هكذا نشأ العملاق: القصة غير المنمقة لسيارات تيسلا

الخميس 28 تموز 2022
تصميم محمد شحادة.

رغم تعدد الآثار العالمية للحرب في أوكرانيا، إلا أن قطاع الطاقة وما أصابه قد يشكل نقطة الحديث الأبرز حتى الآن. إذ يعيش العالم أزمة وقودٍ كبيرة، تتفاوت آثارها وطرق التعاطي معها، كالاتجاه الفرنسي مؤخرًا نحو تأميم شركة الكهرباء الوطنية بالكامل، أو ضغط بعض القوى الأوروبية للتراخي في تطبيق الضوابط البيئية نظرًا لحالة الحرب الطارئة هذه. على الجهة الأخرى، يرى البعض أن الظروف كلها تهيئ للانتقال نحو البدائل النظيفة وتؤكد على ضرورة هذه الخطوة، مثلما قال الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء حديثه عن ضرورة تسريع الاتجاه نحو هذه البدائل لأسباب بيئية وسياسية، بصرف النظر عن الاتجاه الفعلي لحكومته في هذا الصدد، وعدم وفائه بالوعود البيئية التي قطعها ليباعد بنفسه عن الرئيس السابق دونالد ترامب.

واليوم، قد تترأس السيارات الكهربائية قائمة البدائل المفترضة لمستقبلٍ أكثر نظافةً، كما نجد في خطة بايدن التي تهدف لتحويل نصف السيارات الخفيفة المباعة بحلول عام 2030 إلى سيارات عديمة الانبعاثات، أو غيرها من التوقعات التي تحاول التنبؤ بشكل المستقبل ودور هذه المركبات فيه. 

وفي هذه اللحظة التاريخية بالذات، يرتبط اسم السيارات الكهربائية لدى كثيرين بمصنّع واحد على وجه التحديد، بنفس الطريقة التي يرتبط بها اسم «كلينيكس» بالمناديل، أو اسم «جيب» بسيارات الدفع الرباعي. هنا نتحدث بالطبع عن ارتباط اسم السيارات الكهربائية بتيسلا؛ الشركة التي نالت حصتها الوافرة من التغطية الإعلامية والمديح والانتقادات وغيرها. إذ لا تكاد تمر فترة دون خبرٍ عن الشركة الفريدة أو رئيسها التنفيذي إيلون ماسك، حتى يخال المرء أن المستقبل بحد ذاته قد اقترن بهما. وإذا كان السؤال عن العملية التي سمحت لفردٍ واحد مثل ماسك بالتمتع بهذا القدر من التأثير سؤالًا محقًا، فإن بعض الأسئلة الشبيهة يمكن أن تطرح حيال الشركة أيضًا، سيما أننا نرى اليوم حجم الرهان المعقود عليها وعلى غيرها لتشكيل المستقبل. وقد يقدم لنا الصحفي الأمريكي إدوارد نيديرمير في كتابه «سخيف: القصة غير المنمقة لسيارات تيسلا» جزءًا من الإجابة، ضمن علاقة متينة مع السياق الأعمّ حينها، وواقع سوق السيارات التقليدية، ملامسًا عنصر السيرة الذاتية أو الشخصية حين يصبح ذلك ضروريًا فقط، وهي مهمة يسهل تصورها ويصعب تطبيقها.

حكاية مدينتين

يفتتح نيديرمير كتابه بإشارة جغرافية إلى منطقتين ساهمتا في كتابة التاريخ الأمريكي المعاصر؛ هما ديترويت وكاليفورنيا (أو وادي السيليكون لأجل الدقة)، فالأولى اكتسبت أهميتها التاريخية بوصفها قلب صناعة السيارات الأمريكية في القرن العشرين، بينما اكتسبت الثانية مكانتها كموطن لشركات التكنولوجيا الناشئة أو العمالقة الجدد. إن اختلاف «المنتج» ومنطق الإنتاج بين المدينتين والمرحلتين، كما سيقول لنا نيديرمير طوال الكتاب، يميّز رحلة تيسلا سلبًا وإيجابًا ويضعها فيما سيبدو موضعًا قياديًا أحيانًا، ويؤثر على جودة عملها أحيانًا أخرى. 

رغم أن فكرة السيارة الكهربائية ليست ابنة القرن الحادي والعشرين إطلاقًا، ويمكن تتبعها حتى أزمة الوقود في سبعينات القرن المنصرم، بل وقبل ذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر، إلا أن الانهيار المالي عام 2008 وما تبعه من ارتفاعٍ في أسعار الوقود أعاد للفكرة بريقها، وشجع عدة شركات ناشئة على محاولة تبني الفكرة وبلورتها، لتتفكك معظم هذه الشركات مع انحسار حدة التضخم وعودة أسعار المحروقات إلى طبيعتها وشركات السيارات إلى إنتاج السيارات الضخمة والرائجة في الولايات المتحدة مجددًا. في هذه الفترة ذاتها، كانت تيسلا -التي نشأت عام 2003- لا تزال شركة هامشية تتكون من عدة موظفين.

ومنذ انضمام ماسك وترحيبه بالفكرة، بدا أن التركيز سينصب على سيارة كهربائية بمواصفات عالية وتصور بعيد عن كون السيارة الكهربائية عربةً مملة تستلزم نوعًا من التنازلات والتضحيات بالقوة والأداء الذي يميز السيارة التقليدية. لكن عملية إنتاج هذه السيارة، أو السيارات، لم تكن ببساطة تصوّرها، وهو ما يقول نيديرمير إنه يفرّق بين مصنّعي السيارات، الذين يركزون على دراسة التكاليف وتصميم خط إنتاج بمواصفات قياسية وهامش أخطاء قليل، وبين صنّاع السوفت وير، الذين حالما ينتهون من صناعة المنتج الأول، لا تكون النسخ همًا يشغل بالهم. وهو ما أثّر على تيسلا، بتركيزها على التصاميم الثورية والزعزعة، مع خبرتها شبه المعدومة في التصنيع الفعلي. 

يوثق الكتاب رحلة إنتاج الشركة لسيارتها الأولى، تيسلا رودستر التي صممت في البداية لتكون مجرد تحويلٍ لسيارة «لوتس إيليز» لتعمل على محرك كهربائي، وانتهى بها الأمر لتتشارك القطع بنسبة 7% فقط مع «إيليز»، بما يحدثه ذلك من هدرٍ في الأموال ورفعٍ من كلف الإنتاج. ولما كانت رؤية تيسلا قائمة على صناعة سيارة كهربائية تجاري في أدائها وجاذبيتها السيارات التقليدية، فإن عامل التكلفة كان مهمًا في تلك الرؤية أيضًا، وجزءًا من سعيها لتقريب السيارة الكهربائية من العامة. إلا أن رودستر، التي كان موعد إطلاقها يتأجل كل فترة، لم تصبح سيارة معقولة التكاليف، وتغيرت معها سياسة الشركة التي صارت تعتمد على بيع سيارة فاخرة لجني الأرباح واستثمارها في المستقبل لإنتاج سيارات ذات تكلفة معقولة. وإذا كانت هذه الرؤية، على الورق، سلسةً بعض الشيء، فإن ما جرى كان «جحيم إنتاجٍ» كما يصفه ماسك، ومسارًا مليئًا بالضغوط وساعات العمل الإضافية وغياب محاذير الأمان، وانعكس ذلك على التكاليف التي لم تنجح الشركة في ضبطها.

إن كل ذلك، إضافةً إلى ما يجمع البعض على كونه تعطش ماسك للشهرة، أحدث الانقسام داخل الشركة، الذي أصبح ماسك بموجبه الرئيس التنفيذي بعد تنحي مارتن إبرهارد وخروجه بعد ذلك من الشركة، وكما يوضح الكتاب فإن لهذا الانتقال عواقب كبيرة.

مصنع الفقاعات

يسأل نيديريمير سؤالًا مهمًا في كتابه: لماذا قد يهتم أحدهم بالدخول في سوق السيارات العالمي اليوم؟ فعلاوةً على المنافسة الشرسة، وتمركز معظم الشركات المصنعة في تكتلات عالمية، عادة ما تكون أرباح هذا القطاع غير مغرية وهامشية، على عكس الخسائر التي تكون فادحةً ومكلفة. وبالنسبة لشركةٍ جديدة، تعمل على تثوير هذا القطاع، ربما كانت تيسلا تتصور نهجًا جديدًا. والحقيقة أكثر ما تكون بعدًا عن ذلك.

فمع كل جولة تمويل جديدة يوثقها الكتاب، ومع كل تقرير سنوي، كانت تيسلا تثبت أنها، بمعايير السوق، شركة لا يمكن فهم منطقها. فحين أدرّت تيسلا أرباحًا للمرة الأولى، في شهر تموز عام 2009، قدرت هذه الأرباح بمليون دولار مقابل حجم استثمارات وصل إلى 200 مليون دولار. وبكل معايير السوق، فإن هذا العائد ليس متناسبًا مع حجم الاستثمارات، فضلًا عن كونه، وبكلمات ماسك حينها، حدثًا غير اعتيادي ولا يجب على المستثمرين عده كذلك أو توقع حدوثه بشكلٍ دائم. فكيف عملت هذه الشركة ضاربة بعرض الحائط كل ما نعرفه؟ 

بدايةً، يجب القول إن هذا الربح، الذي لن يتكرر حتى فترة بعيدة، لم يكن اعتباطيًا. ففي نفس الفترة، كانت تيسلا تنازع للحصول على 450 مليون دولار على شكل قرض من وزارة الطاقة الأمريكية لدعم السيارات الكهربائية. ولدعم فرص الشركة في ذلك، كان عليها أن تثبت قدرتها على إنتاج سيارات متطورة ذات تكلفة معقولة، إضافة إلى تحقيق الأرباح لضمان استمراريتها، وكما يوثق الكتاب فإن شهر تموز من عام 2009 كان محوريًا في ضمان حصولها على القرض، الذي كان ماسك قد أعلن سابقًا حصول الشركة عليه، قبل أي تأكيد رسمي بذلك حتى، ولتجبر الشركة بعدها على توضيح ذلك. 

والحقيقة، أن قدرات ماسك الاستثنائية في تمويل الشركة عبر صلاته في وادي السيليكون كانت ضرورية لنجاتها، ثم أصبحت ما يشبه طريقة عملها، وكأنها ليست شركة تصنيع سيارات في المقام الأول. ففي الكتاب، تبدو سيرة تيسلا الذاتية في مراحلها الأولى أشبه بقصةٍ عن الحوادث الوشيكة وتدخل المعجزات التي توقف التصادم في اللحظة الأخيرة، سواء عبر صلات ماسك أو الإعلان المفاجئ عن سيارة جديدة تعيد الثقة إلى المستثمرين والمشترين، أو بطرقٍ أخرى أكثر دهاءً كما سنرى. 

إن قدرات ماسك الاستثنائية في تمويل الشركة عبر صلاته في وادي السيليكون كانت ضرورية لنجاة تيسلا، ثم أصبحت ما يشبه طريقة عملها، وكأنها ليست شركة تصنيع سيارات في المقام الأول.

فكما يذكر نيديرمير، أعلن ماسك في حزيران من عام 2013 عن «الشاحن الخارق»، الذي لن يشحن السيارات بسرعةٍ كبيرة وحسب، بل سيُغذى بالاعتماد على الطاقة الشمسية عوضًا عن الوقود الأحفوري، الذي يستعمل عادةً في محطات الشركة. ووفقًا لادعاء ماسك حينها، فإن ذلك سيوفر موردًا نظيفًا لشحن السيارات وتوليد فائضٍ تبيعه الشركة. تبع ذلك إعلان عن خدمة استبدال للبطاريات، يتجنّب عبرها السائقون الازدحام والانتظار لشحن سياراتهم ويستبدلون بسرعة بطاريات سياراتهم بأخرى ممتلئة. كالعادة، لاقى هذان الإعلانان الزخم المعتاد من العناوين المرحّبة دون تدقيق يذكر بالتطبيق الفعلي للـ«الفكرة الثورية»، ففي حالة التغذية بالطاقة الشمسية، لم يطبق هذا الاقتراح إلّا على محطاتٍ قليلة جدًا، مقابل المحطات الأخرى التي ظلت تُغذى بالوقود الأحفوري.

ولتكتمل الخدعة، يربط الكتاب الإعلان المتهور عن الشاحن الخارق وخدمة استبدال البطارية بمراجعةٍ أجرتها ولاية كاليفورنيا لنظام الاعتمادات التنظيمية الذي تحتسبه للسيارات خالية الانبعاثات، تشجيعًا للشركات المصنعة على إنتاج سيارات أقل ضررًا بالبيئة. إذ يسعى هذا القانون بشكلٍ عام لإلزام الشركات المصنعة بإنتاج سيارات أقل ضررًا بالبيئة عبر متطلبات تكتسب الشركات المزيد من الاعتمادات عندما تلتزم بها، وتضطر لشراء الاعتمادات من شركة أخرى عندما لا تستطيع تحقيقها. ووفقًا للقانون بصيغته الجديدة، اكتسبت السيارات، التي يمكن شحن 80% من بطارياتها بفترةٍ تقل عن 15 دقيقة، ضعف النقاط مقارنةً بتلك التي تحتاج فتراتٍ أطول للشحن. 

يقول نيديرمير إن تجربة هذه التقنية على سيارة واحدة فقط كان كفيلًا بمنح تيسلا اعتمادات على كل سياراتها آنذاك، ما عنى فائضًا يمكن للشركة بيعه، وبالتالي أرباحًا تقدر بـ217 مليون دولار في عام 2014، قبل أن ينتبه مجلس كاليفورنيا للموارد الجوية لهذا الاستخدام ويطالب بضمانات بين عامي 2015 و2017، الطلب الذي ردت عليه تيسلا باقتراحٍ يقول إن زبائنها لم يعودوا مهتمين بالتقنية، لتسحبها من السوق بعد ذلك متمكنةً من رفع أسعار أسهمها وسداد جزء من القرض الذي حصلت عليه من وزارة الطاقة.

ثمة أصل إضافي يقع تحت تصرف تيسلا، وينتبه الكتاب إليه ويوليه اهتمامه، وهو جيش من «المؤمنين» بالشركة/ الطائفة، الذين كانت ستفشل تيسلا في الحفاظ على قوة علامتها بدونهم. فمع كل إصدارٍ غير مستقر، يهب هؤلاء للدفاع عن الشركة واتهام أي صوتٍ مناوئ إما بالعمالة لشركات النفط أو السيارات أو بتلويث سمعة الشركة لأغراض ربحية كالبيع المكشوف، حتى لو كان الكلام لا ينتقد الشركة تمامًا، أو يطالب بتحسين منتجاتها فقط. إضافةً إلى ذلك، يلعب هؤلاء دورًا في شحذ الهمم للمزيد من الاستثمار بأسهم الشركة، والتأثير على الآخرين للقيام بذلك، سواء كانت غايتهم جني مزيد من الأرباح أو الحفاظ على الكوكب. 

يقول نيدرمير إن هذا المجتمع لم يكن بالضرورة على هذا القدر من العداء، ويتتبع بعض أصوله التي قد تكون في الأصل منتديات لهواة السيارات الكهربائية كفكرة، قبل أن تصبح مقترنةً بعلامة تيسلا فقط. والمؤكد أن تشكيل الحدود الواضحة لهذه المجتمعات لم يكن طبيعيًا أو عفويًا، إذ يشير الكتاب إلى عدة أمثلة من صناع المحتوى الذين يحصلون عبر إنتاج ما يشبه «المحتوى المدعوم» على عمولاتٍ من المبيعات وحسومات دون الإفصاح عن هذه الصلة، فضلًا عن كون جزء هائل من هؤلاء الصنّاع أو مديري التجمعات ملّاك أسهم في الشركة، ما يظهر تضاربًا واضحًا في المصالح. 

وقد يكون هذا أحد الأسباب التي ساعدت الشركة على النجاة من مواقفٍ لم يكن الكثيرون ليتوقعوا خروجها منها، سواء إن كان الأمر يتعلق بالحوادث المثيرة للجدل التي يكون ماسك موضوعها، كما حصل حين أعلن في تغريدة نية الشركة العودة إلى كونها شركة خاصة، واضطر على إثر ذلك للتخلي عن رئاسة الشركة، أو في الحالات الأكثر خطورة مثل ادعاءات الشركة المضللة عن كون سياراتها مجهزة للقيادة الذاتية بالكامل، ما يعني تحميل ضحايا الحوادث المسؤولية الكاملة أو حثّ الزبائن على توقيع اتفاقيات عدم إفصاح مقابل الصيانة، والضغط على الصحفيين لتقديم تغطية أكثر ودية للشركة، وهي كلها أساليب ساهم جيش المدافعين عن الشركة في إنجاحها كما يعرف الكاتب نفسه بعد تجربة شبيهة يوردها في الكتاب، ذاق خلالها غضب الشركة ومريديها.

تيسلا على الطريق السريع للتاريخ

حاولت الشركة مرارًا الظهور بمظهر الطرف «المزعزع» الهادم لأساليب العمل وثقافة وطرق الشركات القديمة. وربما تكون قد نجحت في تصوير نفسها كذلك إلى حدٍ ما، ما دفع بشركاتٍ مثل تويوتا أو دايملر إلى شراء حصص فيها ومحاولة التعاون معها. إلا أن الكاتب يعود ويتساءل: ماذا سيحدث حين تتردى الإمبراطورية؟ وهنا يضع تيسلا أمام مجموعة من العوامل الأوسع، التي ساهمت هي نفسها في تشكيل بعضها. 

ينسب نيديرمير فضلًا لتيسلا في التسريع بتقريب السيارات الكهربائية من العامة، وإثبات الفكرة القائلة إن هذه السيارات يمكن أن تشكل حلًا باهرًا وبديلًا ظريفًا، بلا أي تنازلات. إلا أن هذا الفضل، كما يراه الكاتب، لا يلبث أن يلتف ضد الشركة ويثير شهية العمالقة في هذه الصناعة، الذين رأوا إمكانيات هذه النقلة وبدأوا بالمشاركة فيها، متسلحين بالقدرة على الإنتاج المعياري والمستقر وحساب التكاليف، وغيرها من المهارات التي أثبتت تيسلا عدة مرات أنها لا تتقنها بسبب ثقافة عملها. 

أكثر من ذلك، يتساءل نيديرمير عن قدرة تيسلا على النجاح عالميًا. إذ إن الدور المركزي للسيارات الفردية ليس حاضرًا بالقدر ذاته في دول العالم كما في الولايات المتحدة الأمريكية (بفعل أسبابٍ سياسية واقتصادية وأخرى تتعلق بالتخطيط المدني نفسه). وحتى في الولايات المتحدة، يرى الكتاب صعود حركة أقل تعلقًا بالسيارة الفاخرة وأكثر اتجاهًا صوب وسائل النقل الجماعية، أو تلك «الذكية»، ويقول إن تيسلا فوتت فرصة للمستقبل حين راهنت على ما يسميه «الوضع السخيف»، عوضًا عن التركيز على حلول أكثر عملية ووظيفية وأقل إبهارًا. 

حاولت تيسلا مرارًا الظهور بمظهر الطرف «المزعزع» الهادم لأساليب العمل وثقافة وطرق الشركات القديمة، وربما تكون قد نجحت في تصوير نفسها كذلك ما دفع كبرى شركات السيارات إلى التعون معها.

في الفصل الأخير من الكتاب، ينطلق نيديرمير من شاشة اللمس الكبيرة، ذلك التفصيل الذي يميز سيارات تيسلا عن كل منافسيها وما يمثله من تجسيد جمالي لقيم الشركة. لن تقوم شركة سيارات أخرى بإضافة ميزات التحكم بالسيارة إلى شاشة لمس كبيرة، لأنها تأخذ الأمان بالحسبان، وتريد من السائق التركيز على الطريق أثناء القيادة. لكن تيسلا لا تفكر مثل أي شركة سيارات أخرى. وليس من المهم أن هذه الشاشات كثيرة الأعطال، لأن تيسلا تقوم اليوم بمحاكاة طالما ميّزت هذه الصناعة، ومثلما كانت الزعانف التي ميّزت سيارات الخمسينات من القرن الماضي محاكاةً لتصاميم الطائرات النفاثة التي كانت رمز تلك الحقبة، فإن تيسلا اليوم تحاكي الهاتف الذكي، الرمز الأوضح لهذه الحقبة. ولمّا كانت هذه المحاكاة تتعدى التصميم وتؤثر على الأداء والوظائف، فإن الأمور تصبح أكثر تعقيدًا. ويخلص الكاتب إلى أن إبداء رأيٍ سيعيدنا لا محالة إلى كيف نرى ماسك، فهل هو بطلٌ ظهر في زمنٍ يخلو من الأبطال ومناخٍ يفتقر إلى الثقة والتفاؤل بفعل الكوارث الاقتصادية وما كان يقال سابقًا عن الأعمال «الأكبر من الفشل»، أم أنه محتال يستغل الهم البيئي ليستحوذ على المزيد من الدعم الحكومي ويتجنب الانتقادات. 

لحسن الحظ، فإن الكتاب يختتم بتقديرٍ «موضوعي» لأثر تيسلا البيئي. إذ إننا حتى لو افترضنا أن الكهرباء التي تشحن سيارات تيسلا تأتي من مصادر متجددة أو محايدة من حيث الانبعاثات الكربونية (وهو افتراضٌ مخبري جدًا يفترضه الكاتب لإثبات نقطة فقط) فإن الرقم الذي تفتخر به الشركة، وهو توفير أربعة ملايين طن من انبعاثات الكربون، يبهت حين نقارنه بالكلفة، والتي تقدر بـ19 مليار دولار جمعتها الشركة من الأسواق العامة والخاصة، وتصبح عندها تكلفة توفير الطن الواحد 4750 دولارًا، ما يجعل خيارات أخرى كالطاقة النووية حتى شديدة الزهاء، تتمثل بـ59 دولارًا فقط مقابل كل طن. وعند هذا التفصيل، يقول الكاتب إن أبرز مشاكل الشركة تتضح للعيان. 

ولأن الكتاب صدر في عام 2019، فإن كثيرًا من الفوضى التي نعيشها اليوم لا تدخل في تنبؤاته للمستقبل، والتي يقول فيها إن الامتحان القادم لتيسلا وديمومتها سيكون النجاة من انهيارٍ اقتصادي، بما يستلزمه ذلك من تدخلات مؤلمة تجيد شركات السيارات الأخرى إجراءها، إضافةً إلى تغيير ضروري في توجه الشركة وطبيعة منتجاتها، وهو أمرٌ يؤكد الكاتب أن طبيعة ماسك الفجائية تجعل من توقعه أمرًا شبه مستحيل. 

يقدم كتاب «سخيف: القصة غير المنمقة لسيارات تيسلا» سردًا شديد العناية بالتفاصيل والأرقام والتواريخ، كما يجمع بين الدراية العميقة بالسيارات وتتبع الأسواق المالية وحركة الصحافة. إن جزءًا من هذا يعود بالطبع إلى خلفية الكاتب، كصحفي مختصٍ بالسيارات وليس دخيلًا على المجال أو مقاربًا للمسألة من زاوية بعيدة. ولهذا التركيز فوائده، إذ يبتعد عن الهوس بالتفاصيل البيوغرافية أو قراءة الأحداث من منظور فردٍ واحد، ويساعد القارئ قليل الدراية بعالم السيارات على فهم السياق الأوسع الذي أنتج تيسلا، ويصل إلى الخلاصات المهمة مقدمًا إياها كنتائج طبيعية جدًا لما ورد في 17 فصلًا. 

وقد تصطدم قراءة الكتاب اليوم بالمعطيات الجديدة وما جرى خلال الفترة الزمنية التي فصلتنا عن لحظة الكتابة، كتخطي ماسك لجيف بيزوس كأغنى رجلٍ في العالم، أو زيادة أرباح الشركة من مخطط بيع النقاط نفسه، أو تسجيلها لأرباحٍ تقدر بـ3.3 مليار دولار في الربع الأول من هذا العام، وهو رقم يختلف جذريًا عن الأرقام التي ترد في الكتاب. إلا أن ذلك، في الوقت نفسه، لم يمنع ورود الأخبار عن تسريح عدد من موظفي الشركة مؤخرًا أو خروج ماسك منذ فترة بتحذير عن إمكانية إفلاسها بفعل أزمات سلاسل التوريد والمصير المجهول لمصنعها في شانغهاي، الذي تأثر بموجة الإغلاق الأخيرة في الصين. وعند هذا المشهد، يمكن للقارئ أن يشعر بالراحة (إن كانت هذه هي الكلمة المناسبة) لأن عنصر «السخافة» الذي يبنى الكتاب عليه لا يزال رئيسيًا في هذه القصة، رغم كل ما تغيّر أو تضخم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية