«هو انتصر لأنك اعترفت به»: عن التطبيع الرياضي مع «إسرائيل»

الإثنين 23 آب 2021
مباراة الإسرائيلية راز هيرشكو أمام السعودية تهاني القحطاني ضمن تصفيات الجودو للسيدات خلال الألعاب الأولمبية طوكيو 2020. تصوير جاك جويز. أ ف ب.

نعيش اليوم في أقصى مراحل الشد والجذب حول التطبيع وتعريفه وحتى الجدوى منه. ليس هذا الجدل مآلًا زمنيًا، بمعنى أن تعاقب الأيام واستمرار الاحتلال ينتج -بشكل ذاتي- ترهلًا في خطاب رفض مشروعيته، ويساهم في تقبل الجماهير له. بل إن المسألة نتاج فعل وهندسة وشد وجذب، تشكل في ذاتها تمظهرًا لشكل من أشكال الصراع مع الاحتلال والمتعاونين العرب الذين تتقاطع مصالحهم معه. وما مسألة التطبيع الرياضي -سواء بمقاطعة بعض الرياضيين العرب أم لا- سوى إفصاح مادي عن هذا الجدل، بل الصراع، وعن تخندق مراكز قوى عربية تحاول جني ثمار محاولات هندسة الوعي العربي لعقود نحو القبول بـ«إسرائيل» والتسليم بمشروعيتها.

في مقابلة مع صحيفة «عرب نيوز» (Arab News) السعودية الناطقة بالإنجليزية، علقت المستوطنة الإسرائيلية على مباراتها مع اللاعبة السعودية تهاني القحطاني في أولمبياد طوكيو بالقول: «لا يوجد علاقة بالسياسة، كانت مباراة جيدة». المسألة هنا لا تنحصر بتطابق محاولة تحييد السياسة بين مريدي التطبيع العرب مع الخطاب الإسرائيلي، بل المسألة أن خطاب الفصل بين الرياضة والسياسة هو بحد ذاته خطاب وموقف سياسي. بمعنى، أن المنادي بهذا الفصل يتخذه من منطلقات سياسية، وإن كانت ذريعته رفض أن تكون السياسة عاملًا في خياراته. ولذلك، يكون التطبيع من هذا المنطق تخندقًا سياسيًا مع سياسات الاحتلال الإسرائيلي وتقاطعًا معها. فما نقاش البديهيات هنا، والدخول في مسائل على شاكلة مساءلة نفعية المقاطعة أو وضع السياسة جانبًا، سوى مناورة على هذه الحقيقة، وإشارة إلى أن واقع الأمر هو تصادم خيارات سياسية متناقضة لا اختلاف تكتيكي. 

من هنا، يكون الدخول في دهاليز هذه المناورة والانجرار إلى نقاش مسلمات متعلقة بالاعتراف بشرعية الاحتلال ومقاطعته على كل الأصعدة، هو تراجع للخلف، ونحت وتعرية لصلب القضية الفلسطينية وجوهرها. فلم يقدّم مجتمعنا الفلسطيني والعربي آلاف الشهداء طوال عقود لنسبغ اليوم مشروعية على المحتل، أو حتى لنضع هذه المشروعية قيد المساءلة والأخذ والرد. 

الأمر هنا أبعد ما يكون عن التحجّر، فمن المؤكد أن جهود الوقوف دون شرعنة وجود الاحتلال وتطبيعه تستدعي المبادرة وتطوير مقاربة رفض الاعتراف به. بطبيعة الحال، الأدوات الثقافية التي كنا نحتاجها سابقًا مختلفة عما نحتاجه اليوم، ومقاربة رفض التطبيع تتجدد، وخاضعة لشروط ومتطلبات الصراع، أما التطبيع بحد ذاته وبكل أشكاله، فيجب الحرص على بقائه بمنزلة المحرمات. 

رأس المال والرياضة وفلسطين

إن منظورنا للمقاطعة والرياضة كعرب يختلف عن الشواهد التاريخية المتعلقة بالمقاطعات الرياضية ضمن دائرة صراع العلاقات الدولية، كالمقاطعة الغربية لأولمبياد موسكو عام 1980، أو المقاطعة الأفريقية للأولمبياد الذي سبقه في مونتريال على خلفية مواقف من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. فصراعنا مع الاحتلال خارج آلية منظومة العلاقات الدولية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية وصراعاتها البينية، بل إن المشروع الصهيوني وليد هذه المنظومة، وصراعنا حكمًا عملية تمرد عليها وعلى مخرجاتها. 

تشكل منظومة العلاقات الدولية القائمة اليوم الامتداد التاريخي للمشاريع الاستعمارية الغربية، من صياغة القانون الدولي وتعريف «الشرعية الدولية» إلى شكل خرائط بلداننا وتقسيمها، وصولًا إلى رعاية المشروع الاستعماري الصهيوني. وبصيغة أخرى، ما الشكل الحالي للرأسمالية المعولمة سوى نتيجة لذلك الامتداد ذاته. من هنا تأتي أهمية استيعاب موقع القضية الفلسطينية ضمن المنظومة الاقتصادية والسياسية المُعولمة اليوم، ومنها الرياضة. فالرياضة اليوم ليست عملية تنافس وجمهور وقوانين لعبة، بل هي إحدى أكبر شبكات تدوير رؤوس الأموال في الكوكب، وهي بهذا المعنى سوق رئيسي ضمن السوق الرأسمالي الضخم العابر للحدود. 

من هنا، يًفهم أحد أهم دوافع التطبيع الرياضي للطبقات الحاكمة في الخليج، فالمسألة تتعلق برغبة أثرياء الدوحة وأبو ظبي والرياض بالولوج إلى العولمة وثمراتها، عبر استضافة المحافل الرياضية العالمية، من كأس العالم إلى الألعاب الأولمبية، حيث تشكل فلسطين عبئًا وعائقًا أمام أحلامهم. عملية الولوج هذه تستدعي موقفًا سياسيًا ومزيدًا من الخضوع لمنظومة العلاقات الدولية، أي التسليم بالوجود الشرعي لـ«دولة إسرائيل» وتقبل مشاركة جنودها في هذه المحافل، ورفع علمها وإنشاد نشيدها. 

تتحول فلسطين كقضية استعمار إلى سلعة للمقايضة في بنية دولية أنشأتها ذات القوى الاستعمارية، فلا وجود لفلسطين أو للحق العربي كما نؤمن به في الصيغة الدولية/ الرأسمالية المعاصرة، ومن يظن أن من الممكن استحداث هذا الوجود واهم. لذلك، تكون تذكرة ولوج الطبقة الحاكمة العربية في العولمة هي -بالمعنى الحرفي- بيع فلسطين ومقايضتها بمنافع الرأسمالية، وهذا بالضبط ما يقوم به شيوخ وأمراء الخليج؛ محو اللاجئين وتسليم الأرض المحتلة، مقابل رفاهية استضافة مناسبات رياضية والجلوس على منصات الشرف. 

وعلى الجانب الآخر، تكون عملية المقاطعة وقوفًا ضدّ ذلك كله، فاللاعبون العرب حين يقاطعون يقفون -بالمعنى الاقتصادي والسياسي- أمام صيغة العلاقات الدولية القائمة ويرفضونها، بقدر ما يرفضون التسليم بمشروعية الاحتلال الصهيوني. وحين يختارون الانسحاب يكونون أمام خيار التخلي عن فلسطين أمام مكتسبات سوق الرياضة وما يأتي به من منافع، أو التمسك بقضيتهم العربية.

المقاطعة الرياضية وهاجس المشروعية عند «إسرائيل»

من هذه الخلفية، يسعنا أن نستقرئ مسألة المقاطعة من منظور مجتمع الاحتلال وكيف يتأثر به. حيث تشكل المحافل الرياضية المعولمة -من منظور الصهاينة كحملة لواء مشروع يعيش على الدوام تحت هاجس مشروعية- فرصةً لتثبيت تلك المشروعية والدعاية لها. بكلام آخر، هذه المحافل فرصة لإشهار وجود الكيان على الساحة الدولية، أي القول بالمفردات الصهيونية، إننا كـ«يهود» ومستوطنين -وبسمات الدولة الحديثة- أمة لنا وجود.

ولعل الاستطراد في هذه النقطة أمر مهم. تحطمت في عام 2019 مركبة فضاء إسرائيلية في مدار القمر، كانت هذه المركبة إحدى أوائل الرحلات الفضائية المشغلة من قبل القطاع الخاص، وهو ما يتسق مع دور الاحتلال رأسماليًا ضمن عملية الترويج لريادية القطاع الخاص ونجاحاته. كانت إحدى المهام الرئيسية للمركبة رفع العلم الإسرائيلي على سطح القمر، ضمن عملية دعائية ضخمة. والحال هنا ليس كجميع الرحلات الفضائية الدعائية، حيث تستغل مسألة كهذه في بث الروح الوطنية وتثبيت شرعية نموذج الحكم فيها، فالحال مع مشروع دولة كـ«إسرائيل» يتخطى بث الشرعية إلى بث مشروعية الكيان وبناه ككل، وهو ما يوصلنا إلى خصوصية المقاطعة الرياضية. 

في حين أن المقاطعة الرأسمالية لا تؤثر على مشروعية وجود دولة الاحتلال، بل قد تغذيها، فإن المقاطعة الرياضية تعبر عن رفض لصميم مشروعية فكرة الدولة الصهيونية. 

ففي حين تكون مقاطعات الشركات الرأسمالية لبيع منتجاتها في الأراضي المحتلة عام 1967 تخضع لتمايزات القانون الدولي وتجاذبات حسابات الربح والخسارة للشركة، فالمقاطعة الرياضية في المحافل الدولية لا تكون خاضعة لهذه التمايزات. والأمر هنا يتعلق بأثر كل شكل ونوع من هذه المقاطعات على شرعية ومشروعية الدولة الصهيونية. فالمقاطعة الرأسمالية لا تؤثر على مشروعية وجود دولة الاحتلال، ونقصد بالمشروعية أصل فكرة وجود دولة كإطار عام لمجموعة محددة من الناس (المستوطنين في هذا الحال) يؤسس لكيان وطني يتمتع بالسيادة والاستقلال. المقاطعة، في الواقع، تغذي فكرة هذه المشروعية، عبر وضع جدار قانوني يفصل بين الأراضي المحتلة عام 1967 ونظيراتها المحتلة عام 1948، ليؤكد ضمنًا على مشروعية الأخيرة. وبالإضافة إلى ذلك، تلعب المقاطعة الرأسمالية دورًا مهمًا في ديناميكيات الشرعية، أي شرعية النظام السياسي الحاكم بوصفه مؤسسات تملك صلاحيات إدارة «الدولة» وفق آلية معينة. فضمن التناقضات الداخلية في مجتمع دولة الاحتلال، يخلق واقع احتلال أراضٍ -بالتعريف القانوني الدولي- إشكالًا في الشرعية، ولذلك نرى العديد من الصهاينة الليبراليين الذين يقفون ويدعمون فكرة المقاطعة الرأسمالية. 

من هنا تحديدًا تبرز أهمية مقاطعة الرياضيين العرب أو غير العرب لمواجهة مجندي الدولة الصهيونية في المحافل الرياضية العالمية، فهي تعبر عن رفض لصميم مشروعية فكرة الدولة الصهيونية. وبطبيعة الحال، فإن تقويض مشروعية دولة كـ«إسرائيل» سيحال بشكل سلبي على شرعية نظامها الحاكم. حيث هناك علاقة بين ترهل المشروعية وترهل شرعية آلية النظام الحاكم واستيعابه وإدارته لتناقضاته الداخلية.

الرياضي العربي في العراء

ضمن التقسيم الجغرافي الرياضي الدولي، تشارك دولة الاحتلال ضمن بنى الروابط والاتحادات الرياضية الأوروبية. والمسألة هنا لا تتعلق فقط بأن المشروع الصهيوني تمظهر لمعضلة تاريخية أوروبية تم تصديرها لتلعب دورها الغربي خارج الجغرافيا الغربية. بل يعود لأن دولة الاحتلال -وبسبب عدم الاعتراف بها عربيًا- لم تتمكن من اللعب ضمن الروابط والاتحادات الآسيوية، في ظل المقاطعات التي مأسستها بشكل قانوني الأنظمة العربية. 

أكدت الطبقات الحاكمة العربية، ومع تصديها الأولي للمشروع الصهيوني، على مسألة المقاطعة، سواء لدوافع وطنية أو لمسائل تتعلق بشرعية أنظمتها، إلا أن الدور الذي لعبته هذه الطبقات قد آل إلى مساره شبه الحتمي ابتداءً من حرب أكتوبر 1973. كان الجذر الأساس للهوة بين مشروع تسوية النظام الرسمي العربي والتمسك الشعبي برفض التسوية، تركيبة أن الشعب العربي والطبقة العاملة العربية هي ملحق تابع للنخب العربية الحاكمة في تصديها للمشروع الاستعماري الصهيوني. فما يطلق عليه بنى فوقية من مؤسسات دولة واتحادات رياضية، والتي كانت يومًا ما متمسكة بالمقاطعة، أمست تميل للتطبيع، ولم يعد قرار المقاطعة رفضًا مؤسساتيًا، بل ترك الرياضيون في العراء. ففي حين كانت المقاطعة على المستوى الرسمي هي الأصل، أمست استثناءً يخضع لقرار فردي للاعب، فيما يغض نظامه الطرف عن التطبيع أو يحضّ عليه. من ناحية تاريخية، وفي هذا الزمن، كما تتخذ مسألة توكيد الرفض الشعبي لمشروع الدولة الصهيونية أهمية كبيرة، فإن رفض التطبيع الرياضي يتخذ صعوبة أكبر، وهذه مسؤولية على الجماهير العربية والرياضيين العرب تحملها. 

مسؤولية الجماهير

لا يشكل الاحتفاء بالرياضيين المقاطعين، سواء في الفضاء الإلكتروني أو الاستقبال الشعبي، أحد مشاهد تجسد العنفوان الشعبي العربي الذي قل ما نراه في ظل الانقسام السياسي العربي الحاد على طول الخارطة، بل إن هذا الاحتفاء، من صور وتصاميم فنية ورايات ترفع رغم بساطتها وفقرها المادي، أحد أكثر الأسلحة جدوى في مجابهة الحملة المنظمة والممنهجة المدعومة من أنظمة عربية، على مدار عقود. الموقف الشعبي هنا سلاح، ودليل آخر على الهوة بين الخطاب الشعبي العربي المكبوت وما تمظهره وسائل إعلام النخب العربية، فمن صعوبة رفض التطبيع اليوم -وقد يكون من حسن الحظ- أن مفاعيله في المجال العام مختلفة، فهي تساهم في تقويض النخب الثقافية المهيمنة على الدول العربية، كما هي رفض للاحتلال.

ومن هنا تكون أهمية تشييد ثقافة جماهيرية مضادة مسؤولية تاريخية، قبل أن تكون مسألة عاطفية، حيث تستلزم استنفار كل المواهب والأصوات الجماهيرية العربية من كتاب وفنانين والأهم في هذا السياق الرياضيين العرب، الذين يكتسي دورهم مسؤولية تاريخية غير مسبوقة. ولعل من أهم الشواهد في هذا السياق النقاش المتلفز الحاد بين البطل الجزائري فتحي نورين وإحدى الصحفيات الجزائريات، حيث قال في معرض رده: «يا سيدة، لا علاقة للأمر بالنقاط والهزيمة، فحتى لو هزمته شرّ هزيمة، هو انتصر لأنك اعترفت به».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية