«الرد في أي لحظة»: لبنان يترقب

الإثنين 12 آب 2024
طفلة تقرأ في ساحة مدرسة لجأت إليها عائلات لبنانية نازحة من قرى قريبة من الحدود الجنوبية في مدينة صور، في تشرين الأول 2023. تصوير محمود الزيات. أ ف ب.

خمسة أشهر هي المدة التي يستطيع أن يغطيها مخزون بيروت من الإمدادات الغذائية في حال اندلعت الحرب وتعرضت البلاد لحصار إسرائيلي مماثل لما حصل في حرب 2006، بحسب تصريح أحد الوزراء اللبنانيين. أما إمدادات الوقود، فتكفي ما لا يزيد عن خمسة أسابيع ستضطر بعدها المدينة، التي تعتمد على المولدات الكهربائية بمعدّل 17 ساعة باليوم، إلى البحث عن خيارات أخرى. في تشرين الثاني الماضي، أقرّت الحكومة اللبنانية «خطة الطوارئ الوطنية» التي استندت إلى أحداث تموز 2006 لتصنيف المناطق اللبنانية بحسب خطورة تعرّضها للقصف، وتوقعت تهجير نحو مليون و200 ألف شخص لفترة لا تتعدى الشهرين في الجنوب والضاحية ومناطق أخرى، وتسجيل دمار هائل في الممتلكات والمباني والبنى التحتية.

شهدت الجبهة اللبنانية خلال 300 يومٍ من الحرب الإسرائيلية استشهاد أكثر من 466 شخص، 108 منهم من المدنيين والأطفال والصحافيين والمسعفين واللاجئين، وتدمير 1700 منزل بشكل كامل و14 ألف منزل بشكل جزئي، والتسبب بنزوح ما لا يقل عن 100 ألف مواطن لبناني من أماكن سكنهم، بينما يواصل الاقتصاد تدهوره في ظل الانقسام السياسي والتبعات الاقتصادية لجائحة كورونا وانفجار المرفأ وتعطيل البرلمان. وفي أعقاب اغتيال الشهيد فؤاد شكر نهاية تموز الماضي، بدت الحرب الشاملة أقرب مما كانت عليه وعاد مجلس الوزراء اللبناني لعقد جلسات طارئة ومكثفة برئاسة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لمناقشة التطورات الأخيرة، واتخاذ الإجراءات الضرورية من قبل لجنة الطوارئ الوطنية حيال تأمين المؤن الغذائية والمستلزمات الصحية في المستشفيات والتعامل مع أي موجة نزوح كبيرة.

يقول رئيس لجنة إدارة الأزمات والكوارث في لبنان ووزير البيئة ناصر ياسين إن هذه الخطة «ترتكز على خمس نقاط أساسية، وهي موضوع الإيواء وكيفية تحسين وتجهيز مراكز الإيواء، وخطة الطوارئ الصحية، وملف الغذاء وملف الوقود، مع مناقشة تأمين البنزين والمازوت لأربع قطاعات استراتيجية وهي الأفران والمستشفيات ومحطات ضخ المياه والسنترالات ومراكز أوجيرو للاتصالات». أسمت الحكومة اللبنانية هذه الخطّة بـ«الخطة الاستباقية لمواجهة أيّ حرب مقبلة» رغم أنها صدرت أثناء المواجهات على الجبهة اللبنانية فيما تم اعتباره «رفض الدولة الاعتراف بأنها في حالة حرب». كما انتقدت التقارير الصحفية مدى واقعية تطبيقها إذ لا تتطرق لاحتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة وتتعامل بشكل ثانوي مع «الفئات السكانية الأخرى» من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين ولا توضح كيفية تحسين مراكز الإيواء لتضمن مقومات الصمود والعيش الكريم والدعم اللازم للنازحين.

تتزايد المخاوف من نفاد المحروقات في لبنان إذ لم توضح الحكومة كيفية تأمين كميات إضافية لإمداد المستشفيات أو مولّدات الكهرباء، ومن تدهور الوضع الغذائي إذا اندلعت حرب واسعة

تواجه الخطة أزمة تمويل حقيقية، إذ يعجز لبنان عن تأمين كلفة تمويل خطة الطوارئ المقدرة بـ120 مليون دولار ولم تخصص أي مبالغ مالية للطوارئ في الموازنة العامة للعام الجاري. ساهمت المنظمات الدولية بـ27 مليونًا منها وقدمت الدولة عشرة ملايين أخرى. يقول ياسين إن تمويل خطة الطوارئ مؤمّن بنسبة لا تتخطى 30%، في حين يشكّل كل ذلك حوالي 5% فقط من مجمل ما تحتاج إليه عمليات الإغاثة في حال توسّع الحرب، «إن افتراض السيناريو الأسوأ بتهجير أكثر من مليون لبناني ستكون هناك حاجة لمائة مليون دولار بالشهر الكلفة التقديرية للإغاثة»، بحسب قوله.

من ناحيتها، وضعت وزارة الصحة العامة منذ بداية الحرب على غزة خطة لتدريب الطواقم الصحية على إدارة الإصابات الجماعية خلال الأزمات، إلا أن القطاع الصحّي يعاني منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019، حيث فقدت المستشفيات الخاصة نحو 25% من كادرها الطبي وتعاني المستشفيات الحكومية من نقص في الكوادر بنسبة 60%. تشير التقارير الصحفية إن وزارة الصحة تواجه مشكلة تمويل علاج الجرحى، ما يعني الاتكال غير المباشر على القطاع الخاص وعلى منظمة الصحة العالمية لتأمين الأدوية ومستلزمات طبية. في الخامس من آب الجاري، تسلم لبنان شحنة مستلزمات طبية وأدوية مخصصة لمعالجة إصابات الحرب بكمية تبلغ 32 طنًا من منظمة الصحة العالمية، تم توزيعها على المستشفيات والمراكز الصحية، إذ ارتفع الطلب في الصيدليات على بعض الأصناف ما بين 30% و40%، ولا سيما أدوية الأمراض المزمنة وعلب حليب وحفاضات الأطفال.

تتزايد المخاوف من نفاد المحروقات في لبنان إذ لم توضح الحكومة كيفية تأمين كميات إضافية لإمداد المستشفيات أو مولّدات الكهرباء، ومن تدهور الوضع الغذائي حيث أكد رئيس تجمع المطاحن في لبنان أحمد حطيط أن المخزون الحالي من القمح يكفي لتلبية احتياجات السوق لمدة شهرين إذا اندلعت حرب واسعة، إلا أن هذه التقديرات تعتمد في جميع الأحوال على معدلات الاستهلاك. تحدث رئيس نقابة أصحاب الأفران في صيدا والجنوب زكريا العربي عن العجز في الكميات المخصصة من الطحين المدعوم للأفران والتي لا تكفي لتلبية الطلب المتزايد على الخبز في ضوء استمرار وتصاعد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية، مطالبًا الحكومة بزيادة هذه الحصة في ظل غياب المخزون الاحتياطي، «سنكون أمام أزمة رغيف فعلية إذا توسعت الحرب».

كيف يواجه اللبنانيون أزمة النزوح؟

يقول الصحفي عبدالرحمن نصار «إن الوزارات اللبنانية تعمل بصورة شبه منفردة وفق ما يتوفر لها من موازنات ولا يوجد في لبنان حتى الآن خطة طوارئ شاملة حقيقية إذ لم تستطع الحكومة كنتيجة لاجتماعاتها الطارئة أن تضبط على الأقل أسعار الإيجارات في ظل النزوح الجاري». من أصل حوالي 800 ألف نسمة في الجنوب، اضطر ما لا يقل عن 100 ألف مواطن لبناني إلى مغادرة منازلهم (بالتحديد الأقضية الحدودية الثلاثة: بنت جبيل ومرجعيون وصور) والضاحية التي لطالما شكلت ملجأً للنازحين من القرى الجنوبية الذين تركوا منازلهم، 82 ألف منهم غادروا على مدار الثلاث أشهر الأولى من الحرب، وفق تقرير المنظمة الدولية للهجرة.

تشير التقديرات إلى تسجيل زيادة في أعداد النازحين بنسبة 8% في الأسبوع الذي تلا اغتيال الشهيد صالح العاروري مطلع هذا العام، في حين يغيب تعداد الأفراد الذين ما زالوا في منازلهم أو عادوا إلى الجنوب. يتوزع هؤلاء النازحون بشكل رئيسي على خمس مناطق هي صور والنبطية وصيدا وبعبدا وبيروت، للإقامة عند عائلات مضيفة أو في منازل مستأجرة أو مساكنهم الثانوية أو مراكز الإيواء. خسرت أسرة علاء، 37 عامًا، المكونة من سبعة أفراد مصدر رزقهم من العمل في زراعة الزيتون في بلدة رميش بعد حرمانهم من الوصول إلى أراضيهم والاعتناء بها جراء الاستهدافات الإسرائيلية للمزارع وتعرض بعضها للقصف بالقذائف الفوسفورية. يقول علاء إن الأراضي الزراعية بما فيها الأحراش والغابات كانت الأكثر عرضةً للقصف الإسرائيلي وعانت من أضرار جسيمة وقتل للمواشي والدواجن.

طالت الاعتداءات الإسرائيلية أيضًا المنازل والأحياء السكنية ومصانع مولدات الطاقة والبنى التحتية والطرقات، إذ قُدّر عدد المنازل المهدمة كلّيًا بـ 1700 منزل حتى مطلع أيار، يضاف إليها 14 ألف منزل متضرّر، دون حساب المناطق الحدودية الخطرة التي تعذّر الوصول إليها. حتى الشهر الرابع من الحرب، اضطرت أسرة علاء للنزوح والسكن في بعلبك في استضافة أحد الأقارب، لكنهم غادروها لاستئجار شقة في بيروت مطلع الشهر الماضي. يقول علاء إن موجة النزوح من الجنوب والضاحية صاحبها ارتفاعٌ قياسيٌ في أسعار الإيجارات حيث ارتفع متوسط إيجارات المنازل من 300 دولار شهريًا إلى 1200 دولار بسبب «جشع تجار الأزمات»، بحسب قوله.

من أصل حوالي 800 ألف نسمة في الجنوب، اضطر ما لا يقل عن 100 ألف مواطن لبناني إلى مغادرة منازلهم (بالتحديد الأقضية الحدودية الثلاثة: بنت جبيل ومرجعيون وصور) والضاحية الجنوبية.

بحسب اللجنة الأهلية للمستأجرين، تضاعفت بدلات الإيجار منذ منتصف تموز الماضي رغم ازدياد معدّل الشغور في بيروت بنسبة 20% في الشقق العادية نتيجة مغادرة العديد من اللبنانيين لوطنهم ودعوات الدول لإجلاء رعاياها وتعليق الرحلات الجوية إلى العاصمة اللبنانية وتراجع معدلات السياحة. تقول المستشارة القانونية للجنة مايا جعارة «إن ارتفاع بدلات الإيجار غير مبرر، وهو يجبر العديد من النازحين على الانتقال إلى منازل أقاربهم أو مراكز إيواء، مما يزيد من معاناتهم في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها».

تحاول البلديات في ظل غياب وزارة الاقتصاد تنفيذ جولات استطلاعية على الشقق السكنية المعروضة للإيجار وتمارس دورًا رقابيًا محدودًا في ضبط الأسعار العشوائية المرتفعة، في حين عبّرت نقابة المالكين عن رفضها «حصول أي حالات استغلال أو تجاوز في الإيجارات»، زاعمة أن الغالبية العظمى من المساكن المعروضة للإيجار لم تتجاوز المعدلات العامة للإيجار بحسب المنطقة والمساحة ونوعية البناء وسعر المتر.

من جانب آخر، تمسكت عائلات أخرى بالاقامة في الجنوب، حيث ما زالت ملاك، 18 عامًا، تعيش برفقة ستة أفراد من أسرتها في منزلهم في قضاء صور رغم نزوح عشرات العائلات من أقاربهم المقيمين قرب الشريط الحدودي إلى خارج الجنوب حفاظًا على أرواحهم. تسمع ملاك من منزلها بشكل يومي الضربات الاسرائيلية وما يسمى بخرق جدار الصوت، لكن التواجد في الجنوب بالنسبة لهم هو قرار صمود، «مش رح نترك أرضنا وأرواحنا مش أغلى من أرواح أهل غزة، بالنهاية الحزب قادر على صد أي مواجهات برية، والغارات الجوية لا تهدد الجنوب وحده»، تقول ملاك.

تترقب أسرة ملاك الحرب وهي تستعد لأخذ احتياطاتها عبر تخزين المواد الغذائية بشكل شخصي أو بالتعاون مع أهالي المنطقة وبعض لجانها وتحركاتها. على مستوى شعبي، نظمت بعض البلديات لجانًا في بعض قرى الجنوب، مثل خلية الأزمة التي أسسها اتحاد بلديات قضاء صور عام 2010 وعاد لتفعيلها منذ مطلع الحرب الحالية لمتابعة أوضاع النازحين وفتح مراكز الإيواء وتقديم الغذاء والدواء لأهالي المنطقة. يلعب مجلس الجنوب الذي تأسس عام 1970 أيضًا دورًا هامًا في تلبية احتياجات أهالي المنطقة، إذ يتركز عمله على إجراء مسوحات ميدانية للمناطق المتضرّرة وتقييم حجم الأضرار اللاحقة بها، ومن ثم صرف التعويضات للمتضررين. في الحرب الجارية، يتعلق دوره أكثر بدعم النازحين، والسكان الصامدين المقيمين في بلداتهم، لضمان تلبية احتياجاتهم المعيشية الأساسية.

يقول نصار إن الاستعداد الشعبي للحرب مقتصر على نوع من التخزين الذي يقوم به الأفراد من تلقاء أنفسهم في بعض المناطق الساخنة المعرّضة للاعتداءات، ولكن الإقبال على شراء المنتجات لم يصل إلى مراحل التهافت مثل حالة الهلع والعجز التي يشهدها الاقتصاد الإسرائيلي. وفي هذه الأثناء، ما زال الموظفون يذهبون لدوامهم كل يوم ولم تُجرِ الجامعات حتى الآن أية تعديلات على موعد بداية العام الدراسي الجديد المقبل والذي ينعقد بين أواخر آب الجاري وأوائل أيلول القادم. ترتهن جميع التدابير الطارئة اليوم في لبنان لمدى تأزّم الوضع الأمني وهناك حالة من الحذر والترقب للضربة الإيرانية ورد حزب الله على اغتيال شكر وهو ما قد يغير جميع المعطيات الجارية. بالنسبة لنصار، فإن لبنان اليوم في أسوأ أحواله اقتصاديًا، وهذا ليس بسبب الحرب، ولكن هذا هو ما قد يجعله غير خائفٍ من الدخول في واحدة.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية