منذ عام 1999، يدير أعضاء كيبوتس «مروم هغولان» في الجولان السوري المحتل «أعلى مقهى في الدولة العبرية»، الذي يرتفع 1160 مترًا فوق مستوى سطح البحر. أقيم «كوفي عنان»[1] أو مقهى السحاب على تل العرام الذي يشكل نقطة تطلّ على سوريا ولبنان وفلسطين، ووجهة سياحية يزورها آلاف السيّاح، وسياسيون من أنحاء العالم، من بينهم جورج بوش ووزيرة خارجيته مادلين أولبرايت. لا يقدم المقهى للزوار القهوة ووجبات الطعام في قلب المناظر الطبيعية الخلابة فحسب، بل تجربة سياحية كاملة تشمل التجول في المتحف الفني المجاور، وزيارة برج المراقبة ومرصد التل العسكري، والمرور بساحة تخلّد ذكرى قتلى الجيش الإسرائيلي.
نهاية آذار الماضي، أعلن المقهى عن إغلاقه الدائم «لأن الضربة الاقتصادية التي تلقّاها منذ السابع من أكتوبر لم تترك خيارًا آخر»، بحسب المدير التنفيذي للسياحة في الكيبوتس. صنفت «إسرائيل» المنطقة الجبلية التي يقع فيها المقهى بأنها منطقة عسكرية مغلقة بعد أن أصبحت صواريخ حزب الله القادمة من لبنان تتخلل إطلالة مقهى السحاب. هذا المقهى الشهير هو واحد من المشاريع السياحية الكثيرة التي أغلقت إلى الأبد أو ستغلق تباعًا في «إسرائيل» منذ تشرين الأول الماضي. فكيف أثرت الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة على قطاع السياحة؟ وما الأزمات التي خلقها هذا التراجع في معدلات السياحة الأجنبية والداخلية؟
نهاية موسم استثنائي
أدركت الحركة الصهيونية مبكرًا أهمية السياحة بوصفها قطاعًا تتجاوز أهميته التنمية الاقتصادية، حيث صمم اليهودي النمساوي فرانز كراوس الملصق الشهير «Visit Palestine» عام 1936 لدعوة الجماعات الصهيونية والمسيحية الإنجيلية المؤيدة لـ«إسرائيل» لزيارة الأراضي المقدسة.[2] تعاملت الوكالة اليهودية مع السياحة كأداة سياسية لتعزيز الروابط العالمية بين الكيانات وتشجيع الهجرة لدعم الاستيطان الصهيوني وتقديم سردية استعمارية تحل مكان سردية الفلسطينيين وتاريخهم.
وبعد إعلان الدولة، أولت الوزارات الإسرائيلية اهتمامًا خاصًا بالسياحة؛ منذ عام 1948 عندما رفع الاحتلال العلم الإسرائيلي على دائرة الآثار العامة التي أسسها الانتداب البريطاني عام 1920 لترميم الآثار والبحث عنها، حتى تخصيص ملايين الدولارات لدعم مشاريع السياحة الريفية عام 2022. تعتبر السياحة اليوم واحدة من أربعة قطاعات اقتصادية مركزية في «إسرائيل»، إذ تشكل حوالي 3% من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، وتشغّل حوالي 3.5% من إجمالي العمالة. كما يقدر مجموع الوظائف السياحية المباشرة وغير المباشرة التي يؤمنها هذا القطاع بنحو 230 ألف وظيفة، ما يزيد قليلًا عن 6% من إجمالي العمالة.
«كان عام 2023 هو العام الذي تعافينا فيه من كوفيد، وكان من المفترض أن يكون العام الأكثر نجاحًا في تاريخ إسرائيل .. لقد قُضي على السياحة في 7 أكتوبر».
تتجاوز المساهمة الشاملة للسياحة في اقتصاد «إسرائيل» هذه الأرقام، إذ يمتلك القطاع تأثيرات إيجابية على قطاعات أخرى، مثل قطاع النقل والمواصلات والتجارة وحركة الأسواق والعملات. وجدت دراسات أن مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي ترتفع إلى 7% عندما تؤخذ النتائج غير المباشرة في الحسبان. خلال عام 2023، كانت السياحة في «إسرائيل» تشهد عامًا قياسيًا مع تحقيق معدلات نمو وتعاف كبيرة بعد الجائحة، إذ أعيد فتح «إسرائيل» أمام السياح في كانون الثاني 2022. ووفقًا لوزارة السياحة الإسرائيلية، دخل «إسرائيل» ما يزيد عن ثلاثة ملايين سائح في الفترة من كانون الثاني حتى تشرين الأول عام 2023، مما أدى إلى ضخ 4.85 مليارات دولار في الاقتصاد الإسرائيلي.
في غضون أيام من بدء الحرب، ألغت العديد من شركات الطيران رحلاتها من وإلى «إسرائيل» بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة. كما نصحت الحكومات في جميع أنحاء العالم مواطنيها بعدم السفر إلى هناك ولم تعد حزم تأمين السفر التقليدية تشمل أيضًا تغطية للأشخاص الذين يسافرون إلى المنطقة. وبحسب صحيفة معاريف، فإن 45 شركة طيران فقط تعمل الآن في «إسرائيل» من أصل 250 شركة كانت تعمل قبل الحرب، في حين تدير شركة العال الإسرائيلية أكثر من 70% من الرحلات الجوية المحدودة المتبقية، والتي انطلق معظمها لجلب جنود الاحتياط المدعوين للخدمة العسكرية.
بحسب مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، زار حوالي 180 ألف سائح «إسرائيل» في الربع الرابع من عام 2023، مقارنة بـ930 ألف سائح في الربع الرابع من عام 2022، أي بانخفاض بنسبة 81.5%. يقول بيني ليفي، نائب رئيس المبيعات والتسويق في سلسلة الفنادق الإسرائيلية «كان عام 2023 هو العام الذي تعافينا فيه من كوفيد، وكان من المفترض أن يكون العام الأكثر نجاحًا في تاريخ إسرائيل .. لقد قُضي على السياحة في 7 أكتوبر».
إلى جانب الانخفاض الحاد في تدفقات السياح فيما وُصف[3] بـ«عزلة مماثلة لتلك التي تعيشها كوريا الشمالية»، أغلقت «إسرائيل» المواقع التاريخية والمتنزهات الوطنية والمحميات الطبيعية والشواطئ والمعالم السياحية وخطوط الرحلات البحرية، ما أدى لانخفاض معدلات السياحة الداخلية أيضًا. وفي أكبر مواسم السياحة الدينية بالنسبة لـ«إسرائيل»، كانت القدس والناصرة، أبرز الوجهات التي يرتادها السياح اليهود والحجاج المسيحيون، فارغة بالكامل: «الشوارع مدينة أشباح، المحلات التجارية لم تفتح والجميع في حالة من الصدمة والتوتر»، كما يقول مدير إحدى وكالات السياحة.
عن الأزمات التي خلقها انهيار السياحة
تصف التقارير العبرية حالة قطاع السياحة الإسرائيلي اليوم بالانهيار خصوصًا في مناطق الجليل والشمال التي لم تعد تستقبل أي سياح خارجيين أو زوار محليين، كنتيجة مباشرة لتراجع الرحلات الجوية ونزوح 80 ألف مستوطن (من أصل 250 ألف نزحوا من كل المناطق) بتوجيه من الجيش والحكومة أو بمبادرة منهم، عدا عن استدعاء أكثر من ثلاثة آلاف من العمال في قطاع الفندقة والضيافة للخدمة العسكرية. دفع هذا الواقع الآلاف من الشركات والمشاريع والمرافق السياحية التي تقدم أنشطة التجديف البحري ومسارات الطبيعة والرحلات الجماعية في المناطق الشمالية إلى التوقف عن العمل.
استجابة لذلك، أطلقت وزارة المالية في تشرين الثاني الماضي حزمة تعويضات الحرب لمساعدة الشركات، بما فيها السياحية، على تغطية جزءًا من النفقات الجارية والرواتب. تغطي الحزمة تعويض الشركات التي عانت من أضرار غير مباشرة بسبب الحرب المستمرة وفق مجموعة من الشروط حول حجم المبيعات ونسبة الانخفاض في الدخل وغيرها، إذ يحق للشركات أن تختار مسارًا من عدة خيارات يتيحها الموقع للحصول على نسب محددة من التعويض المستحق بحسب القطاع والموقع الجغرافي.
أثارت هذه الحزمة موجة من الجدل والانتقادات حول جوهر التعويضات بوصفها حلول جزئية ومرحلية لا تذهب أبعد من ذلك في حل المشاكل الهيكلية، أو بسبب شروط استحقاق هذه التعويضات التي اعتمدت على خرائط الجيش الإسرائيلي لتحديد مناطق القتال (7 كم من قطاع غزة و9 كم من الحدود الشمالية) التي تغطيها التعويضات، فيما لا تحظى الشركات خارج هذا النطاق ولو بكيلومتر واحد على أية تعويضات. رصدت وسائل الإعلام شكاوى عشرات الشركات السياحية التي تقع خارج هذه المحددات الجغرافية لكنها تضررت من الحرب، مطالبين الحكومة بسن خطة تعويض شاملة على مستوى البلاد، مثل تلك التي أعلنتها الحكومة في جائحة كورونا.
قُدرت قيمة التعويضات حتى حزيران الماضي بنحو 300 مليون دولار حصلت عليها أكثر من 33 ألف شركة ومنشأة، في حين اعتُبرت آلاف الشركات الصغيرة غير مستحقة لهذا التعويض حتى بعد تمديد الحزمة وإقرار بعض التعديلات الجديدة. في آخر حزمة أطلقتها الحكومة في نيسان الماضي، اتسع نطاق التعويضات ليشمل الشركات العاملة في إيلات وقرب البحر الميت وفقًا للصيغة التي تم تعويض الشركات بها في الأشهر السابقة.
ورغم أن معدلات السياحة في إيلات والبحر الميت ليست أفضل من نظيراتها في الشمال، إلا أن أزمة الفنادق في الجنوب أخذت ابعادًا مختلفة. فبينما أغلقت معظم الفنادق في مناطق الجليل والجولان وحيفا والناصرة وطبريا، امتلأت الفنادق في البحر الميت وإيلات بالنازحين. تتكفل الحكومة الاسرائيلية بتقديم خدمات الإقامة للنازحين الذين أُمروا بالإخلاء من مستوطناتهم الواقعة في مناطق أصبحت عسكرية بالكامل أو محظورة ما لم يسمح لهم الجيش بالعودة، مقابل أن تتلقى الفنادق مستحقاتها المالية من وزارة السياحة حسب عدد النازحين ومدد استضافتهم.
كانت إيلات لسنوات طويلة محركًا رئيسيًا للاقتصاد الإسرائيلي، حيث تجتذب حوالي 250 ألف سائح أجنبي شهريًا، لكنها اليوم تمتلئ بالنازحين الذين شغلوا أماكن السياح. خلق هذا المشهد حالة من الفوضى مع قيام بعض المستوطنين بالإخلاء من دون أوامر حكومية، والعجز في غرف الفنادق التي تلبّي معايير استضافة الأشخاص والعائلات النازحة، وتصاعُد مطالب أصحاب الفنادق بتسديد دفعاتهم، وقلّة العدد اللازم من الموظّفين لتشغيل الفنادق، والوضع الأمني الذي خلقته استهدافات المقاومة الإسلامية في العراق وجماعة أنصار الله في اليمن لميناء ومنتجعات إيلات. وحتى عندما أجلت الحكومة بعض هؤلاء النازحين إلى شقق سكنية، لم تستعد الفنادق زوارها، بل أن بعضها امتنع عن التبليغ عن مغادرة النازحين حتى يستمروا في تلقي الدفعات المالية والدعم الحكومي.
يعتقد الخبراء الإسرائيليون إن قطاع السياحة لن يعود أبدًا كما كان عليه وأن الأزمات المرتبطة به قد تستمر لسنوات، خصوصًا وأن نهاية الحرب لا تلوح في الأفق القريب. يقول ميشيل سترافزينسكي، الخبير الاقتصادي في الجامعة العبرية في القدس، إن الحروب الكبرى السابقة التي خاضتها «إسرائيل» – عام 2006 ضد حزب الله وعام 2014 ضد حماس – استمرت أقل من شهرين وكان تأثيرها الاقتصادي محدودًا على السياحة والقطاعات الأخرى. ولذلك، فإن التوقعات من معدلات السياحة أصبحت منخفضة في ظل استمرار التراجع حتى أيار الماضي رغم التحسن الطفيف[4] في أعداد الزوار جراء استئناف بعض الرحلات الجوية.
كجزء من جهودها لتشجيع السياحة، قدمت الحكومة الإسرائيلية تخفيضات على الرحلات الجوية لمدينة إيلات بقيمة 10 ملايين شيكل (حوالي مليوني دولار). وحاولت وزارة السياحة توظيف المرشدين السياحيين المستقلين في المدارس لكن هذا لم ينجح حتى الآن. وخفّض بنك «إسرائيل» المركزي أسعار الفائدة على قروض المشاريع الصغيرة، وأطلقت البلديات حملات إعلانية تشجع الإسرائيليين على الاستمتاع بالهواء والاسترخاء والتنفس، إلا أن الحديث عن دعوات النقاهة والسياحة والاستمتاع في ظل الحرب كان مثارًا للسخرية لأن «الأمر أشبه باستثمار الأموال في الإعلان لمتجر مغلق».
لم تكن دعوات الاستثمار في «سياحة الحرب» مجدية أو واقعية في النقاش حول تقليص خسائر السياحة. فبينما دعا البعض للاهتمام بالسياح الذين يأتون بشكل خاص إلى مناطق القتال والنزاع بحثًا عن الانبهار ورغبةً في توثيق مشاهد وأحداث مفصلية، اعتبر آخرون أن هذه السياحة ستكون شاهدة على أكاذيب «إسرائيل» والنصر المزيف الذي تبيعه لمواطنيها وللعالم. في المقابل، ما زالت الشركات السياحية تطالب بتأمين حزم تعويض ذات حماية اجتماعية طويلة الأمد، بدلًا من المساعدات المادية المحدودة في ظل نفاد مدخراتهم الاحتياطية وخسارتهم القدرة على العمل خلال الأشهر القادمة. بالنسبة لهم، فإن توقف الحرب لن يكون كفيلًا باستعادة زخم السياحة الذي كانت عليه، إذ سيكون من الصعب عليهم إقناع جمهور السياح بالسردية الصهيونية بينما هم يشاهدون أشلاء الفلسطينيين على شاشاتهم.
-
الهوامش
[1] اسم أحد الأمناء العامين السابقين للأمم المتحدة والذين عملوا على شرعنة «إسرائيل» دوليًا وشاركوا في مفاوضات السلام بينها وبين الدول العربية.
[2] حيث تؤطر إحدى الأشجار المعمّرة إطلالة لقبة الصخرة في القدس.
[3] بحسب يوسي فتال، الرئيس التنفيذي لمكتب منظمي السياحة الإسرائيلي.
[4] أفاد مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي عن ارتفاع في عدد السائحين إلى 79,500 في آذار 2024 من 68,100 في شباط، على الرغم من أن هذا كان أقل بكثير من 375,600 إدخال في آذار 2023. وفي الفترة من كانون الثاني إلى آذار 2024، بلغ إجمالي عدد الزوار 206,700، وهو انخفاض حاد من 966,200 سائح خلال نفس الفترة من عام 2023.