التضخم وأسعار الفائدة الأمريكية: الكساد قادم

الأربعاء 06 تموز 2022
التضخم، الولايات المتحدة، حرب أوكرانيا
تصميم إلينور شكسبير، الغارديان.

هذه ترجمة بتصرف لمقابلة مطوّلة أجراها الصحفي بنجامين نورتون مع الاقتصادي الأمريكي مايكل هدسون، نشرت في موقع Multipolarista في 28 حزيران، حول موجة التضخم العالمية في أعقاب العقوبات الغربية على روسيا، وأثر هذه العقوبات على الاستقطاب العالمي المتزايد، إلى جانب قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة، وتداعياته على الولايات المتحدة والعالم. 

بنجامين نورتون: قد لا يبدو قرار الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر الفائدة بنسبة 0.75% أمرًا كبيرًا، لكنها أكبر زيادة في سعر الفائدة منذ عام 1994. وقد رأينا تقارير تشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي سيدخل في كساد، ورئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يعزو ذلك لارتفاع الأجور. هل لك أن تعلق على هذا الموقف وعلى أزمة التضخم في الولايات المتحدة اليوم؟

مايكل هدسون: بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، هناك أمران فقط يجيد فعلهما: رفع نسبة الفائدة، وإنفاق تسعة تريليونات دولار على شراء الأسهم والسندات والرهن العقاري لرفع ثروة أثرى 10% من السكان. وبالنسبة لهؤلاء، ليس التضخم وحده ما يُعزى إلى ارتفاع الأجور، بل كل مشكلة في الولايات المتحدة تعزى إلى أن الطبقة العاملة تجني أكثر مما يجب. إنهم يحتاجون البطالة لمنع العمال من جني نسبة أكبر من قيمة ما ينتجونه، لتعود القيمة إلى البنوك والطبقة الإدارية المالية التي تسيطر على الشركات في الولايات المتحدة.

لكن موقف بايدن يختلف عن موقف الاحتياطي الفيدرالي، فهو يسميه «تضخم بوتين». وما يعنيه ذلك طبعًا هو أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا خلقت نقصًا في النفط والغاز والطاقة وصادرات الغذاء. لذا فما تعيشه الولايات المتحدة هو حقيقةً «تضخم بايدن»، وهو نتيجة السياسة العسكرية والخارجية الأمريكية، وبالأخص نتيجة دعم الحزب الديمقراطي لصناعة النفط، القطاع الأقوى في الاقتصاد الأمريكي، الذي يوجّه معظم العقوبات المفروضة على روسيا. فقوة الولايات المتحدة من منظور الأمن القومي مبنية على قدرتها على تصدير النفط والتحكم بتجارته في كل دول العالم، وعلى تصدير المنتجات الزراعية.

لذلك، ما نحن فيه ليس أزمة داخلية تتعلق بمطالبة العمال المأجورين برواتب أعلى -وهم لا يحصلون عليها، إذ لم يُرفع الحد الأدنى للأجور- فعلينا أن نضع الأمر في سياق الحرب الباردة الدائرة حاليًا. هذه المواجهة بين الولايات المتحدة والناتو من جهة وروسيا من جهة كانت هبة من السماء لصناعة النفط والمصدّرين الزراعيين في الولايات المتحدة. إحدى النتائج كانت ارتفاع سعر الدولار مقابل اليورو والجنيه الإسترليني وعملات عالم الجنوب. من حيث المبدأ، يجب أن يعني ذلك انخفاض سعر الواردات بالنسبة لنا، مما يشير إلى أن السبب في التضخم هو أمر آخر. والسبب طبعًا هو حقيقة أن صناعة النفط محتكرة، وكذلك صناعة الغذاء التي تسيطر عليها شركات مثل كارجيل وآرتشر دانيلز ميدلاند، التي تشتري معظم المحاصيل من المزارعين وتبيعها. وبينما تحلّق أسعار الغذاء، فإن المزارعين يجنون دخلًا أقل نظرًا لارتفاع كُلَف الأسمدة والنقل والمدخلات الأخرى، لتراكم هذه الشركات أرباحًا هائلة.

بالتالي، حين ننظر إلى ما يحدث في النظام الاقتصادي العالمي ككل، يمكن أن نرى كيف تجري هندسة التضخم، وكيف أن المستفيدين منه ليسوا بأي حال العمال المأجورين، لكنهم يلامون على الأزمة التي خلقتها سياسة بايدن الخارجية وحرب الناتو الأمريكية من أجل عزل روسيا والصين والهند وإيران، وأوراسيا عمومًا.

أشارت دراسة لمعهد السياسة الاقتصادية إلى أن أرباح الشركات مسؤولة عن 54% من الزيادة في أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة، فيما تعود 8% فقط منها لارتفاع الأجور. لكن مع ذلك، نرى مسؤولين سابقين مثل لاري سمرز، الذي كان وزير الخزانة في عهد كلينتون، يقول إن علينا رفع البطالة من أجل تخفيض التضخم، فيما يقول جيروم باول إن علينا تخفيض الأجور. لماذا برأيك يرفضون الاعتراف بدور الشركات في التضخم؟

معظم الاقتصاديين يحتاجون وظيفة، وحتى يحصلوا عليها، عليهم أن يرسموا صورة عن الاقتصاد تقدم مشغلّيهم على أنهم مفيدون للمجتمع بشكل عام. لا يمكنك أن تقول إن مشغّلك يتصرف بطريقة لصوصية. لو كنت مفكرًا اقتصاديًا يؤمن بالسوق الحر، مثل آدم سميث أو ديفيد ريكاردو أو جون ستيوارت ميل، فسترى أن الأرباح التي تحققها الشركات اليوم هي ريع احتكاري، فهي أعلى بكثير من أي نسبة طبيعية للعائد على الاستثمار. والسبب هو أن الولايات المتحدة أوقفت العمل بقوانين منع الاحتكار منذ 10 أو 15 سنة، وسمحت عمليًا للاحتكارات بتركيز الأسواق والسلطة. 

ما يقوله لاري سمرز عمليًا هو أنك حين تهدم هذا الإطار القانوني الذي كان موجودًا منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وتفكك سيطرة الدولة، فأنت تدعم السوق الحر. ما يقصدونه بـ«السوق الحر» هو السوق الذي تستطيع فيه الشركات فرض الأسعار التي تريدها؛ هو سوق بلا تنظيم حكومي وبلا حكومة؛ هو السوق الذي تكون فيه الحكومة ضعيفة إلى حد يمنعها من حماية العمال المأجورين؛ هو السوق الذي لا تتولى الحكومة فيه التخطيط، بل وول ستريت، التي تخطط بالنيابة عن الصناعات الكبرى المُؤَمْوَلة. و«الديمقراطية» هي البلد الذي تكون فيه غالبية السكان، أي العمال المأجورون، عاجزة عن التأثير في السياسة الاقتصادية بما يتوافق مع مصالحهم. 

 ما يقصدونه بـ«السوق الحر» هو السوق الذي تستطيع فيه الشركات فرض الأسعار التي تريدها؛ هو السوق الذي تكون فيه الحكومة ضعيفة إلى حد يمنعها من حماية العمال المأجورين.

هذا هو ما تمثله إدارة بايدن، وما يمثله الحزب الديمقراطي ككل، حتى أكثر من الحزب الجمهوري. فالجمهوريون يروّجون لسياسات مناصرة للشركات المالية، لكن الديمقراطيين هم الذين يتولون تدمير إرث الحمائية الاقتصادية الموجود منذ أكثر من قرن. الحزب الديمقراطي هو عمليًا الجناح اليميني من الحزب الجمهوري. لقد أعاد بايدن تعيين جيروم باول رئيسًا للاحتياطي الفيدرالي وهو جمهوري معاد للعمال. تخيل أن لديك حزبًا يسعى لكي يتم انتخابه على برنامج مفاده «انتخبونا، وسنخلق كسادًا ونخفّض الأجور». هذا هو شعار الحزب الديمقراطي، وهو شعار ناجح، لأن الحملات الانتخابية تقوم على المساهمات المالية، وهذا الشعار سيجلب سيلًا من التبرعات للحزب من قبل وول ستريت والاحتكاريين وكل المستفيدين من هذه السياسة. لذا، كان قرار المحكمة العليا بإبطال الحق في الإجهاض قبل أيام هدية للديمقراطيين، لإنه يشتت الانتباه بعيدًا عن سياستهم في تقسيم الولايات المتحدة إلى هويات؛ كل الهويات التي يمكنك التفكير بها، باستثناء العمل المأجور. 

بالتالي، يتخذ الحزب الديمقراطي موقفًا قريبًا من مدرسة شيكاغو، مفاده أن الحل لأي مشكلة هو تخفيض الأجور، وسنصبح عندها قادرين على المنافسة بطريقة ما. لكن الاقتصاد الأمريكي لا يستطيع المنافسة لأن التضخم في قطاع التمويل والتأمين والعقارات عالٍ جدًا. فارتفاع الإيجارات وأسعار المنازل، والاضطرار لدفع 18% من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية المخصخصة، وما يدفعه الأمريكيون على خدمة الديون، كل ذلك يجعل من الصعب المنافسة مع العمالة الأجنبية. لا شيء من هذا يُذكر في الكتب الدراسية التي عليك نيل درجة جيدة فيها لتحصل على شهادة في الاقتصاد، لتصبح قابلًا للتوظيف في الاحتياطي الفيدرالي أو مجلس المستشارين الاقتصاديين أو الشركات التي توظف الاقتصاديين كمسؤولي علاقات عامة.

عندما ننظر إلى أصول الاحتياطي الفيدرالي، نرى أن كل هذه الأصول هي في الأساس أوراق مالية. عام 2008، كان لدى الاحتياطي الفيدرالي أقل من 500 مليار دولار من الأوراق المالية. اليوم، من أصل ما يقارب تسعة تريليونات دولار من الأصول التي يحتفظ بها، حوالي 8.5 تريليون دولار هي أوراق مالية. كيف يمكن مقارنة سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بسياسات البنوك المركزية الأخرى؟ 

قلة قليلة من الناس يدركون الفرق بين البنك المركزي ووزارة الخزانة. لقد كانت الخزانة مسؤولة عن تنفيذ جميع السياسات التي باتت البنوك المركزية تنفذها اليوم. فالخزانة يفترض أن تكون المسؤولة عن إصدار الأموال وإنفاقها. تم فصل البنوك المركزية في الولايات المتحدة عن وزارة الخزانة عام 1913 من أجل نقل التحكم بالائتمان والمعروض النقدي من واشنطن إلى نيويورك. كان ذلك صريحًا جدًا. لم يسمح الاحتياطي الفيدرالي الأصلي حتى لمسؤول في وزارة الخزانة بأن يكون عضوًا في مجلس إدارته. لذا، فإن وظيفة البنك المركزي [اليوم] هي تمثيل مصلحة البنوك التجارية. ومصلحة البنوك التجارية هي إنتاج منتجاتها، أي الديون. وهم ينتجون منتجاتهم بالاعتماد على الأصول الموجودة؛ العقارات بشكل أساسي، ولكن أيضًا الأسهم والسندات. لذا، فإن مهمة البنك المركزي هنا هي دعم القطاع المالي، الذي يحتفظ بالثروة في شكل أسهم وسندات وقروض، وخاصة السندات المصرفية التي تنتج أموالها عبر الائتمان العقاري. 

نفس الشيء في أوروبا مع البنك المركزي الأوروبي. تمر أوروبا الآن بضائقة حقيقية، كانت قد دخلتها منذ أزمة اليونان. في أوروبا، نظرًا لأن الاقتصاديين اليمينيين الذين يتمركز تفكيرهم حول السياسة النقدية هم من صمموا اليورو، فإن جزءًا من أحكام منطقة اليورو هو أنه لا يجوز أن يتجاوز العجز في الميزانية 3% من إجمالي الناتج المحلي. هذا ليس كثيرًا، لكن هذا يعني أنه لا يمكن أن يكون لديك سياسة كينزية حقيقية في أوروبا لإخراج الاقتصاد من الكساد. بالتالي، إذا كنت بلدًا مثل إيطاليا في الوقت الحالي وكان لديك ضائقة مالية حقيقية أو ضائقة في الشركات أو ضائقة عمالية، فلن تستطيع الحكومة إنقاذ الصناعة أو العمالة الإيطالية. لكن في المقابل، يمكن للبنك المركزي الأوروبي عبر خلق الائتمان، ومن خلال ودائع البنك المركزي، أن يزيد بشكل كبير من أسعار حزم الرهن العقاري والأسهم والسندات في أوروبا. لذا، فإن البنك المركزي الأوروبي يشبه البنك التجاري إلى حد كبير.

كان قرار المحكمة العليا بإبطال الحق في الإجهاض قبل أيام هدية للديمقراطيين، لإنه يشتت الانتباه بعيدًا عن سياستهم في تقسيم الولايات المتحدة إلى هويات؛ كل الهويات التي يمكنك التفكير بها، باستثناء العمل المأجور

الصين مختلفة تمامًا، لأنها -على عكس الغرب- تتعامل مع المال والائتمان كمنفعة عامة وليس كاحتكار خاص. لذا، سيقول البنك المركزي الصيني: ما الذي نرغب في خلق الأموال من أجله؟ حسنًا، سنرغب في خلق الأموال لبناء المصانع، أو حتى يتمكن مطورو العقارات من بناء المدن. يمكننا خلق الأموال لإنفاقها فعليًا في الاقتصاد [الحقيقي] لخلق شيء ملموس، كالسلع والخدمات. البنك المركزي الصيني لا يخلق الأموال لزيادة أسعار سوق الأسهم والسندات أو لدعم طبقة مالية، لأن الحزب الشيوعي الصيني لا يريد إنشاء طبقة مالية ريعية، بل طبقة صناعية وقوى عاملة صناعية.

لذلك، يسعى البنك المركزي في الاقتصاد الريعي الغربي إلى خلق الائتمان لتضخيم كلفة المعيشة على مشتري المساكن وأي شخص يستخدم الائتمان أو يحتاج إليه، ولتمكين الشركات من الاتجاه نحو القطاع المالي، وبالتالي، كسب المال عن طريق الهندسة المالية، بدلًا من تحقيق الأرباح عن طريق الاستثمار في المصانع والمعدات وتوظيف العمالة لغايات إنتاجية [حقيقية]. في السنوات الخمس عشرة الماضية، أُنفِق أكثر من 90% من أرباح الشركات في الولايات المتحدة على عمليات إعادة شراء الأسهم وعلى توزيعات الأرباح، فيما أنفقت 8% فقط منها على الاستثمارات الجديدة والمصانع والمعدات والتوظيف.

بالتالي، لم يعد الاقتصاد الأمريكي بالطبع اقتصادًا صناعيًا. فقد أصبح بوسعك كسب المال بدون إنتاج شيء وبدون قاعدة صناعية، ببساطة عن طريق جعل البنك المركزي يرفع سعر الأسهم والسندات والقروض التي يقدمها أغنى 10% من السكان. وبالطبع، هذا لا ينجح في النهاية، لأنه عند نقطة معينة ينهار كل شيء من الداخل، فنحن ما زلنا نعتمد على الصين وآسيا لإنتاج سلعنا، وتزويدنا بالمواد الخام، والقيام بكل ما نحتاجه. نحن في الحقيقة لا نفعل أي شيء سوى التصرف ككيان طفيلي، ككيان ريعي عالمي، وهذا شكل من أشكال الاستعمار المالي. لذا، يمكنك النظر إلى الولايات المتحدة كقوة استعمارية ليس بالاحتلال العسكري، ولكن ببساطة عن طريق الدولار والمناورات المالية. وهذا ما ينكشف اليوم نتيجة حرب بايدن الباردة الجديدة.

ما رأيك في رد البنك المركزي الروسي على العقوبات الغربية؟ لقد رأينا أن رئيسة البنك المركزي الروسي، إلفيرا نابيولينا، قد نجحت في التعامل مع العقوبات بشكل جيد للغاية. فقد فرضت قيودًا على حركة رأس المال على الفور، وأغلقت سوق الأوراق المالية الروسية. وأيضًا، في خطوة مثيرة للجدل، رفعت أسعار الفائدة من حوالي 9% إلى 20%، قبل تخفيضها مجددًا.

كان ذلك لأيام قليلة فقط، ومنذ ذلك الحين، خفّضت أسعار الفائدة مجددًا، وتم انتقادها لعدم تخفيضها لأقل من 9%. على كل حال، هناك القليل جدًا مما يمكن لرئيس بنك مركزي فعله عندما يعلن الغرب الحرب على بلده، ويعزله تمامًا. جاء الرد من الرئيس بوتين ووزير الخارجية لافروف: كيف ستتاجر روسيا وتحصل على ما تحتاجه؟ هذا ما تدور حوله اجتماعات مجموعة البريكس الأخيرة. تدرك روسيا أن العالم الآن مقسم إلى نصفين. لقد فصلت الولايات المتحدة والناتو الغرب [عن بقية العالم]. ببساطة، لديك الآن اتحاد كونفدرالي للشعب الأبيض ضد بقية العالم. والغرب يقول: إننا نعزل أنفسنا عنكم بالكامل، ونعتقد أنه لا يمكنكم العيش بدوننا. بالتالي، تجد أن روسيا والصين وإيران والهند وإندونيسيا ودولًا أخرى تقول: أنتم تدعون إننا لا نستطيع العيش بدونكم، لكن من الذي يصنّع منتجات شركاتكم؟ من الذي يزودكم بالمواد الخام والنفط والغاز؟ من يزودكم بالغذاء والهيليوم والتيتانيوم والنيكل؟ 

بالتالي، هم يدركون أن العالم ينقسم إلى قسمين، وأن أوراسيا، التي يتركز فيها معظم سكان العالم، سوف تسلك طريقها الخاص. المشكلة تكمن في سؤال: كيف يمكنك فعليًا أن تسلك طريقك الخاص؟ أنت بحاجة إلى وسيلة للدفع [بديلة عن سويفت]، وبحاجة إلى إنشاء نظام دولي كامل بديل للنظام الدولي الغربي، وبحاجة لصندوق نقد دولي خاص بك لتقديم الائتمان، حتى تتمكن هذه الدول الأوراسية وحلفاؤها في الجنوب العالمي من التعامل مع بعضهم البعض، وبحاجة لبنك دولي يعزز المكاسب المتبادلة والاكتفاء الذاتي بين هذه البلدان، بدلًا من البنك الدولي الذي يقدم القروض للترويج لسياسات الولايات المتحدة والاستثمارات الأمريكية. 

في النهاية، الأزمة الحالية ليست مجرد مشكلة تتعلق بأسعار الفائدة وسياسة البنك المركزي. إنها تتجاوز البنوك المركزية حقًا إلى نوع النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي سنتبناه.

الاجتماعات الأخيرة بين دول البريكس كانت تدور حول الكثير من هذه الأمور. ناقشوا، مثلًا، مسألة الدفع بالدولار، وخطورة الاحتفاظ بالأموال في البنوك الغربية، إذ يمكن لبنوك الدولار واليورو السطو على أموالهم، كما فعلوا بأموال فنزويلا. لذا، فإن روسيا والصين وتلك الدول الأخرى تقول: سننشئ بنكًا دوليًا خاصًا بنا، وسيساهم كل عضو في البنك بمبلغ ما من عملته الخاصة، وسيكون هذا الأساس الذي نستند إليه. كما يمكننا أيضًا استخدام الذهب كوسيلة للتسوية، كما كان مستخدمًا منذ فترة طويلة بين الدول. ويمكن لهذا البنك إنشاء نظامه المصرفي الخاص، كما كان كينز يسميه، وحقوق السحب الخاصة به، وأن يخلق ائتمانه الخاص أيضًا.

المشكلة هي أنه سيكون لديك عدد من البلدان في الجنوب العالمي من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا تتعرض للضغط [السياسي من قبل الولايات المتحدة] وتمر بضائقة اقتصادية [نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وغيره] وترغب في التجارة مع المجموعة الأوراسية. كما أن أحد الآثار التي لم أذكرها لرفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة هو حصول تدفق هائل لرأس المال إلى الولايات المتحدة. هذا سيؤدي إلى زيادة في سعر صرف الدولار مقابل عملات البرازيل والأرجنتين والدول الأفريقية وجميع البلدان الأخرى. فكيف سيدفعون هذا الصيف أو الخريف ثمن طعامهم ونفطهم وغازهم والكلف المتزايدة لخدمة ديونهم الدولارية؟

بالنسبة لروسيا، فستقول لهذه الدول: نحن نعلم أنكم لا تستطيعون الدفع، ويسعدنا تقديم الائتمان، لكننا لا نريد أن نمنحكم أموالًا لتستخدموها لسداد ديونكم المستحقة بالدولار. سيقولون: نريد مساعدتكم في شراء صادراتنا، ولكن عليكم اتخاذ قرار؛ هل ستنضمون إلى كتلة الولايات المتحدة والناتو، أم إلى الكتلة الأوراسية؟ هل ستنضمون إلى نادي الشعوب البيضاء، أم النادي الأوراسي؟ هذا ما يقسم العالم إلى نصفين. 

بعض الدول الأوروبية عالقة في المنتصف، وستتمزق اقتصاداتها. العمالة هناك تنخفض، ولا أرى ارتفاعًا كبيرًا في الأجور. لذا ستواجه أوروبا أزمة سياسية، ولكنها ستواجه أيضًا أزمة دبلوماسية دولية حول كيفية إعادة هيكلة التجارة العالمية والاستثمار والديون. 

ستكون هناك فلسفتان ماليتان مختلفتان، وهذا ما تدور حوله الحرب الباردة الجديدة: فلسفة الرأسمالية المالية التي ترعاها الولايات المتحدة، وهي جني الأموال ماليًا دون تصنيع، ومحاولة خفض الأجور وإثقال قوة العمل وجعلها تعيش على الهامش؛ وفلسفة أوراسيا المتمثلة في استخدام الفائض الاقتصادي لزيادة الإنتاجية وبناء البنية التحتية وخلق نوع المجتمع الذي بدت الولايات المتحدة وكأنها تنمو باتجاهه في أواخر القرن التاسع عشر، لكنها تخلت عنه الآن.

لذا، فإن كل هذا في النهاية ليس مجرد مشكلة تتعلق بأسعار الفائدة وسياسة البنك المركزي. إنها تتجاوز البنوك المركزية حقًا إلى نوع النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي سنتبناه. والمفتاح لأي نظام اجتماعي واقتصادي هو كيفية التعامل مع المال والائتمان: هل سيصبحان منفعة عامة لصالح الـ99%؟ أم سيكونان احتكارًا خاصًا للمصالح المالية والـ1%؟ هذا هو ما ستدور حوله الحرب الباردة الجديدة، وهذا ما تحاول الدبلوماسية الدولية حله أسبوعًا بعد أسبوع.

سبق أن قال جورج دبليو بوش: إما أن تكون معنا أو أن تكون ضدنا، وبايدن يفعل الآن الشيء نفسه. فالغرب يحاول إنزال ستار حديدي حول روسيا، ويهدد بفعل الشيء نفسه تجاه الصين. الفرق هو أن الصين أكبر اقتصاد في العالم، بمعادلة القدرة الشرائية (PPP)، وهي المصنع المركزي للعالم. لكن هل البنوك الصينية مستعدة لتطوير بديل عن نظام سويفت؟ في نيسان الماضي، قال الرئيس السابق للبنك المركزي الصيني [جو شاوجوان] إن تبني الغرب لخيار مالي يوازي القنبلة النووية باستخدامه نظام سويفت لفرض العقوبات على روسيا يجب أن يمثل نداء صحوة للتنمية المالية الصينية، قائلًا «علينا أن نستعد». هل يعني ذلك أنهم غير مستعدين؟

في الحقيقة، لقد بدأوا بالفعل باستخدام نظام بديل. ولو لم يفعلوا لما تمكنت بنوكهم من التواصل مع بعضها البعض، فقد تبنت روسيا جزءًا من النظام الصيني لهذا الغرض. بالتالي، هناك نظام أولي يجري تطويره لجعله منيعًا أمام محاولات التدخل والتخريب الحاسوبية الأمريكية. 

لكن أود أن أعقب على ما قلته بخصوص توصيف بايدن للأشياء. فهو يوصّف حرب الغرب على أوراسيا باعتبارها صراعًا بين الديمقراطية والأوتوقراطية [حكم الفرد]. ما يقصده بـ«الديمقراطية» هو السوق الحر الذي تقوده وول ستريت؛ أي الأوليغارشية [حكم القلة]. لكن ما الذي يقصده بالأوتوقراطية؟ حين يسمي الصين أوتوقراطية فهذا يعني أن الأوتوقراطية هي الحكومة القوية بما يكفي لمنع الأوليغارشية من تولي السلطة والسيطرة على الحكومة لتحقيق مصالحها، وتحويل ما تبقى من الاقتصاد إلى حالة من السخرة هدفها خدمة الديون. الأوتوقراطية هي الدولة التي لديها قوانين ضد الاحتكار، وتستخدم المال والائتمان لمساعدة الاقتصاد على النمو. 

حين يتعذّر سداد الديون في الصين، فإن الحكومة لا تقول ببساطة: أنت مفلس، عليك أن تبيع [أصولك]، ويمكن لأي كان أن يشتريها، يمكن للأمريكيين أن يشتروها. بل تقول: إن كنت لا تستطيع سداد ديونك، فلا نريد أن تهدم مصنعك، ولا نريد أن يتحول المصنع إلى إسكان فخم يجذب النخبة الثرية. سوف نخفض ديونك أو نؤخر موعد الدفع. هذا ما فعلته الصين مرارًا، وهذا ما فعلته حين لم تتمكن دول أجنبية من سداد ديونها، عندما حان موعد الدفع لقاء بناء الصين لميناء أو طريق أو بنية تحتية. أما الأمريكيون والممولون الدوليون كصندوق النقد الدولي، فسيقولون: عليك أن تعلن إفلاسك. وإن كنا سنقرضك حتى لا تفقد عملتك قيمتها، فسنشترط أن تخصخص بنيتك التحتية، وتبيع مرافقك العامة، ونظامك الكهربائي، وشوارعك، وأراضيك، لمشترين خاصين، في الغالب من الولايات المتحدة.

إذن لدينا «ديمقراطية» تدعم الإفلاس وحجز العقارات والمَوْألة والخصخصة وتخفيض الأجور عبر الكساد الدائم، أو «أوتوقراطية» تسعى لحماية مصالح العمالة بدعم أجور المعيشة، من أجل رفع مستوى العيش كشرط مسبق لرفع الإنتاجية وبناء البنى التحتية. هذان هما النظامان الاقتصاديان المتعارضان الموجودان. ومجددًا، لهذا السبب نحن أمام حرب باردة الآن.

لقد ذكرت صندوق النقد الدولي؛ لماذا تستمر البلدان في قبول قروضه رغم تاريخه السيئ؟ هل السبب فقط تدخل الولايات المتحدة في سياساتهم المحلية؟ هل هناك حالات كانت فيها قروض الصندوق أمرًا حسنًا؟ 

حسنًا، ما الذي نقصده بالبلدان؟ حين تقول «بلد»، فلنقل البرازيل على سبيل المثال، معظم الناس يفكرون بالأمازون، وبمدن كبيرة فيها الكثير من الناس. لكن البلد، بالنسبة لصندوق النقد الدولي، هو عبارة عن أغنى 15 عائلة تقريبًا في البرازيل، تملك معظم الأموال. وهؤلاء يسرهم الاقتراض من الصندوق، لأنهم سيقولون: هناك احتمال بعودة لولا دا سيلفا إلى الرئاسة بدلًا من الفاشي الجديد بولسونارو، وإذا عاد لولا فسيدعم السياسات العمالية وقد يمنعنا من تدمير الأمازون. إذن، فلنُخرج أموالنا من البلد. 

عادة، يعني ذلك أن سعر صرف الريـال البرازيلي سينخفض. لذا، سيقدم الصندوق قرضًا للبرازيل لدعم عملته، حتى يتمكن أغنى 1% من البرازيليين من تحويل أموالهم إلى الدولار أو اليورو ووضعها في البنوك الخارجية، وتُثقل البرازيل بالديون. وعندما تجرى الانتخابات، إذا انتُخب لولا، فسيقول الصندوق: إذا كنت ستتبع سياسات مناصرة للعمال أو سياسات اشتراكية، فستهرب رؤوس الأموال، وسنصرّ على أن تعيد الأموال التي اقترضتها من الغرب في أسرع وقت. وهذا سيدفع لولا إما إلى القبول بتوجيهات الصندوق، أو رفض سداد الديون الخارجية. 

حتى الآن، لم يجد أي بلد نفسه في موقع قوي بما يكفي لرفض سداد الديون الخارجية. لكن لأول مرة نرى أن المجموعة الأوراسية، أو مجموعة الجنوب، تقول: لا يمكننا الاستمرار باتباع الغرب، لا يمكننا إخضاع اقتصاداتنا لمطالب صندوق النقد بالخصخصة ومواجهة العمال وإقرار القوانين التي تحظر الاتحادات العمالية وتخفيض الأجور، كما تصر الديمقراطيات الغربية باستمرار. علينا ان نتجه نحو «الأوتوقراطية» الصينية، التي نسميها اشتراكية. 

بالتالي، فإن السؤال هو: ما الذي ستفعله بلدان الجنوب حين لا تستطيع شراء الطاقة والغذاء هذا الصيف دون قرض من صندوق النقد الدولي؟ هل ستقول إنها لا يمكن أن تعيش إلا بالانفصال عن الغرب والانضمام للمجموعة الأوراسية؟ هذا هو محور الشرخ الكبير في العالم الآن. تعمل الولايات المتحدة على عزل كل من روسيا والصين والهند وإيران وتركيا، وقد خلقت بذلك كتلة حرجة قادرة على الاتجاه في هذا الطريق. لكن السؤال يبقى، هل ستتمكن هذه القوة من جذب أمريكا اللاتينية وإفريقيا لمجموعتها؟ وما الذي سيعنيه ذلك بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا؟


مايكل هدسون هو رئيس معهد دراسة الاتجاهات الاقتصادية طويلة الأمد، ومحلل اقتصادي عمل في وول ستريت، وبروفيسور في الاقتصاد في جامعة ميزوري. عمل مستشارًا اقتصاديًا لحكومات دول عدة من بينها الصين وآيسلندا ولاتفيا، ونشر له كتب: «الإمبريالية الفائقة: الاستراتيجية الاقتصادية للإمبراطورية الأمريكية»، «واغفر لهم ديونهم»، «الاقتصاد التافه»، «قتل المعيل»، «الفقاعة وما بعدها»، «التجارة والتنمية والدين الخارجي»، «أسطورة المساعدات»، وغيرها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية