العثمانيّون الكوزموبولياتنيّون: الاستعمار وإجهاض تعددية العالم العربي

صيادون في مدينة عكّا، في سوريا العثمانية آنذاك، وفلسطين المحتلة الآن. تصوير أندريه ساليس، 1891. المصدر: مكتبة فرنسا الوطنية.

العثمانيّون الكوزموبولياتنيّون: الاستعمار وإجهاض تعددية العالم العربي

الإثنين 08 آذار 2021

نُشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة أيون (Aeon)، بتاريخ 17 تشرين الأول، 2019، وترجم بإذنٍ من كاتبه.

كان الشرق العربيّ من بين آخر المناطق التي احتلتها القوى الغربية في العالم، ومن أول المناطق التي استُعمِرت باسم حق تقرير المصير. في أيلول 1920، التقطت هذه اللحظة؛ صورة أيقونية للجنرال المستعمر الفرنسي هينري غورو مرتديًا زيًا أبيضًا رائعًا وتحيط به شخصيتان دينيتان من «أهل البلد الأصليين». يجلس على أحد جانبيه بطريرك الكنيسة المارونيّة، وهي طائفة مسيحية كاثوليكية شرقية. ويجلس، على الجانب الآخر، المفتي السنيّ لبيروت. كان ذلك خلال مناسبة إعلان غورو عن دولة لبنان الكبرى التي اقتطعت من أراضي الإمبراطورية العثمانية المهزومة. وبمباركة بريطانية، احتلّت فرنسا سوريا قبل شهرين من ذلك، وأطاحت بالمملكة العربية السورية الدستورية قصيرة الأجل. لقد كانت الذريعة المقدمة لهذا الاستعمار المتأخر هي ذات الذريعة التي لا تزال تقدَّم حتى يومنا هذا. لم يكن الهدف المزعوم لفرنسا في الشرق هو التوسع، بل قيادة سكانه نحو الحرية والاستقلال، ولا سيما السكان من الأقليّات المتنوعة والهامّة في لبنان.

لقد فصلت فرنسا دولةَ لبنان ذات السيطرة المسيحية عن بقية مناطق سوريا الجغرافية، والتي قُسمت بدورها إلى كيانات سياسية علويّة ودرزيّة وسنيّة، منضوية تحت هيمنة فرنسا الشاملة. يزعم هذا الاستعمار المتأخر بأنه يهدف إلى تحرير شعوب العالم العربيّ من طغيان المسلم العثماني «التركيّ» ومن النهب الذي مارسته الكراهيات الطائفية البالية. وهكذا ظهر الجنرال غورو في الصورة، لا بوصفه قاهر قبائل أهل البلد البربريّة كما هو مفترض؛ فهو لم يكن إرنان كورتيس العصر (Hernán Cortés) الذي أطاح بآزتيك مونتيزوما (Aztec Montezuma)، ولم يكن تناسخًا فرنسيًا لآندرو جاكسون (Andrew Jackson) الذي بطش بقبائل السيمينول في فلوريدا. صُوّر الجنرال الفرنسيّ الإمبرياليّ الذي خدم في النيجر وتشاد والمغرب على أنه صانع سلام لا غنى عنه، ووسيط خيّر بين ما يدّعي الأوروبيون بأنّه مجتمعات الشرق المعادية.

جاء استعمار الشرق العربيّ بعد استعمار الأمريكيتين وجنوب شرق آسيا وأفريقيا. غير أنّ هذه الطفرة العظيمة الأخيرة من الغزو الاستعماريّ قد تبرأت ظاهريًا من الحكم الوحشيّ الضاري، كذاك الذي كان أيام ملك بلجيكا ليوبولد، الذي زار الكونغو في أواخر القرن التاسع عشر. وبدلًا من ذلك، فقد حكم الأوروبيون بعد الحرب العالمية الأولى من خلال تعبير تلطيفيّ، وهو ما يسمى بنظام «الانتداب»، الذي تهيمن عليه القوى «المتقدّمة»، حيث أُنشِىء من قبل عصبة الأمم الجديدة التي يسيطر عليها البريطانيون والفرنسيون لمساعدة الدول الأضعف. لقد كانت الدولتان اللبنانيّة والسوريّة -اللتان باركتهما العصبة- مستقلتين «مؤقتًا»، لكنهما تخضعان لوصاية أوروبيّة إلزاميّة. وبالاعتماد على التجربة البريطانيّة بالحكم «اللامباشر» لأفريقيا، فقد نمّت القوى المنتصرة واجهة من أهل البلد الأصليين لإخفاء يد المُستعمِر. ولعلّ الأهم من ذلك، أنّ هذا الاستعمار المتأخر ادّعى احترام المثل العليا لرئيس أمريكا وودرو ويلسون، الأب الافتراضيّ لما يسمى بـ«حق تقرير المصير» للشعوب في جميع أنحاء العالم. 

إعلان لبنان الكبير عام 1920. المصدر: Photo12 /Getty

طوال التاريخ الحديث، شوّه ثِقل الاستعمار الغربيّ، باسم التحرر والحريّة الدينية، طبيعة الشرق الأوسط. كما غيّر الجغرافيا السياسيّة للمنطقة، من خلال خلق سلسلة من دول وإمارات الشرق الأوسط الصغيرة والمستقلة، والتي كانت فيما مضى السلطنة العثمانية القوية والمترابطة. لقد أحدث صراعًا جديدًا -لم يُحل بعد- بين «العرب» و«اليهود» في فلسطين، بمجرد أن ظهرت هويّة عربيّة جديدة وواعدة إلى حدّ كبير، تضم العرب المسلمين والمسيحيين واليهود. حجب هذا الاستعمار الغربيّ المتأخر الأخير، حقيقة كون التحول من الحكم العثمانيّ الإمبريالي إلى الحكم العربيّ القوميّ ما بعد العثمانيّ، لم يكن طبيعيًا ولا حتميًا. قام الاستعمار الغربيّ بغتةً بتعطيل وإعادة تشكيل مسار ثقافيّ وسياسيّ عربيّ معادٍ للطائفيّة، والذي كان بدأ بالتشكل خلال القرن الأخير من الحكم العثماني. رغم وجود الاستعمار الغربي، إلا أن الهدف الوحدوي، والحلم بخلق مجتمعات سيادية في العالم العربي، أكبر من مجموعه الملّيّ والطائفيّ، صمدا إلى حدّ كبير فيه خلال القرن العشرين. 

لم يكن «رجل أوروبا المريض» -اللقب الأوروبي المتعالي للسلطنة- حقيقةً في حالة تدهور نهائيّ على الإطلاق في القرن العشرين. بل على النقيض من السرديّات المبتذلة عن الجشع والارتكاس التركيّ، أو التمجيد الرومانسيّ للحكم التركيّ، فإن الحقيقة تتمثل في أنّ القرن العثماني الأخير شهد عصرًا جديدًا من التعايش، وبشّر، في الوقت ذاته، بقوميّات إثنية دينية متنافسة، وبالحرب والقمع في ظلّ الهيمنة الغربيّة. الجزء العنيف من الحكاية معروف جيدًا؛ أما الجزء الأكثر وحدوية فبالكاد كان معروفًا.

طوال التاريخ الحديث، شوّه ثِقل الاستعمار الغربيّ، باسم التحرر والحريّة الدينية، طبيعة الشرق الأوسط. كما غيّر الجغرافيا السياسيّة للمنطقة، من خلال خلق سلسلة من دول وإمارات الشرق الأوسط الصغيرة والمستقلة.

إلى جانب كلّ الأنظمة غير الغربية الأخرى تقريبًا، تراجعت الإمبراطوريّة العثمانيّة في مواجهة العدوان الأوروبيّ الذي لا هوادة فيه. تصارعت الإمبراطوريّة مع كيفيّة الحفاظ على السيادة والتكيف مع أفكار القرن التاسع عشر، حول المواطنة المتساوية. لكنها تعثّرت بسبب صعود الحركات القومية البلقانيّة الانفصاليّة، التي حظيت بدعم مختلف القوى الأوروبيّة. لقد كان العثمانيون واقعيًا في حالة حرب في كل عقد من القرن التاسع عشر.

إذا كان العثمانيون قَلقين بشأن الحصانة الإقليميّة لإمبراطوريتهم التي كانت عظيمة يومًا ما، فقد استثمروا أيضًا في إصلاحها وإحيائها بكافة السبل تقريبًا، بدءًا من الجيش والسياسة، ووصولًا إلى فنّ العمارة والمجتمع. لطالما ميّزت الإمبراطورية بين المسلمين وغيرهم، باسم الذود عن عقيدة وكرامة الإسلام. كما مارست التمييز تجاه المسلمين المهرطقين. حيث أسّست، على مدى قرون، نظامًا إمبراطوريًا كرّس أولوية المسلمين على جميع الجماعات الأخرى. أعاد السلاطين العثمانيون إحياء إمبراطوريتهم على نحو متقطع خلال القرن التاسع عشر، بوصفها السلطنة الإسلامية «المتحضرة» والوحدوية، التي تدّعي المساواة بين جميع الرعايا بغض النظر عن انتماءاتهم الدينيّة. اعتمد الرعايا المسلمون والمسيحيون واليهود الطربوش الأحمر، كدلالة على تشاركهم العثمانية الحديثة. خلال عهد التنظيمات (1839-1876)، تبنّت الإمبراطوريّة العثمانيّة رسميًا سياسة عدم التمييز بين المسلمين وغيرهم. حيث اقتضت فكرة المساواة بين المسلمين وغيرهم الإلزامَ القانونيّ والمعاقبة الاجتماعيّة، مع إصدار الدستور العثماني في 1876، الذي أعلن المساواة بين جميع المواطنين العثمانيين. 

بغض النظر عن مدى علمنة العثمانيين لإمبراطوريتهم، فقد طالبتهم بريطانيا وفرنسا وروسيا بالمزيد من التنازلات. ادّعت كل قوة أوروبيّة حماية جماعة معيّنة من المسيحيين الأصليين [أهل البلد] أو أيّ مجموعة أقليّة أخرى، كل قوة تطمع بجزء من الولايات العثمانيّة، وكل واحدة منها تسعى إلى إبطال تأثير خصومها في الشرق. كان يُشار إلى هذا النزاع الدبلوماسيّ في ذلك الوقت بـ«المسألة الشرقيّة». لم يحدث التفكّك للامتياز الأيديولوجيّ والقانونيّ للمسلمين على غيرهم في الإمبراطورية بلا نزاع، خاصّةً وأنّ القوى الأوروبيّة تتدخل باستمرار في الإمبراطورية ضمن أُطر طائفيّة. فقد ألغى العثمانيون، على سبيل المثال، ضريبة الجزية المتعلقة بالقرون الوسطى، المترتبة على غير المسلمين، لكنّهم تعهدوا لأوروبا في عام 1856 باحترام «الامتيازات والحصانات الروحية» للكنائس المسيحيّة؛ وبينما أعفوا غير المسلمين من الخدمة العسكرية مقابل ضريبة معيّنة، فقد جنّدوا الرعايا المسلمين إلزاميًا للقتال في حروب لا يبدو لها نهاية؛ وفتحوا الأسواق العثمانيّة أمام تدفق البضائع الأوروبية، وتسامحوا مع البعثات التبشيرية الموجهة لغير المسلمين من رعايا الإمبراطوريّة.

جزء من خريطة مارتن وتالس «لتركيا في آسيا» يظهر الإيالات الجنوبية (تقسيمات إدارية) لسوريا العثمانية: دمشق وطرابلس وعكا وغزة. الصورة من ويكيبيديا. 

في تموز 1860، اندلعت أحداث شغب في دمشق. ورغم سَنّ فرمانات عدم التمييز، فقد هاجت حشود من المسلمين في المدينة، ونهبوا الكنائس وروعوا سكان المدينة المسيحيين. وعلى الجانب الآخر؛ ندّدت الصحف في لندن وباريس والجمعيات التبشيرية بما اعتبروه تعصبًا «محمديًا». كما أرسل الإمبراطور الفرنسيّ نابليون الثالث جيشًا إلى الشرق، بزعم مساعدة السلطان على استعادة النظام في ألويته العربيّة. وشكّلت القوى الأوروبية لجنة تحقيق للنظر في مذابح 1860. إلّا أن دوافعهم الإنسانيّة كانت مشروطة وسياسّية. ومع ذلك، لم يتم تشكيل لجنة مماثلة للتحقيق في القمع والاضطهاد الأمريكيين تجاه الأشخاص المنحدرين من أصول أفريقية أو إبادته للأمريكيين الأصليين، أو للتحقيق في عقود الإرهاب الفرنسيّ الاستعماري في الجزائر، أو القمع البريطانيّ للانتفاضة المناهضة للاستعمار في الهند عام 1857. 

رغم تصنيفها من قبل مراقبين غربيين على نحو استثنائيّ بأنها مسألة غير غربية، بل إسلامية؛ إلّا أن مذابح 1860 عكست نضالًا عالميًا للمواءمة بين المساواة والتنوع والسيادة؛ وهو الصراع الذي تجلّى في كل أنحاء العالم في سياقات مختلفة. لذلك بينما كان العثمانيون يواجهون أزمة حقيقية متعلقة بكيفية الإصلاح والحفاظ على سيطرتهم على السكان المتغايرين إثنيًا ومتعددي اللغات والأديان، كانت أمريكا، في الجانب الآخر من العالم، تخوض في الوقت ذاته أكثر الحروب دمويّة في العالم الغربي في القرن التاسع عشر، حروب دائرة حول العبودية والعرقية والمواطنة. حيث وقعت أحداث الشغب في دمشق مباشرة بعد تفريغ آخر شحنة من الأفارقة المستعبدين الذين يعاملون بوحشيّة من المركب الشراعي كلوتيلدا على ساحل ألاباما. 

كان الشغب المعادي للمسيحية الحاصل في دمشق عام 1860 مروعًا، غير أنّه لم يعكس إلا جانبًا واحدًا من الإمبراطورية العثمانية المعاصرة. لكنّه أقل وطأة بكثير من حلقات العنف التي أُثيرت في أوروبا، والتي نالت استيعابًا ملحوظًا على نطاق واسع، إن لم يكن اعتناقًا فعالًا، من قبل كثير من الرعايا العثمانيين للعلمنة والعصرنة. لقد شكّلت الإمبراطورية وسطًا حيويًا للتعايش الحديث بين المسلمين وغيرهم، لا مثيل له في العالم. لم يتجلّ هذا التعايش في أي مكان أكثر من تجليه في مدن المشرق العربي. تقاسم العرب من كل الأديان، من القاهرة إلى بيروت حتى بغداد، لغة مشتركة، وأظهروا قدرًا ضئيلًا من الميل للانفصال السياسيّ عن الإمبراطورية العثمانية.

مشهد عام لبيروت 1890-1900. الصورة من مكتبة الكونغرس.

بعد أحداث 1860، افتتح بطرس البستانيّ، المتحول للمسيحية البروتستانتية، المدرسة «الوطنية» في بيروت. وفي الوقت الذي لا يزال فيه المبشرون الأمريكيون رافضين لفكرة التعليم العلمانيّ الأصيل، كانت مدرسة البستاني مناهضة للطائفية وتحترم الاختلاف الدينيّ. وخلال الحقبة التي كان ما يزال الأفارقة والآسيويون يقاسون فيها من التبعيّة العرقيّة الجسيمة في ظل الإمبراطوريات الأوروبية، وعندما كان اليهود يتعرضون للمذابح في روسيا، وحين كان الأمريكيون البيض يعتنقون سياسة الفصل العنصريّ في جنوب الولايات المتحدة، ويستثنون الآسيويين من نيل الجنسية الأمريكيّة، ويسوقون الناجين من الأمريكيين الأصليين إلى محميات يُرثى لها، شجعت الإمبراطورية العثمانية -أو لم تقف أمام- فتح مدارس «وطنيّة» ومجالس بلدية ومجلات وصحف ومسارح جديدة شاملة. كما أُسّس جيش جديد باسم الوحدة الوطنيّة والسيادة. أصبحت كل هذه الإصلاحات أكثر إلحاحًا بسبب الهزائم العثمانية المتعاقبة أمام روسيا وفي البلقان، وبسبب مقاومة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للتغيير الدستوري. لاحقًا في عام 1908، أطاحت ثورة تركيا الفتاة بالسلطان، ووعدت بفترة دستورية جديدة من الحرية والإخاء العثمانيين بين مختلف مكونات الإمبراطورية العثمانية، من الأتراك والأرمن والألبان واليهود والعرب، وليس مجرد غياب التمييز.

تلاميذ الموسيقى في مدرسة مار يوسف في عينطورة. تصوير آندريه ساليس عام 1893. الصورة من المكتبة الوطنية الفرنسية، باريس. 

صُرّح عن الإصلاحات الوطنيّة العلمانيّة بحماسة تفوق الحماسة التي مورست بها. إذ طُبقت بشكل غير متساوٍ وتدريجيّ في الإمبراطورية. ومع ذلك، اعتقد العديد من العرب المسلمين والمسيحيين واليهود في المشرق، في أعقاب أحداث 1860، بأنهم يشاركون في «نهضة» وحدوية، يمكن أن تتجلى ضمن شروط عثمانيّة وعربيّة ودينيّة وعلمانيّة وسياسيّة وثقافيّة مختلفة. لقد أدركوا جمعيًا بأنهم يتجهون حقًا نحو مستقبل أكثر إشراقًا وبالتأكيد أكثر علميّة وأكثر «تحضرًا». ومما لا ريب فيه، فقدَ هيمن على هذه النهضة، من مصر إلى العراق، رجال متحضرون ومثقفون، اعتقدوا أنهم يتحدثون باسم «دولهم». لقد كانت نهضة طور التكوين، لا هدفًا مُحققًا أو حتى مشروعًا اجتماعيًا وسياسيًا وحدويًا. لم يتفق أعلام النهضة بالضرورة على الخطوط الدقيقة لأمتهم العثمانية المشتركة، مثلهم مثل الأمريكيين آنذاك -أو الآن- في قبولهم لما يشكل الأمريكيين المثاليين أو المُمثلين.  

كان التوازن بين وحدوية الإصلاحات العثمانيّة، والضرورة الملحة والفجّة للحفاظ على سيادة نافذة هشًا. سيّست «المسألة الشرقيّة» مستقبل الجماعات غير المسلمة -التي آلت تسميتها إلى «أقليات»- والتي أصبحت هدفًا للعناية الأوروبيّة وذريعةً للتعدي السياسيّ والعسكري على العثمانيين في آن معًا. كما فاقم بزوغ القوميات الإثنية الدينية المشكلة، وذلك حين ناشد القوميون من المسيحيين اليونانيين والصرب والمقدونيين والبلغاريين، الدعم الروسيّ والنمساويّ والبريطانيّ، سعيًا للانفصال عن السيطرة العثمانيّة. وبدورهم، اعتبر القادة العثمانيون المسلمين الناطقين بالتركية الجوهر الأساسيّ لإمبراطوريّتهم. ومن ثمّ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، سعى الثوار الأرمن إلى محاكاة القوميين المسيحيين في البلقان، وطالبوا بالدعم الأوروبي لتحقيق الحكم الذاتي؛ فما كان رد الدولة العثمانية سوى الاضطهاد. 

بإمكان الحداثة العثمانيّة أن تكون، في ظل الاستعمار الغربي، وحدوية بقوة، وعنيفة بلا هوادة في آن. حيث وعدت بمستقبل سياديّ متعدد الأعراق والأديان، وبعالم كاره للأجانب بلا أقليات. تفوقت الحتميّة السياديّة بجلاء في البلقان والأناضول على الالتزام بالوحدوية، بينما ازدهرت الوحدوية العثمانية بسهولة أكبر في المشرق. فغالبًا ما أصبح المسيحيون، في البلقان، أعداء ألداء للمسلمين (وغيرهم من المسيحيين) وسط تصادم القوميات العرقية الدينية، في حين كان إيجاد قضية مشتركة في المشرق أكثر سلاسة على العرب المسيحيين والمسلمين واليهود. 

كان غياب القوميّات الانفصالية في المشرق أحد الاختلافات الرئيسيّة. فرغم أنّ بريطانيا احتلت مصر عام 1882، إلا أن الحكم العثمانيّ بقي قابلًا للاستمرار في بقية دول المشرق. ساعدت اللغة العربية المشتركة العرب المسيحيين واليهود على لعب دورٍ مهمٍّ في الصحافة العربيّة والمسرح والجمعيات الحرفيّة والنسائيّة والمجالس البلديّة. فعلى سبيل المثال، أُسّست صحيفة الأهرام اليومية الرائدة من قبل مهاجر سوريّ مسيحيّ. ولم يكن تأييد الصحفية اليهودية إستر مويال لهوية وحدوية «شرقيّة عربيّة» تأييدًا في غير محله. جرى التغريب والقتل التدريجيين للطائفة المسيحّية الأرمنيّة في الأناضول في الوقت ذاته الذي تعايش فيه المسيحيون العرب واليهود مع إخوتهم المسلمين، في مدن مثل بيروت وحيفا وحلب وبغداد، وكذلك في القاهرة والإسكندرية؛ اللتين تحتلهما بريطانيا.

انتهت الحقبة العثمانية بكارثة الحرب العالميّة الأولى. أدار الحكام العثمانيون الأتراك في زمن الحرب ظهورهم بقسوة لروح الوحدوية العثمانية، في الوقت ذاته الذي احتضنوا فيه جانبها الدولاتيّ الأكثر قتامةً. فشرع هؤلاء العثمانيّون، باسم البقاء الوطنيّ، بممارسة سياسات الإبادة الجماعية ضد الأرمن. كما أعدموا شنقًا من اعتبروهم خونة عربًا في بيروت ودمشق. وبينما اجتاحت المجاعة جبل لبنان، كانت القوات العثمانية تتراجع أمام الغزو العسكريّ البريطانيّ لفلسطين. سقطت القدس في كانون الأول 1917. وبعد عامٍ تقريبًا، استسلمت الإمبراطورية بشكل مخزٍ.

حين اجتمع رجال دول الحلفاء المنتصرون من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، لتقرير مصير الإمبراطورية العثمانيّة المهزومة، تدخلوا في إمبراطورية شهدت تغييرًا جوهريًا خلال القرن السابق. تجاهل المنتصرون في الحرب العالمية الأولى الإرث الوحدوي للإمبراطورية العثمانيّة السابقة. وأثاروا عوضًا عن ذلك نقائص الإمبراطورية الجلية، وكانوا عازمين على تقسيمها. ومن ثمّ، بارك الرئيس ويلسون تقسيم الإمبراطورية العثمانية في عام 1919. أشعل الغزو اليونانيّ على أزمير فتيل حرب دامية أدت في النهاية إلى فوز تركيا الجديدة تحت قيادة مصطفى كمال، الذي عُرف فيما بعد باسم أتاتورك. وعلمنت تركيا الجديدة نفسها بشكل مثيرٍ، لكنها كانت أيضًا متشددة في رفضها لإرثها العثمانيّ الوحدوي. ومن ثم، أبرمت تركيا اتفاقًا مع اليونان عام 1923، لإجلاء أكثر من مليون يوناني قسرًا من تركيا الجديدة («التبادل» كان التعبير التلطيفي المستخدم). وبالمقابل، أجلت اليونان مئات الآلاف من المسلمين الناطقين باليونانية. بعدئذٍ، قمعت الجمهورية التركيّة الجديدة الأكراد المعارضين.

وفي غضون ذلك، بتّ الحلفاء في مستقبل المشرق العربيّ. حيث تعهدت بريطانيا في وقت مبكر من عام 1915، بدعم الطموحات الهاشميّة العربيّة التوسعيّة لسيادة مملكة عربية مستقلّة في معظم أنحاء الشرق العربيّ، مقابل ثورتهم ضدّ الحكم العثمانيّ. وفي العام التالي؛ 1916، اتفقت بريطانيا وفرنسا سرًا على اقتسام أقاليم الإمبراطوريّة العثمانيّة فيما بينهم ضمن اتفاقية سايكس-بيكو. وبدافع الضغط الصهيونيّ، تعهدت بريطانيا في عام 1917 بدعم إنشاء «وطن قوميّ» لليهود في فلسطين، والتي كانت ذات أغلبية عربية في تركيبتها الديموغرافيّة والاجتماعيّة واللغويّة.

بإمكان الحداثة العثمانيّة أن تكون، في ظل الاستعمار الغربيّ، وحدوية بقوة، وعنيفة بلا هوادة في آن.

ولزيادة الطين بلّةً؛ حظرت بريطانيا وفرنسا القوميين العرب والمصريين من عرض مطالبهم بالاستقلال بشكل مباشر خلال مؤتمر باريس للسلام عام 1919. بينما سمحوا للأمير الهاشميّ فيصل، ابن الشريف حسين، بمناشدة الحلفاء للوفاء بوعودهم لوالده خلال فترة الحرب. كما سمحوا للصهاينة الأوروبيين بطرح رؤيتهم لاستعمار فلسطين وتحويلها لدولة يهوديّة، بقيادة مستوطنين من شرق ووسط أوروبا. واستمعوا إلى هاوارد بليس، وهو ابن مبشّر أمريكيّ ورئيس الكلية البروتستانتيّة السوريّة (المعروفة اليوم بالجامعة الأمريكيّة في بيروت)، حيث سُمح لبليس بالتحدث نيابةً عن سكان سوريا. وبينما كان أبويًا تجاه السوريين، كان حساسًا تجاه المزاج السياسيّ في الأقاليم السابقة للإمبراطوريّة العثمانيّة، وأوصى بإيفاد لجنة تقصي حقائق محايدة إلى الشرق الأوسط لتوثيق التطلعات السياسيّة لسكانها من خلال حقّ تقرير المصير. فزع الفرنسيون وأُحرج البريطانيون من فكرة اللجنة المحايدة؛ لأن أيًا منهما لم يكن لديه أيّة نيّة لمنح الاستقلال للعرب. ومع ذلك، كان ويلسون نفسه المحاور الأساسي بين الأساليب القديمة والحديثة للاستعمار. لقد كان متعاطفًا بشدة مع مبادرة التبشير الأمريكيّة. كما أيّد فكرة اللجنة.

كان القسم الأمريكي المُنبثق عن لجنة الحلفاء بشأن الانتداب في تركيا عام 1919 معروفًا بلجنة كنج-كرين، التي سُميت على اسم الأمريكييْن اللذين ترأسا اللجنة، وهما: هنري كنج، رئيس كلية أوبرلين في أوهايو، والإنسانوي تشارلز كرين. وبخلاف اللجنة الدولية لعام 1860 التي تأسست في الإمبراطوريّة العثمانيّة، قامت هذه اللجنة بالفعل باستطلاع آراء سكان المنطقة، وجمعت اللجنة العديد من البرقيات والعرائض والرسائل من سكان الولايات العثمانيّة السابقة، وعقدت مئات الاجتماعات معهم. لم يكن أيٌّ من كنج أو كرين مناهضًا للاستعمار بأي معنى ثوريّ، لكنهما كانا أيضًا يعتقدان حقًا أن من المهم توثيق رغبات السكان الأصليين في المنطقة بدقّة. وبدا أنهما يعدان التزام ويلسون بحقّ تقرير المصير أمرًا بديهيًا. 

توصّل كنج وكرين بعد جولة شاقة عبر فلسطين ولبنان وسوريا إلى عدة نتائج جريئة فيما يتعلّق بالشرق العربيّ. لقد أدركوا أنّ معظم سكان المنطقة يتحدثون لغةً مشتركةً، ويتقاسمون ثقافة وحدوية غنيّة. كما أقروا بأن الاستقلال هو الغاية السياسيّة للأغلبيّة الساحقة من السكان الأصليين. وأوصوا بشدة بإقامة دولة سوريّة واحدة تضم كلًا من فلسطين ولبنان في ظلّ الانتداب الأمريكيّ (وفي حال فشل ذلك، يكون الانتداب بريطانيًا)، مع حماية منيعة للأقليات. وكان الأهم من ذلك، قولهم إنه إذا أُخذ مبدأ ويلسون حول حق تقرير المصير على محمل الجد، يجب حينها الإصغاء لصوت الغالبية العربية، وبالتالي يجب بتر مشروع الصهيونيّة الاستعمارية في فلسطين. وكتبوا: «القرارات التي تتطلب تدخل الجيوش، ضرورية أحيانًا، لكن بالتأكيد لا يمكن اتخاذها بلا مبرر لصالح ظلم بيّن. وفيما يتعلق بالادعاءات الأولى، والتي غالبًا ما قُدمت من قبل ممثلي الصهيونية، بأنّ لهم «حقًا» في فلسطين، بالاستناد إلى احتلال كان قبل 2000 عام، فإنه من الصعب النظر فيها جديًا». 

قدم المفوضون تقريرهم النهائي للرئيس ويلسون في أغسطس 1919، لكن تم تجاهل توصياتهم. ورغم ذلك، فقد ثبتت صحة تنبؤاتهم بشأن فلسطين. إذ رفضت الولايات المتحدة أيّ تأويل تحرريّ مناهض للاستعمار لحق تقرير المصير، لأن ويسلون هو نفسه لم يؤمن أبدًا بفكرة كون جميع البشر متساويين، أو أنهم يستحقون السيادة توًا. فشرعت بريطانيا وفرنسا في تقسيم المنطقة كما لو لم تُرسل لجنة كنج وكرين. لقد كان وزير الخارجية البريطانيّ آرثر بلفور، على الأقل، صريحًا في هذه النقطة. فقال إن سكان سوريا «لديهم حرية الاختيار، لكنه خيار هوبسون في النهاية». كانت فرنسا ستتولى السيطرة على سوريا ولبنان. وكانت بريطانيا ستفتح الباب للاحتلال الصهيوني في فلسطين. كتب بلفور في آب عام 1919: «بالنسبة لفلسطين، فإننا لا ننوي حتّى النظر في صيغة التشاور مع رغبات السكان الحاليين، رغم أن لجنة كنج وكرين الأمريكية قد استطلعت آراءهم». 

مهما سعى الاستعمار الأخير للعالم إلى ترويج نفسه بصفته متعهد حقّ تقرير المصير، فإن مؤيديه الغربيين يدركون حقيقته. بيد أنّ المأساة الحقيقيّة لا تكمن في التدليس، بل في الانقسامات التي فاقمها وأنتجها التدليس. زعم الاستعمار الأوروبيّ بأنه يفصل في الاختلاف الدينيّ الأزليّ في الشرق الأوسط. بينما شجع، في واقع الأمر، السياسات الطائفيّة. وما تزال تداعيات الاستعمار الأخير تتردّد حتّى يومنا هذا. 


* أسامة مقدسي هو أستاذ التاريخ، وأول مَن شغل منصب رئيس المؤسسة التعليميّة العربيّة الأمريكيّة للدراسات العربيّة في جامعة رايس في هيوستن. وهو حاليًا محاضر زائر في جامعة كاليفورنيا، بيركلي. آخر كتبه: «عصر العيش المشترك: الإطار المُوحد وتشكّل العالم العربيّ الحديث» الصادر عام (2019).

Leave a Reply

Your email address will not be published.