منذ حصول الانهيار المالي في لبنان في أواخر العام 2019، حفلت يوميّات اللبنانيين بالأرقام التي تعكس هول وضخامة هذا الانهيار، سواء في ما يتعلّق بمؤشرات القطاع المالي التي تعكس تضخّم فجوة الخسائر في ميزانيات المصارف وتراجع احتياطات المصرف المركزي، أو المؤشرات النقديّة التي تظهر فوضى أسعار الصرف المتعددة وتضخّم حجم السيولة المتداولة بالعملة المحليّة. لكنّ معظم المؤشّرات والإحصاءات التي تبيّن التحولات التي طرأت على أسلوب حياة المقيمين في لبنان وأنماط استهلاكهم ومستويات الفقر، أخذت وقتها لتظهر تباعًا، وخصوصًا في ظلّ غياب الإحصاءات الدوريّة التي تستهدف متابعة هذا النوع من الأولويات المعيشيّة وقياس تداعيات الوضع الاقتصادي عليها.
على المستوى المعيشي، عانى جميع المقيمين في لبنان من تقاطع أزمتين، نتج عنهما تراجع القدرة الاستهلاكيّة وارتفاع معدلات الفقر. الأزمة الأولى هي تراجع سعر صرف الليرة، إلى نحو 12,400 ليرة مقابل الدولار، مقارنةً مع سعر الصرف القديم الذي كان يبلغ قبل الأزمة نحو 1,520 ليرة مقابل الدولار. ومع تراجع سعر الصرف، تراجعت قيمة أجور ورواتب الغالبيّة الساحقة من المقيمين على الأراضي اللبنانيّة، الذين يملكون مداخيل بالعملة المحليّة، وخصوصًا مع التضخم المفرط الذي رافق تدهور سعر الصرف نتيجة اعتماد الأسواق على السلع المستوردة. أمّا الأزمة الثانية، فكانت الانكماش الاقتصادي الذي رافق الانهيار المالي، والذي أدّى إلى تفشّي البطالة وإقفال المؤسسات وتراجع مداخيل الأسر التي تعتمد على الأعمال التجاريّة. مع الإشارة إلى أن الاقتصاد اللبناني سجّل انكماشًا اقتصاديًّا بنسبة 25% خلال العام الماضي.
اليوم، بعد نحو سنة ونصف من حصول الانهيار، بات بإمكان الاقتصاديين تقصّي أثر هاتين الأزمتين على الوضع المعيشي، من خلال تتبع أنماط استهلاك الأسر وقياس أبواب إنفاقها. لكنّ الأهم هو توقّع مآلات هذه المؤشرات، خصوصًا مع التحذيرات الدوليّة التي بدأت تدق ناقوس الخطر وتحذّر من الوصول إلى مرحلة يصبح فيها الأمن الغذائي نفسه على المحك.
تضخّم مفرط وغلاء فاحش
العامل الأوّل الذي يضغط اليوم على جميع المؤشرات المعيشيّة هو معدلات التضخّم المفرط، التي أدّت إلى تآكل قيمة الرواتب والأجور، وخصوصًا بالنسبة إلى الفئات محدودة الدخل. تشير أرقام الإدارة المركزيّة للإحصاء إلى أن لبنان سجّل حتّى نهاية آذار الماضي ارتفاعًا بنسبة 154% في مؤشّر أسعار المستهلك، مقارنة بالفترة المماثلة خلال العام الماضي. مع العلم أن هذا المؤشّر يتتبّع تطوّر أسعار سلة من السلع والخدمات التي تنفق عليها الأسر اللبنانيّة في العادة، لمحاولة قياس معدلات التضخّم في أسعار السوق.
لكن بمعزل عن الارتفاع في المؤشّر، أخطر ما في الأرقام هو طبيعة السلع والخدمات التي قادت ارتفاع هذا المؤشّر. فأسعار المواد الغذائيّة والمشروبات غير الروحيّة ارتفعت مثلًا بنسبة 402%، فيما ارتفعت أسعار التبغ والتنباك والمشروبات الروحيّة بنسبة 401%، ما يعني أن أسعار الغذاء والمشروبات والتبغ على أنواعها تضاعفت بنحو 5 مرّات خلال فترة سنة واحدة فقط. أما أسعار الألبسة والأحذية فارتفعت بنسبة 585%، فيما ارتفعت أسعار الأثاث والتجهيزات المنزليّة بنسبة 643%. بمعنى آخر، كان ارتفاع مؤشّر أسعار المستهلك ناتج عن ارتفاع أسعار مجموعة من السلع والخدمات التي تحتل جزءًا أساسيًا من إنفاق جميع الأسر المقيمة في لبنان، وخصوصًا بالنسبة للمواد الغذائيّة والألبسة. ولذلك، كان من الطبيعي أن تنعكس هذه التطورات على معيشة الأسر وقدرتها على توفير سائر متطلبات الحياة.
تقرير «مرصد أزمة الشرق الأوسط وأفريقيا»، الصادر عن البنك الدولي، خلص إلى أن ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة لم يقتصر على المواد الغذائيّة المصنّعة والمستوردة، بل شمل حتّى السلع الغذائيّة الأساسيّة كاللحوم والبيض، التي ارتفعت بأكثر من الضعف خلال فترة سنة واحدة، فيما ارتفعت أسعار بعض السلع الأخرى كالأرز بنسبة 99.4%، والموز بنسبة 93.9%، أما أسعار البندورة فارتفعت بنسبة 88.8% والبصل بنسبة 76%. مع العلم أن نسبة كبيرة من السلع المشمولة بالتقرير تُزرع محليًّا، لكنّ ارتفاع كلفة الإنتاج انعكست على أسعار السوق.
في الخلاصة، يبرز لبنان في التقرير بوصفه الدولة التي شهدت أعلى معدلات ارتفاع في أسعار المواد الغذائيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال السنة المشمولة بالمسح، والتي تمتد من منتصف شباط 2020 ولغاية الأسبوع الأوّل من شهر آذار. أما أثر ذلك، فكان حلول لبنان في طليعة دول المنطقة من حيث الارتفاع المتوقع في نسب الفقر، إذ يقدّر التقرير ارتفاع نسبة القابعين تحت خط الفقر بنحو 149%، ما يعني تضاعف عدد الفقراء بحوالي 2.5 مرّة خلال سنة واحدة فقط. أما أكثر الفئات المتأثّرة بهذه التطورات، والتي ستصيبها لعنة الفقر بالدرجة الأولى، فليست سوى العمالة السريحة وغير المنظمة، أي الفئات التي تعتمد على الدخل اليومي ولا تملك أي شبكات حماية اجتماعيّة أو دخل ثابت. كما من المتوقع أن تصيب هذه اللعنة الفئات الأكثر هشاشة، وتحديدًا اللاجئين والعمال الأجانب، الذين يتمتعون تقليديًّا بضمانات اجتماعيّة أقل من المتوسّط.
الأمن الغذائي في خطر
النتيجة الطبيعيّة لارتفاع الأسعار بهذا الشكل الجنوني، وخصوصًا أسعار الغذاء، ليست سوى استنزاف مداخيل الأسر على أبواب الإنفاق الأساسيّة، وخصوصًا المواد الغذائيّة، مع تهديد قدرة الكثير من الأسر على تأمين أبسط حاجاتها اليوميّة الأساسيّة. تقديرات الأسكوا خلال شهر آب من العام الماضي كانت تفيد بأن تأمين المواد الغذائيّة كان يستنزف نحو 85% من إنفاق الأسر اللبنانيّة كمتوسّط، ما يبقي لها أقل من 15% فقط للإنفاق على سائر متطلبات الحياة، من طبابة وتعليم ونقل وثقافة وخدمات أساسيّة وغيرها، وهو ما يحتّم على هذه الأسر التخلّف عن سداد الكثير من الفواتير أو الإنفاق على بعض الأساسيّات الأخرى. لا بل قدّر التقرير نفسه أن نحو نصف السكان في لبنان قد يواجهون مخاطر الفشل في الحصول على الحاجات الغذائيّة الأساسيّة بحلول نهاية العام 2020، نتيجة ارتفاع الأسعار الخيالي.
حل لبنان في طليعة دول المنطقة من حيث الارتفاع المتوقع في نسب الفقر، إذ يُقدّر ارتفاع نسبة القابعين تحت خط الفقر بنحو 149%، ما يعني تضاعف عدد الفقراء بحوالي 2.5 مرّة خلال سنة واحدة فقط.
النتيجة الأخرى لهذا التضخّم، هي تنامي معدلات الفقر، إذ تقدّر الأسكوا أيضًا أن تؤدّي هذه التطورات لزيادة نسبة الذين ينتمون إلى الفئات الأشد فقرًا من 8.1% إلى 23.1%، وارتفاع نسبة الفقراء من 19.8% إلى نحو 32%. وبذلك يكون إجمالي القابعين تحت خط الفقر وفقًا لتقديرات الأسكوا نحو 55.1%، في مقابل تقلّص نسبة الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى من 45.6% إلى نحو 35.2% من السكان. علمًا أن آثار التضخّم ستكون زيادة التفاوتات بين الطبقات الاجتماعيّة، وتزايد تركّز الثروة بيد قلّة من السكان، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 70.6% من الثروة سيملكها عمليًا 10% من البالغين في البلاد فقط.
كل هذه الأرقام تعود للسنة الماضية، أي قبل القفزة التي حصلت في سعر صرف الدولار مقابل الليرة في الفصل الأول من هذا العام، حيث ارتفع سعر صرف الليرة من 8,433 ليرة مقابل الدولار في بداية هذا العام إلى نحو 12,400 ليرة مقابل الدولار الواحد اليوم، وهو ما يعني زيادة نسبة العائلات التي باتت في عداد الأسر الفقيرة، فيما بات تأمين المواد الغذائيّة يستنزف نسبة أكبر من أجور هذه الأسر. لا بل يمكن القول أيضًا إن نسبة الأسر المهددة بالوصول إلى مرحلة الفشل في الحصول على الحاجات الغذائيّة الأساسيّة أصبح أعلى أيضًا. ولذلك، يشير استبيان أخير أجرته مؤسسة «المفكرة القانونيّة» إلى أن 66.67% من الأسر اللبنانيّة لم تعد قادرة على تغطية مصاريفها من دخلها الشهري المعتاد، فيما صرّحت 77.5% من الأسر بأن الإنفاق على المواد الغذائيّة والطعام صار يستنزف معظم مدخولها.
تحوّل أنماط الاستهلاك
بالإضافة إلى كل ما سبق، كان من الطبيعي أن تطرأ تحوّلات كبيرة على أنماط حياة معظم اللبنانيين وطريقة استهلاكهم، وهذا ما تظهره أرقام الجمارك اللبنانيّة بالنسبة إلى البضائع المستوردة. مع العلم أن السوق اللبنانيّة تعتمد على الاستيراد بشكل أساسي لتأمين الغالبيّة الساحقة من السلع المصنّعة، بغياب أي قواعد إنتاجيّة محليّة وازنة.
وفقًا للأرقام، لم يستورد لبنان خلال أوّل شهرين من هذا العام سوى 62 سيارة جديدة فقط، وهي نسبة منخفضة للغاية قياسًا بأرقام السنوات السابقة التي بلغت 1,876 سيارة في الفترة المماثلة من العام الماضي، و3,665 سيارة كمعدّل في سنة 2019. مع العلم أن السنتين السابقتين شهدتا ظروفًا اقتصاديّةً سيّئة للغاية، دون أن تصل معدلات الاستهلاك إلى هذا الانخفاض غير المسبوق. وخلال العام الماضي، تخلّى المقيمون في لبنان عن نحو ثلثي استيرادهم من الأحذية والقبعات والملبوسات، دون أن يأتي هذا الانخفاض في مقابل تعزيز الإنتاج المحلي، بدليل انخفاض استيراد القماش الذي يتم استعماله كمواد اوليّة لهذه الصناعات بنسبة 60%. وحتّى شراء الهواتف الخلويّة لم يسلم من تداعيات الأزمة، إذ انخفض استيراد لبنان للهواتف السنة الماضية إلى نحو ثلث قيمة الاستيراد في العام السابق، علمًا أن لبنان لا ينتج هذا النوع من السلع، ما يعني أن انخفاض الاستيراد يعني تلقائيًّا انخفاض الاستهلاك.
باختصار، باتت كل هذه السلع التي تعوّدت الأسر اللبنانيّة على استهلاكها خارج نطاق قدرتها، والسبب مرّة جديدة ليس سوى انخفاض قيمة مداخيلها بالليرة اللبنانيّة قياسًا بأسعار السلع المستوردة، دون أن يكون الاقتصاد المحلّي مهيّأ لهذا النوع من الصدمات من خلال قاعدة إنتاج محليّة قادرة على ملء هذا الفراغ. أما المشكلة الأكبر اليوم، فهي أن جميع هذه التضحيات التي يقدمها المقيمون في لبنان لا يقابلها أي تصوّر لكيفيّة الخروج من الأزمة الحاليّة، ولا حتّى رؤية أو خطة رسميّة لذلك. وفي ظل الفراغ الموجود في السلطة التنفيذيّة اليوم، بعد استقالة حكومة دياب وعدم تشكيل حكومة جديدة مكتملة الصلاحيّات، لا يوجد أفق واضح للأزمة أو رهان يمكن أن ننتظره.