هذا هو المقال السادس ضمن سلسلة مقالات ملف الأردن وصندوق النقد الدولي، الذي تستعرض مقالاته ثلاثين عامًا من العلاقة بين الأردن وصندوق النقد.
منذ نشأتها، وفّرت الجيوش للدولة الحديثة أساسًا متينًا مكّنها من مكافحة الثورات أو احتوائها، والقيام بالحروب والانقلابات، وصولًا إلى الاستثمارات الضخمة في صناعاتها التي تعد بمليارات الدولارات. إلا أن المثير للاستغراب هو أنه ورغم النهش النيوليبرالي لقطاعات مختلفة من الدولة، وتآكل ميزانياتها في الرأسمالية المتأخرة وتراجع قدرتها على التشغيل، فقد حافظت الجيوش، ومن بعدها قوى الأمن، على مكانتها كنواة للنظام لا تتأثر بسهولة بصدماته.
فمن تونس إلى مصر والجزائر وأخيرًا السودان، قدم الجيش نفسه بمثابة المؤسسة المتجاوزة للخلافات من جهة، والمطهَّرة من رجس ما قامت بها الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب من جهة أخرى. لذا، عادت الجيوش مرسلة من غامض علم الله، تستفيق للتحرك بأمر الشعب، منفذة لإرادته وحامية لمصالحه. أما التساؤل علنًا عن دور هذه المؤسسات أو مآربها فهو كفر مبين لا يقلّ فظاعة عن التجديف بفكرة الدولة بأكملها.
وإن كانت التحولات الاقتصادية نحو اقتصاد مفتوح تتراجع فيه الأدوار الحمائية والاجتماعية للدولة قد أدت بشكل واضح إلى إضعاف القطاع العام، وتقليصه في بعض الأحيان، كنتيجة لتغير أولويات الدولة اقتصاديًا، فإن أثر هذه التحولات على الأجهزة العسكرية يظل ملتبسًا إلى حد ما. فهل تأثرت المؤسسة العسكرية بالإصلاحات النيوليبرالية في المنطقة؟ وكيف؟ ماذا حصل خلالها ومن بعدها؟ وماذا يعني «الأمان» وسط هذا كله؟
سأحاول عبر هذا المقال أن أوضح أبرز التغيرات التي أحدثتها النيوليبرالية في بنية الدولة، وماذا يعني ذلك في سياق دولة كالأردن، وصولًا للحديث عن التحولات في دور الدولة الاجتماعي والأمني، وانعكاس ذلك على المؤسسة العسكرية.
توسع الدولة
لا تختلف قصة نشوء الدولة الأردنية عنها في معظم دول المنطقة، فقد وُلدت الدولة كامتداد للهيمنة الاستعمارية، بيد الحكام الجدد. إلا أن المختلف في النموذج الأردني، هو أن المطامع الاستعمارية في دَوْلَنَة شرق الأردن لم تتعلق بالنهب التقليدي للموارد الطبيعية ضمن حدودها الجديدة. فمنطقة شرق الأردن لم تكوّن سوقًا جاذبًا أو مهددًا لنمط الإنتاج في المركز، ولم تكن في الأردن مساعٍ استعمارية استيطانية كما في فلسطين على سبيل المثال. إن ما حكم الغاية الاستعمارية هو حاجة استراتيجية ملحّة، فعبر الأردن استطاعت بريطانيا بسط ذراعها من شواطئ البحر الأبيض المتوسط غربًا، إلى شرق آسيا مرورًا بالعراق، وأبرز ما يدلنا على ذلك هو أن أول المشروعات الاستعمارية التي تم الإنفاق عليها كان طريق بغداد-حيفا العسكرية/التجارية المارة عبر الأردن.[1]
فمع تولي الأمير عبد الله الأول حكم شرق الأردن، وُلد هيكل جديد هو الدولة التي تدار من خلالها مصالح المستعمر البريطاني ووكلائه.[2] شكّل الاستثمار في هذه الأداة كأداة إدارية العلامةَ الفارقة للنموذج التبعي الأردني عن النماذج التبعية المختلفة في المنطقة. وهذا هو ما اصطلح على وصفه في الأدبيات اليسارية بالدور الوظيفي للدولة الأردنية، فهمًا للظروف المرافقة لولادة هذه الدولة في تأسيسها، وتطوراتها على مدار عمرها.
لم يكن إرساء معادلة الأمن بالمسألة السهلة على النظام الوليد في شرق الأردن، فقد كان هناك مقاومة لوجود الدولة تمثلت في العديد من الاحتجاجات أبرزها ثورة الشريدة وثورة البلقاء، هذا بالإضافة إلى انخراط سكان شرق الأردن في مقاومة الاحتلال الفرنسي في سوريا، إذ تم اتخاذ شرق الأردن كقاعدة لشن الهجمات. كل هذا دفع الانتداب البريطاني إلى التركيز على مؤسسة الجيش، وقوى الأمن، التي كانت تحتاجهما لبسط سيطرتها. فقد كانت شروط الانتداب البريطاني حاسمة في وضع قيادة هذا الجيش في قبضة البريطانيين المحكمة، وكان الجزء الأكبر من مصروفات الجيش وتدريبه وتجهيزه بدعم مباشر من البريطانيين. ويذكر الباحث هاني الحوراني أنه في عام 1937، بلغ عجز الميزانية الأردني قرابة 554 ألف جنيه فلسطيني، لأن المستوردات كانت توازي ضعف الصادرات، وذلك بالرغم من أن «السكان ما زالوا يعيشون ضمن نمط إنتاج تقليدي مكتف بنفسه إلى حد كبير».[3]
وبذلك فإن سمة التطور التبعي للدولة الأردنية كان ترهّلًا إنتاجيًا فاق غيره من النماذج الاستعمارية. فمن الثروة الحيوانية، الى الزراعة، مرورًا بقطاعات التعدين والصناعات التحويلية، لم تفرز أي من القطاعات خططًا للاستثمار والتطوير بعيد المدى، وأخذت الدولة تضخ الموارد في قطاع الجيش حتى انبثقت عنه قطاعات خدماتية مرتبطة به ارتباطًا مباشرًا، مثل قطاع الاتصالات، وقطاعات المطارات الحربية وغيرها. لا بل إن هناك مدنًا أنشأت بأكملها كامتداد عسكري صرف دون وجود أي بنية اقتصادية-تاريخية تسندها، وهذا هو حال مدينتي المفرق والزرقاء.[4]
إثر ذلك، شكّل التضخم السريع في بنية الدولة الأردنية ما يمكن وصفه بفقاعة اقتصادية تمضي في تمدّد هشّ. فقد أصبحت الدولة هي المشغل الأول للأيدي العاملة الأردنية، ومع توسّع المؤسسات الخدمية، تفاقمت الحاجة التمويلية أمام تضخم الدولة الأردنية. وفي هذا السياق، هدفت المساعدات المالية التي قدمتها بريطانيا ثم الولايات المتحدة، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، من بين أهداف عدة، إلى ضمان الأردن كصمام أمان استراتيجي في المنطقة، مهيأ لاستيعاب المُهجرين ضمن المشروع الاستعماري للتطهير العرقي في فلسطين.
انعكاسًا لذلك، تمثل الفترة الواقعة بين بداية خمسينيات القرن العشرين إلى منتصف ثمانينياته، ما يمكن وصفه بذروة نمو الدولة الأردنية. فقد توسع القطاع العام الأردني بشكل كبير جدًا، استطاع من خلاله أن يثبت سيطرته، ويخلق حالة من الانتماء له، إذ وصل في أقصى درجات تضخمه لأن يكون المشغل لما يقارب 40% من الأيدي العاملة الأردنية،[5] وهي نسبة كبيرة جدًا بالمقارنة مع دول أخرى. أما الجيش وقوى الأمن، فلم يحافظوا على موقعهم في مركز الدولة وكعماد لدورها الوظيفي فحسب، بل أصبحوا مركز صناعة الهوية الوطنية الأردنية، ومصدر للفخر والاعتزاز بها كذات جمعية.
إلا أن التمدّد الهش لم يمضِ دون تصدّعات، فقد كشف النصف الثاني من عقد الثمانينيات الإشارات الأولى للمشكلة التي تحدق ببنية الدولة الأردنية، التي أغرقت نفسها في دائرة الارتهان للمساعدات من جهة، والاستدانة الداخلية من جهة أخرى، ولم يكفِ ذلك كله لحل أزمتها أمام التضخّم، أو حتى الاستمرار في مجاراتها. وما كان الخبر لهذا المبتدأ إلا الضغط الخارجي في الشروع لتطبيق البرنامج النيوليبرالي، وذلك تماشيًا مع رؤية المركزية الأمريكية نحو التوسع في الجنوب منذ سبعينيات القرن العشرين.
«التصحيح» الهيكلي في القطاع العام
منذ سبعينيات القرن الماضي، أخذت النيوليبرالية وضعيّة مواجهة أمام الدولة، خاصة في نموذجها الكينزي،[6] وهاجمتها بوصفها عائقًا أمام الحرية، وأعلنت عجز الحكومات عن الصرف المحنّك للأموال، وآفة فسادها الحتمية. فبكلمات مفكرها ميلتون فريدمان: «كل ما تستطيع الحكومة فعله هو أخذ مال بعض الأشخاص وصرفه على أشخاص آخرين. ولهذا السبب هناك الكثير من الهدر والكثير من الفساد في المصاريف الحكومية». بدا هذا الخطاب متحديًا للدولة، ولا نبالغ إن قلنا إنه يبدو كذلك متماهيًا مع النظرة الأناركية التي ترى بزوال الدولة خطوة أولى في السعي نحو مجتمع أفضل، إلا أنه بين هيئة الشيء وجوهره، نفثت النيوليبرالية السم بالدسم. [7]
أضحت المطالب النيوليبرالية بإدارة «حرّة» لمشاريع الرعاية الاجتماعية، وضرورة انكماش القطاع العام، وتحرير ما يسمى برأس المال المحتكر، الحلَّ الذي سيقود الاقتصاد إلى التعافي من كل الأضرار التي ألحقت به على يد الدولة، بحسب تلك الرواية. على المستوى الإجرائي، عنى ذلك خصخصة معظم المشاريع الاقتصادية، وتقليص أعداد الموظفين في القطاع العام، وتخفيض الإنفاق الحكومي في مجالات الرعاية الاجتماعية كالتعليم والصحة، وإزالة العوائق أمام الاستثمارات المحلية والأجنبية، وعلى رأس هذه «العوائق» القوانين الحامية للعمال.
في السياق الأردني، شُرِعَ في تطبيق البرنامج النيوليبرالي مع نهاية عقد الثمانينيات، وتسارعت عملية السيطرة على مفاصل الدولة الأردنية من قبل الأذرع النيوليبرالية، المتمثلة في جسمين أساسيين: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. إذ قدمت هاتان المؤسستان القروض المشروطة للدولة الأردنية، وأضحت الأخيرة مرتهنة بضرورة حفاظها على تصنيف ائتماني يؤهلها للمزيد من القروض من دول أو بنوك أخرى بنسبة فوائد محتملة.
تزامن ذلك مع تبني سياسات «تصحيح» هيكلي، ارتبطت في الغالب بتقليص النفقات الحكومية عن طريق تقييد أو تقليص أعداد الموظفين، ورفع الدعم عن الكثير من السلع، وصرف النظر عن مفهوم ضريبة الدخل التصاعدي أو تحجيمه. كما عنت هذه السياسات في أحيان كثيرة التماهي مع إصلاحات اقتصادية تقود الدولة نحو الاندماج باقتصاد السوق المفتوح، أكان ذلك عبر الاستثمار الأجنبي، ورفع الحماية الضريبة على السلع، ووضع قوانين عمل مرنة بما يتعلق بحقوق العمال والحد الأدنى للأجور.
بهذا، تبنى الأردن تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، أولًا بضغط من صندوق النقد الدولي في ظل الأزمة، وثانيًا لوجود مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال الذين رأوا في التحول الاقتصادي نحو النيوليبرالية فرصة لمراكمة الأرباح، وثالثًا، مع تولي الملك عبد الله -الشاب حينها- للعرش عام 1999 وحماسه للشروع في تطبيق برنامج الانفتاح الاقتصادي، والاندماج في السوق العالمية. في هذا السياق، تمت خصخصة مجموعة من الشركات أو أجزاء منها، وفتح الأسواق للاستثمارات، وتسهيل حركة رؤوس الأموال. وبالفعل كان لذلك آثار إيجابية مؤقتًا على مؤشرات الاقتصاد الكلي، إلا أن ذلك عاد بتبعات سلبية على جودة حياة الناس، لا بل إنه لم يكن ممكنًا إلّا من خلالها، فنسبة الفقر وحدّته كانتا في ارتفاع، أما نسبة التشغيل، فحتى البنك الدولي نفسه أقر أن التحسن في الاقتصاد الأردني بين الأعوام 2000-2010 لم يرافقه تحسن في توفير فرص عمل بل العكس تمامًا.[8] وإذا نظرنا إلى معدل البطالة فإننا سنجد أن النسبة ارتفعت بين من 13.7 عام 2000 إلى 18.7 عام 2018.[9]
رافق عملية التحول نحو النيوليبرالية وعي جمعي رافض، تجسّد في العديد من الانتفاضات الشعبية، فمن هبة نيسان بالعام 1989، مرورًا باحتجاجات الخبز في العام 1996، وصولًا إلى الاعتصامات العمالية بدءًا من عام 2007، والحراك الشعبي إبّان الربيع العربي، وأخيرًا وليس آخرًا احتجاجات الدوار الرابع التي حصلت عام 2018. قوبلت هذه الاحتجاجات بالقوة بداية، ثم بالالتفاف على مطالبها الاقتصادية عبر تقديم تنازلات سياسية يسهل التراجع عنها فيما بعد، وبالتالي المضي قدمًا في عملية «إعادة انتاج السراب». ففي بنية اقتصادية تبعية مشوهة، وفي ظل غياب التنظيم العمالي، لم يستطع المجتمع الأردني أن ينتج أجسامًا اجتماعية تستطيع مواجهة الدولة. فما تبقى من أحزاب سياسية يفتقد لأي شكل من الشعبية الجماهيرية، أما جماعة كالإخوان المسلمين التي حظيت بهذه الجماهيرية لم تحمل رؤية اقتصادية مختلفة عمّا يطرحه النظام.
وقد شهد الأردن في الأشهر الأخيرة، وقبلها في السنوات الثمانية الماضية، احتجاجات في صفوف المعطلين عن العمل. فالهندسة الاجتماعية القائمة على زيادة أعداد العمالة المكدسة، أدت وسوف تؤدي إلى انفجارات اجتماعية. الملفت في هذه الاحتجاجات هو تمسك المعطلين عن العمل بمطلبهم في ضرورة تشغيلهم في وظائف حكومية تحميهم مما هو أقسى خارجها، وتوفر لهم «امتيازات» محدودة هي في الحقيقة الحد الأدنى من وسائل الحماية الاجتماعية، كالضمان الاجتماعي والتأمين الصحي. فالوظيفة الحكومية تتمتع باستقرار أكبر في بيئة العمل، فصرف موظف من عمل حكومي ليس بالأمر السهل، حتى أن كبرى الشركات الرأسمالية، أي البنوك في حالة الأردن، تنظر بعين الارتياح للموظف الحكومي الذي يريد الحصول على قرض، نظرًا لاستقرار راتبه، كما أن متوسط رواتب القطاع الحكومي هو أعلى منه في القطاع الخاص حسب دائرة الإحصاءات العامة الأردنية. وإلى جانب هذه الأرقام المرتفعة في نسبة البطالة، والمزاحمة على الوظائف الحكومية، فإن إجراءات السنوات الاخيرة المتعلقة برفع الدعم عن العديد من السلع الاساسية، وعلى رأسها الخبز دفعت حياة الطبقات المفقرة نحو حافة التحمّل.
كان كل ذلك مبررًا في سياق رفع «إنتاجية» المواطنين، و«الاعتماد على الذات». ففي تقرير للبنك الدولي عام 2016 بعنوان -يكاد يكون ساخرًا- هو «تشجيع إنهاء الفقر وتعزيز الرخاء المشترك»، يقول البنك إنه بتقديم الحكومة الأردنية «دعمًا شاملًا لغاز البترول المسال (المستخدم في الطهي والتدفئة) ومع الرعاية الصحية المجانية للفقراء والفئات التي تنتمي للشريحة المتدنية من الشريحة متوسطة الدخل، يصبح حافز الفرد للعمل أشد ضعفًا».[10] وبالتأكيد فإن الحكومة لن ترضى من نفسها أن تترك سكّانها في حالة «ترهّل» كهذه، لذا ألغت الدعم المباشر للخبز؛ السلعة التي بقيت بمأمن عن يد الحكومة حتى العام الماضي.
الجيش: إعادة التموضع في المركز
أوضحت مجريات الواقع أن النيوليبرالية لا ترفض وجود الدولة كليًا، أي هي ليست ضد وجودها ككيان يضع نفسه فوق المجتمع، بل ما تريده هو عبارة عن شكل آخر للدولة؛ شكل يتوافق مع مصالح حركة رأس المال، ويساعد على مراكمته في جيوب الرأسماليين؛ شكل من الدولة تحرص فيه الأجهزة الأمنية والجيش على وجود بيئة آمنة للاستثمارات المحلية والأجنبية. إذ يصبح تعبير «الأمن والأمان» ليس فقط خاويًا من الأمان الاقتصادي والاجتماعي للناس، بل يتخذ لنفسه روحًا تسويقية ليغري المستثمرين بوضع أموالهم في مكان لا يشعرون فيه بالتهديد الدائم.
وفي الوقت ذاته الذي كان يتم اتخاذ إجراءات لبيع مؤسسات الدولة الإنتاجية مثل شركات الفوسفات والبوتاس، والاقتطاع من نفقات الدولة التنموية مثل تخفيض دعم القطاع الزراعي، أو دعم التعليم العالي،[11] جرى إنشاء مؤسسات وأجهزة تجسد انزياح الدولة نحو الاهتمام أكثر بقطاعات الأمن والجيش. فتم إنشاء مركز الملك عبد الله الثاني للتصميم والتطوير عام 1999، والذي يعرف على أنه «مؤسسة عسكرية مدنية مستقلة تعمل تحت مظلة القوات المسلحة الأردنية بإرادة ملكية»،[12] ولحقه تأسيس جهاز للدرك عام 2008، بالإضافة إلى بناء العديد من معسكرات التدريب التي تتميز بأعلى قدر من الجهوزية والاحترافية. لا بل أن الأردن في العام 2018، كانت من ضمن أعلى عشر دول على مستوى العالم إنفاقًا على الجيش كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
وإذا ألقينا نظرة على النفقات بين عام 2005 وعام 2010 لوجدنا أن ميزانية القوات المسلحة زادت بمقدار الضعف ونصف عما كانت عليه، من 420 مليون دينار إلى قرابة 989 مليون دينار. أما ميزانية الأمن العام وقوات الدرك فإنها ارتفعت بمقدار ثلاثة أضعاف، من 190.3 مليون دينار إلى قرابة 559 مليون دينار.[13]
بالمقابل، فإن وزارة الزراعة، وهي إحدى الوزارات التي كان من الممكن أن تشكل رافدًا إنتاجيًا للمجتمع الأردني، لم تصل مخصصاتها إلى 1% من نفقات الدولة الأردنية من العام 1955 إلى يومنا هذا، باستثناء السنوات الممتدة بين 1965 و1975، التي شهدت عملية إصلاح زراعي في عهد حكومة وصفي التل، لتعود بعد عام 1975 إلى أدنى من 1% وتبقى كذلك إلى يومنا هذا.[14]
يرى ديفيد هارفي في كتابه «الليبرالية الجديدة» أنه عند تطبيق البرنامج النيوليبرالي في دول الجنوب الصناعي، دائمًا ما كان يترك قطاع أساسي في يد الدولة لا يجري تخصيصه، كما في حال قطاع النحاس في النموذج التشيلي، وقطاع النفط في النموذج العراقي.[15] ويكون هذا القطاع بمثابة الضامن لسداد الحكومات للديون المترتبة عليها. ما نراه في النموذج الأردني هو أن القطاع الذي التهم مخصصات الدولة هو قطاع الجيش والأمن، دون أن ينعكس ذلك على معيشة نسبة كبيرة من الأفراد العاملين في هذا القطاع، الذين يعاني كثير منهم ظروفًا مشابهة لظروف موظفي القطاع العام المدنيين. إلا أن قطاع الجيش والأمن هو بنظر المؤسسات المالية الدولية القطاع الضامن لبقاء حنفية المساعدات مفتوحة على الأردن، وهذه المساعدات هي الضامن لقدرة الأردن على الإيفاء بالمستحقات المترتبة عليه. وهذا ما يجعل الجيش الأردني يحظى بالعناية الأمريكية، عن طريق المساعدات والدعم الذي يقدم للجيش مباشرة، من إمدادات المعدات الحربية مثل الطائرات وأجهزة الدفاع الجوي، مرورًا بتدريب أفراد الجيش على هذه المعدات، وصولًا الى أجهزة الرصد الحدودية، وأخيرًا وليس آخرًا المساعدات المالية المباشرة.
تحمل كلمة «المساعدات» التي ترد في الموازنة العامة للدولة الأردنية، نقيضها. فالكلمة توحي بأن هذه الأموال تقدم بدون مقابل، وأنها جاءت كدعم من الدول «الحليفة» للأردن. إلا أن هذه العلاقة تظل علاقة انتفاع مؤقت محفوفة بالمخاطر، أكان ذلك عبر لعب دور عسكري واستخباراتي في دول المنطقة من أفغانستان إلى سوريا، أو كان عبر توفير الأمن والاستقرار الداخلي الذي يهم «جارتَيْ» الأردن، «إسرائيل» والسعودية، أم في منح الجيش الأردني دورًا في «صناعة عمليات السلام» التي تتم تحت مظلة الأمم المتحدة.
من جهة أخرى، يثبت لنا النظر في مسألة الاستثمارات التي يديرها الجيش، أن النيوليبرالية إنما أخرجت الدولة من باب، لتعيدها من باب أوسع. إلا أن هذه الالتفافة التاريخية، خلّصت الدولة من دورها التنموي ودورها في الرعاية الاجتماعية، وأعادت إدخالها كمستثمر لا تهدف مشاريعه إلا للربح المطلق. وهنا نفهم أن الحدود أزيلت بين ما يمكن وصفه بالملكية العامة والخاصة، بين مصالح الدولة ومصالح المستثمرين الذين يجدون الشراكة مع مؤسسة كالجيش فرصة لاستثمار مضمون النتائج، وهذا كله يثير إشكاليات على مستوى من لديه القدرة على الرقابة والمحاسبة، والسؤال الأهم، أين تذهب عوائد هذا الاستثمارات وكيف يتم صرفها؟
في بحث على موقع مراقبة الشركات، يظهر لنا أن الجيش أسس عدة شركات بدءًا من العام 2004، واستثمر في العديد من القطاعات؛ من قطاع المأكولات والاتجار بالخضار والفواكه، مرورًا بصناعة الكيماويات، والتعدين، وصولًا إلى قطاع الإنشاءات وصناعة الإسمنت، مؤكدًا حضوره الاقتصادي، وموفرًا مصادر تمويل متنوعة. وفي آخر عام فقط، أسس الجيش منفردًا شركتين جديدتين، وشارك مع مستثمر أردني في شركة أخرى.[16]
تدفعنا هذه المكانة التي يحتلها الجيش كنواة للدولة للتفكير في حدة الهدم التي حصلت بين مؤسسات الدولة خلال عملية تأهيلها لتستوعب التغيرات النيوليبرالية التي أصابتها. فهل يكفي الحفاظ على مؤسسة الجيش سليمة من التصدعات التي إصابة بنية الدولة، في حين أننا نرى أن بقية المؤسسات تقف على أعمدة من الدخان، وعلى رأسها مؤسستا الصحة والتعليم اللتين تمسان حياة الناس بشكل يومي ومباشر؟
أزمة مستمرة
في ظل الاستثناء الذي حظيت به المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية في سياق الخصخصة وتقليص الدعم، ما زالت هذه الجهات تحظى بثقة عالية شعبيًا، خاصة في ظل عدم الكفاءة وسوء الإدارة التي تعاني منها أجهزة حكومية أخرى. ففي استطلاع رأي لمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، لم تحز المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية على ثقة المواطنين كما حازت عليها المؤسسات العسكرية والأمنية. ففي حين لم تنقص الثقة في المؤسسات الأمنية عن 91% من العينة، لم تزد الثقة في أي من المؤسسات المتبقية عن 53%.
لكن هذا لا يغير حقيقة أن بلدان كالأردن ولبنان هي أمثلة نموذجية على أزمة الدول التي نشأت وتطورت ضمن ظروف التبعية للمركز الرأسمالي، ودمرت أي إمكانية لبناء قطاعات اقتصادية إنتاجية. وبالتالي فإن هذه الأزمة التاريخية الحادة هي عبارة عن مآل يمكن وصفه بالطبيعي للدور الاقتصادي-السياسي التبعي الذي انتهجته أنظمة هذه الدول، وأعادت إنتاجه.
أما ما هو مطروح من حلول، فهو إما قائم على الرهان على مشاريع سياسية تصاحبها انفراجات اقتصادية تعمق علاقة الارتهان والتبعية، وتضرب بعرض الحائط رغبات الناس وطموحاتهم السياسية، في رهان على القدرة الأمنية على السيطرة على أي شكل من الاحتجاج؛ أو عملية خداع وفي أحسن الأحوال تسويق للوهم، عبر مشاريع اقتصادية مجربة أُثبت فشلها؛ أو الأسوأ وهو التفاؤل المفرط لدى صاحب القرار بإمكانية إقامة قطاعات اقتصادية مثل «الاقتصاد الرقمي» و«الريادة»، قادرة على خلق آلاف فرص العمل. فحتى لو افترضنا إمكانية نجاح مجموعة صغيرة من المشاريع التي سوف يتم دعمها، يستبعد أن يؤدي ذلك إلى تغيير يذكر في الوضع الاقتصادي المأزوم الذي يمر فيه الأردن والمشقات التي يتكبدها مواطنوه.
-
الهوامش
[1] الحوراني، هاني (1978)، التركيب الاقتصادي والاجتماعي لشرقي الأردن. ص123
[2] موسى، سليمان (1990)، إمارة شرقي الأردن- نشأتها وتطورها في ربع قرن (1921-1946)، منشورات لجنة تاريخ الأردن. ص76
[3] الحوراني، هاني (1978)، التركيب الاقتصادي والاجتماعي لشرقي الأردن. ص99
[4] المرجع نفسه. ص69
[5] دراسة صادرة عن وزارة التخطيط، تحت عنوان: «دراسة بانورامية للاقتصاد غير الرسمي في الأردن»، ص15.
[6] في ثلاثينيات القرن العشرين وبعد الأزمة الاقتصادية التي سميت بـ«الكساد العظيم»، قدم كينز حلاّ للأزمات الاقتصادية المتعاقبة، وتلخّص ذلك في أن للدولة دورًا أساسيًا في تنظيم العملية الاقتصادية وفي تفعيلها عبر التحالف بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وهو الأمر الذي خلق شكل الدولة التنموية. فبعكس الاعتماد على اليد الخفية للسوق حسب مفهوم «آدم سميث» لتنظيم الداخلي للسوق، توجّب على الدولة التحكّم بإيقاع السوق وفقًا لكينز. إلا أنه ومن اللحظة التي تم تبني بها نظرية كينز اعتلت الساحة أصوات «علماء اقتصاد» تنادي بأن ذلك إنما هو عبارة عن إقحام للدولة بما لا يعنيها، لا بل أن ذلك إفساد للحرية الاقتصادية، وتعدٍ على مبدأ المنافسة في داخل السوق.
[7] وهنا يجب ألا يًفهم أننا نوافق على حصر النقاش في ثنائيات «الدولة التنموية والدولة النيوليبرالية»، فكلاهما أداة السيطرة والقهر الطبقي» كما سمّاها ماركس. ماركس، كارل، وانجلز، فريدريك (1975)، كومنة باريس، ترجمة فارس غصوب (ط١)، بيروت: دار الفارابي. ص٢٧.
[8] بين العام 2007 والعام 2013 انخفضت نسبة الوظائف المستحدثة إلى ما هو أقل من النصف، فمن 70000 وظيفة استحدثت في العام 2007 انخفض هذا العدد الى 33000 في ال عام 2013
[9] دائرة الاحصاءات العامة. الكتاب الاحصائي السنوي للسنوات 2018 و2008
[10] تقرير للبنك الدولي، 2016. ص 72.
[11] للمزيد: رفع الغطاء عن المجتمع.
[12] للمزيد حول مركز الملك عبد الله الثاني للتصميم والتطوير.
[13] وزارة المالية الأردنية، الحسابات الختامية.
[14] وزارة المالية الأردنية، الحسابات الختامية.
[15] هارفي، ديفيد (2008)، الليبرالية الجديدة، ترجمة: مجاب الإمام، دار العبيكان. ص23
[16] للبحث في الشركات التي يمتلكها الجيش، زيارة موقع دائرة مراقبة الشركات: http://www.ccd.gov.jo والبحث تحت عنوان «الجيش العربي والقوات المسلحة».