كانت العقوبات «الأممية» التي فُرضت على العراق منذ آب 1990 وحتى الغزو الأمريكي في آذار 2003 أصدق تعبير عن المرحلة التاريخية التي دخلها العالم منذ جلوس الولايات المتحدة على عرشه. فقد كان فرض عقوبات مُطبقة وشديدة التعقيد على بلد كان يعدّ حينها حوالي 20 مليون إنسان تجسيدًا لمدى القوة الذي بلغته الولايات المتحدة حينها، ولقدرتها على التفرد بالقرار وتسخير الهيئات الدولية لشرعنة سياساتها. وفي الوقت نفسه، مثلت العقوبات على العراق نموذجًا جرى استنساخه والتطوير عليه عشرات المرات، ليصبح أحد أهم أسلحة المرحلة الجديدة.
لم تكن مثل هذه العقوبات ممكنة في أي وقت مضى. فأثناء الحرب الباردة، حال التوازن داخل مجلس الأمن الدولي دون الوصول لاتفاق من هذا النوع، ووفّر الصراع بين القطبين بدائل لمن تُفرض عليه العقوبات. ورغم أن حالة جنوب إفريقيا، التي كثيرًا ما تستدعى كمثال إيجابي لاستخدام العقوبات الاقتصادية، شهدت مشاركة دولية واسعة، لم تصل العقوبات ضد نظام الفصل العنصري بأي حال إلى درجة شل قدرته على استيراد السلع وتدمير بنيته التحتية.[1]
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، استمدت دول العالم الثالث قوتها من حركاتها المعادية للاستعمار وموجة الاستقلال التي عمّتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومن وجود بديل ذي سمات اشتراكية كان أقدر على توفير حلول تنموية للنهوض ببلدان وليدة أُفقرت على مدى قرون. فقدت هذه الدول الكثير من قوتها في النظام العالمي الجديد، ليس فقط جراء التبعات العنيفة لدخولها القسري إليه، بما شمله من «تصحيح هيكلي» باهظ على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، بل أيضًا لما فقدته على المستوى السياسي من قدرة على المناورة بين الشرق والغرب، لينكشف ضعفها في ميزان القوى الدولي بوضوح غير مسبوق. وكانت الأمم المتحدة إحدى ساحات هذا الانكشاف، بعد عقود كانت فيها دول العالم الثالث هي من منح المنظمة دورها المركزي في العلاقات الدولية.[2]
صوّرت السردية الغربية للانتصار في الحرب الباردة النظامَ الدولي الجديد على أنه أكثر استقرارًا وسلمًا، ويستطيع الغرب فيه أن يعمل عبر الأمم المتحدة من أجل حماية الأمن العالمي.[3] كانت العقوبات ابنة هذا النظام الجديد، التي يفترض أن تساعد على حماية الاستقرار العالمي وسيادة القانون الدولي عبر قرارات جماعية وأدوات أقل عنفًا. لكن كما بتنا نعرف بعد ثلاثة عقود، لم يكن هذا النظام الجديد أكثر سلمًا، بل ازداد خطر الحرب تحت غطاء التدخلات الإنسانية، ولم يكن جماعيًا بقدر ما كانت الجماعية مسمىً جديدًا للنفوذ الأمريكي، ولم تكن أدواته الجديدة أقل عنفًا. فكما تظهر حالة العراق، كانت العقوبات قادرة على ترك أثر تدميري يستحق توصيف الإبادة الجماعية.
لذا، فإن العودة إلى هذه العقوبات بعد أكثر من ثلاثين عامًا على بدء فرضها، ليست فقط من باب التذكير بفداحة هذا الماضي القريب الذي لم ينته مفعوله بعد، والذي أسس لمرحلة جديدة من الدمار مع احتلال العراق، بل هي مهمة أيضًا من أجل فهم كيف استُخدم سلاح العقوبات منذ ذلك الحين لفرض النظام العالمي الجديد وتثبيته، وما الذي يعنيه تراجع القدرة على استخدامه.
أمم الولايات المتحدة
في السادس من آب 1990، بعد أربعة أيام على غزو العراق للكويت، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 661، الذي حظر الاستيراد من العراق وتصدير أي شيء إليه، باستثناء الأدوية، والغذاء فقط في «الحالات الإنسانية». لكن الآليات التي وُضعت لإنفاذ العقوبات ضمنت أن يُمنع العراق تمامًا من استيراد الغذاء في الأشهر الثمانية الأولى، وهو الذي كان حينها يستورد 70% من غذائه. وخلال سنة من فرضها، أدت العقوبات لتخفيض صادرات العراق بنسبة 97% ووارداته بنسبة 90%.[4]
مر القرار بلا اعتراض، بموافقة 13 عضوًا، وامتناع عضوين عن التصويت، هما اليمن وكوبا، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة. فكما تنقل جوي غوردون في كتابها «الحرب الخفية: أمريكا والعقوبات على العراق»، قدمت الولايات المتحدة لكل دولة نامية تقريبًا في مجلس الأمن «امتيازات» مقابل تصويتها لصالح القرار. إذ استخدمت نفوذها لدى صندوق النقد والبنك الدوليين لتقديم قروض لكل من الأردن ومصر وتركيا والصين، وقدمت معونات اقتصادية جديدة لكولومبيا وإثيوبيا وزائير.[5] أما اليمن، فعرضت عليه دعم الموقف الفلسطيني عبر تعيين فلسطينيٍ كأمين مظالم للأمم المتحدة في «إسرائيل». وحين امتنع في النهاية عن التصويت، أبلغ دبلوماسي أمريكي مندوبَ اليمن في الأمم المتحدة أن ذلك سيكون «أغلى صوت بالرفض أدليتَ به يومًا». وبعد ثلاثة أيام فقط، ألغت الولايات المتحدة برنامج مساعدات لليمن بقيمة 70 مليون دولار.[6]
صوّرت السردية الغربية للانتصار في الحرب الباردة النظامَ الدولي الجديد على أنه أكثر استقرارًا وسلمًا، ويستطيع الغرب فيه أن يعمل عبر الأمم المتحدة من أجل حماية الأمن العالمي. كانت العقوبات ابنة هذا النظام الجديد.
نصّ القرار على تشكيل لجنة تتبع لمجلس الأمن تكلّف بمتابعة تنفيذ العقوبات، باتت تعرف بـ«لجنة 661»، نسبةً للقرار. ورغم أن صلاحياتها الأولية اقتصرت على مراجعة التقارير المتعلقة بسير العقوبات وطلب معلومات إضافية حول تنفيذها، إلا أنها تضخمت بمرور الوقت، لتصبح اللجنة صاحبة الكلمة الأخيرة في كل ما يدخل أو يخرج من العراق. حددت اللجنة الواردات التي تنطبق عليها «الإعفاءات الإنسانية»، بما فيها تلك التي تدخلها الهيئات التابعة للأمم المتحدة، وباتت الطرف المخوّل بتفسير جميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالعقوبات على العراق.[7]
صُممت «لجنة 661» على نحو مكّن الولايات المتحدة من التحكم بنظام العقوبات. فقد كانت تتخذ قراراتها بالتوافق، ما يعني أن أي عضو فيها كان لديه حق النقض. وكانت جميع جلساتها مغلقة، وفي كثير من الأحيان لم تكن أجندات الاجتماعات متوفرة حتى لبعض أعضائها. كما شملت 15 عضوًا فقط (ممثلةً الدول الأعضاء في مجلس الأمن)، رغم العدد الهائل من عقود التصدير والشراء التي باتت اللجنة مكلفةً بالمصادقة عليها، وهو ما تسبب في تأخيرات شديدة. والأهم من ذلك، لم تكن قراراتها بمنع استيراد هذه السلعة أو تلك مشفوعةً في الغالب بأي تبرير، فردّها كان عادة يقتصر على أنها «لم تتمكن من الموافقة». وعلى مدى عمرها، لم تتوفر أي معايير واضحة للطريقة التي تتخذ فيها قرارات المنع.[8]
خلال الأشهر الأولى من العقوبات، حالت الولايات المتحدة، ومعها عدد قليل من الدول الغربية على رأسها بريطانيا، دون تطبيق استثناء «الحالات الإنسانية» الذي سمح باستيراد الغذاء بموجب القرار. تنقل مذكرة أممية جدالًا دار داخل اللجنة حول طلب بلغاري للحصول على إذن لتصدير شحنة من حليب الأطفال مطلع عام 1991. حاججت الولايات المتحدة بأن نقص الغذاء الشديد، كما يحصل في مجاعة واسعة النطاق، وحده يشكل «حالة إنسانية» تستوجب الإعفاء، وأن المواد الغذائية بحد ذاتها ليست «مواد إنسانية». وظلت تدفع بأن السماح للعراق باستيراد الغذاء «يقوض الهدف من القرار» 661، حتى آذار عام 1991، حين أصدرت اللجنة قرارًا باعتبار الظروف الإنسانية منطبقة على جميع سكان العراق، ليُسمح باستيراد الغذاء بإخطار، بالإضافة إلى استيراد «السلع الإنسانية» بشرط موافقة اللجنة.[9] منذ بداية العقوبات وحتى ذلك الحين، لم يستورد العراق من الحبوب سوى 10 آلاف طن، أي ما يعادل تقريبًا حاجته منها ليوم واحد فقط.[10]
لكن الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا، وجدت طرقًا للالتفاف على هذا القرار أيضًا. فتحت عنوان منع المُدخلات الصناعية، رفضت إدخال الكثير من المواد الضرورية لإنتاج وحفظ الأطعمة، فمنعت مثلًا استيراد الألمنيوم لتعليب المنتجات الغذائية، والبلاستيك لإنتاج زجاجات العصير، وحتى الملح على اعتبار أنه يمكن أن يستخدم في صناعة الجلود، فيما منعت استيراد القماش الأبيض للأكفان بحجة أنه يمكن أن يعزز صناعة الملابس العراقية. وفي مثال يكاد يكون فكاهيًا، تقدمت سوريا بطلبٍ للسماح لها بطحن القمح لصالح العراق، فبعد تدمير عدد كبير من مصانعه، ومنعه من استيراد آليات صناعية، لم يعد العراق قادرًا على معالجة ما يزرعه من قمح. لكن ممثل الولايات المتحدة في اللجنة عارض الطلب على أساس «وجوب التركيز على بناء القدرات داخل العراق».[11]
كانت حجة «الاستخدام المزدوج» كذلك عنصرًا رئيسًا في تبرير الولايات المتحدة لرفضها العديد من العقود. فبذريعة وجود استخدام عسكري للسلع، إضافة إلى استخدامه المدني، منعت الولايات المتحدة استيراد كل شيء كان من شأنه أن يساهم في ترميم البنية التحتية العراقية المدمرة، من المولدات الكهربائية إلى أجهزة تنقية المياه إلى المواد الإنشائية، فضلًا عن قائمة طويلة من الممنوعات المثيرة للسخرية. فقد منعت لقاحات الأطفال بحجة أنه يمكن استخراج الفيروسات الضعيفة فيها لإنتاج أسلحة بيولوجية، ومنعت استيراد البيض على اعتبار أنه يمكن أن يستخدم كحاضنة للفيروسات، ومعجون الأسنان لأن الفلورايد يمكن أن يستخدم لإنتاج أسلحة كيميائية، والأتروبين (وهو دواء ضروري في أي عملية جراحية يخضع فيها المريض للتخدير العام) بحجة أن الجنود العراقيين يمكن أن يستخدموه في المعركة كترياق من غاز الأعصاب.[12]
بالمحصلة، لم يستطع العراق استيراد أي شيء تقريبًا في السنوات الخمس الأولى، إما بحجة أنه مدخل في الصناعة، أو أن له استخدامًا مزدوجًا، أو أنه ليس سلعة إنسانية أساسية. ثم في عام 1995، صدر قرار مجلس الأمن 986 الذي أقر برنامج «النفط مقابل الغذاء» وسمح للعراق بتصدير جزء من إنتاجه النفطي مقابل السماح له باستيراد حاجاته الأساسية.[13] ورغم أن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة أشار إلى أن هذا الترتيب سيوفر أقل من ثلث المبلغ المطلوب لتأمين أبسط الحاجات البشرية للعراق، إلا أن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة داخل اللجنة لم يختلف كثيرًا. تغيرت اللغة المستخدمة، فبدلًا من «رفض» عقود الاستيراد، باتت اللجنة «تحجزها» في انتظار الموافقة لأشهر أو سنوات. وبحلول أيار 2002، بلغت قيمة العقود المحجوزة 5.5 مليارات دولار، كانت الولايات المتحدة بمفردها مسؤولة عن حجز 90% منها، فيما حجزت بريطانيا حوالي 5% منها، وفُرضت الحجوز المتبقية بشكل مشترك بينهما.[14]
لم يستطع العراق استيراد أي شيء تقريبًا في السنوات الخمس الأولى من الحصار، إما بحجة أنه مدخل في الصناعة، أو أن له استخدامًا مزدوجًا، أو أنه ليس سلعة إنسانية أساسية.
في صيف 2002، بعد أن بلغت قائمة الممنوعات الأمريكية من الطول حدًا أثار السخط حول العالم، أقر مجلس الأمن آلية جديدة لمراجعة عقود الاستيراد، وضعت بموجبها قائمة من السلع المحظورة، والسلع التي تحتاج لموافقة، والسلع المسموحة بوضوح، وشُكلت لجنة أممية جديدة لمراجعة العقود. بمجرد أن خرجت المسألة من يد الولايات المتحدة، جرت الموافقة على الفور على معظم العقود، وانخفضت الحجوزات بنسبة 87% بحلول تشرين الأول من العام نفسه.[15] لكن بعد 12 عامًا من الحصار الخانق، كان الضرر قد وقع بالفعل.
لم يكن تصميم لجنة 661 وحده ما منح الولايات المتحدة السلطة النهائية في تشكيل نظام العقوبات. فلأن القرار 661 لم يكن محدد المدة، كان رفع العقوبات يتطلب قرارًا جديدًا في مجلس الأمن يمكن دومًا استخدام حق النقض ضده، ما عنى أن العقوبات ستبقى قائمة حتى تقرر الولايات المتحدة رفعها.[16] وفي حين أن الهدف المعلن للقرار كان سحب القوات العراقية من الكويت، إلا أن الولايات المتحدة سرعان ما بدأت تضيف قائمة معقدة من الشروط التي يصعب أساسًا قياس امتثال العراق لها، فضلًا عن صعوبة تحقيقها.[17] كما بدأت توظف لغة حقوق الإنسان، رابطةً رفع العقوبات بوقف الانتهاكات التي يرتكبها النظام العراقي بحق شعبه (في حين صوتت الولايات المتحدة قبل أربع سنوات فقط من فرض العقوبات ضد قرار أممي يدين العراق لاستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد الجنود الإيرانيين). وقبل أن تتم العقوبات سنتها الأولى، كانت الولايات المتحدة تعبر بوضوح عن أن الشرط الجديد لرفعها هو تغيير النظام.[18]
لم يكن ذلك محط إجماع في الأمم المتحدة، لكن كما علّق هانز فون سبونيك، منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق، الذي كان مسؤولًا عن برنامج النفط مقابل الغذاء أواخر التسعينيات: «كان هناك بعض النباح، لكن لم يكن هناك عضّ».[19] ولم تخفِ مادلين أولبرايت، التي كانت في منتصف التسعينيات المندوبة الأمريكية للأمم المتحدة، هذه اللامبالاة بـ«النباح» الأممي حين قالت «سنعمل مع الآخرين على نحو مشترك حين نستطيع وعلى نحو فردي حين ينبغي».[20]
تصفية المجتمع
«سنعيدكم إلى العصر قبل الصناعي».
– وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، 9 كانون الثاني 1991.[21]
جاء نظام العقوبات ممهدًا ومكملًا في الوقت نفسه لحرب عام 1991. فقد تركت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة العراق في حالة تشبه «نهاية العالم»،[22] وضمنت العقوبات ألا يخرج البلد من هذه الحالة لعقود.
خلال 42 يومًا فقط، نفذت قوات التحالف 118 ألف غارة، وأسقطت أكثر من 170 ألف قنبلة زنتها قرابة 88 ألف طن، كان من بينها آلاف قنابل اليورانيوم المنضب، فوق 800 هدف، معظمها من مرافق البنية التحتية والمنشآت الصناعية العراقية. كان هذا الكم من القوة التفجيرية يعادل سبع قنابل ذرية من قنابل هيروشيما. وإلى جانب عشرات آلاف الجنود العراقيين الذين قتلوا قصفًا في الصحراء، وأحرقوا بالنابالم في الخنادق، ودفن الآلاف منهم في مقابر جماعية، بل إن بعضهم دُفنوا أحياءً، قُدّر أن 113 ألف مدني عراقي قتلوا قبل انتهاء الحرب، 60% منهم أطفال.[23]
شملت الأهداف الأمريكية عددًا هائلًا من المنشآت المدنية التي لم يكن لها أي صلة بغزو الكويت، كمحطات توليد الكهرباء، ومنشآت تنقية المياه والخزانات، ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي، والجسور والطرق وسكك الحديد والقطارات ومرائب الحافلات، وشبكات الهاتف والمنشآت اللاسلكية، وآبار النفط وأنابيبه ومصافيه، ومصانع الغذاء والنسيج وتجميع السيارات، والجامعات والمدارس، والمستشفيات والمستوصفات، وأماكن العبادة، والمواقع الأثرية، إضافة إلى قرابة 20 ألف بيت وشقة ووحدة سكنية. وقدرت التكلفة الإجمالية للدمار الذي حل بالعراق بـ190 مليار دولار.[24]
عمليًا، دمرت الحرب كل ما يحتاجه مجتمع حديث لاستدامة الحياة، وشلّت قدرة الحكومة العراقية على أداء الوظائف اليومية التي تقوم بها الدولة في أي بلد، ثم جاءت العقوبات لتحبط أي محاولة للاستجابة لهذا الظرف. فرغم أن الحكومة بدأت فور انتهاء الحرب حملة لإصلاح البنى التحتية، حققت فيها خلال ثلاثة أشهر «نجاحًا غير متوقع»، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا بأي حال. فمع نهاية الحرب، بلغت قدرة العراق على توليد الكهرباء أقل من 4% من قدرتها السابقة، وقلّ الوصول إلى المياه الصالحة للشرب بنسبة 75%، ودُمر نصف خطوط الهاتف بشكل لا يمكن إصلاحه. ودون كهرباء، لا يمكن الحفاظ على تبريد الأدوية ولا تشغيل المستشفيات. ودون تنقية المياه ومعالجة الصرف الصحي، ستنتشر على نطاق واسع الأمراض المنقولة بالمياه. ودون شاحنات وطرق، لا يمكن توزيع الغذاء. وحين ندرك أن هذا الوضع بقي بلا تغيير جوهري على مدى الجزء الأكبر من عمر الحصار، يتضح عمق الكارثة التي حلت بالعراق.[25]
أبطلت الحرب والعقوبات نحو نصف قرن من التنمية والتحسن في مستويات المعيشة. في نهاية الثمانينيات، كان العراق يمتلك أحد أعلى معدلات نصيب الفرد من الغذاء في المنطقة، وشمل التعليم الابتدائي الغالبية الساحقة من الأطفال، ورفعت الحملة التي أطلقها العراق أواخر السبعينيات، والتي فاز عليها بجائزة من اليونسكو، نسبة محو الأمية بين الإناث إلى 85%، وكان لدى 93% من السكان وصول للرعاية الصحية، وقُضي على الكثير من الأمراض السارية بفضل نسب التلقيح العالية.[26] وقبل نهاية التسعينيات، انحدرت مؤشرات مستوى الحياة على كافة الصعد. كان نظام الحصص التموينية الذي طبقته الحكومة العراقية، باعتراف منظمة الفاو، العامل الوحيد الذي حال دون مجاعة واسعة النطاق. ومع ذلك، توفي 11 ألف عراقي جوعًا في السنة الأولى من العقوبات، وانخفض متوسط السعرات الحرارية للفرد لقرابة النصف، وافتقرت هذه الحصص للعناصر المغذية والبروتينات.[27] وبحلول عام 1998، كان ثلث الأطفال العراقيين يعانون من سوء تغذية مزمن ويزنون ثلث الوزن الطبيعي في أعمارهم، وكانت 70% من النساء العراقيات يعانين من فقر الدم.[28]
لم يكن مفاجئًا أن تنتشر الأمراض المرتبطة بنقص التغذية والمنقولة عبر المياه والأطعمة، كالكوليرا والتيفوئيد والملاريا، فضلًا عن السرطانات، خاصة سرطان الدم، نتيجة التلوث الإشعاعي جراء اليورانيوم المنضب وغيره من الكيماويات السامة التي استخدمت أثناء الحرب.[29] ولم يستطع القطاع الصحي العراقي المدمر التعامل مع مثل هذه الأزمات. فقد دُمرت مخزونات الأدوية المبردة، وتوقف الإنتاج المحلي للأدوية الذي شكل قبل الحرب 25% من إجمالي الاستهلاك، وانعدمت القدرة على استخدام الكثير من المعدات الطبية، فضلًا عن انعدام القدرة على استيراد أبسط المستلزمات الطبية من قطن وشاش ومحاقن وغيرها. بحلول عام 1995، انخفضت العمليات الجراحية المجراة إلى أقل من الثلث، وفي 1998، كانت ثلث أسرة المستشفيات قد أغلقت، وتوقفت أكثر من نصف المعدات الطبية عن العمل.[30]
ترافق كل ذلك مع انهيار اقتصادي واجتماعي عنيف. فمع حظر تصدير النفط في السنوات الخمس الأولى من العقوبات، حُرم العراق من أهم مصدر للعملة الصعبة، ما سبب انحدارًا مهولًا في قيمة العملة، وتضخمًا خياليًا، وتقلصًا في الناتج المحلي الإجمالي إلى قرابة الثُمن. بحلول عام 1995، انخفضت قيمة الدينار العراقي بنسبة 5000%، ليصبح متوسط الدخل الشهري ما يعادل دولارين، وارتفعت أسعار الغذاء بنسبة 4500%، وباتت القدرة الشرائية للأسر تعادل 5% مما كانت عليه عما كانت عليه قبل آب 1990.[31] وفي ظل تبخر إيرادات الدولة وتضاؤل قيمة الرواتب، تم تسريح ثلث جنود الجيش العراقي، وترك أكثر من 12 ألف مدرس وظائفهم، وحصلت موجة نزوح جماعي للمهنيين. باعت الأسر الأثاث والأجهزة الكهربائية والملابس، وحتى قطع منازلها كالنوافذ والأبواب والكتل الإسمنتية. وحين لم يتبق ما يباع، انتشرت السرقات والبغاء والجرائم العنيفة.[32]
كانت حصيلة كل ذلك قدرًا فظيعًا من الموت. في عام 1999، صرحت الحكومة العراقية بوفاة مليونيْ عراقي جراء العقوبات، نصفهم أطفال. بينما أشارت اليونيسف إلى أن ما لا يقل عن نصف مليون طفل تحت الخامسة قضوا بسبب العقوبات.[33] تحولت أعداد الوفيات جراء العقوبات لساحة جدال كبير، إذ لطالما شككت الولايات المتحدة بالتقديرات العراقية -على اعتبار أن دولة محطمة إلى هذا الحد يفترض أن تحافظ على قدرات إحصائية دقيقة- وبالتقديرات الأممية أيضًا.[34] لكن أشد هذه التقديرات تحفظًا يرسم صورة بالغة القتامة عمّا جرى.
بداية نهاية عصر الحصار
بعد تعليقها الشهير عام 1996 بأن وفاة نصف مليون طفل عراقي هو ثمن مقبول لإضعاف النظام العراقي، كثيرًا ما عبّرت مادلين أولبرايت عن ندمها على ما وصفته بالتصريح الغبي. لكن كما تقول غوردون، لم يكن ذلك سوى خطأ في استراتيجية العلاقات العامة: بالطبع، كان الأمر يستحق كل هؤلاء الموتى. لم يكن المسؤولون الأمريكيون سذجًا أو جهلة، ولم يكن حصار العراق في نظرهم، رغم كل ما أثاره من احتجاج، مثالًا على الفشل، بل العكس تمامًا. كانت العقوبات «الجريمة المثالية» التي تحققت بأقل قدر ممكن من التكاليف، وأعلى قدر ممكن من الفعالية. ولهذا السبب، فقد تحولت إلى نموذج وظّف مرارًا بعدها تجاه كل من يخرج عن النظام العالمي الأمريكي «المبني على القواعد».
تفرض الولايات المتحدة منفردةً عقوبات أكثر من كل الدول والمؤسسات الأخرى مجتمعة، ضد قائمة مطولة من المستهدفين تمتد من إيران إلى فنزويلا ومن كوبا إلى روسيا ومن سوريا إلى الصين ومن كوريا الشمالية إلى لبنان. ومنذ حصار العراق، لم تعد العقوبات الأمريكية تُوجه للدول فحسب، فهي تلاحق المؤسسات والشركات والمسؤولين الأفراد وحتى المواطنين العاديين في دول قد لا تكون بالضرورة على علاقة سيئة بالولايات المتحدة. وحين تضعك الدولة الأقوى في العالم على «قائمة سوداء»، فهذا ليس شيئًا يسهل التملص منه.[35]
كانت حصيلة العقوبات على العراق قدرًا فظيعًا من الموت. في عام 1999، صرحت الحكومة العراقية بوفاة مليونيْ عراقي جراء العقوبات، نصفهم أطفال. بينما أشارت اليونيسف إلى أن ما لا يقل عن نصف مليون طفل تحت الخامسة قضوا بسبب العقوبات.
كما تظهر حالة العراق، لم يكن هناك أي معنى حقيقي للتفريق بين العقوبات الأمريكية والأممية. ففي العقود الثلاثة الأخيرة، لم تدفع أي دولة باتجاه فرض العقوبات بقدر ما فعلت الولايات المتحدة. عمليًا، ما حدث مع الوقت هو أنها كفّت عن منح الأمم المتحدة شرف المشاركة. تقدم حالة كوبا مثالًا جليًا على ذلك؛ ففي ما بات يشبه طقسًا سنويًا، تصوّت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ ثلاثين عامًا ضد الحصار الأمريكي المفروض على كوبا، والذي تصاعدت حدته عام 2019. يكاد يكون التصويت متطابقًا كل سنة: تأييد ساحق للقرار، قلة من الامتناعات، وصوتان معارضان فقط: «إسرائيل» والولايات المتحدة.
لكن إن كانت العقوبات على العراق مثالًا مهمًا لفهم العصر الذهبي للهيمنة الأمريكية، فهي مهمة أيضًا لفهم نهاية هذا العصر. كما تظهر التطورات التي تلت حرب أوكرانيا والعقوبات المفروضة على روسيا، لم تعد الولايات المتحدة تستطيع اليوم أن تفعل بأي دولة ما فعلته بالعراق، ولا ينطبق هذا على دولة نووية بحجم روسيا فحسب. فعبر استعدائها المتصاعد للصين وتصعيدها للغة «إما معنا أو ضدنا»، ساهمت الولايات المتحدة في خلق ما سُمي «نادي المتضررين» الذي يضم دولًا وجماعات تزداد تنوعًا، وقد لا تجمع على ما هو أكثر من تطلعها إلى عالم ما بعد أمريكي.
منذ اندلاع حرب أوكرانيا، قيل الكثير عن انفضاح «النفاق الغربي» وتزايد الانفضاض من حول الولايات المتحدة. لكن السؤال المهم هو: ما الذي سيفعله هؤلاء المتضررون؟ هل سيبادرون لتخيل وخلق عالم مختلف، أم سيكتفون بالوقوف على التل؟ فقط من استطاعوا مبكرًا فهم طبيعة المرحلة سيتمكنون من الاستفادة من الفرصة التاريخية التي تخلقها، وليس هناك من هو أقدر على ذلك ممن رفضوا الخضوع للولايات المتحدة حين كانت في أوج قوتها.
-
الهوامش
[1] أحد أهم الفروق بين حالة العقوبات في جنوب إفريقيا وغيرها من العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة هو أن سكان جنوب إفريقيا السود كانوا أشد المطالبين بفرض العقوبات. كما أن نجاح هذه الحالة ارتبط بالضغط المحلي المتزايد على نظام الفصل العنصري والتنظيم الداخلي المعادي له، والعزلة الدولية التي فرضت عليه بشكل أساسي بدفع من دول العالم الثالث. لذا، فإن استخدام حالة جنوب إفريقيا للتدليل على إمكانية نجاح العقوبات في تحقيق تغيير ديمقراطي سلمي يتجاهل إلى حد كبير هذه الخصوصيات.
جوي غوردون، «الحرب الخفية: أمريكا والعقوبات على العراق». ترجمة عبد الرحمن إياس. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2018. ص 21-22.[2] تيم نبلوك، «العقوبات والمنبوذون في الشرق الأوسط: العراق – ليبيا – السودان». مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2001. ص 22.
[3] المصدر السابق، ص 14.
[4] جيف سيمونز، «التنكيل بالعراق: العقوبات والقانون والعدالة». مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998. ص 68، 77.
[5] جمهورية الكونغو الديمقراطية اليوم.
[6] غوردون، ص 67-68.
[7] المصدر السابق، ص 43.
[8] المصدر السابق، ص 65، 73، 74، 85.
[9] المصدر السابق، 78-81.
[10] سيمونز، ص 171.
[11] غوردون، ص 81-82.
[12] عند استنشاق غاز الأعصاب، يصبح لدى المرء أقل من دقيقتين لتلقي حقنة من الأتروبين، قبل أن يصاب بالشلل التنفسي.
المصدر السابق، ص 105، 109، 266، 267.[13] نص القرار 986 على أن بإمكان العراق أن يبيع ما قيمته مليار دولار من النفط كل ثلاثة أشهر، لكن كيفية إنفاق هذه المبالغ كان مقيدًا. إذ خصص 30% منها لصندوق تعويض الكويت، و4% لتغطية تكاليف مفتشي الأمم المتحدة. كما تحكمت الأمم المتحدة بتوزيع المبلغ المتبقي داخل العراق، إذ خصصت 13% للمناطق الكردية في الشمال، فيما ذهبت الـ53% المتبقية للمناطق الوسطى والجنوبية، التي يعيش فيها 87% من السكان.
المصدر السابق، ص 45-46.[14] المصدر السابق، ص 92.
[15] المصدر السابق، ص 115-116.
[16] المصدر السابق، ص 69.
[17] سيمونز، ص 80.
[18] غوردون، ص 66.
[19] يذكر فون سبونيك أن جيمس روبين، الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، عبّر في إيجاز صحفي عام 1999 عن عدم إعجابه بالدور الذي لعبه فون سبونيك في نقل مدى تردي الوضع الإنساني في العراق، قائلًا: «هذا الرجل يتقاضى راتبه ليعمل لا ليتكلم».
هانز كريستوف فون سبونيك، «تشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو». ترجمة حسن حسن وعمر الأيوبي. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005. ص 23، 327.[20] سيمونز، ص 19.
[21] المصدر السابق، ص 27.
[22] قال مارتي أهيتساري، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، الذي زار العراق في آذار 1991، إن «النزاع الأخير أحدث نتائج قريبة من أحداث نهاية العالم.. لقد تراجع العراق إلى عصر ما قبل التصنيع».
غوردون، ص 56.[23] المصدر السابق، ص 41.
سيمونز، ص 32-36، 40.[24] غوردون، ص 41.
سيمونز، ص 31، 39، 40.[25] غوردون، ص 41، 42، 50.
[26] المصدر السابق، ص 54.
[27] سيمونز، ص 76، 138، 139، 170.
[28] غوردون، ص 55.
[29] سيمونز، ص 50-51.
[30] غوردون، ص 58.
[31] المصدر السابق، ص 128.
[32] المصدر السابق، ص 60-61.
[33] سيمونز، ص 259.
[34] كان تقدير عدد الوفيات، خاصة وفيات الأطفال، أمرًا صعبًا. فإضافة لتدمير قدرة الدولة العراقية على جمع البيانات، وتوقف السكان عن التوجه إلى المستشفيات بعدما باتت عاجزة عن تقديم أي مساعدة، بلغت بعض العائلات من العوز حدًا دفعها لعدم الإبلاغ عن وفاة أطفالها من أجل الحفاظ على عدد الحصص التموينية التي تتلقاها.
غوردون، ص 60.[35] Joy Gordon, «The Enduring Lessons of the Iraq Sanctions». Middle East Report, 294, Spring 2020.