أثارت رحلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مدينة هاربن الصينية مؤخرًا بعض الذكريات الشخصية لديّ وأطلقت العنان لسلسلة من الأفكار حول تاريخ معقد وطويل من العلاقات الروسية الصينية. وصلت إلى مدينة شجيرات الليلك للمرة الأولى عام 1990؛ وكانت انطباعاتي حينها أن هاربن ملتزمة بالتخلص من آخر بقايا الإرث الروسي كرمز للاستعمار الأوروبي. كان للمدينة التي بنيت عام 1898 كمحطة لخدمة سكة الحديد الصينية الشرقية، وضع إداري خاص خلال الأعوام الـ21 الأولى من وجودها، حيث اقتُطعت عمليًا من سيطرة بكين. وقد ظلّت الذكريات المُرة لهذه الحقبة من السيادة المنقوصة مسألة حساسة لزمن طويل لدى السكان الصينيين المحليين.
لكن على ما يبدو، تغيرت المواقف تمامًا خلال ثلاثين عامًا ونيف. حيث أصبح الإرث التاريخي الروسي في المدينة مثمنًا في هذه الأيام ومصانًا بعناية. إذ رُممت بالكامل كاتدرائية القديسة صوفيا المركزية والتي رأيتها من قبل خاوية ومهملة تقريبًا، وباتت تبرز الآن كأحد الرموز المعمارية للمدينة. ويحتسب لسلطات البلدية إزالتها للبنايات المحيطة مظهرة ساحة الكاتدرائية في روعتها الأصلية. كما حصلت محطة قطارات هاربن، التي شهدت اغتيال إيتو هيروبومي، أول رئيس وزراء لليابان على يد القومي الكوري آن تشونغ غوين، في تشرين الأول 1909، على رصيف جديد فخم حداثي الطراز على غرار المحطة الروسية الأصلية التي بنيت في عام 1899. لهاربن كل الحق بأن تموضع نفسها في مكانة المركز الصيني الوطني الرئيس للتجارة والاقتصاد والثقافة والتعليم والتفاعل البشري مع جارتها الشمالية.
تمثلت إحدى البنود على أجندة بوتين في هاربن وضع إكليل من الزهور على ضريح 12 ألف جندي وضابط سوفييتي قضوا أثناء تحرير منشوريا من الاحتلال الياباني في الحرب العالمية الثانية. أشار الرئيس الروسي بشكل خاص للعناية التي أولتها السلطات الصينية بتلك الذكريات المشتركة. كان ذلك تذكيرًا مناسبًا بالماضي، موجه ليس للصينيين فحسب، بل للروس أيضًا.
آسيا تستذكر الحرب العالمية الثانية
على المرء الاعتراف أن الحرب العالمية الثانية تعتبر غالبًا في روسيا، كما في العديد من البلدان الأخرى، حربًا «أوروبية» بالدرجة الأولى. إذا ما سألت روسيًا عاديًا متى بدأ أكثر صراع قاتل ومدمر في القرن العشرين، فعلى الأرجح سيجيبك بأنه بدأ 22 حزيران 1941، عندما هاجم هتلر الاتحاد السوفييتي. أما الروس الأكثر دراية أو تعلمًا فمن المرجح أن يجادلوا بأن الحرب العالمية الثانية قد انطلقت في الواقع قبل عامين من ذلك التاريخ، أي في الأول من أيلول 1939، عندما اجتاحت ألمانيا النازية بولندا. ولكن بالطبع، يختلف المنظور الآسيوي لتأريخ الحرب العالمية الثانية تمامًا: إذ انطلق الاجتياح الياباني الواسع النطاق للصين في السابع من تموز 1937، بينما تعود الهجمات اليابانية الأولى ضد الصين -التي كانت ممزقة بسبب الحرب الأهلية- إلى فترة أبكر بكثير، أي حوالي 1931.
وبالمثل، فإننا نشدد بالعادة على حجم الخسائر في الأرواح في أوروبا على وجه التحديد. إلا أنه من ناحية الأرقام الكلية تعد الصين (بحوالي 20 مليون قتيل) الثانية بعد الاتحاد السوفييتي (حوالي 27 مليون قتيل)، وتفوق كثيرًا كافة الشعوب الأوروبية بما فيها ألمانيا (تصل إلى 8.4 مليون قتيل) وبولندا (ستة ملايين قتيل)، وكذلك تزيد عن اليابان (بحوالي ثلاثة ملايين قتيل). من الجدير بالذكر أن مثل هذه الخسائر المرتفعة في كل من الصين والاتحاد السوفييتي قد نجمت أساسًا عن مستوى عالٍ من القتلى المدنيين نتيجة القسوة غير المسبوقة من جانب الغزاة. ذلك أن جرائم الحرب الهائلة التي ارتكبها اليابانيون في الصين لا تقل فظاعة عن الجرائم التي ارتكبتها النازية في الاتحاد السوفييتي. نحن في أوروبا نعرف الكثير عن أشفيتز وبوخينوالد، ولكننا لا نعرف الكثير عن مذبحة نانجينغ أو الهجمات الكيماوية والبيولوجية على المدنيين التي قام بها سلاح الجو في الجيش الإمبراطوري الياباني. وكذلك نجهل الكثير عن «الوحدة 731» اليابانية سيئة الصيت، والتي عملت في ضواحي هاربن وكانت مسؤولة عن القتل المرعب لآلاف المدنيين، والذين كان 30% منهم من الروس المقيمين في المدينة في غضون الحرب العالمية الثانية.
لكن في نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر بتصورات العامة عن الحرب العالمية الثانية أو إساءة إدراكها في روسيا أو في البلدان الأخرى. فمن الأجدر أن نتذكر أن الحرب العالمية الثانية قد انتهت في أوروبا وفي آسيا بطرق مختلفة. في أوروبا، لم تُجبر ألمانيا على الاستسلام فحسب، بل بالمرور عبر عملية قاسية وجوهرية من تفكيك النازية كذلك، فضلًا عن أنها بقيت بعد الحرب العالمية الثانية مقسمة لأكثر من أربعة عقود. أما في آسيا، لم تتعرض اليابان لمثل هذه المعاملة بكليتها، إذ لم يتم تقسيمها، ويمكننا القول إن استبدال النخب السياسية هناك كان أكثر محدودية وانتقائية منه في ألمانيا. وبغض النظر عن كافة الاعتذارات عن جرائم الحرب التي أصدرها كبار الموظفين الحكوميين الرسميين في اليابان، يبقى الموقف الياباني العام من الحرب العالمية الثانية أكثر إثارة للجدل منه في ألمانيا. إذ يبدو أن بعض الناس في اليابان على الأقل لا يزال يراودهم شعور قوي بأن بلدهم كان ضحية في هذه الحرب أكثر منه معتديًا.
إن هذا الشعور مبرر إلى حد ما، فاليابان هي الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت ضدها الأسلحة النووية قرابة نهاية الحرب العالمية الثانية، ويبقى التساؤل مفتوحًا إلى أي مدى كان هذا الاستخدام ضروريًا ومناسبًا. ولكن زيارة كبار المسؤولين الحكوميين اليابانيين لنصب ياسوكوني، الذي يكرم كافة قتلى الحرب اليابانيين بمن فيهم مجرمي الحرب المدانين، تثير القلق حول مدى عمق الندم حول الحرب العالمية الثانية في طوكيو هذه الأيام. إذ توحي السهولة الواضحة التي تمكنت فيها حكومة فوميو كيشيدا من تمرير تحول رئيس في الموقف الدفاعي الوطني في نهاية 2022 بهدف تحويل اليابان إلى ثالث أضخم منفق على التسلح في العالم بحلول 2027، بأن المجتمع الياباني بات جاهزًا الآن لإعادة النظر ببعض مبادئ السياسة الخارجية الأساسية للبلاد ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الحرب الباردة على الطريقة الآسيوية
يمكن القول إن الحرب الباردة في آسيا كانت أكثر شراسة وقسوة منها في أوروبا. صحيح أن الاتحاد السوفييتي نفذ في أوروبا تدخلات عسكرية في هنغاريا (1956)، وتشيكويلافاكيا (1968)، ولكن لا يمكن مقارنة أي منهما بالحرب الكورية (1950-1953) أو في الحرب على فيتنام (1965-1974) من ناحية المدى والمدة والخسائر البشرية. فقد قضى في الصراعين الآسيويين ملايين البشر، أغلبهم من المدنيين، وشُرِّد عدد أكبر من ذلك. ومن بين الدول الثلاث التي قُسّمت -الصين وكوريا وفيتنام- فقط فيتنام حلت مشكلتها بنجاح. بينما استطاعت الصين أن تستعيد هونغ كونغ، وما تزال تعمل على تايوان؛ في حين يبدو أن إعادة توحيد الكوريتين ما يزال حلمًا بعيد المنال.
هنالك فرق آخر بين الحرب الباردة في أوروبا وفي آسيا، يتمثل في كون الحرب القديمة في أوروبا اتخذت شكلها «الكلاسيكي» الثنائي القطبية، حيث قادت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تحالفين عسكريين هرميين إلى أقصى درجة ومنضبطين ومبنيين جيدًا في مواجهة بعضهما بعضًا. ومع أنه كان هنالك منشقون وحتى مارقون في كلا المعسكرين -ألبانيا ويوغوسلافيا في الجانب السوفييتي، وفرنسا على الجانب الأمريكي- إلا أن هذه كانت استثناءات وليست القاعدة العامة. أما في آسيا، فقد أصبح التوازن أكثر تعقيدًا منذ بدايات الستينيات، إذ لم يتشكل من خلال المواجهة الأمريكية السوفييتية فحسب، بل وأيضًا من خلال علاقات معقدة بين اللاعبين القاريين الرئيسيين، الاتحاد السوفييتي والصين والهند، حيث كان هنالك عدد من الصراعات العسكرية المباشرة بين أولئك اللاعبين، مثل الحرب الهندية-الصينية عام 1962 والمناوشات الحدودية بين الصين والاتحاد السوفييتي عام 1969.
إن جرائم الحرب الهائلة التي ارتكبها اليابانيون في الصين لا تقل فظاعة عن الجرائم التي ارتكبتها النازية في الاتحاد السوفييتي. لا نعرف الكثير عن مذبحة نانكنغ أو الهجمات الكيماوية والبيولوجية على المدنيين التي قام بها سلاح الجو في الجيش الإمبراطوري الياباني.
كما فتحت تعقيدات التوازنات السياسية والعسكرية في آسيا الأبواب لصراعات بين اللاعبين الرئيسيين ومراكز قوى مستقلة أصغر لم تندرج ضمن النمط المعياري الثنائي «الأوروبي»؛ الحروب الهندية-الباكستانية في الأعوام 1947، و1965، و1971، و1999، والحرب الصينية-الفيتنامية عام 1979، والتدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان 1979-1989، حيث وقفت الصين مع الولايات المتحدة في دعم مقاومة المجاهدين. علاوة على ذلك، كان هناك العديد من الحروب الأهلية في آسيا، وقتل جماعي للمدنيين لم تشهده أوروبا في الجزء الثاني من القرن العشرين، يكفي أن نذكر المذابح التي جرت في إندونيسيا ما بين 1965 و1966، والإبادة الجماعية في كمبوديا ما بين 1976 و1978.
إضافة لذلك، لم تنتهِ الحرب الباردة يومًا في آسيا بشكل واضح، كما كان الحال في أوروبا عام 1989. يبدو السبب الرئيس لهذا الاختلاف واضح، إذ لم يحصل انهيار في الدول الاشتراكية في آسيا (جمهورية الصين الشعبية، جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، جمهورية فيتنام الاشتراكية) أو تصدع أو تحول إلى الرأسمالية على الطريقة الغربية على غرار الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية والوسطى، بما فيها الاتحاد السوفييتي. فضلًا عن أن آسيا لم تشهد يومًا شهية مفتوحة لتوقيع اتفاقيات معقدة وملزمة قانونيًا ذات آليات تحقق تدخليّة، أو الدخول في تحالفات متعددة الأطراف تخل بالسيادة الوطنية بشكل واضح.
لذا، فرغم أن الاندماج الاقتصادي في جنوب شرق آسيا بدأ بوقت قصير بعد نظيره الأوروبي (إذ تعود الشراكة الاقتصادية الأوروبية إلى عام 1957، بينما أعلن عن رابطة دول جنوب شرق آسيا عام 1967)، فإن المشروع الأوروبي كان قد تطور بحلول 1992 إلى اتحاد اقتصادي وسياسي قوي وممأسس بشدة، أي الاتحاد الأوروبي، في حين بقي الآسيان حتى الآن تجمعًا فضفاضًا وضعيف المأسسة نسبيًا لشعوب ذات سيادة. يؤشر ذلك إلى أنه رغم جهودها الحثيثة، لم تنجح الولايات المتحدة في بناء تحالفات قوية متعددة الأطراف في آسيا شبيهة بالناتو في أوروبا. فقد خلقت واشنطن في الجنوب منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا “سياتو” عام 1954، لمكافحة الشيوعية في آسيا، إلا أن المبادرة واجهت العديد من المشاكل منذ البداية، وتهاوت بعد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام. أما في الشمال، فإن كل محاولات الولايات المتحدة لتوحيد جمهوريتي كوريا واليابان تحت مظلة أمنية مشتركة باءت بالفشل نظرًا للعلاقات المعقدة بين سيئول وطوكيو.
ليس مستغربًا أن آسيا لم تشهد محاولات لتوقيع أي وثيقة تسوية نهائية للحرب الباردة مشابهة لميثاق باريس من أجل أوروبا الجديدة (والمعروف باسم ميثاق باريس) عام 1990، والذي يفترض أنه مبني على مشاعية قيم الديمقراطية الليبرالية وعلى تفاهم عام حول الاتجاه الذي يتوجب على أوروبا اتخاذه في المستقبل. كما أن لا أحد في آسيا حاول جديًا إطلاق مؤسسة حصرية متعددة الأطراف مثل منظمة التعاون والأمن في أوروبا. كما أنهم لم يلزموا أنفسهم بالتحكم في الأسلحة التقليدية كما في معاهدة القوات المسلحة التقليدية الأصلية في أوروبا الموقعة عام 1990 أو نسختها المعدلة عام 1999، أو المضي قدمًا في السيطرة على الأسلحة النووية مثل المعاهدة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ولاحقًا معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى الموقعة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة عام 1987. حتى المبادرات متعددة الأطراف شديدة التمركز في آسيا، مثل محادثات الستة 2003-2007 حول المشروع النووي لكوريا الشمالية، التي لم ينجم عنها سوى نتائج محدودة وسرعان ما أوقف العمل بها.
في أوج مرحلة التعاون الأوروبي الجمعي، كثيرًا ما حاول سياسيون ومفكرون وصحافيون مقارنة تجارب أوروبا وآسيا في النصف الثاني من القرن العشرين، مجادلين بأن آسيا قد عانت من «عجز مؤسساتي» بعد الحرب العالمية الثانية فشلت الأمم الآسيوية في التغلب عليه حتى بعد إعلان انتهاء الحرب الباردة في 1989. إلا أنه من غير الملائم اليوم افتراض أن أوروبا قد نجحت في نهاية المطاف في تجاوز ماضيها المأساوي في الحرب الباردة أكثر مما فعلت آسيا. إذ أن كل المؤسسات الأوروبية المتعددة بعد الحرب الباردة لم تمنع وقوع انقسام درامي جديد للقارة الأوروبية سيستمر معنا إلى أمد طويل. ذلك أن معظم هذه المؤسسات إما مجمدة كليًا أو فقدت طبيعتها الأوروبية الوحدوية. فالحد الأوروبي من التسلح، سواء في بعديه النووي أو التقليدي، هو في الواقع غير موجود، وتدابير بناء الثقة، مثل معاهدة الأجواء المفتوحة أو وثيقة فيينا لعام 2011، أصبحت متوقفة عن العمل. والأهم من ذلك، يستعر نزاع على مستوى واسع في مركز القارة الأوروبية منذ أكثر من سنتين، وهذا ليس الحال في آسيا لحسن الحظ.
هل تعلّم آسيا أوروبا درسًا؟
إن الحقيقة التي لا يمكن دحضها بفشل أوروبا لا تعني أن آسيا ستنجح بالضرورة. فالوضع في آسيا اليوم هو أقل من مستقر: سباق التسلح القاري يتسارع، وتحالف الناتو يوسع نشاطاته بفعالية في المحيطين الهندي والهادئ، حيث تفكر الكتلة الثلاثية المؤلفة من أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة (أوكوس) بقبول أعضاء جدد، والحوار الرباعي الأمني بين الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا يحوز أبعادًا إضافية. وقد ينفجر نزاع على مستوى واسع في أية لحظة في شبه الجزيرة الكورية، وفي مضيق تايوان وفي بحر الصين الجنوبي، وعلى الحدود الهندية الصينية أو أي موقع آخر في أو حول آسيا. يمكننا القول إن العديد من هذه النزاعات تُغذى وتثار من الخارج، ولكن لا يمكن إنكار وجود الكثير من مصادرها داخل القارة الآسيوية. وللأسف، لا يمكن أن اعتبار المستوى العالي من الاعتماد الاقتصادي المتبادل حاجزًا كافيًا لحماية الأمم في القارة من السقوط في ظلمات مواجهة عسكرية مباشرة.
ماذا يعني هذا لمستقبل الأمن في آسيا؟ يعني أولًا وقبل كل شيء، أنه من غير المتوقع انبثاق نظام أمني شامل مكتمل في وقت قريب في آسيا. إذ إن مثل هذا النموذج لم ينجح في أوروبا في التسعينيات وفي ظل أفضل الظروف المتاحة، فكيف به في آسيا في عشرينيات وحتى ثلاثينيات هذا القرن، حيث الظروف أقل ملائمة لمثل هذه المخططات الطموحة؟ لذلك، ستستمر المنافسة بين القوى العظمى في آسيا لوقت طويل وستضع هذه المنافسة قيودًا صارمة على بناء مؤسسات متعددة الأطراف.
اتخذت الحرب الباردة في أوروبا شكلها «الكلاسيكي» الثنائي القطبية، حيث قادت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تحالفين عسكريين هرميين إلى أقصى درجة ومنضبطين ومبنيين جيدًا في مواجهة بعضهما بعضًا. أما في آسيا، فقد فكان التوازن أكثر تعقيدًا.
إلا أن آسيا ببساطة أكبر بكثير وأصغر بكثير في الوقت ذاته من أن تمتلك نظام حماية على امتداد القارة. فهي كبيرة جدًا لكون التحديات الأمنية في شمال شرق آسيا، وفي جنوب شرق آسيا، وفي جنوب آسيا، وفي أواسط آسيا لا تتشابه، ويصعب تخيل ترتيب أمني شامل واحد يناسب الجميع. وهي في الوقت ذاته صغيرة جدًا من حيث أن الكثير من القضايا الأمنية في آسيا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمشاكل الأمنية العالمية، مثل العلاقات الأمريكية-الصينية، أو الأمريكية-الروسية، ولا يمكن بالتالي، إصلاحها دون التوصل إلى اتفاق على المستوى العالمي بين القوى العظمى الرئيسة غير الآسيوية. ولن يصلح المبدأ القديم «حلول آسيوية لمعضلات آسيوية» في كافة الحالات، لا سيما في عالم حديث يعتمد على بعضه البعض.
ربما يكون من السابق لأوانه حاليًا النظر في حلول طويلة الأمد للقارة الآسيوية. إذ يبدو أن وضع التقلبات الاستراتيجية هنا سيدوم لفترة ملحوظة من الزمن، مما سيعقّد أية محاولات لتحديد قواعد للعبة مقبولة من الجانبين ومبنية على توازن قوى مستقر. سوف تزيد التقلبات المتوقعة من احتمال صدام عسكري طارئ وعرضي. ومن مدعاة السرور أن لا أحد في آسيا مهتم بشن حرب واسعة النطاق، كما حصل في القرن الماضي عندما كانت اليابان ملتزمة تمامًا ببناء «مجال الرخاء المشترك لشرق آسيا الكبرى» بوسائل عسكرية. هنالك اليوم اشتباكات دورية أو أحداث خطرة بين الصين والهند، وبين الهند وباكستان، وبين كوريا الديمقراطية وجمهورية كوريا، لكن هذه النزاعات والأحداث لم تتطور حتى الآن إلى مستوى مواجهة عسكرية واسعة النطاق. ذلك أن المثال الأوروبي الأحدث هو إشارة تحذير واضحة لأمم آسيا في مواجهة تهديدات متهورة بالحرب قد تفضي إلى كارثة.
تبقى الشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية برغم كل شيء، حجر زاوية في الاستقرار الاستراتيجي ككل. ويتوقع أن تخلق الزيارة الأخيرة للرئيس بوتين إلى الصين، ومباحثاته مع الرئيس شي جين بينغ دافعًا جديدًا لتطوير هذه الشراكة، وتعزيزها بالتعاون على أسس أمنية، ضمن أطر متعددة الأطراف مثل منظمة شنغهاي للتعاون، والبركس، وأبيك (رابطة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ) وغيرها. لا تطرح أي من هذه المؤسسات المتشابكة حلًا سحريًا لكافة التحديات الأمنية في آسيا، لكن العمل يدًا بيد سيضمن إفلات آسيا من المأزق الأوروبي.