نوستالجيا النهب: الشعبوية وأوهام الرخاء في الغرب

الأربعاء 05 آذار 2025
جندي يحرس الحدود البولندية. تصوير: كاميل جاسينسكي. أ ف ب.

نشر هذا المقال بالإنجليزية في منصة بوست نيوليبراليزم تموز الفائت.

ثمة صلة وثيقة بين صعود الشعبوية في الديمقراطيات الغربية وبين تدهور الصفقة الإمبريالية؛ وهو بالتالي مُطالبة خفيّة باستعادتها. لقد ازدهرت الديمقراطيات الغنية عبر التحالف بين رأس المال والعمال لتحقيق الرخاء، الأمر الذي حصل عبر الإخضاع الإمبريالي للشعوب المستعمَرَة. لم يقضِ النظام ما بعد الاستعماري على إدمان الديمقراطيات الغربية على الإمبريالية، بل لم يؤدّ إلّا لظهور أشكال جديدة من الإخضاع والاستخراج والاستغلال. ومن ثَمّ فإن الصعود المعاصِر للشعبوية العنصرية يعد بمثابة شكوى من تدهور النظام ما بعد الاستعماري وأفول الحقبة التوزيعية التي نعمت بها الجماهير الغربية على يد الرأسمالية العولمية. إن كان لعالم جديد ديمقراطي حقيقي أن يولد على أنقاض النيوليبرالية فإن المجتمعات الغربية تحتاج لأن تُطهِّر نفسها من عاداتها الإمبريالية عميقة الرسوخ وأن تُجابِه الرأسمالية محليًا وعالميًا.

في السادس من يناير 2021، هاجم حشدٌ مبنى الكونجرس الأمريكي بهدف تعليق التصديق على فوز بايدن بالانتخابات الرئاسية الأمريكية. وبعد ثلاث سنوات، في 26 آذار 2024، انهار جسر فرانسيس سكوت كي في [ولاية ماريلند الأمريكية] بعد أن اصطدمت به سفينة شحن تحمل 4700 حاوية وطاقمًا مكوّنًا من 21 فردًا من الهند وسريلانكا. راح ضحية الحادث خمسة عمال من المكسيك وغواتيمالا والسلفادور وهندوراس كانوا يعملون على إصلاح الجسر، بينما ظل العديد من أفراد الطاقم محتجزين في السفينة لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا بعد الحادث. وبينما تبدو هذه الأحداث غير مترابطة، فإن التفكير فيها معًا يمكن أن يُسلّط الضوء على الروابط بين السياسة والرأسمالية التي تشكل جوهر السخط المعاصر وجاذبية السياسة اليمينية المتطرفة للمواطنين في العالم الغني.

اهتاج حشد السادس من يناير استجابةً للخطاب العنصري الذي ألقاه الرئيس ترامب من البيت الأبيض في وقت مبكر من اليوم نفسه. أشار هذا الخطاب، الذي أُطلق فيه شعار «أوقفوا السرقة» (Stop the Steal) إلى ولايتي أريزونا وجورجيا بوصفهما مواقع لتزوير انتخابي محتمل، مُلمّحًا لدور لعبته تنظيمات نشطة تضم اللاتينيين والسود في تأمين أصوات هذه الولايات لصالح بايدن. يتوازى هذا الخطاب العدائي مع حقيقة أن هذه المجموعات المتهمة هي من تبقي استمرارية حياة الأمريكيين، وبشكل مادي للغاية. لقد بدا هذا جليًا في حادثة الجسر عندما تقاطعت بشكل مأساوي مسارات حياة العمال اللاتينيين والجنوب آسيويين المستغلين والمهمّشين.

أحداث السادس من يناير وأحداث السادس والعشرين من آذار مجتمعة تثبت أن الجماعات الموصومة عرقيًا هي أهداف للإقصاء السياسي والاستغلال المفرط. حيث من خلال استراتيجية «اسحق واحصد» يجري تشويه صورة هؤلاء العمال في الخطاب السياسي، بينما يتم تجنيدهم للحفاظ على سير الحياة اليومية. وبشكل أكثر تحديدًا، فإن ظروف عملهم ومعيشتهم في الشمال العالمي كمهاجرين وفي الجنوب العالمي كعمال تقوم على هذيْن العاملين المتلازمين: تهميشهم السياسي، الذي يُعد ضروريًا لاستغلالهم الاقتصادي. وهذه السمات مجتمعة تدعم المجتمعات في الشمال العالمي.

ليست مصادفة أن تزدهر هيستيريا اليمين المتطرف المعادية للمهاجرين بينما تتفاقم الهشاشة الاقتصادية في العالم الغني، وفي الوقت نفسه تتصاعد الصراعات والفقر في العالم ما بعد الاستعماري، مما يدفع بالمزيد من البشر إلى الهجرة. ورغم انتهاء الاستعمار -رسميًا- خلال القرن العشرين، إلّا أن النظام ما بعد الاستعماري حافظ على هيمنة استغلالية للمركز -المتمثل بالديمقراطيات الليبرالية- في الشمال العالمي للأطراف في دول الجنوب المستقلّة حديثًا.

لقد مكنت ديناميات الإخضاع السياسي العنصري واستخراج الموارد واستغلال العمالة، الديمقراطيات الغربية من تحقيق الرخاء في ظلّ النظامين الاستعماري وما بعد الاستعماري. ومع تداعي الرخاء النسبي الذي تمتّع به العمّال في العالم الغني، لم يوجه القلق الاجتماعي ضد من تضاعفت ثرواتهم بل ضد المجموعات التي كان من المفترض أن تظل خاضعة وفقًا للصفقة ما بعد الاستعمارية. إذا كان لعالم أقل ظلمًا أن يولد بعد زوال النيوليبرالية، فيتعين على الديمقراطيات إعادة التفكير في نضالها من أجل العدالة باعتباره نضالًا لا يتطلب إخضاع الآخرين كما في النظام الذي ساد في ظل الاستعمار ويستمر حتى اليوم، وإنما نضالًا يعارض استغلال الآخرين الموصومين عرقيًا ويرفض نزع الصفة الإنسانية عنهم على مستوىً عالمي.

الوجه المظلم للديمقراطية الغربية في القرن العشرين

تشكّلت الديمقراطية الغربية عبر التمكين التدريجي للطبقة العاملة البيضاء، والذي تم في سياق الإمبراطورية في النصف الأول من القرن العشرين. وكما أزعم في كتابي الأخير «الديمقراطية والإمبراطورية»، فقد مُكّنت الطبقة العاملة البيضاء فقط بعد تخليها عن مطالبها الراديكالية المناهضة للرأسمالية وقبولها باتفاق يضمن تقاسم غنائم الإمبراطورية مع الرأسماليين. لعبت الدول دور الوسيط في هذا الاتفاق، حيث مارست النقابات ضغوطًا عليها للالتزام بأنظمة الرعاية الاجتماعية، والتي بلغت عصرها الذهبي في فترة ما بعد الحرب [العالمية]. ولا يمكن فهم سياسات العمل المنظم خلال هذه الفترة دون السياق الإمبراطوري.

لقد وفرت المستعمرات الاستيطانية، على سبيل المثال، ممرّ هروب للفقراء والعاطلين عن العمل، ومنعت الاضطرابات العمالية في العاصمة الإمبراطورية، وسهّلت الصعود الاجتماعي للعمال البيض الذين فرّوا من الفقر المدقع في إنجلترا الصناعية عبر تحوّلهم لمستوطنين في المستعمرات البريطانية، وهناك طالبوا بمنحهم كامل حقوقهم بينما سعوا في الوقت نفسه لتسوير الأراضي ومنع فرص العمل أمام الأجانب غير البيض الآخرين الذين يصلون إلى الأراضي نفسها.

لقد أثارت مسائل العمل والهجرة نقاشًا حادًا خلال هذه الفترة، على مستوى البيروقراطية الإمبراطورية البريطانية، وفي النهاية ظهرت أنظمة الهجرة التي تنظّمها الدولة (state-based immigration) ليس لتقييد دخول الأجانب، ولكن لاستيعاب نظام العمل الإمبراطوري والتحكم فيه. ورغم تركيزها الشكلي على الأجانب، لم تنشأ أنظمة الهجرة لاستبعاد الأجانب، بل لتأسيس نظام تراتبيّ. لم يكن الهدف من سياسات الهجرة استبعاد الأجانب البيض بل دمجهم سياسيًا، وفي الوقت نفسه تلبية مطالبهم بحكم ذاتي يشمل الحق في تقييد هجرة الصينيين والجنوب آسيويين إلى أستراليا وجنوب إفريقيا وكندا. وفي الحالات التي فشل فيها تطبيق ذلك ناضلت الحركات الشعبية لحصرهم قانونيًا في أكثر الوظائف صعوبة، مما جعلهم مهيئين للاستغلال.[1] وكانت النقاشات في الولايات المتحدة مماثلة، وبالتالي أفسح منع الصينيين من العمل المجالَ للاعتماد على العمالة المكسيكية، التي تضمّنت «مزاياها»، على ما يبدو، قدرتها الجسدية على تحمّل العمل الشاق في الحقول، وسهولة إعادتها أو ترحيلها إلى المكسيك ما إن تنتهي الحاجة لها. لقد مكّن نظام الهجرة التراتبي عرقيًا من السيطرة على العمالة، ووفّر عمالة رخيصة قابلة للاستغلال حيثما كانت هناك حاجة لها. في حين منع عن معظمها الحقوق السياسية.

كان لتقسيم العمل بين المهاجرين البيض وغير البيض في المستعمرات الاستيطانية نظير في التقسيم الدوليّ للعمل، حيث يتكفل العمال الموصومون عرقيًا في الخارج بتوفير الغذاء والمواد الخام لإطعام المواطنين والآلات في العالم الصناعي.[2] لم يتغير هذا النظام المزدوج للهجرة والتقسيم العنصري العالمي للعمل بشكل جوهري في القرن العشرين بالنسبة للمجموعات التي أضفي عليها طابع الآخرية العرقية (على النقيض من يسر الحصول على تصنيف البياض بالنسبة للأوروبيين الجنوبيين والشرقيين). ولا يزال هذا التقسيم العنصري واضحًا في التمثيل المفرط للمهاجرين غير البيض الذين يشغلون الوظائف المؤقتة ويعملون في الزراعة والبناء في الغرب، وكذلك في الاقتصادات الاستخراجية الاستغلالية المعاصرة والاقتصادات المعتمدة على التصدير المبنيّ على كدح العمال ذوي الأجور المتدنية في مصانع الملابس أو التكنولوجيا الفائقة.

تاريخيًا، خاضت بلدان الجنوب العالمي حروبًا مناهضة للاستعمار وقاومت فرض نماذج التنمية المناهضة للديمقراطية. ولكن في النهاية فُرِضت هذه النماذج من الأنظمة الاستبدادية المدعومة من الغرب، ونفّذتها النخب المحلية المتعاونة الملتزمة ببرامج فرض الاستقرار. وعُزّزت ديناميكيات القمع هذه لاحقًا عبر سياسات التكيّف الهيكلي في ظل أجندة «إجماع واشنطن» التي نفذتها الأنظمة النيوليبرالية أو الأنظمة الديمقراطية ذات النزعة التنموية الجديدة.

إن تاريخ الديمقراطية الغربية هو أيضًا تاريخ الإمبراطورية التي شكلت العالم لخدمة جزيرة الرخاء هذه، حيث استلزم التحرر السياسي والاقتصادي للطبقة العاملة المحلية إعادة توزيع الموارد التي تم الاستيلاء عليها من خلال القوة والقمع، ممّا أدى لتدمير المجتمعات في الأراضي الخاضعة خدمة للتراكم الرأسمالي. ومن ثم، اتحد مواطنو هذه المشاريع الإمبريالية في ظل عاملين: الأول هو الشعور التملكي الذي نظم حكم الآخرين استبداديًا لاستخراج الموارد، والثاني هو العلاقات السياسية المتبادلة فيما بينهم. هذان العاملان فرضا إعادة توزيع الأرباح الناتجة عن استغلال الجنوب العالمي، وهو استغلال استند إلى ادعاء مواطني الديمقراطيات الغربية بحقهم في وضع قواعد التفاعل مع الجنوب العالمي. لقد أثار هذا النمط الإمبريالي من السياسات الديمقراطية، والذي أسميه «حق تقرير مصير النفس والآخرين»، مقاومة كبيرة في الخارج، وأجج الصراع عبر شن الحروب الاستعمارية مثل حرب فيتنام، وتسليح الجيوش الموالية للإمبريالية، ودعم الانقلابات على الأنظمة الاشتراكية مثل أربينز وأييندي. لقد زعزع نمط التدخل هذا استقرار تلك الدول لأنه عسكر الصراع الاجتماعي، سواء عبر تفضيل قمع الاحتجاجات الاجتماعية، أو [للمفارقة] المطالبات التقدمية بجعل البلدان «آمنة» للاستثمار، وبشكل خاص، من خلال معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية -مثل استهلاك المخدرات والاتجار بها- كما لو كانت قضايا أمنية.

انهيار الصفقة الإمبريالية ومعها الديمقراطية الغربية

لننتقل سريعًا إلى الحاضر ونضع في الاعتبار تفكك دول الرفاه وما وصفته ألبينا أزمانوفا بـ«وباء الهشاشة» (epidemic of precarity)، وهو «حالة من الضعف، وعجز متجذر ناتج عن التهديدات الاجتماعية للحياة … يتجلى في عدم القدرة على التأقلم بسبب التضارب بين المسؤوليات والسلطة». إن الصفقة الإمبريالية تنهار. ومن غير المستغرب -كما توقع ماركس في كتاباته عن العمالة الإنجليزية والأيرلندية– أن خضوع الطبقة العاملة البيضاء للإمبراطورية والرأسمالية زاد من قبضة الرأسمالية وأحدث نتائج عكسية إذ ردت الرأسمالية بالتنصل من الميثاق «الديمقراطي» المحلي. وبالتوازي مع ذلك، شهدنا تقديم اليمين المتطرّف الهجرة باعتبارها تهديدًا، وفي العديد من البلدان تم التعامل معها باعتبارها مشكلة أمنية عبر الطيف السياسي بأكمله. إن من ينجحون بالوصول إلى العالم الأنجلو أوروبي ليسوا إلا نسبة صغيرة من حركة نزوح حقيقية لأناس يفرّون من الفقر والحروب وتغير المناخ ويواجهون خطر الموت في مسارات معسكرة قبل الوصول إلى الحدود الأوروبية أو الأميركية بوقت طويل.

أو بعبارة أخرى إنهم يفرّون من ويلات الرأسمالية.

إن هذه الويلات هي الوجه الآخر للصفقة بين الرأسمالية والطبقة العاملة البيضاء. ذلك أن القدرة الدائمة على الوصول للموارد والعمالة المستغلّة في الجنوب العالمي تستلزم استخدامًا كبيرًا للقوة واستقطابًا ناجحًا للنخب العسكرية والمدنية المحلية الراغبة في حكم سكانها لتسهيل استخراج قوة العمل والموارد الطبيعية.

من المعروف أن الغالبية العظمى من السكان النازحين يظلون داخل بلدانهم الأصلية أو في البلدان المجاورة. أما من يغامرون بالتوجه نحو العالم الأنجلو أوروبي، فليس ثمة فرصة يسيرة أمامهم للفوز بظروف عمل كريمة عند الوصول. بل إن السيطرة الأمنية على الهجرة تخلق الظروف المثالية لاستضعاف المهاجرين غير المسجلين أو طالبي اللجوء الذين يحالفهم الحظ بعبور الحواجز الأمنية. يتضح هذا الوضع الاستغلالي في ارتفاع معدلات عمالة الأطفال غير المصحوبين بذويهم الذين يعبرون الحدود الجنوبية الغربية للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة.

هكذا، فإن أزمة ركيزتيْ الديمقراطية الإمبريالية الغربية (تقاسم رأس المال والطبقة العاملة لغنائم الإمبريالية، وحصار و«ترويض» السكان المُكَرَّسين للاستغلال لضمان الاستخراج الرأسمالي المستقر) قد أخرجت الديمقراطية الإمبريالية عن مسارها. يمكن أن يؤدي هذا لخلق حالة من القلق وربما الشعور بالتهديد، كما يوضح كتاب أزمانوفا «الرأسمالية على الحافة» بجلاء، لكن وجهة نظري هنا هي أن هذا القلق مرتبط بانهيار الصفقة الإمبريالية، والمطلب المطروح هو استعادتها. هذا يعني أن الجماهير المتذمّرة في الغرب لم ترَ في حالة الهشاشة سببًا يدفعها للمطالبة بإعادة التفكير في الرأسمالية، أو إعادة توجيه ارتباطاتها نحو حياة لا تقوم على استغلال الآخرين، بل دفعتها إلى إلقاء اللوم على المهاجرين واللاجئين. إن طرق النظر للعمالة المهاجرة والتي تصاحبها الكثير من الإثارة ترى أنهم مذنبون لتجاوزهم طرق تنقل العمالة التي تمليها الإمبراطورية مثل برامج استضافة العمالة المعتمدة أو طرق استغلال العمالة في الخارج. ما من جديد في الأمر، فالنمط المعاصر من الحكم القائم على مراقبة الكتل السكانية التي تحيا في ظل أوضاع لا نظامية ليس إلا تحديثًا للسخرة التعاقدية الإمبريالية وبرامج استضافة العمالة في فترة ما بعد الحرب. إنه تحديث بمعنى أنه ينتج -بوسائل أخرى- كتلًا سكانية قابلة للاستغلال بما يتماشى مع الشكل الذي طالبت به العواصم الإمبراطورية والطبقات العاملة الاستيطانية.

التخلص من إدمان الديمقراطية على الإمبريالية

يُظهِر هذا السرد التاريخي للديمقراطية الإمبريالية أن السياسات الغربية ونماذج التحرر لا تزال مدمنة على الإمبراطورية والرأسمالية ومحصورة فيهما. ومن خلال ذلك، فإنه يتحدى أيضًا الجهاز الأيديولوجي الذي يؤطر الهجرة باعتبارها مسألة تتعلق بحق الدول ذات السيادة في التحكم بحدودها. وبدلًا من ذلك يقدّم مؤسسات السيطرة على الهجرة كمعادل وظيفي لنظام عالمي للسيطرة على العمالة المصبوغة عرقيًا، والذي تديره الآن دول قومية ديمقراطية.

يسمح هذا التأطير المقترح للعلاقة بين الديمقراطية والسيطرة على الهجرة بتقييم تاريخيّ أفضل لكل من سياسات اليمين المتطرف المعاصرة واستجابات اليسار، بدلًا من الاستمرار في الاعتماد على التعليقات المعاصرة غير التاريخية التي تعتبر الهجرة شيئًا «يحدث» للمجتمعات. المتداول بين الباحثين أن الهجرة أقرب «لتدفق» آخر يأتي مع العولمة المدفوعة بالسوق ويثير رد فعل سلطوي أو يميني شعبوي. لكن هذا يثير تساؤلًا حول سبب أن ردة الفعل المناهضة للعولمة تتخذ طابعًا استبداديًا يمينيًا متطرفًا، وهو ما لا يمكن تفسيره إلّا من خلال الرواية التاريخية للديمقراطية الإمبريالية المقترحة ههنا. باختصار، الهجرة أمر محوري بالنسبة للأزمة، لأن نموّها هو أحد أعراض انتشار الصراعات والأزمات في الجنوب العالمي.[3] إن هذه الأزمات هي في حد ذاتها مؤشرات على عدم استقرار النظام القائم على الاستخراج الرأسمالي الناتج عن الاستغلال المفرط للمجتمعات والطبيعة. وهذا يشير إلى جانب الأنانية المتزايدة للنخب الرأسمالية حتى في مواجهة مواطنيهم، إلى انهيار الصفقة الإمبريالية بين رأس المال والعمالة داخل الديمقراطيات الغربية ويغذي نوستالجيا ماضٍ من «النظام» والرفاه المعزول (وبالتالي العنصريّ). الأمر المهم هو أن رد الفعل العنصري على الهجرة غير البيضاء، في حاضره كما في ماضيه، يغذي أنظمة أكثر عنفًا لتقييد الهجرة وللمراقبة، ممّا يحوّل العداء والعنف العنصري إلى وسائل للتراكم الرأسمالي والسيطرة على العمالة.

أو لنقل إن القيود المناهضة للمهاجرين هي عودة ثأرية للرأسمالية العنصرية الإمبريالية، تعتمد على العداء العنصري لخلق فرص للتراكم، ولكنّ عودتها هذه المرة ترفض في الأغلب منح الطبقات العاملة الغربية أجندة الرعاية الاجتماعية. إضافة لذلك، يسلّط هذا التشخيص المقترح الضوء على خطر عودة الأحزاب اليسارية إلى طابع الاشتراكية الإمبريالية الذي وسمها في أوائل القرن العشرين. على سبيل المثال قبل تمرير نظام يمنح الإقامة المؤقتة لأزواج المهاجرين غير المسجلين، أصدر الرئيس بايدن نظامًا يشبه التدابير التي وافق عليها ترامب، والتي عطلت طلبات اللجوء على الحدود عند وصولها لعدد محدد يوميًا.[4]

من ناحية أخرى، وضع رئيس الوزراء البريطاني المنتمي لحزب العمال كير ستارمر «الهجرة غير الشرعية» كأولوية قصوى لحكومته ولخص وعده بعبارة «لا مزيد من الهجرة» من خلال استراتيجية من شأنها استخدام «تكتيكات مكافحة الإرهاب» «لسحق العصابات» التي تُسهّل عبور القناة الإنجليزية. أما الجبهة الشعبية الجديدة في فرنسا فتبدي تباينًا في مسألة الترحيب باللاجئين، مع عقد تشريعي يقترح مراجعة سياسات اللجوء الأوروبية والفرنسية، وإنشاء وكالة لإنقاذ [اللاجئين في البحر والبرّ]، وتوسيع حقوق العمل والمواطنة لطالبي اللجوء. وبصرف النظر عن تراخيص العمل هذه، ليس (الترحيب) المصطبغ بصبغة إنسانوية كافيًا إن لم يرافقه برنامج مناهض للرأسمالية أكثر حسمًا يعالج عملية التراكم العالمية، بدلًا من مجرد حماية مجموعات سكانية مما تعرضت له من ظروف قاسية. ومن ثم، فإن التحدي الذي يواجه اليسار الغربي في هذه المرحلة من الأزمة هو العودة إلى مشروعه المناهض للرأسمالية وعولمته، بدلًا من الاكتفاء بإدارة حصة متناقِصة من الأموال العامة محليًا، بينما يقف (في أحسن الأحوال) متفرجًا على التدمير الذي تسببه الرأسمالية. وفي أسوأ الأحوال، تواصل الحكومات اليسارية في الدول الغربية تجنيد نفوذها السياسي وقوتها العسكرية لدعم وتوسيع نفوذ شركاتها في عملية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تعزيز قوة الفاعلين الرأسماليين.

إن السياسة اليسارية البديلة هي سياسة ملتزمة بالعدالة العمالية الشاملة، حيث لا تُحقّق المكاسب للمواطنين الغربيين على حساب المهاجرين والعمال في الجنوب العالمي، بل عبر الهجوم المباشر على قوة الشركات والنخب الثرية. إن مشروعات مثل ضمان الوظيفة، والحد الأدنى للأجور 17 دولارًا، وأسبوع العمل المكون من أربعة أيام، هي أمثلة ممتازة للمشروعات الهادفة لضمان رفاه العمال. ولكن هذه المقترحات لا بد وأن تكون عالمية، مثل الاقتراح المعتدل نسبيًا بفرض ضريبة بنسبة 2% على الثروة. إن التعامل مع الهجرة التي تغذيها الصراعات ونقص الفرص يعني التعامل مع حقيقة مفادها أن نقص الفرص في الجنوب العالمي هو من تصميم رأسماليّ مقصود. هذا ما قاله منظرو التبعية، وما تقوله نماذج النمو المعتمدة على التصدير الذي تقوده العمالة الرخيصة وغير المحمية. الدرس الآخر المستفاد من منظري التبعية وغيرهم من النقاد هو أن الرأسمالية نظام عالمي،[5] وإذا كانت هذه هي الحال، فإن المشروع اليساري المناهض للرأسمالية الذي لا يتحدى التقسيم الدولي للعمل لا يرقى إلى مستوى تحدي الرأسمالية. لكن مغبّة غض المشروعات اليسارية التي تركز على الداخل طرفها عن المجال العالمي للرأسمالية (أو تغذيته من خلال المنظمات الدولية والسياسة الخارجية) ترتدّ عليها دومًا.

ذلك أن المشروعات المناوئة للرأسمالية ذات التوجه المحلي ليست محايدة، وذلك بمعنىين. أولًا عبر سماحها بالتراكم الرأسمالي غير المقيد في الخارج مما يعزّز النخب الرأسمالية كفاعل محلي، وثانيًا لأنها تحمي دوائرها الانتخابية وبالتالي عمالها فقط من خلال السماح بالتربح عبر الإفراط في استغلال الآخر العرقي. وبالتالي فإن الخطر الحقيقي المتمثل في تبني الأحزاب اليسارية للتدابير المناهضة للهجرة لا يتلخص في أن هذا يدفعها إلى مسار اليمين المتطرف نحو مشاريع تقييد الهجرة فحسب، بل يعني فشلها في تحدي الرأسمالية بشكل حقيقي. قد تكون عسكرة الحدود ورشوة دول العبور لقمع الهجرة أقل كلفة على المدى القريب، ولكن في غياب تحسّن كبير في ظروف البلدان الطاردة والمستقبلة على حد سواء، ستستمرّ الهجرة ولن تكتسب الرأسمالية كمشروع عالمي ومحلي إلّا مزيدًا من القوة.

مؤخرًا، حاول بعض المعلقين معالجة هذه الحقيقة، لكن بدلًا من إرجاع التفاوتات الهائلة في الأجور عالميًا إلى التاريخ الطويل لنقل الثروة من الأطراف إلى دول المركز، اقترحوا أن هذا «يخلق أكبر فرصة للتسوية على هذا الكوكب»، والتي يمكن تحقيقها من خلال برامج استضافة العمالة المؤقتة والتي تجري إدارتها عبر «الهويات الرقمية الآمنة» والتدابير العقابية على الشركات التي تستخدم العمالة المؤقتة بالمخالفة لتلك القوانين. والحق إن تقسيم العمل الدولي المفروض بعنف والذي تنتج عنه عدم المساواة، إلى جانب الحدود المعسكرة والعداء العنصري يخلق فرصًا للتسوية، ويالها من تسوية! إن تقديم فرص العمل منخفضة الأجر من خلال «التنقل المؤقت للعمالة المحدود» لمعالجة الأزمة الديموغرافية في الغرب مع استخدام التكنولوجيا الرقمية والعقاب للتأكد من حماية المكاسب الإمبريالية هو تعريف لعبارة «زاد الطين بلةً». وإضافة لذلك فإن هذا النهج ليس «حلًا جديدًا»، وإنما تمكينًا للبنية ذاتها للنظام الحالي للعمالة المهاجرة غير النظامية والخاضعة للمراقبة المفرطة.

باختصار، تكشف الشعبية المتزايدة للحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا والولايات المتحدة عن رغبة المواطنين في اختفاء الرعايا غير البيض أو إبعادهم إلى هوامش أبعد من المجتمع. وهذا تكرار لخطأ قديم: تغض الشعوب في البلدان الغنية الطرف عن الاستغلال المكثف للرأسمالية للعمال من الموصومين عرقيًا، بينما تأمل في الاستيلاء على جزء أكبر من هذه الغنائم الإمبريالية. هذا الدافع ليس غريبًا على اليسار، الذي غالبًا ما كان توجهه التحرري يتعلق بشكل ضيق بالعمالة المحلية، الذين يُفترض أن مظالمهم منفصلة عن الأمراض العالمية التي تنتجها الرأسمالية في الخارج. لكن هذا مضلل. ليس ثمة طريق لليسار للمضي قدمًا دون إعادة صياغة تحديات الرأسمالية باعتبارها تحديات عالمية. فبينما نشهد، في وقت كتابة هذا المقال، تقدم اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة، من الضروري أن نفهم انتفاضة الكابيتول في السادس من يناير إلى جانب انهيار جسر كي بعد ثلاث سنوات كأعراض للتوجه الإمبريالي المستمرّ للديمقراطيات الغربية.

يتعين علينا أن نناضل ضد الديناميكيات الرأسمالية والإمبريالية التي أخذت عمال الطرق اللاتينيين والجنوب آسيويين إلى تصادم عنيف في بالتيمور، الحادث الذي يكشف عن الطرق الخفية التي تدعم بها العمالة المستغلة والموصومة عرقيًا الديمقراطيات الغربية. إن الكراهية العنصرية تجاه المجموعات العرقية التي تمثلها انتفاضة السادس من يناير تخبرنا بشيء مهم عن طبيعة السياسات الديمقراطية التي نعيش في ظلها. ذلك أن إعلاء المواطنين البيض الذي يعانون من المظلومية والذين يشعرون بتهديد مفترض تجاه التقدم السياسي الذي يحققه الموصومون عرقيًا، يساهم في استمرار تقليد انضمام المواطنين البيض إلى المشاريع الرأسمالية كشركاء صغار مع إبقاء العمالة الموصومة عرقيًا في جميع أنحاء العالم عُرضة للاستغلال من أجل التراكم الرأسمالي. إن التحدي الذي نواجهه مع عودة هذه الكراهية المعاصرة هو تفكيك هذه البنية الإجمالية، بدلًا من إعادة تزويدها بالوقود.

  • الهوامش

    [1] بالإضافة للضرائب على الرؤوس (ضرائب تحسب على الفرد بغض النظر عن الدخل) وحظر التملك على المهاجرين والمقيمين من غير البيض، قيّدت الولايات المتحدة والمستعمرات الاستيطانية الأنجلوساكسونية الوصول إلى بعض المهن على غير البيض، إما بشكل غير رسمي من خلال الاستيطان الأنجلوساكسوني وطرد المكسيكيين من أفضل المهن بعد الحرب المكسيكية الأمريكية، أو من خلال سن تدابير صريحة، كما هو الحال في كندا وجنوب إفريقيا.

    [2] كان العمال في الجنوب العالمي من السكان الأصليين والأجانب على السواء، مثل الملايين من عمال السخرة التعاقدية indentured الصينيين والجنوب آسيويين الذي بنوا السكك الحديدية في أفريقيا، أو عملوا في استخراج النترات في بيرو، أو استبدلوا العمال المستعبدين في مزارع منطقة البحر الكاريبي.

    [3] لقد عملت الهجرة تاريخيًا، ونظر لها، على أنها صمام أمان ضد الفقر وعدم الاستقرار واحتمال الاضطرابات المجتمعية، كما زعم عالم الاقتصاد السياسي البريطاني إدوارد جيبون ويكفيلد في عمله عن الهجرة والاستعمار «رسالة من سيدني» (1829).

    [4] على وجه التحديد، تعطيل طلبات اللجوء عند الحدود كلما بلغ متوسط ​​الاعتقالات على الحدود يوميًا ألفين وخمسمائة اعتقال خلال أسبوع معين. ولا يتم رفع التعطيل إلا إذا انخفض عدد الاعتقالات إلى أقل من 1500 وظل على هذا النحو لمدة أسبوعين. وكان هذا الإجراء أكثر صرامة من مشروع قانون مجلس الشيوخ الفاشل الذي رفضه مجلس النواب.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية