من أتاتورك إلى أردوغان: رحلة أيديولوجيا الجمهورية التركية

امرأتان تمران أمام صور لمصطفى كمال أتاتورك ورجب طيب أردوغان في إسطنبول، أيار 2018. تصوير أوزان كوسي، أ ف ب.

من أتاتورك إلى أردوغان: رحلة أيديولوجيا الجمهورية التركية

الإثنين 03 أيار 2021

مع اقتراب الجمهورية التركية من إتمام مئويتها الأولى، يمكن القول إن أي محاولة لفهم واقع تركيا اليوم، والصراعات القائمة بين نخبها السياسية، لا يمكن أن تكتمل دون السعي لفهم «الكمالية» (Kemalizm)، الأيديولوجيا التي قامت عليها الجمهورية التركية. لعبت هذه الأيديولوجيا دورًا أساسيًا في تشكيل الهوية الوطنية في البلاد فتماهت مع بنى ومؤسسات الدولة طوال عقود لتكون عنصرًا فاعلًا لا يمكن تجاوزه في السياسة التركية حتى يومنا هذا خاصة على المستويات الحزبية والشعبية.

ظهر مصطلح الكمالية واشتقاقاته للمرة الأولى مطلعَ عشرينيات القرن الماضي على ألسنة الساسة والصحفيين الإنجليز إبّان حرب الاستقلال التركية وذلك نسبة للقيادي العسكري في الجيش العثماني -حينها- مصطفى كمال (أتاتورك لاحقًا)[1] ولوصف الحركة الوطنية التركية التي نظمها وقادها الأخير ضد الإملاءات الاستعمارية للمنتصرين في الحرب العالمية الأولى والاحتلال اليوناني وعجز حكومة السلطان في إسطنبول عن مواجهة كل ذلك.

كما ساهم الانتصار العسكري الذي حققته الحركة الوطنية التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك على اليونان، في تعزيز حضور المصطلح ودخوله الأدبيات السياسية الدولية، تمهيدًا لتبلوره أكثر مع تولي أتاتورك ورفاقه للحكم فيما سيُعرف لاحقًا بالجمهورية التركية. إذ تلقفت النخب المؤسِّسة للجمهورية التركية مصطلح الكمالية وتبنته بشكل واسع لا سيما منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تم استعماله في الكتب المدرسية وكتب التاريخ وتم نشره في العديد من المجلات والمنشورات الرسمية وغير الرسمية في تركيا، وذلك لوصف المشروع النهضوي الجديد في تركيا والترويج له خاصة في الغرب، في سياق حشد الدعم الأوروبي، في ظل توجهات النخب الكمالية التغريبية الطامحة لتحديث البلاد على الطراز الغربي.

سياقات تطور الأيديولوجيا الكمالية

للبحث في تاريخ الكمالية لابد من العودة للجذور التي مهّدت لنشوئها، نعني سنوات أفول الدولة العثمانية، والتي شهدت صراعات حادة كانت تدور حول سؤال رئيسيّ مركّب: كيف يمكن إنقاذ الدولة وتمكينها من النهوض مجددًا واللحاق بالغرب؟

تعتبر الكمالية امتدادًا لصراعات تجلت بوضوح بين الإيديولوجيات الإسلامية والعثمانية والقومية والتغريبية خاصة منذ عهد التنظيمات (1839) وما تلاه من أحداث. إذ تتشارك الكمالية بالعديد من الأفكار والأطروحات مع تيارات تحديثية عثمانية سابقة، مثل حركة العثمانيين الشباب وحركة الأتراك الشباب/ تركيا الفتاة، بل وتعتبر «صيغة متطرفة» لمساعي النهضة الجذرية من خلال التغريب والأوربة التي تبنتها نخب الدولة العثمانية وشهدت ذروتها بعد إعلان المشروطية الثانية عام 1908، وصعود جمعية الاتحاد والترقي، والتي شكلت أطروحاتها السياسية البنية التحتية الفكرية والنموذج العملي الذي استفادت الكمالية ونخبها منه وبنت عليه.

قامت هذه البنية التحتية، على مبادئ ورثتها الكمالية عن الاتحاد والترقي، وترتكز على مصطلحات مثل الأوربة والتغريب والوضعية والمركزية. حيث أخذت الكمالية هذه المصطلحات والأفكار وأعادت تشكيلها وفق نموذج نظام جمهوري جديد، يسعى لبناء دولة وطنية حديثة من ركام الدولة العثمانية.

الكمالية وثوراتها: «لأجل الشعب، رغمًا عن الشعب»

عند تناول الكمالية، من المهم الالتفات إلى أنه لا يمكن اختزالها بآراء ومواقف أتاتورك فقط، بل يجب النظر إليها خارج هذا الإطار التبسيطي بوصفها تيارًا فكريًا وممارسةً سياسيةً وإداريةً. بل وبوصفها تيارًا يسعى للنهوض بالجمهورية التركية الناشئة إلى مصاف الحضارات والدول المتقدمة، بحسب تعبير أتاتورك نفسه.

اعتمدت الكمالية في سنينها الأولى على ترسيخ القيم والأفكار الغربية في الدولة والمجتمع، عبر تحديث القوانين والمؤسسات الرسمية، من خلال الترجمة والاقتباس من البدائل الأوروبية، وكذلك من خلال عملية تحديثية مبنية على الانسلاخ الممنهج والشامل عن المشرق والإرث العثماني.

وعبر سلسلة خطوات تحديثية جذرية عرفت لاحقًا باسم ثورات أتاتورك (Atatürk İnkılâpları)، أعادت الكمالية تنظيم المجالين العام والخاص، بما يشمل المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية والدينية، من استبدال الحروف اللاتينية بالعربية في لغة الكتابة (ثورة الحرف)، إلى تحديث الملابس عبر حظر ارتداء العمامة والطربوش واستبدال القبعات الأوروبية بهما (قانون القبعة)، وحتى حظر تعليم الموسيقى والغناء الشرقي ومحاربة هذا التراث في الإذاعات المحلية لصالح نشر الفنون الغنائية والموسيقية أوروبية الطراز.

تمثال لأتاتورك في إسطنبول وهو يبدل بالأبجدية العربية الأبجدية اللاتينية. المصدر: ويكيميديا.

سعت الكمالية من خلال هذه الخطوات إلى بناء دولة وطنية، عبر الانتقال بالشعب المتبقي في حدود تركيا الحالية إلى نظام جمهوري تعيش فيه أمة تركية متجانسة وعلمانية وحديثة بالمعنى الغربي، مع ترك الإرث العثماني ذي الطابع الإمبراطوري متعدد الأعراق واللغات والأديان.

ولتحقيق هذا الهدف، اتبعت الكمالية سياسة تحديث قسرية هرمية من الأعلى للأسفل، كان أبرز شعاراتها: «لأجل الشعب، رغمًا عن الشعب»، فيما وصفه رئيس الوزراء التركي السابق نهات إريم (1912-1980)، بديكتاتورية العقل. فقمعت وأزالت كل ما رأته عائقًا أمام تصوراتها، خاصة الأفكار والممارسات التقليدية التي كانت مرتبطة بالدولة العثمانية، الأمر الذي وضعها في مواجهة مباشرة ومستمرّة مع التيارات الدينية المحافظة، ومع الأقلّيات القومية، خاصة الكردية. حيث أصبحت هذه القوى، أو ما أطلقت عليه الكمالية تسميات «القوى الرجعية والقوى الانفصالية»، بمثابة أهم التهديدات الداخلية في نظر الكمالية ونخبها ومناصريها حتى اليوم.

قوبل هذا القمع بالعديد من محاولات التمرّد، التي كان من أبرزها ثورة الشيخ سعيد عام 1925 وثورة درسيم عام 1937-1938. لتردّ عليها الدولة، التي رأت في هذه الحركات تهديدًا وجوديًا، بحملات عسكرية وسياسية وأخرى قانونية، كان بينها سنّ قانون «إقرار الهدوء» عام 1925 الذي كان بمثابة قانون طوارئ، وتأسيس محاكم الاستقلال، التي لعبت دور المحاكم الثورية في سلوكها إزاء معارضي النظام.

حزب الشعب الجمهوري واكتمال الأيديولوجيا الكمالية

إن فهم العلاقة بين الكمالية وحزب الشعب الجمهوري أمرٌ أساسي لفهم الكمالية، إذ إن هذا الحزب الذي أسسه مصطفى كمال ورفاقه عام 1923 تحول إلى نقطة ارتكاز للثقل السياسي الذي حققوه بعد حرب الاستقلال، فأصبح الحزب المؤسّسَ الفعلي للجمهورية وأول أحزابها وحكامها، والبيئة الحزبية التي تنتج كوادر ونخب الكمالية. حيث يمكن القول إن أتاتورك كان المنظّر الرؤيوي، فيما كان حزب الشعب الجسم التنظيمي المُبشِّر بهذه الأيديولوجيا عمليًا على الأرض.

نضجت الكمالية مع ثلاثينيات القرن الماضي، وتمثّل هذا النضج في تحويل المبادئ الكمالية إلى برنامج واضح وشامل. ويمكن ردّ هذه الخطوة إلى مجموعة من الأسباب، من بينها التهديد الذي شكّله السماح بتأسيس الحزب الجمهوري الحر، وهو حزب ليبرالي تأسس عام 1930 ونافس الكمالية وانتقد أطروحاتها، ما دفع الكمالية إلى إعادة صياغة برنامجها الأيديولوجي بشكل أوضح.

كما أن صعود الشيوعية في الاتحاد السوفييتي، والنازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، جارة تركيا وقتها من خلال جزر بحر إيجه، وانعكاسات وتهديدات هذه التيارات الفكرية المتصارعة على تركيا والمنطقة، شكل قلقًا للنخب الكمالية، ودفعها لترسيخ أيديولوجيتها وتحصينها، في محاولة لحماية تركيا وهويتها الوطنية الصاعدة من تأثيرات هذه الأيديولوجيات العابرة للحدود.

ضريح أتاتورك في أنقرة، حيث يدفن جثمان مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938)، خلال حفل في تشرين الثاني، 1953.

في هذا السياق، شكل المؤتمر الثالث لحزب الشعب الجمهوري (1931) نقطة حاسمة في عملية بلورة مبادئ الأيديولوجيا الكمالية، ففيه صيغت مبادئ هذه الأيديولوجيا بشكل نهائي، وصار عددها ستة مبادئ أساسية، يعبّر عنها بستة أسهم تظهر في شعار الحزب حتى اليوم. إضافة إلى خمسة أخرى مكمّلة، والمبادئ الأساسية هي: الحكم الجمهوري والقومية والشعبوية والدولانية والعلمانية والثورية. وأمّا المكمّلة فهي الوحدة الوطنية والاستقلال الوطني والسيادة الوطنية والحداثة والعقلانية.

لم تكتف النخب الكمالية بإضافة هذه المبادئ إلى برنامج حزب الشعب الجمهوري فقط، بل وأضافتها عام 1937 إلى دستور الجمهورية، في إشارة مهمة إلى تحول الكمالية إلى الأيديولوجيا الرسمية للدولة وأجهزتها، ومدى التماهي والاندماج بين ثلاثي الكمالية وحزب الشعب الجمهوري والدولة، في فترة سيتعارف على تسميتها بفترة حكم الحزب الواحد (1923-1945).

وفي تفسير مختصر جدًا لهذه المبادئ، يمكن القول إن الحكم الجمهوري لدى الكمالية هو النقيض للسلطنة والخلافة حيث السيادة للشعب، والدولة يتم إدارتها من قبله، أمّا القومية فهو مفهوم جامع يشير إلى ضم كافة فئات الشعب في بوتقة القومية التركية، دون تفرقة، في ظل هدف تأسيس دولة وطنية متجانسة ومركزية، وتعني الشعبوية هنا تأسيس مجتمع بلا طبقات، فيه الجميع سواء أمام القانون. فيما يقصد بالدولانية أن الدولة هي الجهة التي تقود قاطرة تطوير المجتمع وتنميته السياسية والاقتصادية.

عند تناول مبدأ العلمانية يُلاحظ بأن النخب الكمالية تبنت تطبيق نموذج صارم للعلمانية مستلهم من التجربة الفرنسية، لا يكتفي فقط بعدم التفرقة على أساس الدين وفصل الدين سياسيًا وقانونيًا عن الدولة (إلغاء السلطنة والخلافة وإخراج مواد الدين من الدستور)، بل يتجاوز ذلك لإقصاء الدين من المجال العام والنظر إليه من منطلق مغرق في الوضعية والعلومية، كأحد عوامل التخلف التي يجب تنحيتها جانبًا. أما بالنسبة لمبدأ الثورية، فهو مبدأ وضعته النخب الكمالية للتأكيد على أن مهمة الأيديولوجيا الكمالية ليست فقط هدم البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية السابقة، بل وإحلال بنى ومؤسسات حديثة مكانها، إضافة إلى السعي لضمان ترسيخ وتطوير ثورات أتاتورك وحمايتها من أي تهديد ممكن، والتأكيد على استمرارية حالة الإصلاح.

كماليّات متعددة لا كمالية واحدة

رغم المبادئ الأساسية سابقة الذكر، لم تحاول الكمالية تقديم نموذج شامل وكوني تدعي حتميته ونجاحه في تفسير كافة قضايا الحياة والعالم، ومع أنها باتت مصدر إلهام للعديد من الدول في العالم الثالث مثل مصر الضباط الأحرار، بقيت الكمالية أيديولوجيا محلية تسعى إلى التحديث والنهضة بالارتكاز على خصوصية الوضع في تركيا، وظلت واحدة من الأيديولوجيات المرنة غير واضحة الحدود والمعالم والمغرقة في العمومية.

عند تناول الكمالية، من المهم الالتفات إلى أنه لا يمكن اختزالها بآراء ومواقف أتاتورك فقط، بل يجب النظر إليها خارج هذا الإطار التبسيطي بوصفها تيارًا فكريًا وممارسةً سياسيةً وإداريةً.

هذه العمومية سمحت لمختلف الأحزاب التركية، كما يقول الكاتب التركي طارق ظفر تونايا، بتأويل الكمالية بحسب توجهاتها، وبالقول إنه لا توجد أيديولوجيا كمالية واحدة في تركيا، بل هناك أيديولوجيات كمالية مختلفة تنتمي لتيارات متصارعة متعددة.

وفي المقابل، ساهم اندماج الكمالية مع أجهزة الدولة ورأس المال الرمزي الهائل الذي يحظى به أتاتورك في منح هذه الأيديولوجيا القدرة على ترسيم حدود السياسة المقبولة في تركيا، وتوضيح المسموح وغير المسموح فيها، رسميًا ومعنويًا. الأمر الذي أجبر التيارات السياسية يسارًا ويمينًا على تبني مبادئ وأفكار هذه الأيديولوجيا، وتعريف أنفسهم بها أو تجنب الصدام معها على الأقل، للتمكن من ممارسة سياسة شرعية وجماهيرية.

فمثلًا، بعد فوز الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندرس عام 1950 بالانتخابات البرلمانية، وانتقال السلطة لأول مرّة منذ تأسيس الجمهورية إلى حزب آخر غير حزب الشعب الجمهوري، حاول مندرس تجنّب التصادم مع التراث الكمالي، لكنّه تبنى تأويلًا مختلفًا للكمالية (خاصة فكرة العلمانية) أقل صدامية وأكثر تصالحًا لا سيما مع التيارات المحافظة؛ فسمح باستخدام الأذان باللغة العربية بعد 18 عامًا على تتريكه، وسمح بعمل المدارس الدينية، وغيرها من القرارات الموجهة نحو الطبقة المحافظة ونخب الأطراف والريف.

ولأجل الردّ على مقاومة البيروقراطية والجيش، ومواجهة مزايدات حزب الشعب الجمهوري، الذي اتهم مندرس وحزبه بالرجعية ومعاداة قيم الجمهورية، سنّ الحزب الديمقراطي عام 1951، وبعد عدة حوادث تعدٍ على تماثيل لأتاتورك، قانون «حماية أتاتورك»، والذي شكل حتى اليوم أرضية قانونية جزائية لم تكتف فقط بتجريم أي عملية تخريب أو تدمير أو إهانة لتماثيل مصطفى كمال أتاتورك بل وجرّمت أيضًا أي إهانة معنوية توجه لشخصه. يعتبر هذا القانون أحد أكثر القوانين المعمول بها إشكالية في تاريخ الجمهورية التركية، حيث يُثار النقاش حوله بشكل مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة لما يمنحه من قداسة قانونية لشخصية تاريخية، الأمر الذي يساهم في تدعيم تيار فكري معين، ويمنع تطور أي مراجعات تاريخية مختلفة عن الرواية الرسمية.

الكمالية والانقلابات العسكرية في تركيا

في الفترة بين ستينيات القرن الفائت والعقد الأول من هذه الألفية، كانت الوصاية العسكرية أبرز سمات الحياة السياسية في تركيا، فحظي تحالف البيروقراطية والعسكر بفرصة وضع دساتير جديدة للبلاد، ما أهلهم للحصول على صلاحيات قانونية واسعة إضافة إلى توظيفهم للثقل المعنوي لخطاب حماية قيم الجمهورية والكمالية لتعزيز تأثيرهم على السياسة التركية.

يعدّ انقلاب 27 أيار 1960، أول انقلاب عسكري ناجح في تركيا، حيث جاء تتويجًا للتحالف العسكري البيروقراطي الذي أخذ على عاتقه حراسة، بل وربما إعادة تأويل، الكمالية وقيم الجمهورية، في سياق تدعيم النفوذ البيروقراطي العسكري في البلاد. وزادت الأوضاع حدّة مع انقلاب 12 أيلول 1980، والذي سعت قيادته إلى إعادة تشكيل الحياة السياسية ككل لدرجة حل جميع الأحزاب السياسية، بما فيها حزب الشعب الجمهوري، ومنع معظم سياسيي تلك الفترة من ممارسة الحياة السياسية.

أمّا انقلاب 28 شباط 1997 ضد حزب الرفاه وحكومة نجم الدين أربكان فيحمل أهمية خاصة من حيث علاقته بالكمالية وتأثيرها في السياسة التركية. حيث ساهم خطاب أربكان الإسلامي وتوجهاته الخارجية نحو المشرق، والصعود السياسي والاجتماعي لحزبه، الذي يراه العديدون عدوًا للنظام في اعتباره تهديدًا لهوية تركيا الكمالية. إذ رأى تحالف العسكر – البيروقراطية – رأس المال الإسطنبولي – الإعلام – الجناح العلماني الكمالي في المجتمع في ذلك ذريعة لشن حملة استهدفت تيارًا سياسيًا واجتماعيًا بعينه، فيما يمكن اعتباره أهم محاولات العودة إلى مشروع الكمالية المتطرف في العقود الأخيرة، لا سيما على صعيد محاولة السيطرة على المجتمع وإعادة هندسته من جديد، وفق تصورات نخبوية وممارسات قسرية. ليشهد هذا الانقلاب، بشكل خاص، حملة مكثفة لمواجهة «الرجعية»، العدو القديم الحديث للكمالية، من خلال تبني شعارات حماية مبادئ الجمهورية وتعزيزها، مع تركيز استثنائي على مبدأ العلمانية عبر مواجهة شرسة؛ سياسيًا (إغلاق حزب الرفاه) واقتصاديًا (محاربة رأس المال الأخضر)[2] واجتماعيًا (حظر الحجاب في الجامعات).

الكمالية والتيارات السياسية في تركيا

في ظل سيطرة الكمالية على الحياة في تركيا، حاولت التيارات السياسية التأقلم مع هذه الأيديولوجيا، فاضطرّ الطيف الأعم من تيارات اليسار التركي إلى تجاهل موقف الكمالية المعادي للشيوعية بشكل واضح، والنزوع الرأسمالي الصريح الذي تبنّته هذه الأيديولوجيا لخلق برجوازية وطنية، إضافة إلى منعها تأسيس الأحزاب والنقابات لا سيما على أسس طبقية طوال عقود.

اعتمدت الكمالية في سنينها الأولى على ترسيخ القيم والأفكار الغربية في الدولة والمجتمع، عبر تحديث القوانين والمؤسسات الرسمية، وكذلك من خلال عملية تحديثية مبنية على الانسلاخ الممنهج والشامل عن المشرق والإرث العثماني.

وفضلت القوى اليسارية تعريف نفسها على أنها تيارات كمالية يسارية في محاولة لتقديم الأيديولوجيا الكمالية على أنها خطوة لم يتم استكمالها نحو الاشتراكية من خلال التركيز على مواجهة الكمالية للقوى الاستعمارية في حرب الاستقلال ومحاربتها للرجعية. فيصف المفكر والسياسي اليساري دوغان أفجي أوغلو توجهه وتوجه اليسار في تركيا بأنه «الاشتراكية الأتاتوركية».

أمّا القوميّون، ممثلين بحزب الحركة القومية، فأعادوا تأويل الكمالية للتوافق ورؤاهم للمجتمع والدولة. حيث وازنوا أيديولوجيًا بين نظرتهم للدين بوصفه عنصرًا أصيلًا في هوية المجتمع وسياسته في إطار توليفة الإسلام التركي من جهة، والأتاتوركية كعنصر أساسي في مجتمع وسياسة الجمهورية التركية من جهة أخرى. بل وحمَّل القوميون مصطلح «الأتاتوركية» بعدًا آخر بوصفه بديلًا ومنافسًا لاحتضان اليسار لمصطلح الكمالية. فبينما ركزت الكمالية اليسارية على العلمانية ومحاربة الاستعمار والرجعية، ركز القوميون بشكل خاص على مبادئ مثل القومية والشعبوية.

وبالنسبة للتيارات الإسلامية الرئيسة، فيمكن القول إنها قد حاولت على مدى تاريخها تجنّب الصدام مع هذه الأيديولوجيا والتعايش معها، والالتزام بشروط اللعبة التي فرضتها الكمالية. فتنسب لنجم الدين أربكان، قائد حركة مِلِّي جوروش (الرؤية الوطنية)، مقولة حمّالة أوجه، هي: «العزيز أتاتورك، لن تنسى هذه الأمة أبدًا ما فعلتموه». إذ ورغم الهجمات الشرسة التي تعرض لها أربكان مرارًا، خاصة بعد انقلاب 1997 الذي استهدفه وحزبه وقواعده الشعبية بشكل حصري، فلقد فضَّل في كل مرة عدم الدخول في صدام مباشر والعودة للحياة السياسية من جديد.

الكمالية في زمن العدالة والتنمية

في العام 2002، تمكن حزب العدالة والتنمية، المنشق/ المنبثق من خط أربكان وحركة مِلِّي جوروش، من الفوز بالانتخابات النيابية، وهو الأمر الذي مكنه من تشكيل الحكومة دون الحاجة للدخول في ائتلافات كما جرت العادة في الانتخابات التي سبقت.

هذا الفوز الساحق لحزب من خلفية محافظة إسلامية مثّل ضربة قاسية لمحاولة انقلاب 1997 إنعاشَ التصورات الكمالية المتطرفة، خاصة فيما يتعلق بقضية العلمانية. حيث ساهم الضغط السياسي والاجتماعي الممنهج على الطبقات المحافظة منذ انقلاب 1997، والمتطلبات التي أفرزها قرار الاتحاد الأوروبي بقبول تركيا كمرشحة لعضوية الاتحاد عام 1999، والتي عجزت الحكومات الائتلافية حينها عن تلبيتها، إضافة إلى الأزمات الاقتصادية الخانقة التي عاشتها تركيا بشكل متواصل كما في أعوام 1999 و2001، إلى دفع الجماهير للبحث عن بديل وجدوه في حزب العدالة والتنمية، الذي عمل على فصل نفسه عن خطاب حركة مِلِّي جوروش وأحزابها الإسلامية بوصفه حزبًا محافظًا ديمقراطيًا، في محاولة نجح فيها لاجتذاب الطبقات المحافظة والإسلامية، والانفتاح بخطاب ليبرالي على طبقات أخرى حولته من حزب طبقة معينة كما هو الحال مع أحزاب حركة مِلِّي جوروش، إلى حزب يجتذب العديد من طبقات المجتمع التركي.

رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء وزعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا حينها، إلى جانب بعض أعضاء الحزب، في زيارة ضريح مصطفى كمال أتاتورك في 14 آب 2003. تصوير تاريك تينازاي. أ ف ب.

حيث اتبع العدالة والتنمية لا سيما في النصف الأول من حكمه سياسة انفتاح لتصفير المشاكل في الداخل والخارج، كما وتبنى بشكل واضح مساعي الانضمام للاتحاد الأوروبي بعكس موقف أحزاب حركة مِلِّي جوروش، وعمل على النهوض بالدولة وأجهزتها ضمن مساعي تلبية معايير كوبنهاجن لعضوية الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى جهوده لدفع عجلة التنمية الاقتصادية الأمر الذي عزز شرعيته الداخلية والخارجية. وفرت هذه السياسات، والزخم الجماهيري الذي حظي به العدالة والتنمية بفضلها، فرصة امتدت لسنوات لتخفيف سطوة الكمالية التي رسخ لها انقلابا 1980 و1997 وما تلاهما، فمثلًا، ومنذ إقراره عام 1982، شهد الدستور التركي الحالي 19 تعديلًا لتخفيف حدة نبرته العسكرية وتعزيز قوة السياسة المدنية، كانت تسعة منها في عهد العدالة والتنمية.

فخلال مسيرة حكمه المتواصل منذ حوالي 19 عامًا، تمكّن العدالة والتنمية من تفكيك العديد من إجراءات وممارسات الكمالية التاريخية، بدءًا من الانفتاح أكثر خارجيًا على الشرق الإسلامي في تجاوز لتوجهات الكمالية الغربية، مرورًا بتجاوز سطوة البيروقراطية الكمالية على الحكومة داخليًا، ووصولًا إلى إلغاء قرارات محورية مثل حظر الحجاب بالنسبة للعاملين في الدولة في عام 2013، إضافة إلى القَسم الطلابي الذي يراه البعض أحد أدوات الصهر القومية ضد الأقليات لخلق «مواطن مقبول» وفق معايير الكمالية، حيث تم فرضه منذ العام 1933 وحتى العام 2013 على طلبة المرحلة الابتدائية في تركيا.

لم تكن هذه الرحلة سهلة أبدًا. ولتحقيق أهدافه لم يدخل الحزب في مواجهة مباشرة مع هذه الأيديولوجيا، بل وأجرى عملية فصلٍ سيامية دقيقة بين أتاتورك والكمالية، فنظر ونظّر لأتاتورك بوصفه بطل حرب الاستقلال، فيما حمّل خطايا الكمالية لحزب الشعب الجمهوري.

أتاتورك العدالة والتنمية

أدرك حزب العدالة والتنمية منذ بداية انخراطه في الحياة السياسية أن الصدام مع شخص مصطفى كمال أتاتورك انتحار سياسي لا يمكن للحزب تحمّل تكلفته، في ظلّ الرمزية المؤثرة التي يحظى بها الأخير وحدود السياسة التركية التي صُمّمت لجعل مصطفى كمال أتاتورك شخصية فوق سياسية. ولذا، حرص الحزب طوال سنوات حكمه على الحفاظ على الرسميات المتعلقة بأتاتورك بشكل دائم، خاصة فيما يتعلق بنشر رسائل وتنظيم فعاليات تخليدية في ذكراه، حيث تترافق هذه الخطوات في العادة مع مديح لأتاتورك ونقد لاذع لحزب الشعب الجمهوري والكمالية، فمثلًا، في عام 2012 وخلال إعلان أردوغان تصوّر حزبه حول أهداف عام 2071،[3] ضمَّ أتاتورك إلى قائمة «الأجداد الفاتحين» الذين يرغب العدالة والتنمية بالسير على خطاهم، منتقدًا في الجلسة نفسها علاقة حزب الشعب الجمهوري بالانقلابات العسكرية في تركيا. بل وزادت لدى الحزب في السنوات الأخيرة نبرة تبني أتاتورك في سياق مواجهة حزب الشعب الجمهوري والكمالية، إذ صرّح أردوغان في حفل تأبين أتاتورك عام 2017 مثلًا أنهم لن يتركوا أتاتورك «للأوساط فاشية الروح ماركسية الخطاب» وأن «الأتاتوركية الحقيقة هي خدمة البلاد والعمل على تنميتها» داعيًا إلى ضرورة العمل على محاولة فهم أتاتورك بشكل صحيح.

مظاهرة في في 25 نيسان 2007 في إسطنبول ضد ترشيح عبد الله غل للانتخابات الرئاسية. تصوير حسين زورار. أ ف ب.

أما العلاقة بين العدالة والتنمية والنخب العسكرية الكمالية فلقد وصلت ذروتها مع المذكرة الرسمية التي نشرتها رئاسة الأركان التركية على موقعها الإلكتروني ضد ترشح عبد الله غول لرئاسة الجمهورية عن حزب العدالة والتنمية عام 2007. حيث كان فشل هذه المذكرة التي تعد امتدادًا لقدرة قيادة رئاسة الأركان التاريخية على فرض إملاءاتها وقراراتها على الحكومات المدنية، أحد أبرز علامات تراجع الوصاية العسكرية الكمالية على السياسية المدنية في تركيا. إذ نشرت رئاسة الأركان المذكرة في سياق الدعوة إلى انتخاب «رئيس جمهورية ملتزم فعلًا وليس قولًا بمبادئ الجمهورية والأتاتوركية والعلمانية» بهدف تأليب الرأي العام والإعلام والضغط على العدالة والتنمية لسحب مرشحها، لكنها فشلت، وتم انتخاب عبد الله غول للرئاسة حينها.

النصف الثاني من حكم العدالة والتنمية

شهد النصف الثاني من حكم العدالة والتنمية (مرحلة ما بعد الربيع العربي) تحول الحزب من سياسة الانفتاح على المحيط والعالم إلى سياسة أكثر محلية وقومية، تستدعي خطابًا سياسيًا يتسم بالصدامية والشعبوية. يمكن ردّ هذا التوجه المنغلق إلى مجموعة من الظروف الداخلية والخارجية، بينها فشل سياسة صفر مشكلة[4] وآثار الربيع العربي على تركيا، وفشل عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، وأزمة اللاجئين وصعود اليمين عالميًا، والصدام بين أردوغان وفتح الله غولن الذي انتهى بمحاولة انقلاب فاشلة نفذتها جماعة غولن في تموز 2016. يرى البعض أن هذا الانزياح إشارة إلى تحول العدالة والتنمية من حزب وحكم إصلاحي يقود عملية تحول سياسي واجتماعي إصلاحية محورية تخاطب مشاكل وقضايا تركيا الحقيقية، إلى حزب وحكم بخطاب قومي يميني يسعى إلى حماية الوضع الراهن والحفاظ على المكتسبات، كما فعلت النخب الكمالية لسنوات.

أدرك حزب العدالة والتنمية منذ بداية انخراطه في الحياة السياسية أن الصدام مع شخص مصطفى كمال أتاتورك انتحار سياسي لا يمكن للحزب تحمّل تكلفته.

هذا التحول في الخطاب السياسي أفقد العدالة والتنمية أحد أهم مميزاته أمام الكمالية وتراثها، بحيث تراجعت شعبية أطروحة البديل الإصلاحي التي كان يقدمها، ليتحول من حزب كان يحمل راية الطبقات السياسية المهمشة والطامحة للتغيير، إلى حزب متماهٍ مع خطاب الدولة الرسمي ومعنيّ بالحفاظ على سلطته أكثر من إحداث إصلاحات ثورية كما يتهمه خصومه. حيث تحول العدالة والتنمية من حزب قدمت حكومته عام 2011 في خطوة جريئة تتناول مشاكل تركيا الداخلية الحقيقية اعتذارًا باسم الدولة -هو الأول من نوعه-عن مجزرة دارسيم، التي ارتكبتها نخب الكمالية ضد الأكراد العلويين في تركيا، إلى حزب يتبنى الخطاب الأمني التقليدي للدولة ويتناول مختلف القضايا الداخلية والخارجية بنفس قومي شعبوي، يراه البعض أحد عوامل تأجيج أزمات تركيا لا حلها.

هذا التحول في الخطاب السياسي، إضافة إلى الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة، لعب دورًا مهمًا في إضعاف القاعدة الشعبية التي يتمتع بها حزب العدالة والتنمية، ففقد الحزب إثرها قدرته على الانفراد بالأغلبية البرلمانية، ليضطر إلى الدخول في تحالف مصيري مع حزب الحركة القومية للحفاظ على وجوده في السلطة، بل وتعرض الحزب لخسارتين متتاليتين حرجتين أمام تحالف المعارضة في انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى السابقة. دفعت عملية التحول العديد من كتاب وصحفيي المعارضة إلى انتقاده واتهامه باستخدام أدوات الكمالية التقليدية نفسها، مثل توظيف البيروقراطية والحلول الأمنية والخطاب القومي الشعبوي، وإلباسها لباسًا أكثر محافظة اجتماعيًا فيما وصفوه بسياسة الكمالية الخضراء (Yeşil Kemalizm).

عن هزيمة مفترضة للكمالية

يمكن القول إن الإسلاميين/ المحافظين في تجربة العدالة والتنمية، أي «القوى الرجعية» في لغة الكمالية، نجحوا جزئيًا في هزيمتها وتفكيك سلطتها في العديد من الساحات، ليس عبر رفض النظام كليًا من الخارج، بل عبر محاولة إصلاحه من الداخل، الأمر الذي أدى إلى اندماجهم به وتأثرهم فيه.

إلّا أنه لا يمكن بحال القول إنهم هزموا رمزية أتاتورك، الرمزية التي تمد الكمالية بشريان حياة مستمر في المجتمع التركي.

فمثلًا، يشيع في الذكرى السنوية لرحيل مصطفى كمال أتاتورك في العاشر من تشرين الثاني من كل عام، على مواقع التواصل الاجتماعي، تقديم أتاتورك واستحضاره بديلًا ومنافسًا لأردوغان في سياق رمزي ونوستالجي، لا سيما بين الشباب حديثي السن من مختلف الطبقات والمناطق، أو ما يعرف بجيل Z الذين ولد بعضهم وكبر جلهم في عهد العدالة والتنمية. ويشكل هذا الجيل مركز ثقل مهم تتنافس عليه الأحزاب، خاصة أن غالبيتهم لا يخضعون للتصنيفات السياسية التقليدية، ويشكلون ما يصل إلى خُمس الناخبين في انتخابات عام 2023 المقبلة.

تعترف نخب العدالة والتنمية بعدم قدرتها على إحداث اختراق في التأثير الثقافي للكمالية، وسبق أن عبر أردوغان في إحدى تصريحاته في نهايات عام 2020 عن أن السلطة الحقيقة هي السلطة الثقافية والفكرية، وأن العدالة والتنمية رغم سيطرته على السلطة السياسية لم يستطع تأسيس سلطته الفكرية بعد.

لا شك أن التأثير السياسي والرسمي للكمالية كأيديولوجيا تراجع في سنوات حكم العدالة والتنمية، إلا أن النقاش حولها خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي ظلّ في تزايد بشكل خاص في السنوات الأخيرة، التي شهدت تصاعدًا كبيرًا في الاستقطاب السياسي الداخلي في تركيا. على صعيد آخر ساهم جو استهداف الكمالية ونقد ممارساتها وتوظيف العدالة والتنمية لذلك في طرح نفسه كبديل في دفع المعارضة لا سيما حزب الشعب الجمهوري، وريث مبادئ الكمالية، إلى تبني خطابٍ أكثر مرونة فيما يتعلق بقضايا مثل الحجاب والحساسيات الدينية للطبقة المحافظة، كما يُلاحظ في انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى الأخيرة.

إذ فرضت ظروف الاستقطاب السياسي الشديد الذي تعيشه تركيا في السنوات الأخيرة على المعارضة ضرورة الانفتاح على طبقات سياسية أخرى، من خلال تبني خطاب أكثر انفتاحًا على المستوى الرسمي على الأقل، كما حصل في مشاركة حزب الشعب الجمهوري عام 2020 في مسيرة القدس الكبرى، التي ينظمها سنويًا حزب السعادة الإسلامي وريث حركة مِلِّي جوروش. يمكن النظر إلى هذه الخطوات بوصفها إشارة إلى التحولات الجديدة التي فرضتها الظروف السياسية المتغيرة على مستوى الخطاب الرسمي والسياسي للكمالية، لدرجة أن زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كلتشدار أوغلو صرح في إحدى مؤتمراته في مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية عام 2014 بأنهم ليسوا حزب الشعب الجمهوري من الثلاثينيات بعد الآن.

بيد أن الكمالية، ورغم أنها تعيش مرحلة ضعف وتحول ملحوظة في العقدين الأخيرين، خاصة على المستويات السياسية مقارنة بموقعها وتأثيرها سابقًا، إلا أنها لا تزال تحتفظ اليوم بحضور جماهيري وثقافي لا يمكن إنكاره. من ناحية أخرى، ترى بعض التيارات السياسية، لا سيما الإسلاميين، في قانون حماية أتاتورك ورمزية أتاتورك إضافة إلى النظام التعليمي التركي وإرث الوصاية العسكرية، روافع أساسية ساهمت وتساهم في حماية الأيديولوجيا الكمالية وبقائها حية حتى يومنا هذا. لكن الأكيد أنه، وبالإضافة إلى تأثيرها التاريخي الذي لا يمكن استئصاله من الهوية الوطنية التركية، فإن الكمالية والنقاش حولها والموقف منها اليوم عوامل لا تزال تؤثر على توجهات ومواقف الجماهير والأحزاب، بغض النظر عن انتماءاتها، الأمر الذي يعزز من قدرة تأثير هذه الأيديولوجيا على الساحة السياسية التركية.

  • الهوامش

    [1] حصل مصطفى كمال على لقب (اسم عائلة) أتاتورك والتي تعني «أبو الأتراك» بشكل حصري مع صدور قانون الألقاب عام 1934 والذي يعتبر أحد «ثورات أتاتورك» حيث فُرض من خلاله على المواطنين اختيار ألقاب تركية ضمن شروط محددة.

    [2] ظهر مصطلح رأس المال الأخضر الذي يشير إلى رأس المال الإسلامي/المحافظ خلال استهداف هذا الانقلاب للقواعد الاقتصادية للتيار المحافظ في تركيا حيث أعد الجيش قوائم بالشركات والمصالح التجارية التي اعتبرها رجعية أو حسب تعبيرهم «رأس مال أخضر» ليتم حرمانهم من دخول المناقصات العامة وفرض مقاطعة رسمية واجتماعية عليهم.

    [3] ألف سنة على معركة ملاذ كرد ودخول الأتراك للأناضول

    [4] حاول الحزب من خلال هذه السياسة تحسين العلاقات التركية مع محيطه لا سيما في المشرق العربي خلال فترة حكمه الأولى من خلال العمل على تسوية المشاكل السياسية والتركيز على العلاقات الاقتصادية بشكل أساسي. لكن هذه السياسة فشلت مع اندلاع ثورات الربيع العربي ودخول تركيا بشكل فاعل في صراع المحاور في المنطقة.

    المراجع:

    1. Ahmad, F. (2019). İttihatçılıktan Kemalizme (من الاتحادية/الاتحاديين إلى الكمالية) . (Çev. F. Berktay). İstanbul: Kaynak Yayınları (1985).
    2. Albayrak, M. (2010). Kemalizmin Düşünsel Temelleri ve Tarihsel Oluşumu (الأسس الفكرية للكمالية وتكونها التاريخي) . Atatürk Araştırma Merkezi Dergisi, 26 (77), 307-344.
    3. Beri̇ş, H. (2006). Kemalist Devrimden Muhafazakâr Kemalizme(من الثورة الكمالية إلى الكمالية المحافظة) . Liberal Düşünce Dergisi, (34), 49-58.
    4. Bora, T. (2017). Cereyanlar (التيارات). İstanbul: İletişim Yayınları.
    5. İnan, S. (2004). Atatürkçülük (Kemalizm) ve İdeoloji (الأتاتوركية والأيديولوجيا) . Liberal Düşünce (CHP ve Kemalizm), (36), 109-116.
    6. Kayıran, M. ve Meti̇ntas, M. (2013). Atatürkçü düşünce sistemi: Atatürkçülük )Kemalizm(. (نظام الفكر الأتاتوركي: الأتاتوركية) Atatürk Yolu Dergisi, 13 (51), 579-615.
    7. Köker, L. (2007). Modernleşme, Kemalizm ve Demokrasi (الحداثة والكمالية والديمقراطية) . İstanbul: İletişim Yayınları.
    8. Köker, L. (2009). Kemalizm/Atatürkçülük: Modernleşme, Devlet ve Demokrasi (الكمالية: الحداثة والدولة والديمقراطية) . T. Bora ve M. Gültekingil (Der.) Modern Türkiye’de Siyasi Düşünce: Kemalizm (İkinci Cilt) içinde (97-111). İstanbul: İletişim Yayınları.
    9. Öztürk, O. (2013). Kemalizm, İdeoloji ve Hegemonya: Kuramsal Bir İnceleme. (الكمالية والأيديولوجيا والهيمنة: دراسة نظرية) (Yayımlanmamış yüksek lisans tezi). Ankara Üniversitesi Sosyal Bilimler Enstitüsü, Ankara.
    10. Yurttaş, F. (2008). Kemalizm ve Demokrasi Üzerine Bir Değerlendirme (قراءة حول الكمالية والديمقراطية). Bilgi Sosyal Bilimler Dergisi, (2), 70-84.

Leave a Reply

Your email address will not be published.