بعد عامٍ من حرب مستمرّة لا أحد يعرف كيف ستنتهي ولا متى، يبدو أن العقوبات غير المسبوقة، التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيّون على روسيا، لم تحقق الكثير من أهدافها في ردع موسكو، ولا أفلحت في إنقاذ الحليف الأوكراني. لكنها أظهرت بقوة أن التجارة والاقتصاد ليسا مجاليْن محايدين ومنفصلين عن قضايا القوة وصراعات القيم والأيديولوجيات. ومع ذلك فإن هذا السلاح بعيد كل البعد عن كونه ظاهرة جديدة، أقله في تاريخنا المعاصر، حيث لم تكفّ الدول الغربية عن استخدامه ضد الأنظمة والدول المعادية لها.
في كتابه «السلاح الاقتصادي: صعود العقوبات كأداة للحرب الحديثة»، يجادل المؤرخ نيكولاس مولدر، بأن سياسة فرض العقوبات في وقت السلم لتحقيق أهداف عسكرية ولدت في عام 1919، في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة. فقد وضعت هذه السياسة في المادة 16 من ميثاق عصبة الأمم، التي فرضت عقوبات جماعية على أي دولة عضو تبدأ حربًا عدوانية.
لكن العقوبات تحوّلت منذ بداية القرن الحالي إلى أداة مركزية للديمقراطيات الغربية في إدارة سياستها الخارجية. وعلى مدار العقدين الماضيين، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مثل هذه الإجراءات ضد ثلاثين دولة. وتقوم مصفوفة العقوبات الغربية التقليدية على اعتبارها أداة قسرية تهدف إلى الضغط على بلد ما.
تختلف شروط العقوبات باختلاف حالة البلد المستهدف، لكنها تسعى في معظم الأحيان إلى تقليص التجارة، أو التأثير على النمو الاقتصادي، أو زيادة التضخم، أو توسيع العجز العام، أو تقييد الوصول إلى التكنولوجيا. وتراهن الدول التي تفرض العقوبات على أن هذا الوضع سيؤدي إلى إشعال أزمات داخل الدول المستهدفة، وبالتالي ستفضّل التفاوض على رفع العقوبات مقابل تغيير سلوكها، أو أن يؤدي تقييد الموارد الاقتصادية للبلد المستهدف إلى تعقيد سعيها لتحقيق أهداف غير مشروعة، كما في حالة إيران أو كوريا الشمالية.
الوصفة الأمريكية
جعلت الهيمنة التكنولوجية والمالية الأمريكية على العالم من العقوبات الاقتصادية الوسيلة المفضلة لواشنطن كي تعاقب خصومها. فالولايات المتحدة هي الدولة التي تفرض معظم العقوبات. وعلى مدى العقدين الماضيين، فرضت واشنطن عقوبات أكثر مما فرضه الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وكندا مجتمعين. وتستهدف برامج العقوبات الأمريكية البالغ عددها 70 تقريبًا ما يقرب من عشرة آلاف فرد وشركة حول العالم. تُفرض بعضها على جهات فاعلة غير حكومية، مثل الجماعات الإرهابية، وتجار المخدرات في أمريكا الجنوبية أو أولئك الذين يسهلون انتشار الأسلحة النووية. أمّا البرامج الرئيسية فيتم تطبيقها على بلدان بأكملها، مثل فنزويلا أو كوبا أو كوريا الشمالية. ورغم العقوبات المتعددة التي نفذت ضد موسكو منذ بداية الحرب في أوكرانيا، لا تزال إيران الدولة الأكثر معاقَبة من طرف الولايات المتحدة، من حيث عدد الكيانات المستهدفة وخطورة الإجراءات المنفذة. ومع ذلك، فإن روسيا ليست بعيدة عن المستوى الإيراني، حيث تمثل هاتان الدولتان أكبر زبائن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) في وزارة الخزانة الأمريكية، وهو الجهة المسؤولة عن العقوبات.
أدى تحول العقوبات الأمريكية من التركيز على التجارة نحو محاصرة التدفقات المالية للدول المستهدفة إلى المزيد من هيمنة واشنطن على النظام المصرفي العالمي.
في الجزء الأكبر من القرن العشرين كانت الآلية الأمريكية تقوم على العقوبات التجارية، كما فعلت مع كوبا في عام 1960. وهي آلية بسيطة تعمد فرض حظر على الشركات والمقيمين في الولايات المتحدة يمنع تصدير واستيراد البضائع من كوبا أو إليها. لكن منذ بداية القرن الحالي، أصبحت الآلية تعتمد العقوبات المالية، ففي عام 2003 اكتشف مكتب مراقبة الأصول الأجنبية أن أحد البنوك في ماكاو، بنك دلتا آسيا، يمثل القناة المالية الوحيدة بين كوريا الشمالية وبقية العالم. ومع ذلك، واجهت واشنطن في ذلك الوقت تحديًا، حيث كانت العقوبات الوحيدة الموجودة هي الحظر التجاري وكانت بيونغ يانغ قد خضعت بالفعل لمثل هذا الإجراء منذ نهاية الحرب الكورية. علاوة على ذلك، لم يكن للولايات المتحدة ولاية قضائية لتجميد أصول بنك مقره ماكاو. فعمدت إلى قطع وصول بنك دلتا آسيا إلى الدولار، وبالتالي جعله بنكًا منبوذًا لا يمكن لأي مؤسسة مالية أخرى الحفاظ على التعامل معه. بعد نجاح هذه الفكرة، فرضت الولايات المتحدة مثل هذه العقوبات على نطاق متزايد، لا سيما ضد إيران (منذ 2006)، ثم ضد روسيا (بعد 2014) وأخيرًا ضد فنزويلا (منذ 2017).
أدى تحول العقوبات الأمريكية من التركيز على التجارة نحو محاصرة التدفقات المالية للدول المستهدفة إلى المزيد من هيمنة واشنطن على النظام المصرفي العالمي، والذي يتجلى في الامتثال المفرط للمؤسسات المالية، خوفًا من الغرامات المفروضة، فمثلًا اضطر بنك بي إن بي باريبا الفرنسي، في عام 2014 إلى دفع غرامة قدرها 8.9 مليار دولار للجهة التنظيمية الأمريكية بعد انتهاك العقوبات المفروضة على إيران، لذلك تفضل البنوك رفض أي معاملة -حتى القانونية منها- مع إيران أو سوريا أو أفغانستان. ومما يؤكد هذا الامتثال المفرط، سلوك المؤسسات المالية خلال الفترة القصيرة للاتفاق النووي الإيراني بين عامي 2015 و2018، حيث ظلت البنوك الأوروبية حذرة فيما يتعلق بإيران، أي أنه لا يكفي رفع العقوبات لإبطال مفعولها.
متلازمة المضادات الحيوية
لكن، هل يمكن أن ينقلب سحر العقوبات الفوري والقوي على الساحر؟ في كتابها الصادر حديثًا عن منشورات جامعة كولومبيا الأمريكية، والذي حمل عنوان: «نتائج عكسية: كيف تعيد العقوبات تشكيل العالم ضد المصالح الأمريكية» تناقش الباحثة الاقتصادية الفرنسية أغاث ديماراي، حدود هذا السلاح الأمريكي وتجادل بأنه أصبح سلاحًا لا موجهًا فقط للخصوم بل يوشك أن ينقلب ضد صاحبه. فتشير إلى وجود قواسم مشتركة بين العقوبات الأمريكية والمضادات الحيوية: هاتان الأداتان مهمتان، لكن إساءة استخدامهما تخلق مقاومة، مما يقلل من فعاليتهما على المدى الطويل.
ومع الانتشار المكثف للعقوبات الغربية ظهرت أشكال من المقاومة، وبالنسبة للعقوبات التي تستهدف الدوائر المالية، تقوم حركة المقاومة هذه على ثلاثة ابتكارات مالية.
الأولى وهي إزالة الدولرة بوصفها الأداة الأولى لتحصين الاقتصاد ضد العقوبات. حيث يؤدي عدم استخدام الدولار في المجال التجاري أو تكوين احتياطيات من النقد الأجنبي إلى إمكانية التحايل على العقوبات جزئيًا. في أعقاب دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا، جمدت الدول الغربية احتياطيات البنك المركزي لروسيا بالدولار واليورو والجنيه الإسترليني، لكنها عجزت عن تجميد الاحتياطيات المحتفظ بها باليوان والروبية أو الذهب. ونتيجة لذلك، جمدت نصف احتياطيات موسكو من العملات الأجنبية فقط. وتمثل الاحتياطيات المتبقية أكثر من 300 مليار دولار، أي أكثر من إجمالي الأصول الاحتياطية الأمريكية.
الطريقة الثانية هي تطوير بدائل لنظام سويفت، الذي يربط جميع المؤسسات المالية حول العالم. فقد تعلمت روسيا والصين وفنزويلا من الدرس الإيراني كثيرًا. في عام 2012، قطعت سويفت جميع البنوك الإيرانية عن شبكتها، مما أدى إلى إغراق البلاد في عزلة مالية عميقة، لذلك تقود الصين اليوم قاطرة صنع البديل من خلال نظام CIPS الخاص بها: فهي شبكة أصغر من سويفت لكن هناك 1300 بنكًا متصلًا بها، مما يشكل خطة بديلةً للصين في حال تم فصلها يومًا ما عن سويفت.
أمّا الابتكار الثالث فهو العملات الرقمية التي تعد أداة مناسبة للدول التي ترغب في الالتفاف على العقوبات، وفي هذا المجال تمتلك الصين اليد العليا، من خلال أكثر من 300 مليون صيني يستخدمون بالفعل اليوان الرقمي. وفي حال نشوب أي نزاع، ستكون للعقوبات الغربية عاجزةً عن التأثير على العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي الصيني، وهذا له مزايا أخرى، فهو يسمح للصين بالتحكم في الوقت الفعلي في جميع المعاملات التي تتم على الأراضي الصينية، وعلى المدى البعيد يمكن أن يصبح اليوان الرقمي عملة مرجعية للتجارة مع الصين.
تعتقد أغاث ديماراي أن ظهور آليات مالية غير غربية يشكل فرصة للصين لاكتساب القدرة على عزل شركات معينة، وحتى دول بأكملها، عن السوق الصينية. أي أن تصبح الصين هي الطرف الذي يفرض العقوبات مستقبلًا. ففي غضون بضعة عقود، ستتجه الصين إلى فرض مرور جميع أنواع المعاملات التجارية معها عبر نظام CIPS. وهذا الخطر بالنسبة للغربيين ليس ضئيلًا، حيث تمثل الصين سوقًا يضم مليارًا وأربعمائة مليون شخص، وستصبح القوة الاقتصادية الرائدة في العالم بحلول عام 2040. مشيرةً إلى أن ظهور مشهد مالي دولي مجزّأ مع الآليات المالية الغربية من ناحية والآليات المالية الصينية من ناحية أخرى سيعقّد السعي الغربي للمعاملات المالية التي يعتبرها غير المشروعة، وبالتالي سيضعف من قدرة واشنطن وحلفائها على الهيمنة.
جعلت الهيمنة التكنولوجية والمالية الأمريكية على العالم من العقوبات الاقتصادية الوسيلة المفضلة لواشنطن كي تعاقب خصومها، وعلى مدى العقدين الماضيين، فرضت الولايات المتحدة عقوبات أكثر مما فرضه الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وكندا مجتمعين.
في الوقت نفسه، ومع رقمنة الاقتصادات وزيادة استخدام أشباه الموصلات، ستدور المعارك الاقتصادية مستقبلًا في المجال التكنولوجي. وهو ما يفسّر إعادة واشنطن مؤخرًا إحياء ضوابط التصدير -وهي أداة موروثة من الحرب الباردة- لقطع وصول الصين إلى هذه التقنيات. حيث تراهن الولايات المتحدة على أنها ستبطئ تطور الصين في مجال أشباه الموصلات، وبالتالي تحافظ على تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري. لكن الكاتبة تجادل بأن هذه الاستراتيجية الأمريكية تطرح أربعة أسئلة. يتعلق الأول بحقيقة أنه في عالم «منفصل» -حيث لا تكون سلاسل الإنتاج الصينية قادرة على الوصول إلى التقنيات الأمريكية- يمكن أن تفقد الشركات الغربية إمكانية الوصول إلى السوق الصينية، وهنا ستجد واشنطن نفسها أمام خطر حقيقي يتمثل في أن الانخفاض في الإيرادات من شأنه أن يدفع الشركات إلى خفض إنفاقها على البحث والتطوير، وبالتالي قد تفقد الشركات الغربية ميزتها التكنولوجية، ذلك أن إنفاق الحكومة الصينية على البحث والتطوير في مجال أشباه الموصلات أعلى بكثير منه في الولايات المتحدة. والثاني هو الاستجابة الصينية، حيث يعتمد تصنيع أشباه الموصلات على الوصول إلى مجموعة من المعادن النادرة تسيطر الصين على أكثر من 40% من احتياطاتها و85% من طاقتها التكريرية، فقد تقرر الصين تقييد وصول الدول الغربية إلى هذه الموارد، وقد فعلت ذلك بالفعل في عام 2010 عندما قطعت وصول اليابان إلى عناصر أرضية نادرة بعد نزاع بينهما.
أمّا السؤال الثالث فيتعلق بالمعايير التكنولوجية. تعمل الصين أكثر من أي وقت مضى على تطوير استراتيجية طموحة للتأثير في هذا المجال، وهو أمر حاسم للسيطرة على الأسواق الدولية. في عالم مفصول، ستضاعف الصين جهودها لتطوير أدواتها، على سبيل المثال لجعل معيار WAPI (منافس لشبكة Wifi) المعيار العالمي للإنترنت اللاسلكي، وقد يكون لهذا آثار أمنية كبيرة، حيث يمنح معيار WAPI الصين بعض الحرية في التحكم في تدفق البيانات. أمّا الرابع والأخير، فيتعلق بتايوان، التي تسيطر اليوم على غالبية إنتاج أشباه الموصلات المتقدمة، وفي عالم منفصل، ستضاعف الصين جهودها لتطوير سلاسل الإنتاج الخاصة بها في مجال أشباه الموصلات، وفي حال لم تعد الصين بحاجة إلى أشباه موصلات تايوانية الصنع، فإن خططها لإعادة ضمّ الجزيرة يمكن أن تؤتي ثمارها.
أخيرًا يبدو العصر الذهبي للعقوبات المالية وراءنا، كما ترى أغاث ديماراي. لذلك فإن المعارك الاقتصادية المستقبلية ستدور في المجال التكنولوجي. ولئن بدت الاستراتيجيات الأمريكية والصينية واضحة، تظلّ الاستراتيجية الأوروبية واستراتيجية الدول النامية متناقضة. إذا كان من الواضح أنه في حالة حدوث مواجهة حول تايوان، فإن الاتحاد سينحاز إلى الولايات المتحدة، فإن الاستراتيجية الأوروبية فيما يتعلق بالسيادة الاقتصادية تبدو غير مؤكدة. يعرف الاتحاد أن لديه الكثير ليخسره بالانحياز التام لواشنطن: فالصين هي الشريك التجاري الأكبر للكتلة الأوروبية وعزل نفسها عن السوق الصينية سيؤدي بالقارة إلى أزمة اقتصادية عميقة. علاوة على ذلك، فإن القدرة التنافسية للشركات الأوروبية متخلفة عن نظيراتها الصينية، وتخاطر أزمة الطاقة في أوروبا بتفاقم هذه الظاهرة.
في المقابل يثير موقف الدول الناشئة تساؤلات أيضًا، فالاستياء من القوى الاستعمارية السابقة حاضر بشكل خاص في أفريقيا، كما أنه ملموس في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، لكنه لم يتبلور حتى اليوم ضمن نهج سياسي واضح، حيث ما زال توقها للتحررّ مكبلًا بعقود طويلة من الهيمنة الغربية، لا الاقتصادية فقط، بل والنفسية كذلك.