منذ أيام، تعيش محافظة بعلبك – الهرمل في البقاع الشمالي اللبناني أصعب أوقاتها، مع اشتداد العدوان الإسرائيلي على لبنان، الذي ترافق مع تكثيف الغارات على مدينة بعلبك والقرى المجاورة لها. وعلى عكس حرب تموز 2006، حين كانت منطقة البقاع بشكلٍ عام تعتبر آمنة ونزح إليها عشرات آلاف الجنوبيين وقتذاك، فإن البقاع اليوم، وخصوصًا محافظة بعلبك – الهرمل، له حصة الأسد من هذه الحرب، لناحية المجازر التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي يوميًا على المناطق والأحياء السكانية والتدمير الممنهج للقرى والبلدات البقاعية، والتي خلّفت مئات الشهداء والجرحى من بينهم أطفال ونساء، ومن ضمنهم عائلات مدنية بأكملها استُشهدت.
كان آخر هذه الهجمات الأسبوع الماضي حين وضع المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، كل مدينة بعلبك وجوارها في «منطقة الخطر» في منشور له عبر موقع «إكس»، الأمر الذي أحدث هلعًا بين السكان، مما أدى إلى موجة نزوح جديدة تضاف إلى تلك التي حصلت أوائل الحرب الإسرائيلية على لبنان.
«كنا ننوي البقاء في منازلنا، فنحن مدنيون، غير أنّ التحذيرات الأخيرة أخافتنا، فالاحتلال بات يستهدف المدنيين والأبنية بشكلٍ عشوائي»، يقول محمد النازح من مدينة بعلبك إلى بلدة دير الأحمر التي تبعد عنها 12 كلم. «لملمنا بعض الأغراض على عجل وتوجهت مع عائلتي إلى خارج المدينة باتجاه دير الأحمر علّنا ننجو بأنفسنا.. الطريق كان طويلًا بسبب الزحمة، ولما وصلنا لم نجد مكانًا يأوينا، فجلسنا في سيارتنا. غير أن أهل دير الأحمر قدموا لنا الأكل والشراب مشكورين». حاول محمد الذهاب إلى مراكز الإيواء، غير أنه بعد استطلاع الأمر تبين أنها ممتلئة.
حال محمد وعائلته هو حال عشرات آلاف البقاعيين النازحين الذين تُركوا لمصيرهم وسط تراخِ من قبل الساسة اللبنانيين والمعنيين في متابعة أوضاع البقاع. ليس هذا الأمر غريبًا، فالجميع في لبنان يعلم أن البقاع من المناطق المنسية بالنسبة إلى الدولة اللبنانية، التي تغيب فيها من ناحية الخدمات والأمن والتنظيم، ما يعظّم عذابات النازحين اليوم.
«نحو 30-40 ألف مواطن خرجوا من بيوتهم دفعة واحدة وهم لا يعرفون أين سيذهبون».
«الوضع سيء للغاية وليس بإمكاننا فعل أي شيء من دون دعم الدولة غير الموجود»، يقول شفيق شحادة رئيس اتحاد بلديات بعلبك، وهو أكبر اتحاد بلديات في البقاع من حيث الكثافة السكانية (ويضم مدينة بعلبك بالإضافة إلى قرى دورس، وإيعات، ويونين، ومجدلون، وحوش تل صفية، ونحلة، ومقنة، وعين بورضاي). ويعيش في نطاق اتحاد بلديات بعلبك حوالي 150 ألف لبناني، أكبر نسبة منهم في بعلبك بنحو 100 ألف نسمة، يضاف إليهم 15 ألفًا من اللاجئين الفلسطينيين في مخيم الجليل في بعلبك، و60 ألف لاجئ سوري. كما أن المنطقة متنوعة طائفيًا ودينيًا.
حين بدأت المعركة في 23 أيلول، بدأ الناس يخرجون من نطاق الاتحاد لأن كل تلك القرى تعرضت للغارات الإسرائيلية. في المرحلة الأولى، نزح حوالي 60% من السكان، ثم ارتفع الرقم إلى 70% عندما بدأت الاعتداءات على المنطقة تشتدّ. وقد توزع هؤلاء بين من ذهب إلى المناطق الآمنة في البقاع مثل زحلة وجوارها، والشمال مثل عكار وطرابلس، وصولًا إلى بيروت، وبين من قرر الذهاب إلى سوريا وذلك لقرب المسافة الجغرافية وقرب الحال أيضًا. وبحسب الأرقام الرسمية، عبر حوالي 160 ألف لبناني إلى سوريا منذ 23 أيلول الماضي، تم استقبالهم وتوزيعهم على كافة المحافظات السورية. كما شهدت الحدود اللبنانية السورية موجة عودة للاجئين السوريين إلى ديارهم، حيث بلغ عدد العائدين حتى الآن 400 ألف سوري، قبل أن يبدأ الاحتلال الإسرائيلي باستهداف الطرق المؤدية إلى سوريا، من طريق المصنع الدولية إلى كافة الطرق الفرعية، ما قلل من تلك الحركة. وبحسب شحادة، فإن نحو 30% من السكّان ما يزالون في محافظة بعلبك – الهرمل، يقدّر عددهم بنحو 16 ألف أسرة، إضافة لـ500 أسرة بقيت في مخيم الجليل.
أما في المرحلة الثانية، عندما أطلق العدو الإسرائيلي تحذيرات الإخلاء في مدينة بعلبك والجوار مؤخرًا، نزح نحو 70% من الذين لم يغادروا في موجات النزوح الأولى. ووفق شحادة، فإن الاستهدافات الأولى، «لم تحصل بشكل مفاجئ، بل حدثت تدريجيًا، وأكثر مَن نزحوا من المنطقة، نزحوا من باب الوقاية، وليس بسبب استهداف قريب منهم أو ما شاكل. لذلك كان النزوح الأول سلسًا». لكن بعد آخر إنذارين، حصلت حالة من الفوضى، «فقد خرج نحو 30-40 ألف مواطن من بيوتهم دفعة واحدة وهم لا يعرفون أين سيذهبون».
لا مراكز إيواء، ولا حلول
تبدأ مشكلة النازحين في البقاع بأن مراكز الإيواء قد امتلأت ولا تستطيع استيعاب المزيد من المواطنين، الأمر الذي يؤكده شحادة بالقول إن «الـ70% الذين نزحوا بداية الأمر جزء منهم ذهب إلى مراكز الإيواء في المناطق المجاورة التي تُعتبر آمنة… المشكلة هي أن كل مراكز الإيواء في محافظة بعلبك – الهرمل، ويبلغ عددها نحو 60 مركزًا، استطاعت أن تستوعب 13 ألف نازحًا، أي 3000 أسرة». أما الباقون، فيقول شحادة إن جزءًا منهم مُستضافون في بيوت الأقارب أو المعارف في المناطق الآمنة.
عندما أعلن جيش العدو إنذار الإخلاء أخيرًا، خرج ما بين 30 و40 ألف مواطن من نطاق اتحاد بلديات بعلبك، فلم يجد كثير منهم إلا الاستقرار في سياراتهم في مناطق أخرى أكثر أمانًا مثل دير الأحمر وعرسال وزحلة. حينها، نسّق مُحافظا بعلبك – الهرمل والبقاع لفتح نحو سبع مراكز في منطقة البقاع، مجموع القدرة الاستيعابية لها 665 شخصًا. وفي هذا الإطار، يؤكد شحادة أن «هناك حالة من الفوضى وسوء الإدارة، مع العلم أن لا يمكننا لوم أحد في هذا الظرف، لأن إيجاد أماكن لهذا العدد من الأشخاص هو أمر صعب. المعني الرسمي في غرفة إدارة الكوارث في المحافظة هو المحافظ، والغرفة تُنسّق معه… [لكن] الإجراء الذي اتُخذ أقل بكثير من إمكانيات وحدة إدارة الكوارث».
المشكلة الثانية هي أن الجزء المتبقي من النازحين إما ذهبوا إلى بلدات أخرى في بعلبك – الهرمل حتى لو لم تكن آمنة، أو عادوا إلى قراهم وبيوتهم غير الآمنة، إذ لا يملكون خيارات أخرى. يعيش هؤلاء اليوم خطر الموت في أي لحظة من دون أن يسأل عنهم أحد. من هؤلاء عبير، التي لم يمضٍ على عرسها سوى ثلاثة شهور. تهدم بيتها الزوجي يوم 24 أيلول، ثاني أيام المعركة، فلم تجد وزوجها حلًّا سوى الهرب من تحت الغارات التي تطال قريتها طاريا، غرب مدينة بعلبك. لكنهما لم يمكثا طويلًا قبل أن يعودا إلى القرية.
«ذهبنا إلى منطقة الأرز [في جبل لبنان] وبقينا حوالي 10 أيام، غير أن المعيشة الغالية هناك أدت بنا إلى استنفاد كل مدخراتنا، فلم يكن لدينا حل سوى العودة إلى قريتنا.. وهذا ما حصل، عدنا إلى الخوف والحرب… ليس لدينا حل آخر ولا أحد يسأل عنّا»، تقول عبير. «كل ليلة نسمع الغارات بشكلٍ واضحٍ، ننام مذعورين ونحن نفكر هل سيقع علينا الموت هذه الليلة؟ أم اننا سنستفيق غدًا؟.. وحتى إذا استيقظنا في صباح اليوم التالي، نبدأ بمعركة أخرى وهي معركة تأمين احتياجاتنا من الأكل والشرب في ظل أوضاع سيئة جدًا… لا أحد يعمل حاليًا وليس لدينا مصدر دخل لشراء حاجاتنا، هذا إن توفرت».
تظهر أزمة تأمين المعيشة والاحتياجات اليومية في محافظة بعلبك ـ الهرمل بشكلٍ بارز، خصوصًا للصامدين في منازلهم وقراهم القابعة تحت القصف الإسرائيلي باستمرار. أما من يتواجدون في مراكز الإيواء فيعتبر حالهم أفضل نسبيًا، إذ يتم من خلال المبادرات الفردية والجمعيات تأمين مستلزمات الحياة الأساسية، على الرغم من أنها ليست كافية. ووفق الأرقام المتداولة في الصحافة اللبنانية، فمن بين عشرات أطنان المساعدات التي وصلت إلى لبنان، وصلت تسع شاحنات فقط إلى منطقة البقاع، خمس منها وصلت في الدفعة الأولى، وكانت محمّلة بـ2500 حصة غذائية وفرش وبطانيات، وأربع شاحنات في الدفعة الأخيرة، تضمّنت 860 حصة غذائية إضافة إلى فرش وبطانيات. أما بالنسبة للمساعدات المُقرة من قبل غرفة إدارة الكوارث، فيؤكد شحادة أنه «استلم بحضور المحافظ، بشير خضر، أول دفعة منذ أكثر من 15 يومًا، تضمنت 500 حصة لنطاق بلديات بعلبك، لكنها كانت مشروطة بأن تكون لمراكز الإيواء… لم نرَ أي مساعدات بعد ذلك».
إضافة إلى ما تقدم، هناك أزمة أخرى بدأت تلوح في الأفق، وهي عدم وصول المواد الغذائية والأدوية والمحروقات وغيرها من مقومات أساسية للحياة. وتعود هذه الأزمة إلى امتناع الشركات المستوردة لهذه المواد عن التوجه إلى البقاع الشمالي، والاكتفاء بالوصول إلى مدينة زحلة. وبالتالي فإن كل المواد التي بدأت تنفد في مخازن الاستهلاكيات لا بديل عنها، في ظل تقاعس الدولة في تأمين دخول البضائع إلى محافظة بعلبك ــ الهرمل.
أين المنظمات الدولية؟
يقول شحادة إنه حاول التواصل منذ اليوم الثالث للعدوان مع الجهات المانحة والمنظمات الدولية، وأعلمهم «أننا دخلنا في حالة حرب لا نعلم متى تنتهي»، وشدد على أن الأولوية لدى الدولة وغرفة إدارة الكوارث هي مراكز الإيواء، «ونحن لدينا مهمة الاهتمام بالنازحين والصامدين في بيوتهم، الذي ليس لديهم عمل يذهبون إليه في الوضع القائم. وهم يستهلكون مخزونهم من المدخرات للأكل والشرب، وسنسمع صرختهم بعد فترة عندما تُستنفد هذه المدخرات، لذا تمنينا على هذه الجهات أن تضع هذه الفئة من الناس في أولوياتهم، وأرسلت لهم الإحصاء التقريبي الذي تحدثنا عنه». وأكد أن «كل الجهات المذكورة أجابتني بالشكر لأنني تواصلت معهم، وأنهم سيسعون لذلك، لكن كل هذا كان كلامًا فارغًا إذ لم يُقدّم أي أحد منهم أي شيء».
كذلك، شدد شحادة على أن الدفاع المدني طلب منه بصفته رئيسًا لاتحاد بلديات بعلبك أن يطلب إرسال معدات لرفع الأنقاض، «فقمت بإرسال طلب إضافي للجهات المانحة والجمعيات بالأشياء التي نحتجها في هذا الصدد»، مؤكدًا أنه لم يلقَ تجاوبًا في هذا الأمر أيضًا.
«الذين بقوا في بيوتهم لم يستلموا أي مساعدات منذ بداية الحرب. ونحن كاتحاد بلديات، ليس لدينا أي موارد مادية لتقديم المساعدات، فنحن لم نستلم حتى الآن مخصصاتنا العادية البلدية لسنة 2024. أنا غير قادر حتى على تقديم فرشة وخيمة لأسرة واحدة»، يقول شحادة. وحتى الجمعيات التي تعمل في المنطقة معدودة على الأصابع، وهي تعمل في مراكز الإيواء حصرًا، إلا إذا بقي لديها فائض من المساعدات، فتذهب بها إلى البيوت التي تعرف أن فيها نازحين. وما تقدمه هو الفرش والبطانيات ووجبة أكل يومية، بحسب قوله.
«كنا نطمح أن تقوم المنظمات الدولية بدور ما، مثل مفوضية اللاجئين، التي كانت تهتم بالنازحين السوريين وتذهب خلفهم إلى كل خيمة في النزوح. كل هذه المنظمات استقالت اليوم عن الاهتمام باللبنانيين النازحين»، يقول شحادة. في حين أن منظمات مثل برنامج الأغذية العالمي لم تفعل ما يعدو تخصيص مقدرات لتقديم وجبات للنازحين في مراكز الإيواء. كل ذلك دفع شحادة للقول إنه «من الواضح أن المسألة وكأن هناك قرار دولي بأن تعمل هذه المنظمة بهذا المقدار فقط».
اللافت أن المسؤولين في لبنان تحركوا أخيرًا. فمنذ أيام، اجتمع في مجلس النواب تكتل نواب بعلبك – الهرمل ووزراء المنطقة، وحصل اتفاق بين رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري بأن يهتم مجلس الجنوب بموضوع الإغاثات الغذائية للصامدين والنازحين في محافظتي بعلبك الهرمل والبقاع. ومجلس الجنوب تم إنشاؤه عام 1970 في عهد الرئيس شارل الحلو، عندما أقرَّ مجلس النواب قانونًا أجاز للحكومة إنشاء مجلس خاص لتلبية حاجات منطقة الجنوب وتوفير أسباب السلامة والطمأنينة لها، يكون له الاستقلال المالي والإداري، ويرتبط برئاسة مجلس الوزراء ولا تخضع أعماله لأحكام قانون المحاسبة العمومية ولا لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة.
جدير بالذكر أن آثار بعلبك لم تسلَم من القصف أيضًا. وفق المعنيين، فإن المنطقة الأثرية الموجودة في بعلبك والتي تعود إلى العهدين البيزنطي والروماني – والمُدرجة على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونيسكو» – تعرضت لقصف عنيف الأسبوع الماضي، الأمر الذي أدى إلى تضرر جزء من ثكنة «غورو» التابعة لقلعة بعلبك، كما دُمّر جزء من جدار القلعة المحاذي لشارع المدينة جراء استهداف منزل مجاور.