«حُمّى الذهب»: ما الذي يبقي أسعاره مرتفعة؟

الإثنين 22 تموز 2024
متجر للحلي الذهبية في الصين. أ ف ب.

تقول الحكمة التقليدية إن الذهب هو أفضل استثمار ممكن في أوقات الأزمات الاقتصادية، إذ يحلو للجميع تسميته الملاذ الآمن. في تلك المقولة الكثير من الصحة، فقد استطاع الذهب الصمود عبر آلاف السنين كوسيلة لتبادل المنافع الاقتصادية والسلع بكل أشكالها عبر حضارات مختلفة، وكأداة لتخزين القيمة، وما زال يلعب هذا الدور بشكل كبير حتى يومنا هذا.

اكتسب الذهب إلى حد ما قيمة دينية؛ ففي الديانات السماوية الثلاث، يَرد الذهب إلى جانب الفضة كمرادف للمال بأشكال مختلفة. يعتقد الجميع بقيمة ما ورائية للذهب بشكل ما، مما يسهم في زيادة الطلب عليه. والندرة النسبية للمعدن النفيس وترسخه كأداة للتداول وحفظ القيمة جعلت منه آلية ثورية بالفعل للتداول على امتداد التاريخ. لكن الأهم لم يكن التداول، فخلال الألف سنة الأخيرة من عهد البشر ترسخت أشكال أخرى للتداول، مثل الفضة والمقايضة والنقود الورقية. أما الذهب، فكان الأهم بالنسبة له هو حفظ الثروة، التي ظل مرادفًا لها.

في العصر الحديث، وتحديدًا بعد الانفصال عن قاعدة الذهب وصدمة ريتشارد نيكسون للعالم في آب 1971 بفك الارتباط بين الدولار والذهب وجعل الدولار للمرة الأولى عملة حرة، أُطلق العنان لإعادة تشكيل اقتصاد الذهب، بل والاقتصاد العالمي خلال العقود الخمسة الماضية. كان التخلي عن قاعدة الذهب ضروريًا للاقتصادات الرأسمالية الكبرى، وبالأخص الولايات المتحدة. فمع نهاية الستينيات، بلغ التضخم مستويات قياسية، جراء زيادة الإنفاق الحكومي، خاصة التكاليف العسكرية لحرب فيتنام. بالتالي كانت هناك حاجة لرفع أسعار الفائدة لمحاربة التضخم. لكن أسعار الفائدة لا يمكن أن تُرفع بدرجات كبيرة إذا كانت العملة مثبتة مقابل الذهب، لأن ذلك يخلق مشكلة للاقتصاد العالمي ككل، فسعر الدولار يزيد بوتيرة أسرع من سعر الذهب. بالتالي، ومن أجل محاربة التضخم كان على السياسة النقدية أن تتغير بشكل كامل لتنتقل لأسعار صرف مرنة من أجل الحصول على ميزة استخدام أسعار الفائدة في محاربة التضخم. 

عُرف ذلك لاحقًا في الأدبيات الاقتصادية بمبدأ الثالوث المستحيل، وهو مبدأ يقول إنه لا يمكن ببساطة تحقيق ثلاثة أشياء معًا في السياسة النقدية: سعر الصرف الثابت، واستقلال السياسات النقدية، والاندماج المالي في الاقتصاد العالمي. وفقًا لمبدأ الثالوث المستحيل، فإن سعر الصرف المستقر من دون ضوابط رأس المال يتطلب أن تكون أسعار الفائدة المحلية والأجنبية متساوية، وهذا مستحيل واقعيًا. وبالتالي، فإن زيادة أسعار الفائدة على عملة (أ) يجب أن يرفع قيمتها بالمقارنة بعملة (ب) والعكس صحيح. بالتالي، على الدول التي لا تملك ضوابط على حركة رأس المال (تحويلات الأرباح والواردات وغيرها) أن تختار إما بين تثبيت سعر الصرف من خلال ربط صارم لأسعار الفائدة على العملة المحلية بأسعار الفائدة على العملة المرتبط بها، كما في دول الخليج، أو استقرار الاقتصاد المحلي من خلال تعديل الفائدة المحلية تبعًا للأوضاع الاقتصادية المحلية وترك أسعار الصرف حُرة. 

ساهم التخلي عن القاعدة في ترسيخ سيطرة الولايات المتحدة المالية لاحقًا، فلم تعد قيمة العملة مرتبطة بالذهب بقدر ما باتت مرتبطة بالثقة بالاقتصاد الأمريكي، وتحديدًا بالسياسات النقدية للفيدرالي الأمريكي. 

بمعنى ما، كان التخلي عن قاعدة الذهب بمثابة تحرير لسعر صرف الدولار، ليس أمام الذهب، بل أمام الاقتصاد الأمريكي. ساهم التخلي عن القاعدة في ترسيخ سيطرة الولايات المتحدة المالية لاحقًا، فلم تعد قيمة العملة مرتبطة بالذهب بقدر ما باتت مرتبطة بالثقة بالاقتصاد الأمريكي، وتحديدًا بالسياسات النقدية للفيدرالي الأمريكي. 

لم يكن لقطاع التمويل والقطاع البنكي بشكل عام أن يشهد تلك الطفرة الكبيرة دون طباعة النقود وسياسات التيسير الكمي ورفع أسعار الفائدة لمستويات كبيرة سمحت لهذا القطاع بمراكمة الفوائد وتطوير قدرته على خلق النقود والأرباح. يمكن أيضًا النظر للتخلي عن قاعدة الذهب على أنه رد فعل على صعود الاقتصادات الأوروبية الرئيسية وكذلك الاقتصاد الياباني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالي على تطور قدرتها التنافسية مع الاقتصاد الأمريكي، وبالأخص في مجال التصدير. ففي تلك الفترة، كان على الأمريكيين أن يتقبلوا العجز المستمر في ميزانهم التجاري بسبب قوة الدولار كعملة مرتبطة بالذهب بشكل مباشر، ما عنى انخفاض قدرة الصناعة الأمريكية على المنافسة. 

كان التخلي عن الذهب بمثابة الإذن ببداية موجة جديدة من العولمة ترتكز بشكل أساسي على حركة رؤوس الأموال العابرة للحدود، وهو ما لم يكن ممكنًا في ظل ربط العملة بالذهب، بالنظر لمحدودية المعدن. لكن ذلك بالمناسبة جاء في سياق مختلف تمامًا، فنيكسون لم يكن سوى ليبرالي كلاسيكي فيما يتعلق بالاقتصاد، بينما جاء رونالد ريجان، ومعه مارغريت تاتشر وغيرهم من قادة الرأسماليات المركزية، بأجندة مختلفة تمامًا سياسيًا واقتصاديًا، سميت لاحقًا بالنيوليبرالية، التي سمحت بحرية حركة أكبر لرؤوس الأموال.

أطلق فك الارتباط مع الذهب موجة تضخم عنيفة في السبعينيات، امتدت حتى بداية عهد ريغان، ولم تنجح الولايات المتحدة في كبحها سوى بمعدلات فائدة مرتفعة على الدولار بلغت في بداية الثمانينيات ما يقارب 20% تقريبًا. كان ذلك التضخم المستمر في الاقتصادات المركزية يدفع لارتفاع أسعار الذهب، فكلما ارتفع التضخم تقل قيمة العملة، وبالتالي تمثل وقتها الاستثمارات البديلة في المعادن النفيسة والعقارات وغيرها من الأصول فرصة للتحوط ضد التضخم. 

مع الوقت أيضًا انتقل التضخم في السلع الإنتاجية إلى تكاليف الإنتاج بفعل العلاقة المستمرة بين سوق العمل وسوق المنتجات. فكلما زاد التضخم يؤدي ذلك على المدى الطويل لزيادة تكلفة العمل، وتؤدي زيادة تكلفة العمل لزيادة الأجور، ومن ثم الطلب على الاستهلاك، وهكذا تعمل ماكينة الاقتصاد. لذلك، وعلى المدى الطويل، ترتفع أسعار الأصول بشكل مطرد كلما قلت قيمة الدولار، ويسري ذلك على الأصول المقومة بالدولار والأصول غير المقومة بالدولار. من هنا، يكتسب الذهب قيمته بأنه تحوط جيد ضد التضخم. 

يتأثر الذهب بالسياسة بشكل كبير، فخلال أوقات الازدهار الاقتصادي والتضخم المنخفض، لا ترتفع أسعار الذهب كثيرًا. لكن الأزمات العالمية أو فترات انعدام اليقين حول مستقبل الاقتصاد تدفع أسعار الذهب للارتفاع.

تجدر الإشارة هنا أن ما يجعل أصلًا استثماريًا أفضل من الأخر، كالذهب والأسهم مثلًا، هو مدى سرعة استجابة واستمرارية هذا الأصل للتضخم، فإذا كانت الزيادة في سعر الذهب مقارنة بالتضخم أسرع من الزيادة في سعر الأسهم مقارنة بالتضخم فإن ذلك يعني أن الذهب أفضل من الأسهم في تلك الفترة الزمنية. وعادة ما تتحدد سرعة الزيادة في سعر الأصول المختلفة طبقًا لعوامل مختلفة، لكن السلع العالمية مثل الذهب تؤثر عليها مؤثرات عالمية. 

يتأثر الذهب بالسياسة بشكل كبير، فخلال أوقات الازدهار الاقتصادي والتضخم المنخفض، لا ترتفع أسعار الذهب كثيرًا. لكن الأزمات العالمية أو فترات انعدام اليقين حول مستقبل الاقتصاد، والتي أصبحت خلال العقود الأخيرة هي القاعدة لا الاستثناء، تدفع أسعار الذهب للارتفاع. اليوم، بات على جميع الفاعلين في السوق سواء مستثمرين أفراد أو شركات أو غيرها أن يتتبعوا سيلًا من العوامل، بداية من أسعار البترول العالمية لمستويات البطالة ونمو الناتج الصناعي للصين وغيرها من دول شرق آسيا، وغيرها من الاضطرابات، التي تؤثر جميعها على أسعار الأصول ومنها الذهب. 

على سبيل المثال، كان الارتفاع الأخير في أسعار الذهب مرتبطًا بشكل كبير بالأحداث العسكرية في منطقتنا، وخاصة بعد الهجوم الإيراني على «إسرائيل»، الذي كان يهدد بحرب إقليمية ترفع بدورها أسعار البترول، ومن ثم تهدد النمو الحقيقي للاقتصاد العالمي، وتعيد رفع التضخم لمستويات قد تدفع البنوك المركزية للاستمرار في سياسات التشديد النقدي ورفع الفائدة. من هنا، يكتسب الذهب الأهمية في أوقات الأزمات، فقد كان أداؤه على مر التاريخ القريب معاكسًا لأداء الاقتصاد؛ كلما تعثر الاقتصاد وانخفضت إمكانات الاستثمار في الأصول التقليدية تأتي الأصول البديلة مثل الذهب لتوفر ملاذًا لذلك. 

حدث ذلك بشكل واضح في الصين، وفي غيرها من دول جنوب العالم. ففي الصين، ومع أزمة القطاع العقاري المستمرة منذ سنوات، ارتفعت مشتريات المستهلكين من الذهب كبديل عن الاستثمار في القطاع العقاري المضطرب في البلاد. كذلك في بلدان مختلفة في الجنوب تتعرض بشكل دوري لأزمات العملة ومعدلات تضخم مرتفعة، حيث يوفر الذهب ملاذًا آمنًا ضد الأزمات المتكررة. في دراسة حديثة لصندوق النقد في بداية 2023، حُدد التضخم وخفض العملة على أنها العوامل الأساسية في زيادة الطلب على الذهب في الأسواق الناشئة، سواء من الأفراد أو من البنوك المركزية ومؤسسات الاستثمار على حد سواء. 

مثّل الذهب خلال السنوات الماضية وتحديدًا ما بعد 2008 الأداة الأكثر جدوى لتنويع احتياطيات البنوك المركزية، وبالأخص لدى الدول التي تخشى تجميد احتياطاتها من البنوك الأمريكية والأوروبية.

كما أسلفنا، ففي عالم تعد الأزمات الاقتصادية فيه شيئًا مضمنًا في طبيعة الاقتصاد، يكتسب الذهب قيمة أكبر مع مرور السنين. ويحدث ذلك أيضًا في أوقات ترتفع فيها أسعار الفائدة على العملات الرئيسية، لأن العامل السياسي أصبح يلعب أكثر من أي وقت مضى دورًا في تقييم أسعار الذهب. خلال السنوات الأخيرة، نشهد وبشكل غير مسبوق حسب اعتقادي اهتمامًا متزايدًا بالاستثمار في الذهب. يظهر ذلك حتى في الثقافة الشعبية والمنتجات الإعلامية المتعلقة بالاستثمار من بودكاست وأخبار وغيرها، والتي تتعامل مع الذهب على أنه أفضل استثمار ممكن في أوقات الأزمات، وهو ما يظهر بشكل جلي في أوقات التضخم المرتفع كالتي يعيشها العالم حاليًا في شماله وجنوبه. 

مثّل الذهب خلال السنوات الماضية وتحديدًا ما بعد 2008 الأداة الأكثر جدوى لتنويع احتياطيات البنوك المركزية، وبالأخص لدى الدول التي تخشى تجميد احتياطاتها من البنوك الأمريكية والأوروبية. وحتى إذا كان لدى تلك الدول علاقة جيدة مع النظام المالي العالمي متمثًلا في البنوك الأمريكية، فإنها تميل لتنويع الاحتياطيات بين العملات الرئيسية والذهب وغيره من المعادن. كانت مراكمة الاحتياطيات لدى البنوك المركزية بهذا الشكل نتيجة مباشرة للأزمة المالية العالمية في 2008 والتي هزت الكثير من الثقة بالاقتصاد الأمريكي، وجعلت الكثير من البنوك المركزية تسعى للتنويع بعيدًا عن الدولار تحديدًا. خلال الفترة من 2008 وحتى 2024، أضافت البنوك المركزية لاحتياطياتها ما يقرب من ثمانية آلاف طن من الذهب، أي ما يعادل 3.7% من إجمالي الذهب المستخرج طيلة تاريخ البشرية. وتحتفظ البنوك المركزية حاليًا بما يقرب من 38 ألف طن من الذهب من إجمالي 212 ألف طن تم استخراجها طيلة التاريخ البشري. 

تُطرح فكرة تنويع الاحتياطيات ليس فقط خوفًا من العقوبات، بل كمحاولة لبناء توازن تحاول دول مثل الصين وروسيا وغيرها من الدول في تجمع البريكس تحقيقه أمام هيمنة الدولار الأمريكي. لا يمكن استخدام الذهب بشكل كفء في التجارة وتسوية المعاملات عبر الحدود، لكن الاحتفاظ بنسبة جيدة من الذهب كاحتياطي يمكنها أن تلعب أدوارًا عدة، فقد بدأت البنوك المركزية ومنذ 2008 في التعامل مع احتياطياتها على أنها محافظ استثمارية يجب لها أن تحصل على أكبر قدر من التنويع والأرباح من خلالها.

خلال تلك العقود الأخيرة، وبدعم من الأزمات المالية والاضطرابات السياسية في عالم شديد التغير ينبئ بتغيرات أكبر، ارتفعت أسعار الذهب بشكل كبير، ما جعل المعدن الثمين يعود لواجهة اهتمام الكثير من المستثمرين والأفراد في العالم. لكن خلف «حمى الذهب» التي تجتاح العالم خلال السنوات الماضية ما هو أعمق من مجرد الاستثمار، فهناك ما يجب أن يجعلنا نفكر في طبيعة الأزمات في ظل الرأسمالية، ومستقبلها في عالم يتخلى كل يوم عن العولمة تحت نيران الحرب التجارية بين البلدان والتوترات السياسية التي لا يمكن القول إنها يمكن أن تنتهي في المستقبل القريب.

Leave a Reply

Your email address will not be published.