بعد سنة على حرب الإبادة الإسرائيلية التي ذاقت فيها غزة أهوالًا لا توصف، لم يعد هناك عاقل في العالم يحتاج المزيد من الشواهد على عمق الإجرام الصهيوني. لكن المجزرة التي وقعت في الأيام الماضية في لبنان تكشف ما هو أكثر من الطبيعة الدموية للعدو.
كانت العملية الأمنية المعقدة التي مارست «إسرائيل» فيها إرهاب الدولة بتفجيرها آلاف الأجهزة، بمعزل عن حامليها وأماكنهم، مؤشرًا على أنها تتصرف وكأن العالم بأسره هو ساحة معركتها، وأن كل ما تقع أيديها عليه قابل للتحويل لسلاح، وأن اقتصاد العالم الغربي برمته، من بنيته المالية، إلى سلاسل توريده، إلى أصغر منتجاته، يمكن أن يسخر لخدمتها. كل هذا ممكن لأن العالم ما يزال يرزح تحت وطأة الهيمنة التي تمثل «إسرائيل» امتدادًا لها، فالتفنن في ممارسة القتل الجماعي الذي نراه في الأعمال السينمائية لا يصبح ممكنًا إلا حين تحمي القوة المهيمنة ظهرك وتفتح لك جميع الأبواب.
جاءت العملية المؤلمة التي وقعت قبل أيام كشاهد إضافي على أن هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها على العالم تجعله قنبلة موقوتة، كل شيء فيه قابل للاشتعال، وعلى أن صعود خصومها والقوى المناوئة لها، ممن يوصفون بالمجانين، إنما يدفع نحو عالم أكثر سلمًا وأقل جنونًا. ونهر الدم المسفوك في غزة أكبر دليل على أنه في عالم تستفرد فيه الولايات المتحدة، التي ترفض إنهاء الحرب دون انتصار «إسرائيل»، سنشهد قتلًا بلا نهاية.
ما حصل يعيد التأكيد على عمق تأثير ما يجري على الجبهة اللبنانية، رغم كل المحاولات لتسخيفه والتقليل من أهميته منذ بداية الحرب. فممارسة «إسرائيل» لهذا القتل الجماعي الواضح دون أي اكتراث بتداعياته يثبت أنها لم تعد تستطيع التعايش مع هذا الكم من الضغط والاستنزاف، بل يثبت على مستوى أوسع أنها لا تستطيع التعايش مع وجود المقاومة في لبنان، حتى وإن لم تكن قادرة في الوقت الحالي على شن حرب إبادة عنوانها «سحق حزب الله»، كما جرى في محاولتها الفاشلة عام 2006.
من الضغط الذي يشكله تهجير مستوطني الشمال، إلى الكلف الاقتصادية المستمرة، إلى الإنهاك الفعال للجيش، إلى مخاوف استنزاف العتاد، رغم كل ما أغدقته الولايات المتحدة من قنابل وذخائر، يبدو أن الكيان ضاق ذرعًا بجبهة لبنان. قد يكون العالم نسي ما يعنيه أن تتلقى «إسرائيل» ضربات مؤثرة ومستمرة على مدى سنة بأكملها، وأمام الكاميرات، دون أن ترد بحرب شاملة تقضي فيها على مصدر التهديد، لكن ما نشهده أمر تاريخي وغير مسبوق من حيث حجم الإهانة التي يمثلها لها، وانعكاسه على صورتها وجبهتها الداخلية.
لكن من يتابع التطورات الأخيرة في معظم الإعلام العربي لن يصل إلى مثل هذه النتيجة. فبدلًا من التركيز على حجم الجريمة، ذهب هذا الإعلام مباشرة لتحليل الخرق الذي مثلته العملية، مصورًا «إسرائيل» على أنها كيان خارق كلي القدرة، وبالمقابل، مصورًا حزب الله على أنه ضعيف وهش. بوقوفها على تفاصيل هذه المشهدية الكفيلة ببث الرعب في نفوس الناس، تلاقت هذه التغطية مع أحد الأهداف الإسرائيلية من العملية، لتنقل رسالة مفادها أن «إسرائيل» ليس فقط لا يمكن هزيمتها، بل لا يمكن مقاومتها.
بطبيعة الحال، كان هذا نابعًا من موقف مسبق معادٍ لحزب الله أو غير صديق له على الأقل، إضافة لكونه نتيجة للانسياق وراء الإعلام الغربي، الذي تجاهل إلى حد كبير العملية نفسها وضحاياها، متعاملًا معها وكأنها عملية حربية اعتيادية أو تطورًا طبيعيًا للقتال الدائر، ليركز فقط على الخرق الذي مثلته، وما تقوله عن القدرات الإسرائيلية الاستخبارية والتقنية، التي تُناقَش بنوع من الانبهار والإعجاب، دون أي التفات للطبيعة الإرهابية الصرفة لما جرى. المشهد نفسه تكرر في السابق عند كل عملية أمنية إسرائيلية في الداخل الإيراني. صحيح أن هذه العمليات مثلت اختراقات خطيرة، لكن ما يسقط من هذه الصورة دومًا، والمنكافات السياسية الدائرة حولها، هو أنه إن كانت الأطراف المعادية للولايات المتحدة مخترقة، فالأطراف الصديقة لها أشد اختراقًا بكثير.
كل ذلك كان امتدادًا لمحاولات مستمرة منذ بداية الحرب لضرب فكرة وحدة الساحات، بشكل أخذ بعدًا طائفيًا واضحًا، وساهم فيه كثيرون، من محلل عسكري هنا ومفكر عربي هناك، سواء جرى ذلك بالتسخيف المباشر أو التجاهل أو التركيز على أحداث أخرى بوصفها أهم وأشد تأثيرًا، مثل مظاهرات الجامعات الغربية أو قضية محكمة العدل الدولية أو حتى النشاط الدبلوماسي العربي. وحتى حين كانت الإشادة تأتي على لسان المقاومة في غزة نفسها، وتصل حد اعتبار وحدة الجبهات تحقيقًا غير مسبوق للوحدة العربية، كان الطَرْف يُغضّ سريعًا عن هذه التصريحات، ليستمر بعدها بالتباكي على غياب ما يسمى بالمشروع العربي. كل ذلك خدم بشكل واعٍ أو غير واعٍ الهدف الإسرائيلي المتمثل في فض جبهات القتال عن بعضها البعض.
رغم مئات الشهداء على الجبهة اللبنانية، وتهجير الآلاف من قرى الجنوب، استمر كثيرون في محاولة تشويه صورة المقاومة في لبنان باعتبار ما يجري لا يرقى للمشاركة الفعلية في القتال. وبعيدًا عن سوء النية الواضح، يعكس ذلك قصورًا في إدراك فهم حزب الله لهذه المرحلة من الصراع، بل للصراع بشكل عام. أحد الأعمدة الأساسية لهذا الفهم يتمثل في العمل على استنزاف «إسرائيل» ومنعها من الاستفراد بغزة وتحقيق أهدافها العسكرية، وفي الوقت نفسه تجنب الدخول في مواجهة مباشرة ومفتوحة مع الولايات المتحدة في الوقت الحالي، تسمح لها بتوظيف جميع عناصر قوتها لتدمير المقاومة.
يشاطر الحزب هذا الفهم مع كل الأطراف المناوئة للهيمنة الأمريكية، حتى وإن كانت لا تشكل جبهة واحدة، من إيران إلى الصين وحتى كوريا الشمالية، التي يحلو لكثيرين تصويرها على أنها دولة مجنونة، فيما هي تفعل كل ما تفعله من تسلح وتحصين بهدف منع الحرب لا جلبها. كان ذلك واضحًا فيما عبر عنه الرئيس الصيني شي جينبيغ مؤخرًا من أن الولايات المتحدة «تحاول خداع الصين لحملها على غزو تايوان، لكنه لن يبتلع الطعم».
هذا الفهم المشترك لطبيعة وشروط الصراع مع القوة المهيمنة يدرك الضعف الاستراتيجي لهذه القوة وأفق المعركة معها، دون أن يستخف على المستوى المرحلي بقدرتها على ممارسة الإجرام بشكل لا حدود له وبحاجتها المستمرة للحروب، تحديدًا في ظل مسار استراتيجي ليس في صالحها. علينا أن نتذكر أن المقولات التاريخية، المتماثلة في جوهرها، «الإمبريالية نمر من ورق» لماو تسي تونغ، و«إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت» لحسن نصرالله، سبقها وتبعها دومًا تأكيد على مخالب النمر وقدرته على البطش، وترسانة «إسرائيل» النووية وقدرات جيشها والدعم اللامحدود الذي تحظى به.
إن فكرة استنزاف العدو وتجنب دخول المعارك التي يختارها هو ويحدد ظروفها لم تكن حكرًا على حركات المقاومة في منطقتنا، فكل حركات التحرر التي خاضت معارك ضد جيوش دول استعمارية كان هدفها الاستراتيجي، كما يقول روبرت تابر في كتابه «حرب المستضعفين»، هو «خلق مناخ الانهيار» وإضعاف العدو على المدى الطويل، وصولًا إلى لحظة حرجة يمكن فيها قلب المعادلة جذريًا.
لا شك أن المقاومة في لبنان تلقت ضربة قوية وموجعة، إلا أن التجارب التاريخية المختلفة تعلمنا أن القوى والدول ذات السيادة التي تملك قرارها وتدرك بوضوح شديد هدفها الأساسي ومسارها العام نحوه تملك دومًا القدرة على النهوض، ولا خيار أمامها سوى الاستمرار والتعلم من تجاربها. مع الوقت، ستتكشف تفاصيل العملية، وسيُبنى عليها إجراءات واحتياطات مضادة، لكن حين نعود لهذه المحطة من تاريخ الصراع في المستقبل، سنجد فيها شاهدًا إضافيًا على أن الشعب اللبناني ومقاومته وبيئتها الاجتماعية هم أكثر من قدم التضحيات لمساندة الشعب الفلسطيني وعلى طريق تحريره.