العودة إلى الجدار الحديدي: كيف نفهم الإجماع الإسرائيلي على الحرب؟

الخميس 15 آب 2024
جيش الاحتلال في غزة. أ ف ب

في الرابع من آب الحالي، وقف نتنياهو في حفل تأبين زئيف جابوتنسكي بالقدس، مؤكدًا على العلاقة بين حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية الجارية الآن في غزة، وبين الكتائب التي شكّلها جابوتنسكي في الحرب العالمية الأولى، والتي بحسبه قاتلت في رفح وفي «جبال إفرايم» وفي معابر الأردن. ليس ثمّة جديد في استعادة نتنياهو لجابوتنسكي الذي كثيرًا ما يذكر مدينة رفح في كتابه: «سجل الكتيبة: قصة الكتائب العبرية في الحرب العالمية الأولى»، ولكنّ ثمة معنى آخر لهذا الربط في هذه الحرب الجارية، فالقتال في رفح اليوم، بالنسبة لنتنياهو، هو نفسه قتال الحركة الصهيونية قبل أكثر من مائة عام في المكان نفسه. وإذا كانت الحرب في غزّة استمرارًا طبيعيًا لـ«كفاح الحركة الصهيونية» القديم فإن نتنياهو يرى نفسه الوريث الشرعي لجابوتنسكي، الذي صارت مفاهيمه المشغّل للعقل الصهيوني، حتى لدى هؤلاء الصهاينة الذين كان جابوتنسكي يقف في مقابلهم في عشرينيات القرن الماضي منتقدًا طريقتهم في محاولة مخادعة السكان الأصليين لفلسطين.

مياهٌ كثيرة جرت أسفل جسر الحركة الصهيونية منذ كتابة جابوتنسكي نظريته حول الجدار الحديدي، في 4 تشرين الثاني 1923، ولاسيما تأسيس الكيان الإسرائيلي، وتحوّل نظرية الجدار الحديدي إلى المرتكز الأساس في ترسيخ هذا الكيان لنفسه وفرض هيمنته على المنطقة، إلا أنّ استعادة جابوتسنكي ظلّت حاضرة باستمرار في السجالات الإسرائيلية وتحديدًا في تفسير معانيها السياسية والتاريخية، وهو ما قد يجعل الإضاءة على  أهمّ أفكارها ضروريًّا، لفهم موقعها المستجد باستمرار في نقاشات الإسرائيليين، وموقع جابوتنسكي نفسه مؤسس «الاتحاد الصهيوني التصحيحي» عام 1925 بعد خلافاته مع زعيم الحركة الصهيونية في حينه حاييم وايزمان، في جملة من الأحداث المفصلية في تاريخ الحركة الصهيونية، والكيان الإسرائيلي، وصولًا إلى هذه اللحظة الراهنة.

قتل الأمل أولًا

لتثبيت الكيان الإسرائيلي نفسه، وإعدام أيّ إرادة عربية لمقاومته تقوم نظرية جابوتنسكي على أربعة أعمدة؛ أولًا فرض أغلبية يهودية على ضفتيْ نهر الأردن، وثانيًا التحالف الصلب مع القوى الاستعمارية لتأسيس الكيان الإسرائيلي وضمان محيط عربي ضعيف بشكل مزمن بالنسبة للقوّة الإسرائيلية التي يفترض تأسيسها، وثالثًا قتل الأمل والدافعية في نفوس الفلسطينيين والعرب بإمكان قتال «إسرائيل» وهزيمتها، ورابعًا بناء قوّة عسكرية إسرائيلية جبارة لا يمكن للعرب أو للفلسطينيين اختراقها أو التفكير أصلًا بإمكانية اختراقها.

يركز جابوتنسكي على مسألة انعدام الأمل عند العرب والفلسطينيين في هزيمة إسرائيل باعتبارها اللحظة التي يمكن حينها الاتفاق مع العرب من موقع المنتصر وضمان الهزيمة النفسية العربية المؤبّدة. وحينها فقط يمكن الحديث عن حقوق الأقلية العربية في «إسرائيل»، أمّا قبل ذلك فلا يمكن تصوّر إمكان خداع السكان الأصليين، أو تأسيس «الكيان اليهودي» بالاتفاق المسبق معهم.

هنا تبدو المسافة واضحة بين جابوتنسكي في كلامه عن إمكان قيام دولتين في إطار أغلبية يهودية مهيمنة، أو حقوق متساوية لمختلف سكان الدولة اليهودية، وبين ما يظهر من سياسات بنيامين نتنياهو الهادفة إلى إلغاء الكيانية السياسية والهوية القومية للفلسطينيين، وتحويلهم إلى ملحقات خادمة للأمن الإسرائيلي، بل حتى رفضه لممثل سياسيّ لهم من مستوى السلطة الفلسطينية.

 في مقالة أخرى بعنوان «أخلاقيات الجدار الحديدي» يرفض جابوتنسكي مناقشة أخلاقية الحركة الصهيونية بعد تأسيسها، فطالما أنّها تأسست، فقد تأسست بالضرورة على معيار أخلاقيّ يجعل من المعقول والأخلاقي منح اليهود دولة على ضفتي النهر وهم أقلّية في هذا العالم، بينما يحظى العرب بهذه الأراضي الشاسعة من المغرب إلى الجزيرة العربية. هنا بالضرورة يمكن ملاحظة أنّ السكان الأصليين بالنسبة لجابوتنسكي وغيره من الصهاينة الأوائل، هم عرب، وليسوا فلسطينيين، ممّا يعني نزع هويتهم القومية الخاصّة لتسهيل طردهم إلى بلاد أخرى لهم، وإذا كان النظر إلى السكان الأصليين بوصفهم عربًا حينها مفهومًا، فإنّ هذه النظرة ظلّت سائدة لدى الإسرائيليين حتى وقتنا الحالي وتحديدًا عند اليمين الإسرائيلي.

يحاول جابوتنسكي التأكيد على أخلاقيته بما يتعلق بالسكان الأصليين، بإشارته إلى أنّه أحد الموقعين على برنامج هلسينغفورس، وهو وثيقة سياسية تبنتها الحركة الصهيونية في روسيا في مؤتمر هلسينغفورس الذي عُقد عام 1906، وتنص على الاعتراف باليهود بوصفهم جماعة قومية تستحق حقوقًا متساوية، بما في ذلك الحكم الذاتي الثقافي والتعليم باللغة العبرية وضمان الحريات الدينية والمدنية، في إطار الإمبراطورية الروسية. وبذا يمكن القول إن الحركة الصهيونية لم تمانع منح السكان الأصليين بعض الحقوق في إطار الأغلبية اليهودية، لكن بعد قتل الأمل داخلهم بإمكان اختراق «الجدار الحديدي».

التأكيد المستمر من جابوتنسكي على برنامج هلسينغفورس، يعود ليضيّق تلك المسافة بينه وبين نتنياهو. فحديثه، عن دولتين في مطلع مقالته الأولى عن الجدار الحديدي يصير عابرًا، فكل كيانية للسكان الأصليين، ينبغي أن تكون جزءًا من الدولة الإسرائيلية بنحو ما.

استندت «إسرائيل» بالفعل في وجودها وضمان بقائها إلى «الجدار الحديدي»، فقد فرضت أغلبية يهودية بالقوة العسكرية والتطهير العرقي للسكان الأصليين وبالهزائم المذلة والمهينة على العرب، وبهذا النحو جُرّ العرب، وأولهم مصر لاتفاقية سلام من موقع قتل الأمل في الشخصية المصرية بإمكان اختراق الجدار الحديدي الصهيوني، ومن ثمّ فليس ثمّة غرابة أن يوقع اتفاقية السلام مع مصر مناحيم بيغن الزعيم الليكودي الذي ورث حزبه منظمة «حيروت» المنبثقة بدورها عن حركة «بيتار» التي أسسها جابوتنسكي.

يبقى السؤال إذًا عن المعنى في استعادة نظرية الجدار الحديدي الإسرائيلية عمومًا، وفي موقعها من سياسة بنيامين نتنياهو في الحرب الجارية على غزة، بما في ذلك أبعادها الإقليمية.

حارس المستعمرة وحراس الجدار

في كتابه «الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي»، الذي نشره بالإنجليزية أول مرة في العام 2000، والذي تُرجمَ إلى العبرية بمبادرة فردية من أحدهم، بعدما رفضت خمس دور نشر إسرائيلية ترجمته ونشره في «إسرائيل»، يشير آفي شلايم إلى عمق حضور مفاهيم جابوتنسكي داخل «إسرائيل» والسجال حولها وتفسيرها. لكن ما هو أهم أن هذه السجالات كثيرًا ما تطغى على السطح حين تتعرض المستعمرة لهجمة تزعزع الشعور الداخلي بالاستقرار. 

أعادت انتفاضة الأقصى مفهوم «الجدار الحديدي» بقوة إلى السجال الإسرائيلي الداخلي. ففي كانون الثاني/ يناير 2001 نشرت الليكودية ليمور ليفنات مقالة بعنوان «العودة إلى الجدار الحديدي»، والتي ادعت فيها أن اليسار الإسرائيلي في اتفاقية أوسلو خان «الجدار الحديدي» الذي بات قلب العقيدة العسكرية الإسرائيلية، حين نظر إلى «أوسلو» كلحظة استسلام فلسطيني أبدي. 

وعلى عكس آفي شلايم الذي يعتقد أن جابوتنسكي لم يكن داعية لصراع دائم مع العرب، ولكن إلى سلام من موقع القوّة، حينما يقتنع العرب أنه لا يمكن هزيمة «إسرائيل»، ترى ليفنات أن الجدار الحديدي عقيدة دائمة وثابتة وبأنّ العرب لم يصلوا إلى اللحظة التي يتخلّون فيها تمامًا عن الأمل بإمكان هزيمة «إسرائيل»، ومن ثمّ لم تكن اتفاقية أوسلو تعبيرًا عن اليأس الفلسطيني المؤبّد.

 لهذا تعد عملية «طوفان الأقصى» التعبير الفلسطيني الأكثر قسوة في الدلالة لا على استمرار الأمل الفلسطيني فحسب، بل وأيضًا على الإمكان الواقعي لتحطيم الجدار الحديدي، وهو ما يعني لنتنياهو وغيره من الصهاينة أن الجدار الحديدي ليس شرطًا فقط لفرض الاستسلام على العرب ولكنه أيضًا شرط البقاء الإسرائيلي.

في خطاب سابق له مطلع العام 2023، قال نتنياهو: «جابوتنسكي هو أحد مرشديّ الروحيين البارزين وحصلت على إرثه من والدي المؤرخ البروفسور بن-تسيون نتنياهو الذي كان أحد المقربين من جابوتنسكي… قوة إسرائيل نابعة من كلمتين لجابوتنسكي: الجدار الحديدي… الجدار الحديدي بوصفه قوة عسكرية وإصرارًا قوميًّا يحمي الدولة اليهودية من أعدائها، وفي النهاية يجبرهم على تقبل وجودها. وبعد مرور مائة عام على طرح جابوتنسكي عقيدته السياسية والعسكرية يمكنني القول إن الجميع بات يدرك عقلانية الجدار الحديدي… وبفضل جدار واقٍ راسخ ورادع وفقط، تمكن شعب إسرائيل من أن يبقى صامدًا في أرض إسرائيل في مواجهة العداء العربي». 

يعزو الكثيرون استمرار الحرب على غزة إلى طباع نتنياهو الشخصية الموصوفة بالنرجسية والأنانية أو مسألة مستقبله السياسي بعد ملاحقته القضائية بتهم الفساد أو فشله في صد هجوم السابع من أكتوبر، لكن أهم ما يغيب عن الرؤيا هو مدى اتساق نتنياهو مع نهج جابوتنسكي الطاغي على «إسرائيل» ومجتمعها وقياداتها التاريخية.

أوغلت عملية «طوفان الأقصى» في جرح نتنياهو النرجسي وسجلت في تاريخ الرجل الذي استهواه لقب «ملك الأمن» وصمة عار لا تُمحى، لكنها لم تكن وصمته وحده، فالجيش والأمن باعتبارهما حراس «الجدار الحديدي» كان إحساسهم بالعار أعمق بعد أن فتح السابع من أكتوبر ثغرة في هذا الجدار قد لا تُغلق أبدًا .

يمكن القول إنّ عملية «طوفان الأقصى» كانت المحنة الأكثر قسوة للعقيدة الإسرائيلية العسكرية والوجودية. صحيح أن اليمين الإسرائيلي يعدّ نفسه الممثل الأكثر أمانة لمفهوم «الجدار الحديدي» عند جابوتنسكي، ولكن السابع من أكتوبر حوّل المفهوم إلى عقيدة لجميع الإسرائيليين، به قوام وجودهم في فلسطين واستمراريتهم في المنطقة. ولهذا السبب، كانت الإبادة الجماعية والانتقام الشامل محلّ إجماع إسرائيلي، إذ لا ثقة للمجتمع الإسرائيلي باستمراريته ووجوده في البلاد دون ترميم الجدار الحديدي مجددًا ومحو وصمة العار تلك.

لذا يمكن النظر لعمليات «إسرائيل» الأخيرة في اليمن، واغتيالها القائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، واغتيال إسماعيل هنية رئيس حركة حماس في طهران، في سياق محاولة قلب الموقف الإستراتيجي لصالح «الجدار الحديدي» أي استعادة القدرة على المبادرة بقطع النظر عن المخاوف الآنية، لأنّ استسهال ضرب «إسرائيل» خاصة من دولة إقليمية يتناقض جوهريًّا مع جدار جابوتنسكي الذي بات عقيدة وجودية لـ«إسرائيل»، وليس فقط عقيدة عسكرية.

هنا نقطة الإجماع الإسرائيلي، الخلافات الداخلية تتعلق في العناصر الواقعية لإدارة عملية ترميم الجدار الحديدي، لذا فإنّ أيّ سياسيّ إسرائيلي ينتقد نتنياهو على إدارته للحرب، يصعب تخيّل خيارات أخرى له لو كان مكانه من حيث تحمل المسؤولية التاريخية عن الحرب ومساراتها. في هذا السياق يطل جابوتنسكي برأسه من جديد، فهل يكفي الدمار الهائل الذي حطم الحياة في قطاع غزة، وفرض النزوح الشامل على جميع سكانه، فضلًا عن عشرات آلاف الضحايا بين شهداء ومصابين، للانكفاء الإسرائيلي المؤقت في إطار صفقة مع حركة حماس تسمح للجيش والكيان بترتيب أوراقه وإعادة تنظيم أجندته للانتقام من أعدائه لاحقًا؟ أم أنّ هذه الصفقة هي إمعان في تحطيم الجدار الحديدي، فالحركة التي خرجت «إسرائيل» بكل ما تملك للقضاء عليها تعود للاتفاق معها على انسحاب إسرائيلي من غزة؟ 

يرى البعض في «إسرائيل» أن عودة الأسرى الإسرائيليين من صميم مفهوم الجدار الحديدي، أي أنّ الدولة هنا تعود لتثبت أنّ «اليهودي» أغلى ما تملك. لا يزعم هؤلاء أنّ الجدار اكتمل بذلك، ولكن لأغراض حسابية صرفة، لا بدّ من فرصة لالتقاط الأنفاس والعودة مجددًا لترميمه، لكن هذه الرؤية تحديدًا بالنسبة للحراس «الأكثر أمانة» لمفهوم جابوتنسكي هي إمعان في تحطيم الجدار الحديدي، بحيث يصير الأسرى الإسرائيليون لدى المقاومة الفلسطينية الثمن الذي يمكن دفعه لصالح استعادة شرط الوجود الإسرائيلي واستمراريته.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية