الجزائر 1962: مليكة رحال تُعيد إنتاج لحظة الاستقلال شعبيًا

الأحد 24 تموز 2022
استقلال الجزائر
جزائريون يعلقون علم بلادهم على جدار في الجزائر العاصمة، بعد إعلان استقلال بلادهم. صورت في 6 تموز 1962. أ ف ب.

أيام قليلة بعد تشكيله آخر حكومة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الرابعة، في حزيران 1958، هتف الجنرال شارل ديغول، وسط حشود من الفرنسيين والجزائريين تجمعوا في مدينة مستغانم، غرب الجزائر: «تعيش الجزائر.. الفرنسية». كانت تلك الصيحة مدفوعة بقوة الرجل الذي حرر فرنسا من النازية وعاد إلى السلطة بعد سنوات استجابةً لنداء «الأمة الفرنسية»، بعد أن عبثت الثورة الجزائرية بالجمهورية الرابعة ودفعت رئيسها رينيه كوتي إلى لعب ورقة ديغول لضبط الأوضاع. لكن ديغول الواثق القوي سيكف عن تلك الثقة والقوة بعد أقل من ثلاث سنوات.

بصوت خفيض وملامح مستسلمة للواقع، في مؤتمره الصحفي في 11 نيسان 1961، أعرب لأول مرة، علنًا وبوضوح تام، عن قناعته بأن الجزائر ستكون دولة مستقلة، مطلقًا العد التنازلي لنهاية أطول الحروب الاستعمارية وأكثرها دموية وأشدها بأسًا، والتي لفظت أنفاسها الأخيرة، ذات يوم قائظ من أيام تموز 1962.

في كتابها «الجزائر 1962: تاريخ شعبي»،[1] الصادر بداية العام الحالي، تحاول المؤرخة الجزائرية الفرنسية، مليكة رحال[2] تطويق تلك اللحظة الملحمية والقبض عليها. لحظة الاستقلال. وتاليًا، تسعى إلى إعادة سبكها في قالب سردي، في نوع من الكفاح التاريخي ضد حالة السيولة التي أصابتها على مدى عقود من وقوعها، نتيجة تركيز السردية الرسمية على عام انطلاق الثورة بوصفه التاريخ الفارق في مسيرة الجزائر المعاصرة. تعود رحال في سفر عبر الزمن لتحمل إلينا لحظة الاستقلال مكثفة وتضعها أمامنا طازجةً وحيةً على نحو غير مألوف في الكتابات الأكاديمية الجافة. لكن رحال تشير منذ البداية، في مقدمة منحتها عنوانًا لافتًا: «ختم الثورة»، إلى أن هذه العودة ليست هربًا للماضي من مشاغل الحاضر الجزائري، بقدر ما هي تأكيد على الشعارات التي رفعها الحراك الشعبي في عام 2019. فهي ترصد على نحو دقيق تلك الشعارات التي كانت مستمدةً من عام 1962 ومحوريته في التاريخ الجزائري المعاصر، لاسيما ذلك الشعار الساحر، والذي رفع منذ الأيام الأولى للحراك «بطل واحد هو الشعب».

ويبدو هذا التأكيد على راهنية الشعارات بوصفها امتدادًا لتوق الجزائريين إلى الحرية بمختلف أوجهها، سواءً كانت تحررًا وطنيًا من الاستعمار، أم تحررًا ديمقراطيًا من الاستبداد، معبرًا عن شخصية مليكة رحال، كونها مثقفة مرتبطةً على نحو لصيق بالهمّ اليومي الجزائري السياسي من موقعها كمؤرخة، وبأدواتها وهي الكتابة والتعبير. إلى ذلك تسعى المؤرخة من خلال بحثها في التاريخ الصغير لعام الاستقلال إلى إعادة الاعتبار لهذا التاريخ، الذي يبدو أنه قد تعرض للتهميش في مقابل عام انطلاقة الثورة 1954، والذي تضخم حتى التهم كل التاريخ الجزائري المعاصر، ليس لكونه عامًا فارقًا في تاريخ الجزائر فحسب، فهو كذلك قطعًا، ولكن لكونه أيضًا التاريخ المؤسس لشرعية النظام السياسي القائم، أي أنه -بالتعبير الألتوسيري- أحد أدوات الدولة الجزائرية الأيديولوجية الناجعة دومًا في إعادة إنتاج السلطة، ذلك أن النظام السياسي في الجزائر مازال حتى اليوم يستمد شرعيته، وإن بدرجة أقل مما كان عليه في الماضي، من الثورة التحريرية.

تاريخ شعبي بوجهين

«الجزائر 1962: تاريخ شعبي»، كتاب ينزع السحر عن لحظة الاستقلال وينزل بتاريخها من عليائه، معطيًا الكلمة إلى بسطاء الناس ليقدموا روايتهم الخاصة والذاتية والحميمة بدلًا من سطوة الرواية الرسمية السائدة والخشبية، والرصينة والصلبة، على طريقة المؤرخ الأمريكي هوارد زين. ولعل تركيز المؤرخة على شعبية التاريخ المقدم ضمن الكتاب في العنوان، وقد رفدته بصورة غلاف تبرز عدد من الشباب والشابات والأطفال يملؤون شاحنة ويرفعون الأعلام الجزائرية، يعتبر تأكيدًا على المنهجية التي سلكتها على مدى صفحات الكتاب وفصوله. حيث عبرت منذ البداية بوضوح عن أن الهدف الأساسي من الكتاب هو «إعطاء الكلمة لطائفة واسعة من الشهود، فاعلين وفاعلات في التاريخ» من خلال حشد عدد كبير من الشهادات والسير الذاتية والمقالات الصحفية والمقابلات الشخصية والأغاني والقصائد والأفلام الوثائقية، باعتبارها المصادر الأساسية للكتاب، إلى جانب الوثائق التاريخية مثل تقارير القنصل الأمريكي بورتر وتقارير وملاحظات الأب ميشيل دي لاباري «يوميات قس في الجزائر: وهران 1962- 1963».

وقد وضعت المؤرخة في نهاية الكتاب ملحقًا مصنفًا بترتيب ألف بائي بعنوان «شهادات ومصادر أولية» لتسهيل المهمة على القارئ والباحث. ومن خلال موازنة السرد التاريخي والشعبي حاولت رحال دعم الشهادات والمقابلات بالوثائق التاريخية ودفع خط السرد الشعبي بخط آخر منهجي صارم، حيث حافظت دائمًا على رصانة المؤرخ الأكاديمي دون أن تقع في جفاف الكتابة الأكاديمية وصلابتها، فهي لا تقدم تاريخًا شعبيًا بمعنى قطعه مع المنهج الأكاديمي، ولكنه تاريخ شعبي يؤرخ لأحوال الشعب خلال عام الاستقلال ولا يدور حول قيادة الثورة وسلطتها الجديدة، كما فعلت أغلب الكتابات التاريخية التي اهتمت بولادة الجزائر المستقلة. لذلك فإن «شعبية التاريخ» الذي تقدمه رحال لعام الاستقلال ذات وجهين: وجه أول يتعلق بشعبية المصادر، ووجه ثانٍ يتعلق بشعبية الموضوع. فمليكة رحال تريد «استعادة الأصوات التي نادرًا ما نسمعها، أصوات أناس من خلفيات متواضعة وأميين ونساء، وغيرهم وغيرهن».

1962: سنة الأحلام الخطيرة

تؤسس مليكة رحال سردها التاريخي على ثلاث لحظات مهمة عرفها عام الاستقلال، وهي توقيع اتفاقيات إيفيان في 18 أذار بين الحكومة الفرنسية والحكومة الجزائرية المؤقتة، والتي سمحت بوقف إطلاق النار بين الجيش الفرنسي وجيش التحرير الجزائري والشروع في عملية انتقالية خلقت فرصًا للعديد من الذين دعموا الثورة الجزائرية للسفر إلى الجزائر، حيث وصلها العشرات من الطلاب الأمريكيين والبريطانيين والمتطوعين في المنظمات غير الحكومية والشيوعيين اللبنانيين والمصريين والفرنسيين المناهضين للاستعمار. واللافت أن جاذبية الجزائر للثوار والناشطين بدأت قبل الاستقلال، حيث دعمت جبهة التحرير الوطني نضالات القادة الأفارقة مثل نيلسون مانديلا وماريو دي أندرادي.

أما اللحظة الثانية فهي استفتاء تقرير المصير في الأول من تموز 1962، والذي صوت فيه الشعب الجزائري بأكثر من 99 % لصالح استقلال الجزائر، مع بقاء التعاون مع فرنسا، والذي أعقبه تسليم السلطة في الثالث من تموز ثم إعلان الاستقلال في السادس من تموز. وضمن هذه اللحظة تضع مليكة رحال ما أصبح يُعرف بــ«أزمة صيف 62»، والتي تحيل إلى الصراع الداخلي الذي تفجر في صفوف قيادة الثورة الجزائرية، بين جيش الحدود، الذي يعرف بـ«جناح وجدة» بقيادة هواري بومدين عسكريًا وأحمد بن بلة سياسيًا من جهة، وقوات الولايات، أي جيش التحرير في الداخل، وانتهت في خريف العام نفسه بسيطرة «جناح وجدة» وإمساكه بمقاليد البلاد. أما اللحظة الثالثة فهي انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الذي تمخضت عنه أول حكومة جزائرية بقيادة أحمد بن بلة وإعلان ولادة «الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية».

حشود في الجزائر العاصمة تحتفل باستقلال الجزائر. المصدر صور غيتي.

في كتابه حول العام 2011 وما خلفه من آثار عميقة في العالم، يشير الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، في مكان ما، إلى تشبيه بليغ حول ذلك العام بوصفه «سنة الأحلام الخطيرة». على هذا النحو كان العام 1962 في الجزائر، «سنة الأحلام الخطيرة»، التي سارت في اتجاهين: اتجاه الأمل والحرية والفخر والانطلاق دون عوائق، واتجاه آخر دفع نحو تشكيل النواة الأولى للحكم الشمولي، حيث دشن رفاق السلاح منذ اللحظة الأولى للدولة المستقلة حكمهم الجديد بالصراع على السلطة، لا من خلال المنافسة السياسية بل بالبندقية، أي أنهم أعادوا -على نحو آخر- إنتاج المعركة ضد المستعمر محليًا.

يقدم كتاب مليكة رحال صورة بانورامية لهذا العام الخطير، بوصفه عامًا مؤسسًا وعنيفًا وبوابة أمل في الوقت نفسه، فهي إذ تعيد إليه اعتباره كي يكون نِديًا مع عام الثورة (1954)، تنزع عنه في الوقت نفسه السحر. سحر البدايات الذي أصبح عالقًا في عقول شباب الحراك الشعبي الجزائري الحالي.

العنف والأجساد والفضاء والزمن

يدور هذا التاريخ الشعبي -وفقًا للتقسيم الموضوعي الذي اختارته مليكة رحال- حول أربعة محاور رئيسية، تتعلق بتأثيرات عام 1962 على الفضاء والعنف والزمن والأجساد. تعيد الكاتبة في القسم الأول رسم خارطة العنف من جميع أطرافه. حيث تعود إلى العنف الذي شاع في المدن ذات الغالبية الأوروبية، لاسيما مدينة وهران، على يد منظمة الجيش السري اليمينية الفرنسية، والتي دأبت منذ وقف إطلاق النار في أذار 1962 على تنفيذ عمليات خطف وقتل استهدفت السكان الجزائريين. لكن الوضع سينقلب إلى الضد منذ لحظة إعلان الاستقلال في الثالث من تموز، عندما أثار إطلاق نار من مجهول الذعر في صفوف جموع السكان كانوا يحتفلون بالاستقلال وسط وهران، ليتحول الاحتفال إلى حالة من الفوران و«العنف الانتقامي» استهدفت من تبقى من الفرنسيين، لينفرط عقد «احتكار العنف» في ذلك الوقت الضائع، بين موت «الجزائر الفرنسية» والجزائر المستقلة. وقد بدا أنه ضرب من المستحيل إنهاء الاستعمار بطريقة مسالمة، في مستعمرة كان يعيش على أرضها 10% من مجموع السكان من أصول فرنسية، فيما يعرف بـ«الأقدام السوداء» (pieds-noirs)، الذين اعتادوا الاستفادة من حقوق وامتيازات لا يتمتع بها السكان الجزائريون الأصليون.

وفي القسم الثاني ترصد الكاتبة تأثير عام الاستقلال على الأجساد من خلال حركتها وسكونها داخل الفضاء، حيث شكل تسريح الآلاف من «المجاهدين» من جيش التحرير الوطني بعد سنوات من المرابطة على الجبهة حركية هائلة داخل المدن والبلدات، فبعد أن وضعت الحرب أوزارها تمكن هؤلاء المجاهدون من العودة إلى بلداتهم وقراهم للمرة الأولى منذ سنوات، وأخذت المناطق التي يسكنها الجزائريون تعيش حالةً من الحركة والزحام خلافًا للأحياء والمدن التي يسكنها الفرنسيون، فقد بدت مقفرة وساكنةً حتى إن شاهدًا يصفها بالقول: «هناك شيء ما تغيّر كُليّة. لم يعد هناك وجود للناس. لم يعد هنالك أوروبيون. بالنسبة لي، كان هذا شيئًا صادمًا، كانت هناك أحياءٌ فارغة، خاوية. في حياتي لم أر شيئًا مماثلًا».

«الجزائر 1962: تاريخ شعبي» هو محاولة لكتابة تاريخ جديد، بطريقة جديدة، من خلال أدوات تاريخية غير مألوفة في الكتابات السائدة حول تاريخ الجزائر حتى الآن على الأقل.

وفي الجانب الأخر بدأ الناس في حصر قتلاهم والتفكير في مصائر جثث الشهداء المفقودة، بموازاة ذلك كانت الأجساد في حالة استرخاء غير مسبوقة، بعد سبع سنوات من الحرب والتوتر والخوف، فيما أخذت عمليات البحث عن المفقودين ومواكب الحداد المتأخرة لآلاف الشهداء تملأ الشوارع. وترصد رحال هذه الحركة من خلال شهادات عفوية وقصاصات صحافية، حيث شكل رفع الحواجز الأمنية وإلغاء قرارات منع التجول فرصة الناس للعثور على بعضهم البعض مرة أخرى، ليتحول العام 1962 إلى لحظة للخروج من سرية الحرب ووحشيتها نحو مواجهة صدمة الانفصال، ذلك أن المئات من الناس لم يجدوا أقاربهم وأصدقائهم، وبعضهم قد وجد جثة. فقد كان خروجًا مؤلمًا من الحرب، بدا للبعض عودةً للحميمية وإعادة ربط للوشائج، أما للبعض الآخر فبدا مصدر خيبة وإحباط.

في المقابل، أدت عمليات النزوح الجماعي للسكان إلى تغيير وجه الجزائر، فقد غادر ما يقرب من 650 ألف أوروبي البلاد، في حين قام 300 ألف جزائري منفي في تونس أو المغرب بالرحلة المعاكسة. لكن هذه الحركة الدؤوبة التي خلقها الاستقلال لم تكن مقتصرة على الهموم الفردية، بل متجاوزة للأفراد نحو المجتمع في اتجاه المستقبل، ذلك أن الفوضى التي سببها رحيل العديد من موظفي الخدمة المدنية ومديري الشركات الكبرى الفرنسيين أدت إلى تسريع التنظيم الذاتي، قبل حتى أن تستقر الدولة الجديدة. فقد اتجه الجزائريون منذ اللحظة الأولى، مدفوعين بالأمل والضرورة، إلى إزالة الألغام وتأمين الغذاء والرعاية الصحية وإعادة تشغيل المصانع وتدريب المعلمين وتجنيد الأطباء والمهندسين.

وفي القسم الثالث الذي ركزت فيه رحال على تحولات الفضاء وتأثيرات الاستقلال على الفضاء، ترصد الكاتبة هذه الحركية التي خلقها الاستقلال في جميع الاتجاهات، فقد ساهم الفراغ الذي تركه المستوطنون الأوروبيون في إعادة تشكيل الفضاء معماريًا واجتماعيًا وحتى اقتصاديًا، لجهة التأميمات الشعبية (الاستيلاء) التي حصلت في ذلك الحيز الزمني القصير للملكيات الأوروبية المهجورة قسرًا. وقد أفردت المؤرخة فصلًا في هذا القسم لما أسمته بظاهرة «الأملاك الخاوية» تعبيرًا عن العقارات والمساكن التي تركها الفرنسيون خلال رحيلهم المفاجئ عن المدن الجزائرية، حيث كانوا يعتقدون بأن هجرتهم ستكون مؤقتةً، فتركوا ممتلكاتهم وأثاثهم، وبعضهم باع أملاكه بسعر زهيد، حتى إن القنصل الفرنسي في مدينة في سوق أهراس يكتب إلى سفيره في الجزائر واصفًا تلك الأجواء بالقول: «باع المواطنون الفرنسيون، بأسعارٍ بخسة، كل ما حصّلوه طيلة حياتهم. فقد كل شيء قيمته، الشيء الوحيد المهم كان الهروب من الاستقلال الجزائري بكل تبعاته على الأوروبيين». ويحكي شاهد آخر عن هول تلك الصدمة قائلًا: «هناك من تركوا ثلاجتهم ممتلئة».

حشود في الجزائر العاصمة تحتفل باستقلال الجزائر. المصدر صور غيتي.

كما تصور المؤرخة في هذا القسم حول الفضاء حالة التوسع الحضري السريعة والعشوائية والتي شملت المخيمات ومعسكرات إعادة التجميع، التي طالما فصلت بين السكان ومقاتلي جيش التحرير الوطني خلال الحقبة الاستعمارية، والتي ضمت حوالي مليون شخص، بينهم أطفال. وبالاعتماد على أعمال المؤرخة و المعمارية الجزائرية سامية هني، ترسم رحال صورة للعمارة الوحشية لهذه المعسكرات في فصل بعنوان «المعسكر»، من خلال إبراز درجة المهانة والبؤس التي كانت عليه، كتجلٍ للسياسات الاستعمارية تجاه السكان.

في القسم الأخير تسعى المؤرخة إلى الاحاطة بمسألة الزمن، بوصف لحظة الاستقلال فاصلًا بين ماضٍ يتوارى ومستقبل مقبل لا أحد يعلم ملامحه. لكنها تؤكد على أن إرادة التقدم نحو المستقبل كانت دائمًا -ومنذ اللحظة الأولى للاستقلال- مرتبطةً بالماضي الثقيل. فرغم أن إعلان الاستقلال قانونيًا كان في الثالث من تموز، إلا أن جبهة التحرير الوطني رسمت الخامس من تموز تاريخًا رسميًا للاستقلال، كي يوافق ذكرى توقيع معاهدة دي بورمن أو معاهدة استسلام الداي حسين، حاكم الجزائر، للقوات الفرنسية في الخامس من تموز عام 1830. وفي الأول من تشرين الثاني 1962، خلال الاحتفال بذكرى الثورة لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة، استئنفت الصلاة في جامع كتشاوة التاريخي، بعد عقود من تحويله إلى كنيسة. وهكذا كان تأثير الاستقلال على الزمن ثأريًا على نحو من إعادة «اختراع الماضي» كما تقول مليكة رحال.

«الجزائر 1962: تاريخ شعبي» هو محاولة لكتابة تاريخ جديد، بطريقة جديدة، من خلال أدوات تاريخية غير مألوفة في الكتابات السائدة حول تاريخ الجزائر حتى الآن على الأقل. حيث تحاول مليكة رحال أن تكتب تاريخ الاستقلال من الأسفل، وتسمح لنا ببساطة أن نفهم ما كانت عليه الحياة اليومية للأفراد العاديين خلال عام استثنائي. لذلك دفعت «الشعبية» المزدوجة للمصادر والموضوع بالنص النهائي، لا ليكون نصًا تاريخيًا صرفًا، بل نصّ تتقاطع فيه الأنثروبولوجيا بالتاريخ، على نحو شديد التشابك يعجز معه القارئ على التفريق بينهما ضمن فصول مكتوبة بلغة حية وذاتية.

  • الهوامش

    [1] Malika Rahal – Algérie 1962 : Une histoire populaire – Paris, La Découverte 2022.

    [2] مليكة رحال (1974)، مؤرخة فرنسية جزائرية، تدير مركز تاريخ الزمن الراهن بباريس، متخصصة في تاريخ الجزائر المعاصر، من أهم كتبها بيوغرافيا المحامي الجزائري علي بومنجل الذي اغتيل سنة 1957 «علي بومنجل، قضية فرنسية، قصة جزائرية» (2010).

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية