الحركات الاجتماعية ومسارات التحول الممكن في تونس

السبت 31 تموز 2021
من مظاهرات أثناء الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل عام 2018. تصوير فتحي بلعيد/أ ف ب

هذا الحوار هو نسخة منقحة ومكثفة من حوار أجرته حبر مع الباحثة هالة اليوسفي.

قبل الحديث عن الخطوة التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد، وعمّا إذا كانت انقلابًا بحسب البعض أو تعسّفًا على الدستور بحسب البعض الآخر، من المهم أن نشخّص الوضع العام في تونس. قبل 25 تموز 2021 كان المشهد في تونس كارثيًا؛ وضع وبائي خطير جدًا حتى أصبحت تونس أعلى بلد عربي بعدد الإصابات والوفيات نسبة إلى عدد السكان، أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة جدًا، وأزمة ثقة كبيرة جدًا بين الشعب التونسي والمؤسسات، وأولها البرلمان التونسي، الذي قدّم عرضًا تهريجيًا لبرلمانيين مموِّلين لأقطاب الفساد وأعمال المافيا الموجودين في تونس. هذا أدّى إلى انعدام ثقة كامل في الطبقة السياسية الموجودة في البرلمان وعلى رأسها حزب النهضة – الذي طبّع مع الفساد وطبّع مع النظام السابق – وأزمة ثقة في الأحزاب المعارضة وقدرتها على تشكيل بديل سياسي واقعي للتراجيديا التي كنا فيها. وفي هذه الأثناء، لا يجد المواطن التونسي أكسجينًا يتنفسه.

الرئيس قيس سعيد ليس جزءًا من هذه الطبقة السياسية، هو أستاذ قانون مختص بالقانون الدستوري، لجأت إليه الحركات الاجتماعية أثناء النقاش الوطني التونسي حول المجلس التأسيسي والبدائل التأسيسية والدستورية. وهو دخيل من خارج الطبقة السياسية والاقتصادية الحاكمة في البلاد.

وصل قيس سعيد إلى سدّة الرئاسة في انتخابات 2019 بأغلبية مطلقة وصلت 72 بالمئة من الأصوات. وهو حتى في أوج الأزمة الاقتصادية والاجتماعية كان من الشخصيات الأكثر شعبية في تونس، وكان الناس الذين صوّتوا له يقولون «نحن انتخبناك وها أنت لا تفعل شيئًا بأحد»، أولئك شعروا أن قيس سعيد الذي بنوا عليه الآمال لم يفعل شيئًا أمام تفشي وباء الفساد ووباء كورونا. هذا لربما دفع به للقيام بتأويل واسع للفصل 80 من الدستور التونسي. هل ما فعله انقلاب أم تأويل شاسع للدستور؟ في رأيي هذه مسألة ثانوية لأنه سبق وأن تم تجاوز الدستور عدّة مرّات من قبل حزب النهضة، والمحكمة الدستورية تعطّل تأسيسها بسبب حزب النهضة (الذي يمتلك أغلبية المقاعد في البرلمان الذي عطّل المصادقة على قانون المحكمة الدستورية لسنوات، قبل أن يثار جدل لم يحسم حول دستورية المشروع الذي وضع أخيرًا أمام الرئيس).

شعبيًا، هناك فئة تساند قيس سعيد مساندة مطلقة وتطالبه بالكثير من ناحية تنظيف المناخ السياسي والاقتصادي، ومحاسبة السارقين. وهناك فئة أخرى خائفة. أما في أوساط النخب السياسية والمدنية هناك من يعتبر الوضع انقلابًا وخطرًا على الديمقراطية، بينما غالبية المنظمات الوطنية والحراكات الاجتماعية ومنها الاتحاد العام التونسي للشغل، ومنظمة الأعراف، والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وجمعية حقوق الإنسان، وهيئة المحامين (وجميعها لعبت دورًا كبيرًا في الثورة التونسية) أيّدت إجراءات قيس سعيد تأييدًا مشروطًا بضمانات ألا تتواصل هذه الحالة الاستثنائية، لأن تواصلها يعني التحول لحكم استبدادي.

تاريخيًا لم تكن مواقف الاتحاد التونسي العام للشغل مواقف أيديولوجية أو متحيّزة لطرف سياسي معين، لكنها دائمًا تكون نتيجة التفاعلات بين موازين القوى في وسط الاتحاد. قبل أسابيع قليلة كان الأمين العام للاتحاد يهاجم قيس سعيد وينتقده. لكن تقييم الاتحاد هو أن الوضع كارثي وأن السيناريو الوحيد [في ظل استمرار الوضع] كان أن نخسر البلد، لذلك قدّم الاتحاد المصلحة الوطنية واختار التأييد المشروط. نحن في حالة يملك فيها قيس سعيد اليوم كل السلطات: سلطة تنفيذية، سلطة تشريعية وسلطة القضاء، لهذا تتخوف المنظمات الوطنية من أن تدوم هذه الحالة على المدى الطويل، ومن هنا جاء التأييد مشروطًا بضمانات. لم يوضّح الاتحاد ما نوع الضمانات التي يطالب الرئيس بها، ولكنها مرتبطة بخارطة الطريق التي سيقدّمها قيس سعيّد، ونحن الآن بانتظارها.

يطلب النقابيون والتونسيون من الاتحاد اليوم أن يلعب دورًا رقابيًا، وهو ما قاله في بيانه، كما يقع عليه دور تقديم مقترحات للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، لأن الأزمة السياسية موجودة داخل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة جدًا.

الاستثناء التونسي [بين الدول العربية] كان استثناءًا شكليًا: كان لدينا ديمقراطية وانتخابات، لكن المال والفساد المالي شوّه المسار الديمقراطي.

لا يوجد ضمانات على ألا ينقلب قيس سعيد على المسار الديمقراطي ويستلم كل السلطات، لكن لا يزال هناك مسار ثوري في تونس. المشكلة ليست مشكلة ديمقراطية أو مؤسسات ديمقراطية. الاستثناء التونسي [بين الدول العربية] كان استثناءًا شكليًا: كان لدينا ديمقراطية وانتخابات، لكن المال والفساد المالي شوّه المسار الديمقراطي. الحركات الاجتماعية لا تتحدث عن المسار الديمقراطي بل عن المسار الثوري ومطالب الثورة، وهي «شغل، حرية، كرامة وطنية». من الصعب التكهن في الوقت الراهن بالمسار الذي سيأخده سعيد، لكن المهم هو أن القوى والحراكات الاجتماعية والسياسية والمجتمع المدني متأهبة أشد التأهب لأن تقول لا لأي محاولة للاستبداد.

ما سيحدث سيكون نتاج تفاعل بين ثلاثة معطيات، أولًا، خارطة الطريق والإجراءات الاستثنائية التي سيقوم بها الرئيس، وثانيًا، كيفية تفاعل أقطاب النفوذ السياسي والمالي والإقليمي مع هذه الإجراءات، وثالثًا، هل ستتمكّن الحراكات الاجتماعية والمؤسسات الوطنية في تونس من التصدي لمحاولات أقطاب النفوذ والفساد المقاومة لحماية مصالحها من ناحية، ومقاومة أي محاولات استبداد من طرف الرئيس من ناحية أخرى؟ أي أن ما سيحدث لن يكون نتاج قرارات قيس سعيد فحسب، فأصحاب النفوذ والفساد المالي في تونس مهددون، وهناك بالطبع تداعيات إقليمية، لكن هناك كذلك مجتمع مدني سوف يتفاعل مع كل القرارات بطريقة تضمن تصحيح المسار، وتضمن المكتسبات العامة وهي مكتسبات حريات وحقوق، وتسعى كذلك إلى مكتسبات أخرى وهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي لم توفرها النخبة السياسية التي خرجت من صناديق الاقتراع.

الفترة حرجة جدًا والأولوية هي أن يحد قيس سعيد من الكارثة التي تعيشها البلاد، وأن يحاول الحد من نفوذ أصحاب الأموال. ولكن هل سيتمكن من اقتراح بديل اقتصادي واجتماعي كامل؟ هذا ليس شأنه وحده فقط، بل شأن كل القوى الاجتماعية والديمقراطية في تونس. أقصى ما يستطيع سعيد أن يقوم به هو دعم محاولة تصحيح المسار الثوري، بطريقة تمكننا على المدى الطويل أن نحاول تبديل المنظومة الاقتصادية والاجتماعية برمتها، ولكن هذا سيكون عملًا شاقًا وصعبًا وطويل الأمد. على المدى القصير، السيناريو الأفضل هو الحد من التراجيديا التي نعيشها ومن استنزاف الشعب التونسي من النخبة السياسية الفاسدة. لا أحد في تونس يطالب قيس سعيد أن يكون المنقذ لوحده ولا ننتظر منه ذلك.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية