في الشكل والمضمون، يمكن رصد بعض «الجديد» في الحركة الشعبية في الأردن، كما تعكسه النشاطات التضامنية/الاحتجاجية المتصلة بالحرب على غزة، وبالمقاومة الجارية فيها، وفي فلسطين عمومًا.
سنبدأ من آخر حدث تضامني بارز، وهو «الإضراب عن العمل» الذي نفذ في البلد، وخاصة في القطاع التجاري في 11 كانون الأول الجاري. ومن المعروف أن هذا الإضراب «المحلي» كان جزءًا من إضراب أوسع أخذ تسمية «عالمي»، وبالفعل دُعي إليه في عدة دول عربية وغير عربية في مختلف بقاع العالم، ونُفّذ فعلًا ولكن بتفاوت في حجم المشاركة بين بلد وآخر، غير أن الأردن كان من أبرز الدول في مستوى نجاح الإضراب، وقد سجلت ذلك وسائل إعلامية عديدة، ونُقلت الأخبار والصور من مختلف مدن المملكة ومراكز المحافظات شمالًا وجنوبًا، وبشكل خاص العاصمة عمان بكافة مناطقها.
لكن إلى جانب ذلك، فإن ما يستحق الملاحظة أيضًا في مجريات الإضراب، هو أسلوب التنفيذ وطريقة اتخاذ القرار بالمشاركة وآليات التنفيذ وسرعته، وبالنتيجة كنا أمام إضراب غير مسبوق ونشاط سياسي ناجح فعلًا.
في النقاش العام في اليومين اللذين سبقا الإضراب، حضرت فكرة الدعوة له باعتبارها مقترحًا «عالميًا» وهو ما أعطاها بريقًا خاصًا، ثم انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة، وتفاعل معها الجمهور المتعاطف من دون التوقف أو التحقق من مصدر الدعوة، بل إن كون الدعوة «عالمية» شكّل نوعًا من الحرج تحوّل إلى محفز إضافي. وفي الواقع كان يصعب في البداية التعرف إن كان هناك مصدرًا محددًا، فكانت الدعوات تنتشر بكثافة عالية على صيغة مبادرات، وبأكثر من لغة، ومن أكثر من بلد، وتبناها نشطاء ومؤثرون ذوو حضور عالمي، وآخرون محليون، وروجوا لها وسارع كثيرون (أفراد ومؤسسات وشركات) إلى إعلان مشاركتهم.
بالمقابل، لعل سرعة الانتشار والحماس المتصاعد في الشارع خلقا، على المستوى الرسمي المحلي، إرباكًا دفع، إحدى الصحف المحلية الكبرى مثلًا، إلى التساؤل والتشكيك، فكتبت وبعنوان بارز وكبير يقول: «الإضراب، دعوات مشبوهة تتبناها جهات غير وطنية» ونشرت مواقف ودعوات لرفض المشاركة، باعتبار أن الإضراب يهدف إلى «إحداث شرخ بين الموقفين الرسمي والشعبي». كما أعلنت الحكومة عن معارضتها للمشاركة الرسمية وإن لم تتخذ إجراءات لمنع المشاركة في القطاعات الخاصة.
هذا يعني أن السلطات الرسمية لم تتعامل مع الإضراب باعتباره بالدرجة الأولى فعلًا تضامنيًا تعاطفيًا، وسارعت للافتراض أنه يحمل طابعًا احتجاجيًا داخليًا. ولم يوقف ذلك إعلانات شركات كبرى ووكالات عالمية ومتاجر كبرى و«مولات» أنها تدعم الإضراب. وربما لم يتمكن المشاركون في الإضراب نظرًا لتنظيمه الفردي من إبراز «ثانوية» البعد الاحتجاجي الداخلي. وهنا من الملاحظ بالتوازي، أن الحكومة اللبنانية مثلًا، تجاوزت هذا الإشكال وأعلنت مسبقًا دعمها للإضراب الذي نفذ هناك في العديد من المؤسسات والمستويات الرسمية، إلى جانب القطاع الخاص، وقد حصل مثل ذلك جزئيًا في دول أخرى، تبنت الدعوة في المؤسسات التعليمية.
قد يكون مفيدًا هنا التوقف قليلًا للإشارة إلى أن هذا الإضراب بالطريقة التي نُفّذ بها، ربما يمثل مظهرًا من مظاهر الجِدة أو التجديد في الحركة الشعبية الحالية. إن أسلوب «الإضراب عن العمل»، يعني في الأصل، محاولة التأثير على الحياة الاقتصادية «الداخلية» للضغط على أصحاب القرار، ولكن اعتماد «الإضراب عن العمل» في حالتنا، بهدف التضامن أو التعاطف مع المقاومة والاحتجاج ضد العدوان، بالدرجة الأولى، ونجاح الدعوة، هو أمر يدعو للتأمل.
في الأردن، يقربنا الحدث خطوة هامة من الحقيقة الكبرى، وهي أن قضايانا كلها ابتداء من تلك المتعلقة بالكرامة الوطنية وصولًا إلى جوانب الكرامة الشخصية اليومية، تقع تمامًا في صلب العلاقة مع هذا العدو ذاته الذي يصفعه فقراء غزة.
وفي الواقع، كانت صيغ الدعوة التي نشرها نشطاء ومؤثرون غربيون، تفهم على أنها دعوة للضغط على الموقف العام في بلدانهم. بالمقابل تكمن المفارقة في الأردن، أن أصحاب العمل، وبعضهم من مالكي الشركات الكبيرة، بما فيها متاجر كبيرة، سارعوا إلى إعلان مسبق لمشاركة مؤسساتهم وشركاتهم في الإضراب، وهو ما يعني قبولهم تعطيل مصالحهم الخاصة، وكذلك (وهذا هو الأساس) فعل الألوف من أصحاب المتاجر المتوسطة والصغيرة ودكاكين الأحياء، وهو ما يعني قناعتهم وقرارهم بأن الاستعداد للخسارة وترك التجارة والتضحية بمردود يوم عمل، هو بذاته مظهر تضامني تعاطفي. من المؤكد أن قرارات المشاركة في الإضراب اتخذت في المحصلة، بشكل فردي، باستثناءات قليلة (مثل وكالة الأونروا ونقابة الأطباء جزئيًا). وفي أحسن الحالات جرت في بعض المواقع مشاورات شخصية محدودة بهدف التعرف والإسناد المعنوي.
هنا من المهم الاستدراك، لتقديم ملاحظة تخص بعض مالكي العلامات التجارية العالمية. فمن المرجح أنهم اخذوا بالاعتبار، وهم يعلنون مشاركتهم في الإضراب، حالة الغضب التي تمثلت بدعوات مقاطعة البضائع والسلع التي تنتجها شركات «عالمية» تقع تحت شبهة دعم «إسرائيل»، وربما أراد الممثلون المحليون لهذه الشركات أن ينفوا عنهم تلك الوصمة وتقديم مؤسساتهم كجزء من الحالة الوطنية الداعمة للمقاومة. وهذه الظاهرة، أي اعتبار التسابق نحو إعلان رفض العدوان وإعلان التضامن مع المقاومة، كعنصر يقود إلى تجديد ثقة الزبائن أو محاولة استعادتهم، يعد مظهرًا جديدًا في الثقافة العامة، سياسيًا واقتصاديًا.
في التقاليد الشعبية الدارجة، يرى الناس أنه من غير اللائق، أن يواصل أحدهم حياته كالمعتاد، في حين يعيش جاره أو صديقه أو قريبه مأساة أو يمر بحالة حزن ما، فما بالك بمآسٍ جماعية كهذه التي يرونها طوال اليوم منذ أكثر من شهرين؟
فبعيدًا عن الحركة الاحتجاجية المنظمة في الشارع، لوحظ ضعف حركة البيع والشراء وارتياد المطاعم والمقاهي، وهناك شعور جماعي شعبي بقدر كبير من الحرج العام، والتقصير تجاه أهل غزة. ووفق أسئلة سريعة طرحتها على بعض التجار الصغار شرق عمان، قال بعضهم إن مشاركتهم هي «أقل الواجب». لقد قدّر التجار المتجاورون أن عدم المشاركة قد تعني أنانية أو طمعًا وتخليًا عن الجيران المشاركين.
ما قبل الإضراب
لكن جديد الحركة الشعبية في الشارع لم يقتصر على حالة الإضراب عن العمل، ففي الواقع هناك ما هو جديد في مظاهر الحركة الأخرى منذ انطلاقها، وخاصة في الأيام الأولى.
على سبيل المثال، وفي الجمعة الأولى التي تلت عملية طوفان الأقصى، كان وسط العاصمة عمان على موعد مع نشاط استثنائي في حجمه وشكله ومحتواه. ربما كان التجمع في ذاك اليوم 13 تشرين الأول، هو الأكبر في تاريخ هذا المكان الذي شهد مئات التحركات عبر تاريخه.
كانت أعمار المشاركين في السنوات الأولى من عمر الشباب. لكن الأهم من ذلك هو صنف الانفعال ومستوى المشاركة فيه، يندر أن تجد صامتًا في جسم المسيرة الرئيسي. ولأول مرة في السنوات الأخيرة تجد مسيرة بجمهور متراص فعلًا.
لوحظ كذلك أن المشاركين لم يتوزعوا وفق انتماءات حزبية أو مناطقية أو خلاف ذلك. فقط أمكن ملاحظة وجود مجموعات أصدقاء حضرت وغادرت كمجموعات صغيرة. ولم يتوزع المشاركون وفق الجنس، بل مشوا معًا باحترام.
ورغم أن هناك دعوة سبقت المسيرة، لكن بدت المجريات بالمجمل عفوية من حيث طبيعة الهتافات واختلاطها. وكان بمقدور من يريد من المشاركين أن يبادر إلى إطلاق شعاره أو هتافه أو تحديد حركته ومجموعته التي يلتزم بها ويردد هتافها.
أتاحت عملية غزة الفرصة لظهور المشاركين في المظاهرات، بثقة واندفاع. لقد كانوا هم أيضًا في حالة هجوم، فلم تسمع كلمات مثل «أنقذوا غزة» أو «أنقذوا فلسطين»، وحل محلها «حرروا» أو «لنحرر»، فالتجربة أثبتت لهم أن التحرير ليس خيالًا. كما لوحظ موقف إيجابي واضح من قبل تجار السوق في الشوارع الملاصقة، وشمل ذلك أصحاب البسطات، الذين أبدوا تفهما، ولم يظهر أي منهم انزعاجه المعتاد تجاه ممارسات «قطع الرزق»، التي كانت بعض المسيرات في مناسبات أخرى تندرج تحتها.
بالطبع، فإن مظاهر العودة إلى «تحزيب» التحركات لوحظت في أنشطة تالية، وقد حصلت بعض المشاجرات أحيانًا بين ممثلي وأنصار التنظيمات الحزبية، غير أن ملاحظات ميدانية متكررة أشارت بوضوح إلى أن الجمهور من غير الحزبيين لم ينخرط في هذا الميل لتحزيب النشاط في الشارع. في مشاهد عديدة، لجأ المواطنون إلى مغادرة الموقع أو الانزواء جانبًا، وخاصة لمن اصطحبوا أطفالهم. وفي مشاهد مؤسفة، ترك فتيان وفتيات أعلامهم وحطاتهم والأوراق التي تحمل شعاراتهم على جانب الطريق وغادروا.
استعادة عنوان فلسطين
الظاهرة الأهم، ربما تكمن في استعادة حضور عنوان «فلسطين» إلى الذهنية العامة. وفي الواقع يحتاج الأمر لوقفة خاصة.
خلال عقود، على المستويات الشعبية العربية عمومًا، شكلت فلسطين (ضياعها من جهة بمقابل هدف تحريرها من جهة أخرى) تجسيدًا لموقع قيمة «الكرامة» عمومًا على المستويين الفردي والجماعي. لاحظوا مثلا أنه كثيرًا ما يحصل إذا تجادل شخصان حول قضية ما فإن سؤال «انا مضيع فلسطين؟» أو «أنا محرر فلسطين؟» يحضران، الأول للإشارة إلى أشنع الأفعال والثاني إلى أفضلها. لا يوجد ما هو أقبح من تضييع فلسطين، كما لا يوجد ما هو أنبل من تحرير فلسطين.
إن موقع فلسطين الخاص في مجمل الصراع مع العدو، كان ميدانًا لصراع ثقافي ممتد، وفي لحظات كثيرة ساد شعور بأن الشعوب خسرت أو تكاد تخسر، المعركة في هذا الميدان. لعلنا جميعًا لاحظنا تجليات ذلك في الأسابيع التي سبقت عملية طوفان الأقصى، عندما عرض رئيس وزراء «إسرائيل» خريطته الشهيرة في الأمم المتحدة التي تخلو من أي إشارة لفلسطين، وفي الواقع كانت الخطوات السياسية التطبيعية الواثقة تظهر، أو تطمح لأن تظهر، أن المنطقة ذاهبة في هذا الاتجاه، أي تصفية ونسيان القضية على المستوى الشعبي أيضًا.
تتفق أغلب المواقف على أن الحدث القائم هو كبير على كل المستويات، ولا فائدة إضافية من تكرار الكلام هنا، غير أن المهم أن نلاحظ طبيعة المعاني الوطنية/المحلية الخاصة بنا، لما يجري.
هناك سؤال كبير على المستويات العليا السياسية والعسكرية الرسمية يأخذ عنوان: «ماذا بعد الحرب؟»، وتذهب الأنظار إلى الفاعلين على مستوى الأنظمة والحكام والقادة الكبار، غير أن الحدث الكبير نفسه، أي عملية الطوفان والمقاومة المتواصلة، هو بالدرجة الأولى حدث شعبي بامتياز، بل إن كلمة القائد العسكري للمقاومة في غزة محمد الضيف، وهي الكلمة الوحيدة للآن، والتي ألقاها بعد انطلاق العملية مباشرة، توجهت إلى الشعوب بالدرجة الأولى وإلى المقاومين، ثم إن عين الجمهور واهتمامه موجهان أيضًا نحو رد فعل وموقف الجهات الشعبية.
في التواريخ الرسمية، يكون التركيز على دور القادة والحكام، ولهذا فإننا نقرأ تاريخًا من أعلى، بينما نحن أمام حدث تاريخي «من أسفل»؛ تاريخ يصنعه بالدرجة الأولى فقراء غزة في أزقة مدنهم ومخيماتهم.
من المتوقع أن ميدانًا جديدًا للصراع سينشأ، عنوانه المنافسة بين سيناريوهات الحكام وسيناريوهات الشعوب، ومع أنه من المستبعد أن تستخدم الشعوب مفردة «سيناريو» بالذات، وستتركها للمستويات العليا، ولكن من المؤكد أنه سيكون لكل فريق فهمه ونتائجه ودروسه وأهدافه التي سيطرحها ويسعى لتعميمها.
إن الإجابة على سؤال «ما بعد» هو مهمة الشعوب أيضًا. وفي الأردن بالذات، حيث ظلت فلسطين والصراع مع العدو عنوانًا رئيسيًا لوحدة الوجدان الشعبي، من المرجح والمرغوب أيضًا، أن الحدث سوف يقربنا خطوة هامة من الحقيقة الكبرى، وهي أن قضايانا كلها ابتداء من تلك المتعلقة بالكرامة الوطنية وصولًا إلى جوانب الكرامة الشخصية اليومية، تقع تمامًا في صلب العلاقة مع هذا العدو ذاته الذي يصفعه فقراء غزة.