شمال غزة: زراعة تحت النار

الأربعاء 13 تشرين الثاني 2024
زراعة، غزة، العربية-١
زراعة الأشتال في شمال غزة ضمن مشروع إحياء مزارع غزة بالتعاون مع الجمعية العربية لحماية الطبيعة.

من وسط قصف الطائرات، وصوت جنازير الدبابات التي أعادت اجتياح شماليّ قطاع غزة أوائل تشرين أول الماضي، يناشد المزارع الستينيّ أبو الأمين* العالم: «بديش كرتونة [مساعدات] يا عمي، وَدّولي مساعدات زراعية، وأنا أنتج أكلي وبوكل من إيدي».

بعد أن قطع الاحتلال الإسرائيلي المساعدات الغذائية عن الشمال، حاول بعض المزارعين هناك إنتاج جزء من غذائهم بأيديهم، لكنهم اليوم إمّا محاصرون غير قادرين على الوصول إلى أراضيهم مثل أبو الأمين الذي يعيش في جباليا، أو أن الجيش الإسرائيلي قتلهم مثلما فعل مع الشهيد العشريني يوسف أبو ربيع الذي كان يعيش في بيت لاهيا.

إلى جانب جباليا وبيت لاهيا، تضم محافظة شمال غزة مدينة بيت حانون ومخيم جباليا وقرية أم النصر (القرية البدوية). قبل الحرب كانت المحافظة هي الأكبر في القطاع من حيث نسبة المساحة المزروعة إلى المساحة الكلية للمحافظة، وبلغت المساحة الزراعية في المحافظة حوالي 34 ألف دونم، لا يزيد عنها في ذلك إلا محافظة خان يونس بمساحة كانت تبلغ 37 ألف دونم. وقد تركزت في محافظة الشمال المياه الحلوة والخبرة الزراعية فأنتجت أفضل الخضروات من البطاطا والفلفل والباذنجان والفراولة. لهذه الأسباب يعتبر محمد أبو عودة، الناطق الرسمي باسم وزارة الزراعة، محافظة الشمال السفير الزراعي لغزة: «فيها طابع عذوبة المياه، لعدم وجود كميات سحب جائرة، الأمر الذي حال دون تملّح المياه، بالإضافة إلى تميزها بنجاح هذه الزراعات؛ بمعنى كميات الإنتاج في هذه المناطق أعلى، حتى وإن زرعت نفس الأصناف في مناطق أخرى».

وكانت أراضي الشمال، بالإضافة إلى الأراضي الشرقيّة من القطاع، تشكّل حوالي 80% من مجمل الأرض الزراعيّة في قطاع غزّة؛ أي أنها كانت مصدرًا مهمًا وأساسيًا في إنتاج جزء من أكل الناس في القطاع، وقد ساهم الشمال وحده في توفير أكثر من 30% من الحاجات الغذائية للقطاع من الخضروات والمحاصيل الحقلية، كالقمح وباقي أنواع الحبوب[1] بالإضافة إلى مساهمته بربع إنتاج الدواجن والضأن، وما بين ثلث إلى نصف إنتاج الماعز والأبقار وخلايا النحل.[2]

بعد العدوان على القطاع وبدء الاجتياح البري منذ عام تقريبًا، دمّر الاحتلال بشكل ممنهج المزروعات في المحافظة، وخرّب البنية التحتية للزراعة هناك، بما يعيق حتى فرص الزراعة مستقبلًا. وقد شمل التدميرُ قصفَ الزراعات الحقليّة والشجرية القائمة، وتدمير حظائر المواشي ومزارع الأسماك، وتجريف المساحات الصالحة للزراعة، وقطع المياه عنها، ومنع إدخال الوقود لتشغيل مضخات المياه، وتدمير الآبار الجوفية، بالإضافة إلى إجبار المزارعين على النزوح، ومنع المتبقين من الوصول إلى أراضيهم المزروعة ببعض المحاصيل منذ ما قبل الحرب، وكان بينهم أبو الأمين الذي يمنعه الاحتلال من الوصول إلى أرضه التي تضم خمسة دونمات من البيوت البلاستيكية، وخمسة آبار جوفيّة، وبستان أشجار زيتون مزروعة منذ العام 2014. 

عمومًا، دمّر الاحتلال منذ أكتوبر 2023 ثلثي الأراضي الزراعية (حوالي 68٪) في قطاع غزة، ويشمل ذلك تدمير 61٪ من البساتين، و19٪ من حقول الخضروات، و20٪ من المحاصيل الحقلية. كما دمّر 33٪ من البيوت البلاستيكية، و46٪ من الآبار الزراعية، و65٪ من الألواح الشمسية، بالإضافة إلى تدمير أكثر من 2300 منشأة زراعية بشكل كلي أو جزئي. وكان ضرر القطاع الزراعي في محافظة شمال غزّة الأكبر نسبيًا؛ إذ لحقت الأضرار بأكثر من ثلاثة أرباع أراضيها الزراعية (حوالي 78٪) بحسب ما أظهرته صور الأقمار الصناعية.

من جهة أخرى، دمّر الاحتلال 95% من قطاع الإنتاج الحيواني في الشمال، مثل مزارع استزراع الأسماك والقوارب وشباك الصيد، و حظائر تربية الأبقار والأغنام، بحسب وزارة الزراعة. وقد علقت مسؤولة في منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة بالقول: «إن هذا [التدمير] يطرح مخاوف كبيرة حول إمكانية إنتاج الأغذية الآن وفي المستقبل، لأنّ المعونة الغذائية وحدها لا يمكن أن تلبي الاحتياجات اليومية لسكان غزة، وتؤدي هذه الأضرار إلى مفاقمة خطر الانتشار الوشيك للمجاعة في كامل قطاع غزة».

وهذا ما حصل، جاع الناس في الشمال بعدما قطعت المساعدات عنهم، وقد دمّرت البنية الزراعيّة التي طالما وفّرت جزءًا من غذائهم، ما اضطرهم إلى طحن القمح والشعير والذرة لصنع الخبز، وطبخوا حشائش الأرض، ثم مات 49 طفلًا بسبب الجوع، وقد رأى العالم الأجساد النحيلة بفعل سوء التغذية: «أكلنا التبن والشعير وعلف الكلاب والبسس، والله ما كان في إشي ناكله» يقول أبو الأمين.

من توزيع الأشتال على المزارعين شمال غزة. المصدر الجمعية العربية لحماية الطبيعة.

«هنزرعها بعون الله»

في آذار الماضي، أطلق المهندس الزراعي يوسف أبو ربيع، الذي تملك عائلته مشتلًا زراعيًا في بيت لاهيا، مبادرة «هنزرعها بعون الله» التي تقوم على فكرة زراعة مراكز الإيواء والمنازل ببعض أصناف الخضروات بما فيها الورقية، ومنها الملوخية والكوسا والبقدونس والجرجير والفجل واليقطين والقرع. وقد جُلبت البذار من المحاصيل التالفة والأشتال البلدية الموجودة في مشتل عائلة أبو ربيع.

استهدفت المبادرة المناطق المحيطة بالمشتل، ومدارس الإيواء الثلاثة بالقرب منه، فوُزّعت الشتلات والبذور على الناس وقد اعتمدوا في سقايتها على تخزين بعض جالونات المياه من الكميات الشحيحة التي تصلهم، واعتمدوا كذلك على زيت الطعام بدلًا من الوقود في تشغيل بعض مضخات الآبار القريبة.

في تلك الفترة كانت المنظمة العربية لحماية الطبيعة التي تعمل في غزة منذ سنوات، تبحث عن مزارعين في الشمال لتوزع عليهم البذار والأشتال على غرار عملها في وسط وجنوب القطاع، وكان أبو ربيع من أوائل المزارعين الذين تواصلوا معها نهاية نيسان الماضي. هكذا، أوصلت الجمعيّة إلى أبو ربيع عشرة آلاف بذرة باذنجان، شتّلها مع عائلته ووزع الأشتال على عدد من المزارعين في الشمال لزراعتها على مساحة ستة دونمات، ثم أمّنت الجمعيّة المزارعين بسبعين ألف بذرة باذنجان أخرى زُرعت على ما يقرب من 55 دونمًا في بيت لاهيا، ثم تلاحقت البذار من الجمعية وزرع نحو 90 دونمًا بالملوخية، وقرابة 200 بالكوسا.

كانت ميزة أبو ربيع أن لديه خبرة في تشتيل البذور بحكم امتلاك عائلته لأحد المشاتل الزراعيّة، بالإضافة إلى معرفته بأساسيات الزراعة ومنها التشتيل: «كانت المعضلة في البداية بعد وصول البذار، في كيفية تشتيلها، كان لازم يكون فيه حلقة بالنص اللي هي المشتل وكان يوسف هاي الحلقة، ويساعد نشتل عنده البذور»، يقول موظف من الجمعية.

نمت المحاصيل في مزارع الشمال بالفعل، وقطفها المزارعون ورفدوا بها السوق المحلي، ومن خلال اتفاق الجمعية مع المزارعين وُزعت بعض الكميّات مجانًا على الأهالي في الشمال، كما ذهب قسم من الإنتاج إلى مبادرات توزيع الطعام بشكل مباشر لتقليل تكلفة المعونات الغذائية.

في الجهة الأخرى، زرع أبو الأمين في جباليا بعض الأصناف مثل الباذنجان والفلفل والملوخية على قطعة أرضٍ مجاورة لبيته، بهدف إطعام عائلته وبعض الجيران، يقول أبو الأمين: «أكلت منهن، وهاي عندي باذنجان بس ما بكفيني ولا يكفي غيري، تحت الطخ نزرع تحت القصف نزرع».

طوال فترات الحرب، ومنها فترة المجاعة وحصار الشمال، لم تستطع منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة إدخال بذار أو أشتال إلى قطاع غزة عمومًا، وإلى الشمال تحديدًا، بالرغم من الطلبات العديدة من جمعيات ومنظمات عربيّة. الخلاصة أن الاحتلال منع أي جهدٍ يمكّن أهل غزة من إنتاج شيء من طعامهم، وأبقاهم رهائن المساعدات التي يتحكم فيها اليوم مثلما كان يتحكم منذ سنوات بالقطاع الزراعي في غزة.

منذ فرض حصاره على غزة عام 2007، يتحكم الاحتلال بشكل منهجي بكل عناصر الإنتاج الزراعي في القطاع حتى لا ينتج غذاءه، كما يقول أبو عودة: «كنّا نحاول نطبق سياسة الاكتفاء الذاتي والسيادة على الغذاء، ويكون لدينا مصادر حتى تكفينا، الاحتلال كان يحسب علينا حتى النَفس؛ يقدّر [عدد] السكان وكم نخزن، ولا يسمح لك بإدخال المزيد من مدخلات إنتاج تكمّل السنة، كان سقفنا يكون ثلاثة شهور أو أقل».

بالإضافة إلى ذلك، وعلى مدى سنوات الحصار، تعمّد الاحتلال تخريب الزراعة في القطاع، خصوصًا في الأراضي الشمالية والشرقية، من خلال فتح مياه العبّارات وبرك تجميع مياه الأمطار باتجاه المزارع وغمر مئات الدونمات الزراعية، ورشّ المحاصيل بالمبيدات الكيماوية عبر الطائرات من أجل الحفاظ على المنطقة خالية لذرائع أمنية، ولطالما أطلق جنود الاحتلال قرب السياج النار على المزارعين في مزارعهم القريبة. كما قضم جزءًا من المناطق الزراعيّة في الشمال ضمن سياسته لفرض أرض عازلة بينه وبين قطاع غزة، فضلًا عن فرضه حظر دخول إلى الأراضي الحدودية داخل القطاع بعمق وصل إلى 600 متر، وكثيرًا ما كانت تتعرض للتجريف بين فترة وأخرى، وتجرف معها بشكل دوري مزارع أهل الشمال.

قبل الحرب، شكّلت المساحة المجرفة والممنوع الدخول إليها قرابة 35% من مساحة الأرض الزراعية في قطاع غزة، ومنها بستان زيتون لعائلة أبو الأمين. 

جرّف جيش الاحتلال أشجار زيتون عائلة أبو الأمين خمس مرّات بين الأعوام 2001 و2014، وفي كل مرة كان أبو الأمين يعود لزراعة أشجار بدل تلك المجرّفة، لكن الأشجار التي زرعها في 2014 جرفتها الآلة العسكرية للمرة السادسة في هذه الحرب. مع ذلك، لا يراود أبو الأمين أي شك من أنه سيعيد زراعة الأرض بعد أن تنتهي الحرب، لكنه في الوقت نفسه يتساءل: «عمري هسه ستين سنة، ممكن أعيش كمان عشرين سنة أشوفها تنتج؟».

من توزيع الأشتال على المزارعين شمال غزة. المصدر الجمعية العربية لحماية الطبيعة.

رغم الحصار الذي أطبقه الاحتلال في الحرب، واصل أبو الأمين زراعة جزء من أرضه وأكل منها، واعتمد عليها في سدّ شيءٍ من احتياجاته واحتياجات الجيران والأقارب، لكن الدبابات الإسرائيلية حين دخلت قبل أسابيع منعته من الوصول إلى الأرض بسبب خوفه من الاستهداف، وصار «الإنتاج ضعيف، والمواد العضوية والأدوية والزبل مش قادر أعطيه». ولما اشتدت مطاردة دبّابات وطائرات جيش الاحتلال للناس في الشمال حتى وهم في مراكز الإيواء وداخل بيوتهم، صار أبو الأمين ينقطع عن الأرض لفترات طويلة: «أقعد أسبوعين قبل ما أصلها، طيب ما بدها تنشف وتخرب، ما بدها ميّة؟ ما بدها عناية؟».

يقول أبو عودة إن الوزارة عملت مع المزارعين في منتصف شهر آب الماضي على زراعة قرابة 1500 دونم في محافظة الشمال، لكن الاحتلال اجتاح الشمال وبيت لاهيا وجباليا للقضاء على الحياة، ثم كانت الخطة البديلة زراعة الحدائق المنزلية لإنتاج الغذاء ولو بالحد الأدنى، لكن المياه تظل هي المشكلة الكبرى.

لقد قطع الاحتلال المعونات القادمة من الخارج، وخرّب أي محاولة للأكل من إنتاج المزارعين من الداخل، وكان استهداف هذه الزراعات الجديدة وقتل بعض المزارعين جزءًا من تدمير أي إطار يعين الناس على العيش، بما في ذلك الدفاع المدني وجهاز الشرطة والمستشفيات والكوادر الصحية، في محاولة لتهجير الناس من الشمال.


* اسم مستعار.

  • الهوامش

    [1] اتحاد لجان العمل الزراعي في غزة، 2023.

    [2] تساهم محافظة الشمال بحوالي 25% من أعداد الدواجن في قطاع غزة، ونحو 44% من أعداد الماعز و48% من أعداد الأبقار، و42% من أعداد خلايا النحل. و27% من أعداد الضأن بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.

Comments are closed.