًا من أردوغان للحفاظ على خيار النموذج الاقتصادي القديم حاضرًا، رغم أن منصب كفجي أوغلو الجديد ليس له تأثير مباشر على ملف الفائدة والإجراءات الوزارية.
استمرار سقوط الليرة التركية
منذ بداية العام، وحتى تموز الحالي، فقدت الليرة التركية حوالي 28% من قيمتها، لتصل إلى حوالي 26 ليرة لكل دولار حتى حينه. ويرى بعض المراقبين أن استمرار تراجع الليرة، رغم التغيرات التي طرأت على السياسة الاقتصادية، مردّه عجز البنك المركزي عن مواصلة كبح جماح هذا التراجع بعد سنوات من استهلاك الاحتياطيات، أو لأن الإدارة الاقتصادية الجديدة اختارت عدم محاولة السيطرة على سعر العملة بهذه الطريقة لوقف استنزاف الاحتياطيات، أو لكلا العاملين معًا.
بل ويرى بعض المراقبين أن ترك الليرة تعود لتوازنها دون أي تدخل مصطنع من البنك المركزي (خفض قيمة العملة بشكل متعمد) هو أولى الخطوات للعودة إلى الأساس العقلاني في إدارة الاقتصاد الذي تحدث عنه شيمشيك. إذ يدافع أصحاب هذا الرأي عن أن الوزير الجديد يريد أن يعيد لليرة قيمتها الحقيقية، بما يعني العودة إلى الشفافية قبيل التوجه إلى رفع أسعار الفائدة وغيره من الأدوات المالية. يريد شيمشيك هنا إعادة الثقة للاقتصاد التركي واستغلال فرصٍ مثل جذب الاستثمارات الأجنبية وموسم السياحة القادم للتحكم في سعر الصرف بطريقة أكثر صحية لاحقًا من دون تكبيد البنك المركزي خسائر كبيرة. وفي هذا السياق يتوقع العديد من المراقبين في داخل وخارج تركيا أن الليرة التركية ستنخفض أكثر وأكثر حتى تستقر بين 25 أو 28 ليرة أمام الدولار الواحد.
تركيا وبرنامج السياسات التقليدية
كانت الخطوة العملية الأولى التي أشارت إلى أن الحكومة التركية الجديدة مقبلة على العودة إلى السياسات التقليدية هي قرار لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي التركي في تاريخ 22 حزيران برفع معدل الفائدة 650 نقطة أساس لتصبح عند مستوى 15%، في أول رفع منذ العام 2021 (أي بعد 25 شهر من عدم رفع الفائدة). شدد البنك المركزي على أن تركيا بدأت في تطبيق سياسة التشديد النقدي للسيطرة على تذبذب الأسعار وخفض التضخم عبر سياسات مالية ونقدية تتوافق مع الهدف متوسط المدى لخفض التضخم إلى مستوى 5%. أكد البنك أيضًا على الطبيعة التدريجية التي سيتبعها في سياساته الجديدة، مع الإشارة إلى أنه سيستمر باتخاذ قراراته وفق معايير الشفافية وإمكانية التنبؤ والاعتماد على البيانات، فيما اعتبره الكثيرون إشارة واضحة على أن الفريق الاقتصادي الجديد يعتزم رفع الفائدة مجددًا بشكل تدريجي حسب الحاجة في الفترة القادمة.
رغم أن أردوغان لا يبدو أنه قد تخلّى عن سياسات الإنفاق الاجتماعي المرتبطة بشعبيته، إلا أن النهج الاقتصادي الجديد قد يكون أحد العوامل الرئيسة التي تحدد شكل وأدوات الساحة السياسية التركية لجميع الأطراف في الفترة المقبلة.
وفي سياق هذه الخطوات ركز شيمشيك على ثلاثة مفاهيم هي الاستقرار، والثقة، والاستدامة، مشيرًا إلى أنها ستمثل محور السياسة الاقتصادية في الفترة المقبلة. كما لفتَ بشكل واضح إلى أن توفير الرفاه والنمو يحتاج إلى الاستثمارات وزيادة التوظيف والإنتاجية وهي عوامل تتطلب اقتصادًا مبنيًا على الثقة التي لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال تنفيذ السياسات وفقًا للقواعد على حد تعبيره. يمكن القول إن أبرز مكونات البرنامج الاقتصادي الجديد بالنسبة لشيمشيك تقوم على، أولًا: إعادة فرض الانضباط المالي عبر تخفيض عجز الميزانية إلى مستوى يتوافق مع معايير ماستريخت، باستثناء تأثير الزلزال. وثانيًا: سياسة التشديد النقدي التدريجي من أجل خفض التضخم إلى خانة الآحاد على المدى المتوسط مع سياسة دخل متوافقة مع هذا الهدف. وثالثًا: الإصلاحات الهيكلية التي ستجعل الاستقرار المالي الكلي وجميع المكاسب الأخرى دائمة.
وتضمن برنامج شيمشيك توجهًا حكوميًا مكثفًا نحو زيادة الضرائب أملًا في سد عجز الميزانية. فرغم تنفيذ أردوغان بعض وعوده في زيادة رواتب الموظفين العموميين والمتقاعدين إلا أن البرنامج الاقتصادي الجديد يتضمن خطة لرفع الضرائب بشكل ملحوظ على السيارات، والشركات، والبنوك، ورفع ضرائب معينة مثل ضريبة القيمة المضافة، وضريبة الاستهلاك الخاص على الوقود، إضافة إلى الضرائب والرسوم على المعاملات الحكومية، سعيًا لتحصيل ميزانية إضافية تبلغ 1.1 تريليون ليرة تركية.
وفي الوقت نفسه، اتجه الفريق الاقتصادي الجديد نحو طرق أبواب المستثمرين المحتملين أملًا في جذب الأموال الساخنة التي قد تساهم في دعم جهود تعافي الاقتصاد التركي. وفي هذا السياق فضلت الحكومة التركية التوجه إلى دول الخليج، إذ زار الفريق الاقتصادي الإمارات وقطر والسعودية في مساعٍ لجذب استثمارات تتراوح بين 10 إلى 25 مليار دولار. وفي سياق متصل، يرى البعض أن مساعي تركيا في تخفيف الصدام مع الغرب، خاصة على خلفية قرار قبول عضوية السويد في حلف الناتو قد تحمل بذور صفحة جديدة مع الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية بما يسهل مهمة الفريق الاقتصادي في جذب الاستثمارات الغربية إلى البلاد.
من اللافت أيضًا أن قرار رفع معدل الفائدة كانت له آثار سلبية على اعتبار أنه جاء أقل من توقعات السوق التي أشار مختلف محلليها وممثليها إلى إمكانية الرفع إلى مستوى 25% أو أكثر. وهو ما رأى البعض أنه كان سببًا في انخفاض هائل في قيمة الليرة، إذ نزلت قيمتها أكثر من 5% في الساعات التي تلت قرار المركزي رفع الفائدة. ورغم ذلك طالب شيمشيك الشارع التركي بالصبر لافتًا إلى أن تحسن الاقتصاد بحاجة إلى وقت.
السياسة والاقتصاد على أبواب استحقاق العام 2024
هذه السياسة الاقتصادية الجديدة، وتحديدًا ملف الفائدة، وضعت أردوغان في حرج سياسي، فمن جهة قاد الرجل لسنوات «حرب استقلال اقتصادي» ضد الفائدة معتبرًا أنها عدو بلاده الأكبر ومهاجمًا ما وصفه بـ«لوبي الفائدة» الذي يحاول سلب تركيا استقلالها. وحشد أنصاره لا سيما في الجناح المحافظ والإسلامي على هذا الأساس ما يعني أن رفع الفائدة من جديد قد يؤدي إلى سخط البعض منهم. ومن جهة أخرى، لطالما هاجمت المعارضة بمختلف قواها النموذج الاقتصادي الذي تبناه أردوغان في السنوات الماضية وبالتالي فإن تراجعه العملي عنه عرّضه لهجمة شرسة على اعتبار أن سياساته الخاطئة أدت إلى استهلاك ثروات البلاد ووضعها في أزمة كبيرة. وقد استفادت من تصريحات شيمشيك حول العودة إلى العقلانية إذ معها استعر هجوم المعارضة التي رأت في هذه التصريحات اعترافًا رسميًا بأن السياسات السابقة لم تكن عقلانية.
خطر آخر يواجه أردوغان، وهو خطر الاصطدام بشيمشيك، وتحديدًا حول ملف الفائدة، ما يطرح تساؤلات حول قدرتهما على إدارة بعضهما البعض. ليس هذا وحسب، بل إن توجه الفريق الاقتصادي الجديد الملحوظ نحو سياسات شد الحزام التقشفية قد يكون تحديًا مهمًا بينهما، خاصة بعد كل وعود أردوغان الانتخابية وتركيزه المعروف على سياسات الإنفاق الاجتماعي.
لكن ورغم هذه الأخطار السياسية التي تنطوي عليها عملية التحول في السياسات الاقتصادية، من المتوقع أن يتمكن أردوغان من المناورة مستعينًا ببعض الفرص المختلفة، فمثلًا قد تمنح عملية التدريج في رفع الفائدة أردوغان فرصة مواكبة التحول الجديد سياسيًا وتسويقه لا سيما داخل معسكره. والأكيد أن أردوغان معنيّ بتحسين الأوضاع الاقتصادية بشكل محسوس للمواطن بأي ثمن، خاصة على أبواب الانتخابات المحلية المقبلة في آذار من العام 2024، خاصة مع ما أظهرته الانتخابات الأخيرة من تراجع ملحوظ لأردوغان وحزبه في العديد من المدن الكبرى كإسطنبول وأنقرة في مواجهة المعارضة، فيما يفسره الكثيرون بأنه عائد لتأثر هذه المدن بالغلاء المعيشي أكثر من غيرها.
يمكن المجازفة بالقول إن الرئيس أردوغان منح الفريق الجديد فترة اختبار وفرصة -ربما جزئية- لتجربة وصفته التقليدية، على أمل إحداث تغيير بالتوازي مع اقتراب الانتخابات المحلية المقبلة.
وبالتالي فإن بقاء الحال كما هو عليه سيضع أردوغان في مأزق يسلب منه زخم فوزه التاريخي في أيار 2023 ويحرمه الاستعادة المهمة، رمزيًا وعمليًا، للبلديات الكبرى التي خسرها عام 2019 بما يعيد للمعارضة معنوياتها المنهارة. ولذلك من المحتمل أن تساهم هذه الظروف في منح الفريق الاقتصادي الجديد فرصة تفسح المجال له للاستمرار في السياسات التقليدية -ولو جزئيًا وتدريجيًا- أملًا في الحصول على نتائج قد تساهم في استعادة المدن الكبرى.
لكن وفي الوقت نفسه، تحمل هذه السياسة في طياتها رهانًا صعبًا قد لا يصب في صالح أردوغان. فإن بطء النتائج الملموسة المترافق مع زيادة العبء الضريبي على المواطنين قد يؤدي إلى استياء متزايد على المستوى الشعبي بما قد يخدم المعارضة. فقد بدأت قوى المعارضة بالفعل اعتبار وصفة الحل الجديدة تحميلًا للشعب لعبء فاتورة الأزمة الاقتصادية التي تسببت بها مغامرات أردوغان في المقام الأول مطالبين الحكومة بالبدء أولًا في شد الحزام والتقشف. ليس هذا وحسب، اعتبرت زعيمة الحزب الجيد، ميرال أكشنار، أن البرنامج الاقتصادي الجديد هو برنامج غير معلن لصندوق النقد الدولي في استثارة لرمزية هذا الصندوق الذي لطالما قدم أردوغان نفسه كحارس لتركيا منه.
رغم الأمل الذي جلبه الإعلان عن الفريق الاقتصادي الجديد وبرنامجه، تستمر الصورة الضبابية حول مستقبل الاقتصاد التركي، خاصة وأن تركيا تحتاج إلى ما هو أكثر من جرعة أمل وتغيير في الأسماء لتجاوز الأزمة الحالية وتبعاتها. فليس من الواضح بعد مدى مجال الحركة الفعلي الذي منحه الرئيس أردوغان للفريق الاقتصادي الجديد، لا سيما وأن الخروج من هذه الأزمة سيكون مخاضًا طويلًا قد يستغرق أشهرًا طويلة، وربما سنوات.
يبدو من الواضح أن هذا الفريق يسعى بشكل حثيث لرسم صورة مستقلة عبر التأكيد النظري المستمر على السياسات الجديدة وأخذ خطوات فعلية تجاهها. فبينما يحاول شيمشيك إعادة بناء الثقة بالاقتصاد التركي، يريد بالتوازي مع ذلك تأسيس الثقة به وبفريقه أيضًا من باب أنه حصل على صلاحيات كافية ومساحة معقولة للحركة وفق سياساته العقلانية. لكن مدى الاستقلالية التي يمتلكها الوزير وفريقه لا زالت محل ترقب وشك، خاصة وأن خطواته لا تزال تدريجية وحذرة ويرى البعض أنها ليست مرضية بعد من حيث إشارتها إلى تحييد الاقتصاد عن التأثير المباشر لسياسات أردوغان، ما يضع الفريق الاقتصادي في موضع اختبار في نظر المراقبين والأسواق.
يمكن المجازفة بالقول إن الرئيس أردوغان منح الفريق الجديد فترة اختبار وفرصة -ربما جزئية- لتجربة وصفته التقليدية، على أمل إحداث تغيير بالتوازي مع اقتراب الانتخابات المحلية المقبلة. لكن تركيا واقتصادها وسياستها تشهد الآن سباقًا مصيريًا بين عاملين الأول هو وصفة الحل المُرَّة التي يريد الفريق الاقتصادي تطبيقها والثاني هو آمال التعافي التي تحول -حتى الآن- دون تدخل أردوغان المباشر في البرنامج الاقتصادي من جديد. فرغم أن الرئيس لا يبدو أنه قد تخلّى عن بعض خطوطه الحمر مثل سياسات الإنفاق الاجتماعي المرتبطة بشعبيته، إلا أن السباق بين الوصفة المُرة وآمال التعافي ونتائجه قد يكون أحد العوامل الرئيسة التي قد تحدد شكل وأدوات الساحة السياسية التركية لجميع الأطراف في الفترة المقبلة.