استيقظ لبنان يوم أمس على سماء تخلو من الطيران الحربي الإسرائيلي والمسيرات في الأجواء، وأصوات الانفجارات العنيفة والتحذيرات ودخان الغارات المتصاعد، لأول مرة منذ أكثر من شهرين. فعند الساعة الرابعة من فجر الأربعاء بدأ سريان اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة اللبنانية و«إسرائيل». ومنذ ما قبل الفجر، بدأ النازحون من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت لملمة أغراضهم وتوضيبها بانتظار ساعة الصفر، ساعة الانطلاق إلى البيوت والقرى التي دمّرتها الصواريخ الإسرائيلية على مدى 66 يومًا.
بعد ليلة هي الأكثر وحشية من قبل «إسرائيل» على كافة الأراضي اللبنانية، وخصوصًا بيروت الإدارية، انكسر سكون الليل المُطبق وبدأ صوت يعلو من البيوت المضاءة: «لننطلق فورًا قبل زحمة السير». لكن زحمة السير كانت حتمية، فالكل ذاهب في الاتجاه نفسه. الناس تتكلم مع بعضها من نوافذ السيارات: «الحمد لله على السلامة». آخر مرة شهد فيها أوتوستراد بيروت ـ الجنوب هذه الزحمة كانت يوم الثالث والعشرين من أيلول الماضي. يومها، كان الخوف والرعب يلفّ وجوه الناس المتعبة. أمّا زحمة أمس فكانت مختلفة: وجوهٌ فرحة، تحمل رايات النصر وصور قادة المقاومة الشهداء.
حملت هذه العودة السريعة منذ أول لحظات وقف إطلاق النار رسالة تحدٍ بالنظر إلى أن قوات الاحتلال الغازية لم تنسحب بعد من كثير من القرى الحدودية لجنوب لبنان مع فلسطين المحتّلة. إذ نص الاتفاق، المستند إلى قرار مجلس الأمن 1701، على «وقف الأعمال العدائية» على الجانبين فجر الأربعاء، على أن تنسحب قوات الاحتلال تدريجيًا إلى جنوب الخط الأزرق على مدى ستين يومًا، بالتوازي مع نشر قوات للجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني.
في ساعات الصباح الأولى، كان الناس قد بدأوا بالوصول تباعًا إلى الضاحية وقرى الجنوب والبقاع. الكل ذاهب لتفقد بيته وممتلكاته وأرزاقه. وعلى عكس المتوقع، كان سكّان القرى الحدودية أول الواصلين على الرغم من التحذير الذي أطلقه جيش العدو الإسرائيلي لهؤلاء أن «لا تعودوا إلى قراكم حتى نأذن لكم».
في الخيام، المدينة التي شهدت مواجهات عنيفة وتصدّرت أخبارها وسائل الإعلام، بدأ الناس يوثقون آثار دبابات الميركافا الإسرائيلية على الطرقات، وأخرى محترقة بفعل نيران المقاومة. كان هؤلاء على بعد أمتار قليلة عن جنود العدو الذين لا يزالون في أطراف القرية، والذين أطلقوا النيران مرارًا لتخويف الناس، فيما أصابت هذه النيران مجموعة من الصحافيين الموجودين في البلدة في خرقٍ واضح للاتفاق. غير أن كل ذلك لم يرعب أهل الأرض، إذ تجولوا في المدينة بحرية وانتزعوا الأعلام الإسرائيلية المعلقة هنا وهناك على مرأى ومسمع جنود جيش العدو. كذلك كان الأمر مع أهالي بلدات عيتا الشعب ومارون الراس ورامية والبيّاضة.
أما الضاحية الجنوبية، فقد عادت الحياة لها منذ ساعات الصباح الأولى، حيث بدأت الشوارع تمتلئ بالوافدين الذين أتوا من أماكن تهجيرهم لرؤية منازلهم ومحالهم، إضافة إلى معاينة آثار القصف العنيف على شوارع الضاحية وأبنيتها. تقول نور العائدة من منطقة جبل لبنان إلى بيتها في «حي الأميركان» في الضاحية الجنوبية لـ«حبر»: «أعلم أني لن أجد بيتي، وأنه تهدم، لكني لم أستطع أن لا أذهب وأشاهد ركام منزلي عن قرب… لا أعلم ماذا أشعر، الشعور متناقض كثيرًا، ممزوج بحزن عميق وفرح في آنٍ معًا».
«شاهدت بيتي يسقط على الهواء مباشرةً وشعرت بغصة كبيرة يومها.. لكن اليوم وبعد معاينته عن قرب أقول هذا أقل ما يمكن تقديمه للمقاومة.. نحن على خط هذه المقاومة وسنبقى»، تقول نور، مشيرة إلى أنها ستتجه بعدها إلى بلدتها الأم قانا في الجنوب، لترى إن كان بيتها هناك ما يزال موجودًا. أما عن مخططاتها للفترة القادمة فتقول: «لا أدري ماذا سنفعل، حتى إعادة الإعمار علينا أن نتدبر أمرنا ونستأجر منزلًا يؤوينا».
عودة النازحين من مدينة صيدا إلى قراهم التي هجروا منها في جنوب لبنان. تصوير أنوار عمرو. أ ف ب
أزمة النازحين وإعادة الإعمار
حال نور كحال الكثيرين الذين فقدوا منازلهم في هذه الحرب، والمرحلة المقبلة لا تزال مجهولة بالنسبة لهم. إذ وفق التقديرات الأولية للجنة إحصاء الأضرار في «جهاد البناء»، المؤسسة الإنمائية التابعة لحزب الله، دمر العدوان على لبنان نحو 45 ألف وحدة سكنية، أي بحدود 1.2 مليون متر مكعب من الركام. أما بالنسبة إلى الكلفة المالية، فقد قدّرت اللجنة أن كلفة إعادة إعمار الضاحية لغاية نهاية تشرين الأول الفائت فبلغت 630 مليون دولار، مقابل 2.3 مليار دولار في باقي المناطق، بحصيلة تبلغ 2.9 مليار دولار ككل. هذا عدا عن المنازل التي تضررت وباتت غير قابلة للسكن على الأقل بشكلٍ آني.
عدم توفر هذه المنازل، دفع النازحين إلى اتخاذ قرار البقاء في البيوت التي استأجروها في مناطق النزوح حتى تصليح منازلهم أو إعادة إعمارها. أما المشكلة الأكبر في هذا السياق، فهي لناحية النازحين في مراكز الإيواء ممن فقدوا منازلهم، خصوصًا المقيمين في المدارس والجامعات. إذ يجب عليهم تركها، لإعادة تحضير هذه المراكز لاستقبال الطلاب خلال فترة قصيرة.
يقول عباس هاشم الذي يعمل مع إحدى المبادرات الاجتماعية لخدمة النازحين في مدرسة «البنات الثانية الرسمية» في منطقة المصيطبة في بيروت: «يوم أمس غادر نصف النازحين من المدرسة فيما بقي حوالي 250 شخصًا لا يعلمون أين سيذهبون». ويضيف هاشم في حديثٍ مع «حبر» أن «دورنا في مساعدة النازحين لم ينتهِ مع توقف الحرب. هناك الكثيرون الذين لا يزالون بحاجة لنا خصوصًا الذين فقدوا منازلهم وأشغالهم وكل ممتلكاتهم»، مشددًا على أنهم في المبادرة «سيقفون إلى جانب النازحين حتى يتأمن للجميع مساكن».
ووفق مصدر مطلع مقرب من «حزب الله» فإن الخطة المطروحة على الطاولة حاليًا بخصوص النازحين وفترة إعادة الإعمار «ستكون شبيهة بما فعله الحزب بعد حرب عام 2006، حيث تم دفع إيجارات للناس التي فقدت بيوتها حتى الانتهاء من إعادة الإعمار، إضافة إلى دفع بديل عن الأثاث الذي فُقد، وتعويض الخسائر لمن فقد مصدر رزقه (بضائع، أدوات، آلات…)».
أما بخصوص الدولة اللبنانية، فحتى اللحظة، لم يصدر أي تصريح أو قرار بخصوص خطة ما بعد الحرب. غير أن صحيفة «الأخبار» اللبنانية نقلت سابقًا عن نائب رئيس الحكومة اللبنانية، سعادة الشامي قوله في هذا الخصوص: «نسعى إلى إنشاء صندوق يهدف إلى إنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار، والمباحثات بشأن ذلك حقّقت تقدمًا». هذا الصندوق سيعمل على «إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي، وسيكون مموّلًا من الدول المانحة ويدار من البنك الدولي، بالتعاون مع الحكومة اللبنانية»، وفق الشامي. لكن من غير الواضح بعد كيف ستكون آلية عمل هذا الصندوق، وحجم المبالغ التي ستتوفّر لإعادة الإعمار من خلاله، وهو ما يشير إلى احتمال تأخّر تنفيذ أي خطة حكومية لإعادة الإعمار.
في الأثناء، يعتمد النازحون على مدخراتهم لاستئجار المنازل التي لجأوا إليها، وهذه المدخرات قابلة للنفاد، وهو ما يضع الحكومة أمام تحدٍّ صعب، في حين أن إيجاد أماكن بديلة للنازحين في مراكز الإيواء مهمة أصعب. إذ من المفترض أن تعود هذه المراكز لخدمة أهدافها الأصلية، سواء كانت مدارس أو جامعات أو غيرها، وهو ما يجعل عامل الوقت ضاغطًا في هذا الملف.
من قرية قانا جنوب لبنان، تصوير أنوار عمرو. أ ف ب
عبور «اللحظة الأخطر»
كان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قد أعلن بالأمس إقرار مجلس الوزراء للاتفاق، مؤكدًا «التزام الحكومة اللبنانية تنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 1701 بمُندرجاته كافة، ولا سيما ما يتعلق بتعزيز انتشار الجيش والقوى الأمنية كافة في منطقة جنوب الليطاني، وفقًا للترتيبات المرفقة». وبحسب الصيغة المتداولة، فإن نص الاتفاق يؤكد على تنفيذ القرار 1701، مع توسيع آلية متابعة تنفيذه، لتشمل كلًا من الولايات المتحدة وفرنسا في لجنة خماسية بعدما كانت اللجنة تضم لبنان واليونيفل و«إسرائيل».
وبعدما تركز النقاش في الأيام الماضية على نقطة «حرية العمل» التي طالبت الحكومة الإسرائيلية بشمولها في الاتفاق ورفضتها الحكومة اللبنانية باعتبارها خرقًا للسيادة، خلا الاتفاق النهائي من هذا البند. وفي المقابل، نص على أن بنوده «لا تقيّد إسرائيل أو لبنان من ممارسة حقهما المتأصل في الدفاع عن النفس، بما يتفق مع القانون الدولي».
وألقى رئيس مجلس النواب، نبيه بري، كلمة متلفزة قال فيها إن لبنان «تمكن من إحباط مفاعيل العدوان الإسرائيلي»، وطوى «لحظة تاريخية كانت الأخطر على لبنان». ودعا بري النازحين للعودة إلى أراضيهم، مشددًا أن لبنان في أمس الحاجة إلى الوحدة الوطنية في هذه اللحظة التي تمثل «امتحانًا لكل اللبنانيين».
وفي تصريح صحافي من الضاحية الجنوبية، قال نائب رئيس المجلس السياسي لحزب الله، محمود قماطي، إنه «عندما يفشل العدو في تحقيق أهدافه، ويصل إلى نقطة الاستعصاء العسكري، فهذا هو الانتصار»، معتبرًا أن «صمود المقاومة في الجنوب أفشل العدوان على الشرق الأوسط». وأضاف قماطي أن حزب الله بصدد التحضير لتشييع الشهيدين السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين، معتبرًا أن التشييع «سيمثل استفتاء شعبيًا وسياسيًا لتبني نهج المقاومة».
من جانبها، أصدرت حركة حماس بيانًا رحبت فيه باتفاق وقف إطلاق النار، مشيدةً «بالدور المحوري الذي تلعبه المقاومة الإسلامية في لبنان، إسنادًا لقطاع غزَّة والمقاومة الفلسطينية، والتضحيات الجِسام التي بذلها حزبُ الله وقيادته، وفي مقدّمتهم الأمين العام الشهيد السيّد حسن نصر الله».
واعتبرت الحركة أن قبول «إسرائيل» بالاتفاق «دون تحقيق شروطه التي وضعها هو محطة مهمة في تحطيم أوهام نتنياهو بتغيير خارطة الشرق الأوسط بالقوة، وأوهامه بهزيمة قوى المقاومة أو نزع سلاحها». فيما عبّرت عن انفتاحها أمام جهود التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في غزة، ضمن المحددات المتوافق «عليها وطنيًا، وهي وقف إطلاق النار، وانسحاب قوات الاحتلال، وعودة النازحين، وانجاز صفقة تبادل للأسرى».
من مشاهد عودة النازحين اللبنانيين نحو قراهم في الجنوب، على أوتوستراد صيدا صور. تصوير محمد زيات. أ ف ب