تُغضِب مصطلحات «احتجاجات» و«تظاهرات» الشبّانَ العراقيين الذين يتظاهرون منذ الأوّل من تشرين الأوّل في نحو 11 محافظة في وسط وجنوب البلاد. لم يَعدْ يُرضي هؤلاء تسميّة حراكهم بأقلّ من «ثورة»، ودلالة ذلك ليس مطالبهم الجذرية فحسب، وإنما أعداد القتلى والمُغتالين والمصابين والمعاقين والمعتقلين والمغيّبين.
وعندما خرج العراقيون إلى الشوارع لم يتوقعّوا أن عنفًا بهذا الحجم سيُمارَس ضدّهم. كان الشعار الأكثر تحديًّا هو: «نموت عشرة، نموت ميّة، أنا قافل، ع القضية». لم يدرِ الشبّان أن مئة قتيل رقم ضئيل في آلة قتل السلطة التي ما انفكت تُمعِن في استخدامها منذ الأيّام الأولى من الثورة. بيْد أن السلطة، بدورها، لم يكن في حسبانها على الإطلاق، أن آلة القتل ذاتها ستصبح محرّكًا أساسيًا في ازدياد مَطَاِلب المجتمع العراقي برحيلها.
مجازر ضد عزل
حتى اليوم، تجاوزت أعداد قتلى الثورة العراقيّة أكثر من 430 قتيلًا، وعدد المُغتالين (أي أولئك الذي تمّ تعمد تصفيتهم) غير موثّق، وبلغ عدد المصابين أكثر من 20 ألف مصاب، الكثير منهم يعاني من إعاقة دائمة، إضافة إلى آلاف المعتقلين لدى السلطات الرسمية والفصائل المسلّحة التابعة للأحزاب. ومنذ بداية تشرين الأول، وحتى اليوم تعددت المجازر، وكانت غالبيّتها في تشرين الثاني، واستعمل فيها الرصاص الحي المباشر ضد متظاهرين عزّل لم يكن بحوزتهم أي سلاح. وتناوب على ارتكاب هذه المجازر قوّات رسمية تابعة للدولة وفصائل مسلّحة تابعة للأحزاب. حاولت الحكومات المحليّة في المحافظات والحكومة الاتحادية في بغداد التهوين من أعداد القتلى في البداية، إلا أنها بوغتت بتوثيق الشبّان لعمليات القتل وبعض عمليات الإعدام الميداني، فسارعت بإلصاق شتّى التهم بالمحتجين، وفي آخر الأمر ذهبت إلى خيارها الأثير: إقالة قادة أمنيين وإحالة القضايا إلى التحقيق.
لم تزرع مجازر بغداد -التي لم يتجاوز زمن ارتكاب أكبرها سوى يومين- الخوف في نفوس العراقيين. كانت المجازر ترتكب والساحات تمتلئ، والغضب يرتفع. تحوّل تشييع جثامين القتلى إلى تظاهرات سياسيّة انضم إليها شيوخ عشائر آثروا، لغاية قبل المجازر بفترة وجيزة، عدم الإدلاء بآرائهم السياسية. وبرز دور شابات لبسهن الزي العربي لبثّ الخجل في نفوس شيوخ عشائر الذين ما انفكوا يلتقون بالسياسيين لعقد صفقات تهدئة معهم، إذ أن في ارتداء النساء الزي العربي التقليدي إهانة كبيرة للرجال وفقًا للأعراف العشائرية العراقيّة.
أخرجت المجازر وتصاعد الحراك في الشوارع المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني عن تحفّظه السياسي ودفعته إلى المطالبة بإقالة حكومة رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي، وما كان من هذا الأخير إلا أن استجاب لطلب السيستاني وسارع إلى إعلان استقالته نهاية تشرين الثاني لكن دون أي شعور بالذنب بسبب القتل والقمع الذي ارتكب في عهده.
توقّعت الأحزاب بأنها ستتنفس الصعداء باستقالة عبد المهدي. عدّته إنجازًا لها وتبادلت أحاديث عن مرحلة جديدة وكلّفت محلليها السياسيين بالإدلاء، من على شاشات التلفاز، بضرورة الهدنة لتشكيل حكومة جديدة لتنفذ جميع مطالب الثورة. بطبيعة الحال، أطلقت الألعاب النارية وتناثرت حلقات رقص في ساحات الثورة فرحًا باستقالة الحكومة. غير أن فرحة استقالة الحكومة لم تدم سوى ساعات، لتنطلق، بعدها، الأصوات المشدّدة على الاستمرار بالثورة حتّى النهاية؛ أي إسقاط نظام المحاصصة برمته.
الثورة: مفاصل وتفاصيل
إن ما يحصل في العراق في واقع الأمر ليس ثورة وإنما ثورات، تقدّمتها تلك السياسية في طابعها، إلا أنها شملت مفاصل أخرى تتعلّق بالهويّة، وتوزيع الدخل، والمجال العالم، وحريّة المرأة، والتصدي لثقافة السلاح. وعلى الصعيد السياسي، هي ثورة لاستعادة السياسة التي احتكرتها الأنظمة لنفسها لأعوام طوال منذ حكم البعث وإلى اليوم؛ وفي هذا المفصل جرى تقنين المطالب ووضعها في قالب يسهل تحقيقه بدلًا من المطالب الراديكالية التي بدت صعبة التحقيق في البداية مثل منع جميع الأحزاب المشارِكة السلطة من العمل في أي عمليّة سياسيّة مقبلة، فضلًا عن إسقاط النظام وإحلال نظام رئاسي بدلًا عنه. إذ أن السياسة الآن بالنسبة للثوار الشبّان لم تعد تقتصر على عمليّة انتخابية بقانون انتخابات معقّد ذات حسابات رياضية يستحيل فهمها. وإنما مطلب بفرض قانون جديد يضمن تمثيل جميع الفئات، ويسمح بوصول أفراد وأحزاب صغيرة إلى البرلمان لتمثيل المجتمع.
وتشمل المطالب السياسية حكومة انتقالية من خارج الأحزاب والسلطة تقوم بتقديم كل من تورّط بالدم والفساد إلى المحاكمة، وتدير هذه الحكومة عملية انتخابات بعد أشهر وبإشراف دولي، وتضع شرطًا بعدم ترشّح أي من أعضاء الحكومة المؤقتة في الانتخابات التي ستجري لاحقًا.
ما يُعاب على الثورة، سياسيًا، هو أنّها لم تقدّم أي حزب أو تكتّل سياسي بإمكانه الوصول إلى السلطة لتمثيلها، لكن الحجّة التي تبرزها الساحات هي الخوف من الاغتيالات، والخشية من إظهار قيادات يتم تصفيتها أو استمالتها، أو حتّى تمثّل شقاقًا على الأسماء والأهداف داخل خيم الاعتصام.
أتاحت الثورة لحظة نادرة يسيطر فيها العراقيون على الحيز العام بوصفه مجالًا لالتقاء الجميع
وتمثّل الثورة استعادة للهويّة الوطنيّة العراقيّة التي عانت انقسامًا بسبب تقسيم النظام السياسي على أساس الطوائف. أدرك العراقيون أن التقسيم الطائفي لا يعني شيئًا للنظام السياسي، وأن الفقر والحرمان والقمع يتوزّع على الجميع، وأن ليس هناك طائفة بعينها تعيث فسادًا ودمارًا بالعراق، وإنما ما ذاك إلا نتاج المصالح السياسية والصراعات التي تنتج عنها.
حاولت بعض الأصوات السياسية الإشارة إلى أن فئة تتظاهر دون أخرى، وذلك في إشارة واضحة لمحافظات غرب وشمال العراق ذات الأغلبية السنية التي شهدت مشاركة ضعيفة في الاحتجاجات لغاية الآن. لكن الرابضون في ساحات الاعتصام في وسط وجنوب العراق وهم من الغالبيّة الشيعية يتفهمون القمع ضد سكّان هذه المحافظات ذات الغالبيّة السنية. إذ لم يمض على هذه المحافظات سوى عامين على تخلّصها من «داعش» وأي تحرّك اجتماعي سيجعل السجّون تغص بأبنائها بتهمة الانتماء إلى التنظيمات الإرهابية. ورغم ذلك، تحولّت ساحة التحرير وسط بغداد إلى ملتقى لجميع المحافظات والطوائف والأعراق. إذ استعادت بغداد دورها كعاصمة للجميع، وليس كمركز سياسي يتم من خلاله إدارة عمليات نهب وإفقار المحافظات الأخرى.
شملت الثورة أيضًا فهمًا للهوّة التي تفصل بين طبقة من المعدمين وأخرى أخذت تسمن جراء نهب المال العام، وميّزت فئات تستهلك المال العام لتعيش مرفّهة فيما أخرى تعيش في الخرائب. الفقرُ الذي امتدحه رجال الدين لأعوام وطالبوا الفقراء بالصبر عليه والدعاء من أجل الانفكاك منه، لم يعد يفهمه العراقيون سوى أنه سياسة مفروضة من السلطة على الفئات الضعيفة في المجتمع، وأن النهب المستمر للمال العام، وعدم عدالة توزيع الثروة الوطنية، والفساد المستشري، هي جميعها أدوات إفقار ذات طابع سياسي بحت.
وأتاحت الثورة لحظة نادرة يسيطر فيها العراقيون على الحيز العام بوصفه مجالًا لالتقاء الجميع: علمانيين، متدينين، وملاحدة. بمعنى أن المجال العام لم يعد يقترن في مخيلتهم بالحواجز الأمنية، والخوف من تشابه الأسماء في الهويّات مع سميين متهمين بالإرهاب، ولا السؤال المستمر «أين كنت وأين ذاهب؟» الذي تردّده القوّات الأمنية كالببغاء. خلافًا لكل ذلك، تحوّل الحيز العام إلى مساحة لتبادل الآراء والإفصاح عن المطالب والمخاوف والمظالم وطرح الاقتراحات، فضلًا عن أنه مجالٌ يُعبَّرُ فيه عن الفرحة، وتعزف في أجوائه الموسيقى، وتنطلق فيه حلقات الرقص والدعاء وقراءة القرآن.
وإذا كانت الأيام الأولى للثورة لم تشهد تواجدًا للنساء، فإن هذا الأمر تغيّر مع الوقت. إذ جسّدت الثورة ثورة للنساء على التقاليد التي حوّلت المرأة إلى قطعة شرف يصعب حتّى الحديث إليها. لعبت المرأة في ساحات الاحتجاج والاعتصام دورًا منحها قوّة لا يمكن لأحدّ سلبها إياه. فلم تخل قوائم القتلى والمخطوفين والجرحى والمغيبين من النساء. عالجت الطبيبات والممرّضات الجرحى في الخطوط الأمامية. وترافعن عن المحتجزين في مراكز الشرطة. طبخن وغسلن الملابس وتبرعنّ بالمال والذهب، وأقمن حملات حتى في مجموعات المكياج والطبخ المنتشرة على (واتساب) لإيصال المعلومات وإدامة التظاهرات. وقفت النساء صدًّا منيعًا أمام إيغال القوّات الأمنية بقتل الرجال في محافظة ذي قار عندما شكلن حاجزًا بشريًّا. وفرضت هذه القوّة خوفًا لدى المتحرشين من التقرّب جسديًّا منهن أو البوح لفظيًا أمامهن.
والتزمت الثورة بسلّميتها رغم المجازر التي ارتكبت بحق المشاركين، وهو ما مثّل ثورة على السلاح الذي ساهمت غالبية الأنظمة والحكومات في تفشيّه وركنه في زوايا المنازل العراقيّة. وإذا ما كان السلاح متوفّرًا، فإن استعماله لا يجب أن يصبح وافرًا هو الآخر، يردّد المتظاهرون.
حاولت الحكومة ومن خلفها الأحزاب المشاركة في السلطة دفع العراقيين إلى حمل السلاح لتتخلّص من الأزمة السياسيّة المهدّدة لوجودها بحرب أهلية. لقد أبرزت السلطات خيار الحرب الأهليّة في الأيام الأولى للاحتجاجات في تشرين الأول من خلال الهجوم على مدينة الصدر المدجّجة بالسلاح، لكن السكّان التزموا الخيار السلميّ، وتكرّر الأمر في محافظات ميسان وذي قار والبصرة والمثنى والتي تسكنها أعرق العشائر العراقية التي يمتلك أبناؤها أسلحة خفيفة ومتوسّطة، إلا أن شيوخ العشائر الذين انضموا إلى ساحات الاعتصام مالوا إلى الحقوق المدنية وسلطة القانون وتناسوا الأعراف التي تقول بالثأر لأبنائهم الذين قتلوا بالعشرات وبإعدامات ميدانية في بعض الأحيان.
انقسام سياسي
إزاء كل ما يحصل في الشارع، ما تزال السلطة وأحزابها تحاول الالتفاف على مطالب المحتجين بمحاسبة المتورطين بالفساد وهدر المال العام وإقرار قانون انتخابي جديد، وحصر السلاح بيد الدولة، وتوفير فرص العمل وتوفير السكن فضلًا عن الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والطاقة والطرق والنظافة. تحاول الأحزاب، والحال هذه، بشتّى الطرق اتباع القواعد ذاتها في إقرار تشكيل الحكومة وإقرار القوانين. تراهن السلطة على العنف الذي تمارسه، وأحوال الطقس الذي أخذ يبرد، والملل والتعب الذي قد يصيب المعتصمين في الساحات.
لكن هذه الرهانات تبدو، في معظمها، خاسرة. إذ لم يؤد العنف إلا إلى زيادة في أعداد المتدفقين إلى الساحات. باتت ديّة القتلى هي تحقيق المطالب. أما البرد والأمطار، فيحلّها «الدعم اللوجستي» الذي يأتي من العوائل على شكل مدافئ وألبسة سميكة وبطانيات.
وقد أدركت بعض أحزاب السلطة هذه الحقائق، وأحدث هذا الإدراك انقسامًا داخل الأروقة السياسية بين الأحزاب والقيادات وحتّى الفصائل المسلحة فيما بينها. قدّم رئيس الوزراء استقالته إلى البرلمان بدلًا من تقديمها إلى رئيس الجمهورية بحسب ما ينصّ الدستور، نتيجة لخلافات بينهما. وتنازلت كتلة «سائرون» بقيادة مقتدى الصدر عن تقديم أي مرشح بديل لعبد المهدي. وتخشى الأحزاب الأخرى، التي ستصوت على الحكومة، من تقديم أي مرشح سيرفضه الثوار ويسقط، وهو ما يعني نقطة ربح جديدة للثورة على الطبقة السياسية.
أما قانون الانتخابات الجديد الذي يطالب المحتجون بإقراره، والذي يضمن وصول المرشحين المستقلين والأحزاب الصغيرة إلى البرلمان، فقد بات السبب في تأجيل جلسات البرلمان الواحدة تلو الأخرى، لأنّه سيعني خروج عدد كبير من الأحزاب من اللعبة، وخسارة أخرى لنصف مقاعدها، ولذلك تظلّ تناور من أجل إقرار قانون نسبي يضمن على الأقل خسارة نصف مقاعدها.
يخشى الجميع الآن انفجار الشارع بشكل أكبر وعدم القدرة على السيطرة عليه. تجري أحاديث داخل الأحزاب حول ضرورة تقديم «أكباش فداء» للقضاء. وقد صدرت بالفعل أوامر إلقاء قبض بحق بعض أعضاء الأحزاب من الخطوط الثانية والثالثة. لكن الساحات ترد بعدم الكفاية.
ثورة مستمرة!
لا يبدو أن الشارع العراقي سيتراجع عن ثورته قريبًا. وتبرز أسباب عديدة لعدم تراجع الاعتصامات والإضرابات أو خفوت الأصوات في الساحات المركزية للثورة في بغداد والمحافظات بالرغم من العنف الوحشي -من أطراف متعدّدة- الذي استعمل ضدّ الشبّان العزل. وفي مقدمة تلك الأسباب هو الدم الكثير الذي أُريق. يكرّر الشبّان أن لا شيء ينتقم لرفاقهم المقتّولين سوى تحقيق المطالب. لا شيء سيجعل جثامينهم تستقرّ في قبورها غير «الوطن» الذين خرجوا من أجل استعادته، ولا انتقام عادل يكفيهم سوى بتقديم من تسبّب بالمقاتل إلى المحاكمات. وبالرغم من أن هذه الحجج تبدو «عاطفية»، إلا أنها، في متنها، واقعية.
لكن الخوف ليس على استراحة الأموات في قبورهم، وإنما على الأحياء أيضًا. فالنظام لم يرتكب كل هذه المجازر إلا لبقائه مؤبّدًا من دون تقديم أي تنازلات، وانتصاره ومن معه من الفصائل المسلّحة على الثورة، يعني، من جملة ما يعنيه، إحلال دكتاتورية لن تتوانى عن ارتكاب المجازر في أي وقت تريده، ويعني أن السجون ستمتلأ بكل من عارضها، وأن مستقبل الشبّان هو الانتحار أو الهجرة، أو العيش داخل العراق بإذلال.