في بنسلفانيا وقف دونالد ترامب بين يدي الموت. صوت طقطقة حاد ومفاجئ يخترق الهواء مثل شفرة حادة. تجمد الزمن لبرهة، معلقًا في تلك اللحظة الهشة بين الفوضى والهدوء. هدأت الهتافات، وانخفضت اللافتات، وحتى الرياح بدت وكأنها تحبس أنفاسها. ثم جاءت الصيحات والصراخ وطوفان الذعر مع سقوطه وسط كومة من الحراس. كان هناك دم، زهرة قرمزية تنتشر ببطء حول أذنه. لكن هذا لم يكن مهمًا لا له ولا لهم؛ أنصاره الذين حبسوا الأنفاس. رفع يده ببطء وتأنٍ ليشكل التحية التي يعرفونها جيدًا. ربما لم تكن مثالية، لكنها كانت تحديًا، لفتة ولدت من هوسٍ شديد بصورته الشخصية. رد الحشد وارتفعت أصواتهم في انسجام، موجة مد من الصوت غرقت في تلك اللحظة. مواجهة الموت لحظة كاشفة، وقد كشفت عن ترامب تلازمًا وجوديًا مع نرجستيه الذاتية. للرجل قدرة هائلة على تحويل كل لحظة إلى خبرٍ أو محتوى يتشاركه الناس ويتحدثون عنه سلبًا أو إيجابًا، مدحًا أو ذمًا، ذلك ليس مهمًا، المهم أن يصبح مادةً للتداول، وهي الفلسفة نفسها التي تقوم عليها سياسات حلفائه في الإقطاع التكنولوجي.
ينطوي ذلك على خصائص نفسية وسياسية يتميز بها ترامب، أو هو مصابٌ بها. وفي قلب هذا الهوس تكمن مفارقة، فثقته الظاهرية تخفي وراءها انعدام الثقة في العمق، في حين يعكس سلوكه الفوضوي فهمًا متطورًا لديناميكيات وسائل الإعلام الحديثة. ومن خلال الهيمنة على العناوين الرئيسية والسيطرة على السرديات واستقطاب الجماهير، يحقق نفوذًا ملحوظًا ولكن بتكلفة كبيرة ليس فقط على المعايير المؤسسية، ولكن حتى على حساب سمعته وثقة الجمهور فيه.
ولكن ترامب أبعد من ذلك يعبر عن تحولٍ هائلٍ في تمثل السياسة، شكلته وسائل التواصل الاجتماعي والميديا الجديدة خلال السنوات الأخيرة، حيث لا المال ولا النفوذ ولا العلاقات وقود السياسة الأميركية في العالم الغربي، بل صار الاهتمام وجذب الانتباه وقودًا وغايةً، فقد اشترى إيلون ماسك منصة تويتر بخسارة تجارية مدهشة من أجل أن يبقى في قلب الانتباه. وهو ما ينسحب على بقية مجالات الحياة، كالرياضة والثقافة والاقتصاد. حيث بات الانتباه المصدر الأساسي لتوليد المال وبناء العلاقات وترسيخ النفوذ، وتشكيل نمط إنتاج جديد يضع الإقطاعيات التكنولوجية، بوصفها صانعة الانتباه والمتحكمة فيه والمحتكرة لقياسه، في موقع قيادة المجتمع.
الإمبراطور عاريًا
في العالم اليوم كل شيء يدور حول ترامب طوال الوقت، نحن جميعًا مدمنون عليه. القرارات والتصريحات والانقلابات التاريخية التي لا تتوقف تجتذبنا؛ إنها بمثابة صور إباحية عن زعيم الإمبراطورية. قبل سنواتٍ كتب نيكولاس كريستوف مقالةً قصيرةً بعنوان «إدماننا على ترامب»، شرح فيها كيف تتغذى وسائل الإعلام الأمريكية على أخبار ترامب، الذي بدوره لا يوفّر فرصة لكي يصنع خبرًا من اللاشيء ويحتل الشاشات. وضع كريستوف يده على الجُرح. صحيح أن ترامب يمتص كل الأكسجين الإعلامي ويسيطر على الأخبار، ولا يدع مجالًا لنقاشات أخرى تتعلق بقضايا مهمة، إلا أنك لا تستطيع في الوقت نفسه تجاوزه، فحتى لو لم تكن تحبه فإنك مضطر للردّ عليه. وبالتالي فهو يكسب دائمًا، يجرك إلى ملعبه المفضل؛ ملعب السجال. وفي السجال لا يمكن أن تجاريه. يستند إلى معجم الناس العاديين ويوظف الغريزة ويعادي الصوابية. في الحاصل الأخير إن ما يهمّ ترامب ليس أن يظهر بصورةٍ جيدةٍ أو ألا يظهر بصورةٍ سيئة، ولكن الظهور نفسه، أن يكون خبرًا أو محتوى يتداوله الناس بدهشة.
لم تكن السياسة دافع ترامب لهذا النهج من التواصل، فقد شرع باكرًا في سلوك «ثقافة المشاهير» كطريقة للتسويق. فقبل دخوله عالم السياسة بنى الرجل مسيرته المهنية كنجم تلفزيوني واقعي «The Apprentice» وقطب عقارات، وكلما كان على شفير الإفلاس صنع الحدث على وسائل الإعلام ليعود إلى الواجهة. ثم استغل انتقاله إلى السياسة بعبور الخطوط الفاصلة بين ثقافة المشاهير والحكم من خلال بناء علامة تجارية شخصية، ومثل أي فنان ناجح نجح ترامب في خلق شخصية مميزة ووقحة وحاسمة وغير معتذرة، وجدت صداها لدى الجماهير التي شعرت بخيبة أمل من السياسيين التقليديين. ثم دفع بهذه الشخصية إلى العرض العام متفوقًا في تحويل الأحداث العادية إلى عروض مسرحية سواء من خلال استضافة التجمعات أو التفاوض على الصفقات أو إلقاء الخطب. وهذا العرض كان وما زال يجذب حشودًا ضخمة وتغطية إعلامية، مما يعزز هيمنته.
إن هوس ترامب بالظهور في دائرة الضوء وجذب الانتباه يمكن تحليله من خلال مزيج من العدسات النفسية والسياسية. فسلوكه غالبًا ما يعكس تفاعلًا معقدًا بين سمات الشخصية وأسلوب القيادة وتكتيكات الاتصال. من الناحية النفسية يتسم الرجل بالعديد من السمات المرتبطة بالنرجسية، مثل الشعور المبالغ فيه بأهمية الذات، والرغبة الشديدة في الإعجاب، والافتقار إلى التعاطف. وهذه السمات تدفعه إلى الحاجة إلى أن يكون دائمًا في مركز الاهتمام. فالتغطية الإعلامية، والإعجاب العام، والمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي تعمل كتأكيدات مستمرة على عظمته المزعومة. فالنزعة الخلاصية التي تسيطر عليه -ويتشاركها مع طائفة من قادة الشعبوية في العالم- تعطيه تصورًا مبالغًا فيه عن ذاته، فينعكس ذلك ميلًا إلى المبالغة في الإنجازات والتقليل من أهمية الإخفاقات، ويتوافق مع الحاجة النفسية للحفاظ على صورة مثالية لنفسه في عيون الآخرين.
لم يتوان ترامب لحظةً عن تقديم نفسه كصاحب حلٍ نهائي لصراعٍ معقد ومرير يدور في فلسطين منذ عقود، أو كرئيس توسعي يريد تغيير الخرائط وضمّ الدول المجاورة. وربما يجد هذا الهوس بالظهور جذوره في طفولة ترامب. قد يكمن وراء المظهر الواثق من نفسه خوف عميق من تجاهله أو نسيانه. وقد يؤدي هذا الشعور بعدم الأمان إلى تغذية سعيه الدؤوب لجذب الانتباه، مما يضمن بقاءه ذا أهمية وتأثير. يمكن أن ينبع سلوك البحث عن الاهتمام أيضًا من بيئة الطفولة حيث كان الاعتراف والموافقة مرتبطين بالأداء أو الرؤية، مما يخلق نمطًا من البحث عن التحقق الخارجي. فقد ولد وتربى في كنف والدٍ يعمل في المضاربة العقارية، ثم عمل موظفًا في شركة العقارات الخاصة بوالده، وهي بيئة تقيس نجاح أبنائها بالكسب المادي والرسوخ في الثروة.
أمّا من الناحية السياسية فيبدو ترامب واعيًا بذكاء بديناميكيات القوة في وسائل الإعلام الحديثة ويستخدمها ببراعة. ومن خلال توليد الأخبار والمفارقات والجدل المستمر، فإنه يضمن إجبار الصحفيين والمعارضين على الرد على أفعاله، الأمر الذي يبقيه في طليعة المناقشات السياسية. فهو بارع في إثارة غضب الآخرين، حيث تعمل الإثارة على دفع النقرات والمشاركات والمشاهدات. وكلما كانت تصريحاته أكثر إثارة للغضب حظي بتغطية إعلامية أكبر، الأمر الذي يعزز نفوذه. وهي استراتيجيات يتشاركها كل القادرة الشعبويين حول العالم، لا سيما في خلق عبادة الشخصية. فهو يزرع في نفسه أنصارًا يشبهون الطائفة من خلال تقديم نفسه كشخصية أعظم من الحياة تجسد القوة والحسم والأخلاق المحافظة. وتجتذب هذه الشخصية المؤيدين الذين يرون فيه مدمرًا للسياسة التقليدية وبطلًا لمظالمهم. إن تركيزه على الولاء الشخصي على حساب المعايير المؤسسية يعزز هذه الديناميكية بشكل أكبر، مما يجعل شعبيته أقل ارتباطًا بإنجازات السياسة وأكثر ارتباطًا بالعواطف وسياسات الهوية.
اقتصاد «الانتباه»
في حفل تنصيبه ظهر الرئيس دونالد ترامب في مبنى الكابيتول محاطًا بعمالقة التكنولوجيا مارك زوكربيرج، وجيف بيزوس، وإيلون ماسك، وسوندار بيتشاي، مع وجود الرؤساء التنفيذيين لشركتي آبل وتيك توك في الجوار. حفنة من الرجال الأغنياء الذين يصنعون الأخبار ويتحكمون في اقتصاد الانتباه[1] ويحتكرون قياسه. بالنسبة لرئيس يرتبط مجده بقدرته الفطرية على جذب الانتباه، فإن هؤلاء يحملون مفاتيح أبواب المجد. وبالنسبة لهم فإنه وجود رئيسٍ مثل ترامب في البيت الأبيض يفتح لهم المزيد من أبواب الثروة والنفوذ.
يشكل هذا التحالف الجديد بين قيادة الإمبراطورية ومحاسيبها في وادي السيليكون، تجاوزًا حتى لما طرحه غي ديبور في كتابه «مجتمع الفرجة»[2] بوصفها المرحلة المكتملة للرأسمالية، والنظير الملموس لتنظيم السلعة، حيث الفرجة أيديولوجية اقتصادية، بمعنى أن المجتمع المعاصر يضفي الشرعية على عالمية رؤية واحدة للحياة، من خلال فرضها على حواس ووعي الجميع، عبر الأدوات السمعية والبصرية والبيروقراطية والسياسية والاقتصادية، والتي تعتمد جميعها على بعضها البعض. وذلك من أجل الحفاظ على استمرارية إنتاج القوة والاغتراب، فضلًا عن كونها جهازًا للدعاية لسيطرة رأس المال على حياة الناس، أو على نحو أبسط «علاقة اجتماعية بين الناس يتم التوسط فيها من خلال الصور». اليوم نحن إزاء تحولٍ في موقع الفرجة من كونها وسيلةً في يد رأس المال إلى رأس المال نفسه.
يذهب الناقد الثقافي، جيانوي شون أبعد من ذلك، إلى اعتبار أن حفل التنصيب «لا يمثل حدثًا سياسيًا أو انتصارًا لأيديولوجية معينة فحسب، بل ظهور لنظام جديد للواقع، حيث تعمل السلطة من خلال التلاعب المباشر بحالات الوعي الجماعية». في هذا البعد الجديد، لم تعد القوة تكمن في السيطرة على الأجساد أو العقول، بل في القدرة على تعديل حالات الوعي لدى شعوب بأكملها. تتكشف المنصات الرقمية على حقيقتها، فهي ليست مجرد أدوات اتصال، بل تقنيات منومة تعمل بنشاط على إعادة تشكيل الطريقة التي ندرك بها الواقع ونفسره.
يستعين شون بفكرة «التنويم المغناطيسي»، كأداة للتحليل استعملها في كتابه «هيبنوقراطية: ترامب وماسك والهندسة المعمارية الجديدة للواقع»[3] معتبرًا أننا نعيش في نظام جديد يتلاعب بالإدراك، ويغير علاقتنا بالواقع بشكل جذري. فشخصيات مثل دونالد ترامب وإيلون ماسك هم «كهنة» النموذج الجديد. معًا يتحكمون في الرغبات، ويعيدون كتابة التوقعات.
يكشف شون عن الآليات التي تحكم عصرنا من «السرديات المنومة»، ويكشف كيف تعمل القوة ليس من خلال القمع ولكن من خلال القصص التي نستهلكها ونشاركها ونؤمن بها. فترامب بتكراره الوسواسي وزعزعته المستمرة لجميع الأطر المرجعية وجميع الحقائق، وماسك برؤاه التقنية الطوباوية ووعوده بالتحول الجذري، يمثلان وجهين لعملة واحدة: القدرة على بناء ودعم حقائق بديلة تلتقط الوعي الجماعي وتتلاعب به.
لكن شأنه شأن المؤثرين على شبكات التواصل والميديا فإن الرئيس الأمريكي معرض لمتلازمة «انفجار الفقاعة». فالحبل القصير للإثارة يمكن أن يؤدي به إلى ضربٍ من إفلاس المعنى، حيث إن الإثارة على حساب الجوهر من شأنها أن تفقده سطوته بوصفه رئيسًا. لكن حتى ذلك الحين، يبقى حضور ترامب الإعلامي واحدًا من أبرز تجليات «نهاية السياسة» في الولايات المتحدة، بعدما غابت السياسة كراعٍ فكري، وأفرغت من مضامين السيادة الشعبية، لتعود في حقبة ما بعد النيوليبرالية في شكلها المسرحي الجديد.
-
الهوامش
[1] أول من وضع مصطلح «اقتصاد الانتباه» كان الخبير الاقتصادي هربرت سيمون في عام 1971. يرى سيمون أن «الثروة من المعلومات تخلق فقرًا في الانتباه». ومع تقدم التكنولوجيا، وخاصة مع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، اكتسبت هذه الفكرة زخمًا. فقد أدى انتشار المنصات الرقمية إلى زيادة هائلة في كمية المحتوى المتاح للمستهلكين، مما أدى إلى خلق مفارقة حيث تؤدي الخيارات الأكثر إلى تركيز أقل. قبل العصر الرقمي، كان الاهتمام منصبًا في المقام الأول على وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والإذاعة والتلفزيون. وكانت هذه القنوات بمثابة بوابات للمعلومات، تتحكم فيما يصل إلى أعين الجمهور. ظهور الإنترنت أدّى إلى تفكيك هذه الحواجز، مما سمح لأي شخص لديه إمكانية الوصول إلى إنشاء وتوزيع المحتوى، كما أدى هذا التحول الديمقراطي في إنتاج الوسائط إلى إدخال منافسة شرسة على جذب الجمهور، مما أدى إلى ولادة اقتصاد الاهتمام الحديث.
[2] Guy Debord – La Société du spectacle – Buchet-Chastel 1967
[3] Jianwei Xun – Hypnocracy: Trump, Musk, and the Architecture of Reality – Edizione Inglese 2024