لا نملك ما نقايض به النظام سوى الخوف. خوفهم من انتشار العدوى بين صفوف العساكر والضباط وقيادات الجيش وصولًا لمكتب الرئيس شخصيًا.
لا يبدو أن هنالك قرارًا مركزيًا بالطريقة التي تتعامل فيها السجون فيما يخص جائحة كورونا. بعض السجون تم تعقيمها بالكامل مرة في بداية ظهور حالات كورونا في مصر، وبعضها دخل إلى النزلاء فيها بعض أدوات التعقيم، وبعضها اتُخِذت فيها إجراءات وقاية للعاملين بمصلحة السجون. الارتباك واضح على العاملين بالسجون الخائفين على أنفسهم على الأقل، لكن في كل الأحوال، لا حديث عن إخلاءات سبيل قريبة للسجناء السياسيين لحل الأزمة.
يشعر النظام أن نداءات الإفراج عن المسجونين السياسيين، دومًا مغرضة، تستخدم أي حدث لتعيد طلبها القديم الجديد، ولم يختلف شعوره هذا حتى مع أزمة بحجم وباء عالمي غيّر بالفعل نمط الحياة اليومية في العالم كله. يريد النظام المصري للعالم القديم أن يستمر، دون حدث كبير يعكر صفو خطابة معركته ضد الإرهاب، وهو مشكلة حقيقية، لكنه يضم للمصطلح كل المعارضين السلميين بأطيافهم. المشكلة أن أزمة كورونا استثنائية بالفعل، وتعلو في أولوياتها على حالة الاستثناء الدائم في مصر منذ الانقلاب في 2013، ونداءات الإفراج عن المسجونين ضرورية للحفاظ على صحة عشرات الآلاف من كل الأطراف لأن الخطر وطني فعلًا هذا المرة.
حجب كامل عن العالم
يبدو للوهلة الأولى أن منع الزيارات للسجون بداية من مارس/آذار هذه السنة هو خطوة احترازية لحماية المساجين من خطر العدوى من الخارج، إلا أن هذا العزل ترافق معه حرمان كامل من التواصل مع العالم الخارجي، وبدون أي حملات منظمة داخل السجون للتوعية بطرق الوقاية وأعراض المرض وطرق التعامل معه. وبدون تواصل المعتقلين مع أسرهم، مما أدى لحالة فزع عامة في السجون، خاصة في أماكن احتجاز الأطفال. يعلم المساجين أن هناك أزمة كبيرة، لكنهم لا يفهمونها بالكامل ولا يعلمون حدودها، رغم أنهم متضرّرون منها بشكل مباشر.
باختلاف الشهادات التي أمكننا الوصول إليها، كان المشترك هو شعور السجناء بسهولة التضحية بهم، وإن ظهور حالة إصابة واحدة سيؤدي لإغلاق العنابر حتى يموت الجميع. يعرف السجناء المدى الذي قد يصل له النظام للحفاظ على وجوده، التعقيم الممنهج كان لمكاتب الأمن والمساحات المشتركة لهم مع المساجين، في مقابل إعطاء زجاجة من الكلور لكل عنبر أو ترك مهمة التطهير الذاتي للمحبوسين، فسادت حالة من الفزع أدت ببعض السجناء لرش الكلور على ملابسهم وأماكن نومهم مجازفين بحوادث تسمم كيميائي.
القاعدة العامة في السجون هي منع دخول المطهرات السائلة في الزيارات وأي مادة قابلة للاشتعال لأسباب أمنية، وعليه فالمصدر الوحيد لأدوات التعقيم هو الكلور الذي يباع في كانتين/كشك السجن بأضعاف ثمنه. يمنع المعتقلون أحيانًا من الحصول على أموال تحت حسابهم في الكانتين، ويعاقبون بالـ«تجريدة» وهي مصادرة متعلقاتهم الشخصية من فرش أسنان وصابون وبطاطين وحرمانهم من الحصول على ملابس نظيفة أو بطاطين للتدفئة وأحيانًا الأدوية. كلٌ بحسب وضعه ومدى خصومته المباشرة مع الدولة أو الضباط في السجون.
وبالطبع، كل وضع معتّم هو باب مفتوح للفساد، فالطرق التي قد يتمكن فيها الأهالي من الاطمئنان على أبنائهم المعتقلين مربوطة بدفع أموال الأمانات أسبوعيًا للكانتين، في تكلفة تتعدى متوسط مرتبات أغلب المصريين.
استحالة تحقيق معادلة التباعد الاجتماعي
تحتوى سجون مصر على أكثر من 114 ألف سجين موزعين على 60 سجنًا تقريبًا. منهم ما بين 41 ألف إلى 60 ألف سجين سياسي. صدر منذ الانقلاب العسكري في 2013 إلى الآن أربعة عشر قرارًا بإنشاء سجون جديدة لاستيعاب تدفق المعتقلين غير المسبوق. أفضل سجون النساء بها عنابر بطول 20 مترًا فيها 20 سرير كل منها ثلاثة طوابق ويتراوح عدد السجينات بالعنابر بين 130 و180 سجينة مما يضطر بعض السجينات للنوم في دورات المياه.
تتنوع السجون في مدى رداءتها، إلا أن الأغلبية الساحقة لسجون الرجال لا تحتوى على سرائر، ويصل التكدس فيها إلى الحد الذي تقسم فيه الزنازين بالشبر والأصابع والسنتيمترات، بحيث تحتوي الزنزانة على 30 شخص يكون نصيب الفرد منها 50 سنتيمترًا مثلًا، وينام الجميع على جانب واحد، أو يقسمون النوم على دفعات، دون تهوية أو إضاءة تذكر.
نرى أثر التكدس ملموسًا في مدى انتشار الأمراض المعدية والجلدية في السجون، ونرى خصومة النظام في تعمد إهمال الشكاوى الصحية ومنع دخول الأدوية.
في الوقت ذاته، تنفي الحكومة المصرية في تصريحاتها وجود أي معتقل سياسي/رأي في السجون باعتبار إن جميع المعتقلين من كافة أطيافهم يدخلون تحت تهم الانضمام لجماعة إرهابية أو المشاركة في تحقيق أغراضها بشكل تلقائي، وعليه لم يصدر أي رقم رسمي من أي جهة حكومية عن أعداد المساجين، أو القدرة الاستيعابية لأماكن الاحتجاز، سوى تقرير أعده المجلس القومي لحقوق الإنسان في مايو/أيار 2015، قال إن نسبة التكدس في غرف الاحتجاز الأولية/مراكز الشرطة تتجاوز 300%، وتصل في السجون إلى 160%.
قد تكون هذه، فعليًا، لحظة فارقة
تجاهلت السلطات المصرية دعوات الإفراج الفوري عن مساجين الرأي، وقبضت على أسرة الناشط علاء عبد الفتاح على إثر وقفة تطالب بخروج المعتقلين بسبب الوباء قبل أن تخلي سبيلهم بكفالة. وأمضت مباحث الإنترنت جهدًا لا بأس به في التتبع والقبض على مواطنين فيما يعرف حاليًا بقضية كورونا بتهم إثارة الذعر.
استباقًا لأي تحرك سياسي، أصدر السيسي سريعًا القانون رقم 19 لسنة 2020 في 18 مارس والذي يلغي إمكانية الإفراج الشرطي عن المسجونين في عدة تهم منها تهم القانون 10 لسنة 1914 والمعروف بقانون التجمهر والتظاهر، والقانون 94 لسنة 2015 والمعروف بقانون الإرهاب الذي يحبس على الأغلبية الساحقة من المعارضين، بالإضافة للاستمرار في ملاحقة المطاردين مستغلين وجود الجميع في المنازل جراء الحجر الصحي.
في الوقت الذي بادرت فيه عدة دول مجاورة بالإفراج الوقائي عن عشرات الآلاف من المساجين مثل إيران وتونس والمغرب والأردن والسودان وإثيوبيا والعراق وأفغانستان، يبدو النظام المصري خائفًا من كسر استثنائيته. هو الذي يحكم سيطرته على البلاد مستخدمًا خطاب محاربة الإرهاب والخطر المحدق بالبلد في كل لحظة، لا يمكن أن يوافق بسهولة على أن يجعل استثنائية كورونا تعلو على استثنائية شرعيته الخاصة. المظاهرة العدمية ضد كورونا تظل مظاهرة، والوقفة الإنسانية للمساجين تظل وقفة تحاكم بقانون التجمهر، وربما يفكر أن خطوة الإفراج عن أعداد كبيرة لتخفيف تكدس السجون، ستشكل سابقة اعتراف بعدم جدية تهمهم الأصلية، التي هي شروط تشكّل النظام الطارئ بدءًا، واعتراف أن الكثير من المحبوسين مجرد معارضين سياسيين لا يشكلون خطرًا حقيقيًا على البلد حال الإفراج عنهم.
هذا الاعتراف من النظام إن حدث، ربما لن يمكنه أن يعيد صياغة خطاب الاستثناء والحرب على الإرهاب بنفس القوة والتماسك مرة أخرى. هكذا يفضل النظام تماسك منطق سطوته، على الصالح العام المباشر الذي يمكنه أن ينقذ أعدادًا كبيرة من المرض، سجّانين ومسجونين معًا، وربما يفسر هذا سبب الاهتمام الواضح جدًأ من النظام لتعظيم دور القوات المسلحة والأمن في محاربة الكورونا، وهو دور حقيقي، بينما أصحاب الدور الأكبر، من أطباء وممرضين وعاملين في المنظومة الصحية، يبقون على الهامش، يتم ذكرهم دائمًا في النهاية كجيش أبيض، بينما يبقى الفاعل الأساسي، والذي ينسب إليه الفضل كله، هو الجيش بألف لام التعريف.
صحيح أن خطوة بحجم الإفراج عن المعتقلين، ستكسر فعلًا صلابة خطاب النظام وهويته كمعادٍ للقوى السياسية حتى النهاية، لكنها ستفتح من جانب آخر، طريقًا لخطاب جديد، عن انتصار أوسع وأكثر رحابة، نهاية لسيطرة عهد الاستثناء الكبير دون هزيمة، وتعويض للنظام عن الصفعة التي تلقاها من استجابة المظاهرات لمحمد علي في أحداث 20 سبتمبر.
انتصار فعلي للجميع، وفرصة مثالية ليتخلص النظام من عقدة أنه أتى في لحظة التفويض ضد العملية الانتخابية الوحيدة في مصر ويجب أن يظل أسيرها حتى النهاية ليحتفظ بشرعيته.
فرصة مثالية لأنه يمكن أن يفعل ذلك، أي الإفراج عن المعتقلين، دون أن يكون ذلك نتيجة لتنازل خطابي مباشر يعلن فيه خطأ نهجه السابق، بل بخطاب يعلن فيه تعاليه على خصومته السياسية السابقة للصالح العام، وسيستفيد منه كما سيستفيد الآخرون، دون أن ينسينا كل ذلك، أن الإفراج أولوية صحية بالأساس.