السنوار رئيسًا: «قتلتم المفاوض، فجئناكم بالمقاتل»

الأربعاء 07 آب 2024
الشهـيد إسماعيـل هنية رفقة يحيى السنوار في غزة 2017. أ ف ب.

بعد أقل من أسبوع على اغتيال رئيس مكتبها السياسي، الشهيد إسماعيل هنية، خرجت حركة حماس ببيان أعلن قائد الحركة في غزة، يحيى السنوار، خلفًا له، في خطوة حملت تحديًا صريحًا للإرادة الإسرائيلية بإضعاف قيادة الحركة وتماسكها، وعكست تصميمًا واضحًا على إعادة قرار الحركة إلى مسقط رأسها.

حماس قالت في بيانها إن قرار اختيار السنوار في مرحلة حساسة وظرف محلي وإقليمي ودولي معقد جاء بعد مشاورات موسعة في مؤسسات الحركة القيادية. فيما صرّح القيادي في الحركة، أسامة حمدان، بأن القرار جاء بالتوافق وبالإجماع داخل مختلف مؤسسات صناعة قرار الحركة، أي أنه جرى دون عقد انتخابات بالشكل السابق. 

يقول حمدان إن القرار جاء ليؤكد وحدة الحركة وإدراكها للمخاطر التي تواجهها، وأن سياسة الاغتيالات «لن تنجح في كسر شوكة المقاومة ولا في إضعافها، بل أن المقاومة تختار قائدًا لها يخوض المعركة بشكل مباشر في مواجهة الاحتلال». وهو ما يحيل إلى التصورات الإسرائيلية بأن اغتيال هنية يمكن أن يخلق أزمة في القيادة السياسية داخل حماس أو يوسّع الفوارق بين تياراتها، بعد أشهر من التعويل الإسرائيلي على أن صب النار على غزة كفيل بعزل قيادتها العسكرية وتفكيك بنيتها. لذا، جاء اختيار السنوار، وآلية اختياره بالتحديد، للتأكيد على تماسك الحركة تنظيميًا.

«الرسالة الأولى التي يرسلها القرار هي أن الحركة متماسكة وموحدة ومؤسسية وشورية. ولهذا جاء قرار اختياره بالإجماع بعد فترة وجيزة من المشاورة، لم تزد عن أربعة أيام»، يقول الكاتب والمحلل السياسي عريب الرنتاوي. «هذا ليس أمرا سهلًا في حركة عريضة ممتدة موزعة بين الضفة والسجون وقطاع غزة والخارج، وفي ظروف حرب ضروس».

هذه السرعة في اتخاذ القرار، على نحو خالف التوقعات الإسرائيلية بعملية انتخابية طويلة، جاءت نتيجة وضوح البنية التنظيمية في أقاليمها الثلاثة، غزة والضفة الغربية والخارج، ومؤسساتها المنتخبة، أي مجلس الشورى المركزي واللجنة التنفيذية أو المكتب السياسي، خاصة وأنه لم تكن هناك منافسة داخل الحركة على المنصب. يعود ذلك بحسب الكاتب والمحلل السياسي ساري عرابي إلى «الاستشعار الأخلاقي لدى قيادات حركة حماس بأن لا يبدو الأمر بأنها تتنافس على خلافة إسماعيل هنية بينما هناك شعب يذبح ويباد داخل قطاع غزة»، إضافة إلى «المسؤولية الأخلاقية بضرورة إظهار التماسك في وحدة الحركة، وتفويت الفرصة على الاحتلال الذي كان يعتقد أن بإمكانه أن يدخل حماس ولو لفترة مؤقتة في نوع من الفوضى التنظيمية»، خاصة وأن اغتيال هنية جاء في وقت لم يكن منصب نائبه السابق، الشهيد صالح العاروري قد ملئ فيه بعد. 

من جهة أخرى، يعكس القرار تجديدًا لشرعية عملية طوفان الأقصى، وقناعة الحركة بصوابيتها. «المكتب السياسي لحركة حماس ومجلس الشورى أعاد التصويت من جديد وبالإجماع على قرار 7 أكتوبر، وعلى خيار طوفان الأقصى وعلى نهج المقاومة. إذ لا يوجد شخص ارتبط اسمه بهذه العناوين مثل يحيى السنوار»، يقول الرنتاوي. فالرجل هو «المتهم» الأول إسرائيليًا بالتخطيط لعملية طوفان الأقصى وإدارتها، رفقة القائد العام لكتائب القسام، محمد الضيف. وقد ضخّت «إسرائيل» منذ بداية الحرب سيلًا إعلاميًا هائلًا من التحليلات التي سعت لشيطنته وتصويره على أنه «المطلوب رقم واحد»، وهي التي خبرته جيدًا خلال السنوات الـ22 التي كان فيها أسيرًا لديها قبل أن يتحرر مع أكثر من ألف أسير آخرين ضمن صفقة «وفاء الأحرار» عام 2011. 

بالتالي، يأتي القرار تحديًا لما هدفت «إسرائيل» لتحقيقه عبر الاغتيال، عملًا بالفكرة المتكررة على ألسنة نتنياهو وغيره من المسؤولين الإسرائيليين من أن الضغط العسكري والمزيد من الضغط العسكري سيؤدي إلى تنازل حماس. لذلك أرادت الحركة، باختيارها شخصًا من داخل القطاع ويواجه بشكل مباشر ويومي آلة الموت الإسرائيلية، أن تقول أيضًا إن قياداتها لا تخشى الاغتيالات.

الأهم ربما، هو أن اختيار السنوار يؤكد أن ثقل قرار الحركة كان وما يزال في غزة، وأن الأولوية لها بوصفها الميدان الأهم للمواجهة والمتحمّل الأول لأعباء الحرب، لذلك كان القرار بإعادة قيادة الحركة لشخصية من قلب هذا الميدان، كما تقول الكاتبة والصحفية لميس أندوني، وهي رسالة ترسلها الحركة ليس فقط لجمهورها في غزة، وإنما لدول الإقليم والولايات المتحدة كذلك. 

مع ذلك، لم يكن السنوار، البعيد عن الأنظار منذ بداية الحرب، خيارًا بديهيًا لرئاسة المكتب السياسي، بالنظر للاعتبارات العملية التي يفرضها وجوده في غزة المحاصرة. بل يمكن القول إن القرار كان مفاجئًا للبعض، على اعتبار أن جميع الرؤساء السابقين للمكتب السياسي للحركة، من موسى أبو مرزوق، إلى خالد مشعل، إلى الشهيد هنية (الذي اختير وهو في غزة قبل أن ينتقل للدوحة)، كانوا متواجدين في الخارج خلال الجزء الأكبر من عملهم، وشملت مهامهم الكثير من التنقلات واللقاءات مع مسؤولين في المنطقة، خاصة خلال جولات التفاوض. 

لهذا السبب، يتوقع الرنتاوي أن تعين حماس قريبًا نائبًا للسنوار، تناط به أدوار أكبر مما كان في السابق، بحيث يساهم في إدارة الشؤون اليومية للمكتب السياسي من اتصالات ومتابعات، فيما يبقى السنوار حاضرًا في القرارات الكبيرة والاستراتيجية. 

إلا أن الاعتبارات العملية لم تكن وحدها ما دفع البعض لاستبعاد اختيار السنوار. فما أشاعه الإسرائيليون وردده كثيرون غيرهم رسمَ صورةً لمسؤول أمني متصلب غير براغماتي وغير ضليع بالعمل السياسي. ينقد عرابي هذه الصورة، أولًا بالإشارة إلى أن السنوار لعب أدوار متعددة داخل الحركة، حيث نشط في التنظيم الطلابي والعمل الدعوي، وعمل بشكل فاعل ضمن اللجنة الفصائلية داخل السجون، ما تطلب تواصلًا مستمرًا مع مختلف الفصائل الفلسطينية، فضلًا عن دوره التنسيقي بين القيادتين التنظيمية والعسكرية لحماس خلال توليه رئاستها في غزة، والمسؤوليات الإدارية والاجتماعية التي فرضها هذا الدور. 

على مستوى العلاقة مع الفصائل، يقول عرابي، كان السنوار محوريًا في التوصل لاتفاق القاهرة للمصالحة عام 2017، مبديًا قدرًا عاليًا من المرونة والبراغماتية في إدارة العلاقة مع السلطة الفلسطينية، وصلت حد الاستعداد العملي للتخلي عن إدارة القطاع، شرط عدم المساس بسلاح المقاومة. ولعل الأهم هو دوره في رفع التنسيق بين الأجنحة العسكرية للفصائل، وصولًا إلى تطوير الغرفة المشتركة التي «حاولت أن تنظم العمل المقاوم داخل القطاع، بحيث لا تصادر حماس العمل المقاوم ولا تحتكره، وتسمح لجميع قوى المقاومة داخل القطاع بتطوير عملها». 

تضيف أندوني أن السنوار يحظى بقبول واسع بين الفصائل الفلسطينية وليس لديه تعصب فصائلي، خاصة في أوقات المعركة. فهو من القيادات التي تعترف بنضالات غيره وتعتبر نضال حماس امتدادًا لنضالات الشعب الفلسطيني. لذا، فإنه «يمكن أن يكون صمام أمان» على المستوى الداخلي.

صورة السنوار كقيادي «متصلب» أثارت الكثير من الأسئلة حول مستقبل مفاوضات وقف إطلاق النار. سعت الحركة على لسان حمدان إلى التأكيد على أن السنوار «لم يكن بعيدًا عن كل عملية التفاوض، بل كان حاضرًا في تفاصيلها»، كقائد للحركة في غزة، وأن حماس لم تغلق الباب أمام المفاوضات.

لكن اختيار السنوار مع ذلك يرسل برسالة مفادها «إنه آن الأوان للخروج من نفق المفاوضات العبثية»، بحسب الرنتاوي، وأن المحاولات الإسرائيلية لكسب الوقت والتلاعب بشروط التفاوض لم تعد مقبولة. «إسرائيل قتلت إسماعيل هنية الذي قُدم بوصفه رجل الحوار والاعتدال الدافع باتجاه الوصول لاتفاق وقف إطلاق نار في قطاع غزة.. حماس قالت لهم: قتلتم المفاوض، فجئناكم بالمقاتل». 

في هذا الإطار، يمكن قراءة اختيار السنوار أيضًا بوصفه محاولة للحد من تأثير الضغوط العربية على الحركة في ملف التفاوض. هذا ما يعبر عنه تأكيد حمدان على أن الحركة قبلت في أيار الماضي المبادرة التي قدمها الوسطاء العرب، لكن نتنياهو هو من يستمر بالمماطلة فيها. «ليس المطلوب أن تقدم حماس خطوة إلى الأمام. لقد قدمت حماس كل ما هو ممكن من أجل وقف العدوان على شعبها سواء في الميدان أو في التفاوض».

في ظل فشل الوساطات في دفع «إسرائيل» لقبول أي من التسويات المعروضة، باتت حماس تدرك أكثر من أي وقت مضى أن دول وقوى المقاومة في الإقليم هي وحدها من يمكن أن تشكل رافعة لها، كما يقول الرنتاوي. «الدبلوماسية العربية لم تنجح لا في إدخال مساعدات، ولا في رفع حصار، ولا في تهدئة، ولا في وقف إطلاق نار. 10 أشهر كانت فرصة أكثر من كافية لاختبار كل هذه الطرق التي لم تفض إلى نتيجة»، يضيف الرنتاوي. بالتالي، فإن الرهان الوحيد الآن هو على قدرة هذه الجبهات على خلق «لحظة حافة الهاوية»، الكفيلة باستثارة تدخلات دبلوماسية مختلفة، تنجح فيما عجزت عنه سابقاتها، «لأن اغتيال هنية وضع الإقليم أمام خيارين: إما انفجار كبير وإما انفراج كبير؛ انفراج يبدأ من غزة وليس من أي مكان آخر».

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية