الوريث حسين الشيخ: فن إدارة الأشلاء

الإثنين 28 نيسان 2025
حسين الشيخ مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 2023. تصوير: أحمد غرابلي. أ ف ب.

لم تكن فكرة نائب الرئيس، بتعدد تجلياتها عبر الأنظمة السياسية المختلفة إلا شكلًا آخر من أشكال التفكير في هشاشة الضمانات. بل كانت النيابة، منذ لحظتها التأسيسية، تأمُّلًا مضمرًا في الغياب، وفي الموت باعتباره حادثة سياسية لا مفر منها. بهذا المعنى، لم تُستحدَث مؤسسة النيابة لتمثيل امتداد السلطة، بل للتعامل مع الغياب؛ لحظةً تحفظ استمرارية الشكل عند اختفاء الرأس.

ومن هنا، كانت النيابة دومًا هيئةً تنوب ولا تملك، تحضر ولا تهيمن؛ شخصيةٌ بلا سلطة فعلية أو بسلطةٍ مؤجلة تنتظر لحظة الانهيار كي تتجسد. بيد أن التجربة العربية الحديثة قلبت هذه الوظيفة رأسًا على عقب: لم تعد النيابة مجرد صمّام أمان في لحظة الغياب، بل أداة نشطة لإنتاج فراغٍ جديد؛ فراغ السياسة، فراغ التداول، فراغ البدائل. لم تعد النيابة تضمن رأس النظام، بل صارت تتهيأ للاستيلاء عليه وهو حي، ممارِسةً السلطة باسمه، ومتستّرةً بأعراف الاحترام العائلي؛ حيث يصعد الجيل الجديد مستوليًا على السلطة وهو يُنكس رأسه احترامًا للجيل السابق.

غير أن استحداث موقع النيابة لا يخلو من ارتجاجات بنيوية؛ إذ يكشف دومًا عن توترٍ خفي: فبينما يُقدّم نظريًا كآلية لضمان الاستمرارية، يتحول عمليًا إلى وسيلة لصناعة بارونية سياسية تحوم حول الرأس. النيابة لا تدبّر الغياب فحسب؛ بل تمهّد لصناعة دوائر نفوذٍ جديدة، شبكات تتحكم بالمركز باسم ذلك الرأس، بل وأحيانًا تحكم عليه.

في السياق الفلسطيني، يتجلى هذا التوتر بوضوح. فقد تردد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، طويلًا في استحداث منصب نائبٍ رسمي، مدركًا أن تعيين نائب قد يعني موضوعيًا الإقرار بتراجع الرأس عن رأسيتِه، وبل بفقده أحد أهم أركان قدرته على السيطرة على من يحومون حوله، أي الميراث. غير أن هذا التردد لم يصمد طويلًا، إذ تم أخيرًا استحداث منصب جديد أُعلِن فيه عن حسين الشيخ نائبًا فعليًا.

بيد أن حالة حسين الشيخ لم تكن استجابة لحاجة تنظيمية، بل كانت ثمرة عقدٍ كامل من المناورات الدقيقة: أولًا، ارتهانٌ معلن للداعم الإسرائيلي وخلفه الإمبراطورية الأمريكية، ما وفّر له مظلة إقليمية ودولية لصعوده. وثانيًا، بناء شبكة من العلاقات داخل البنية السلطوية، حيث غدا الحضور داخل النظام معقودًا على مفاصل هذه الشبكة. وثالثًا، خلق تدرج هرمي ناعم في مراكز القرار، تدرجٌ بدا إداريًا وتنظيميًا في ظاهره، لكنه كان في جوهره رسمًا مُمَنهجًا لخريطة خلافة مؤجلة.

خطابات الإصلاح 

منذ طوفان الأقصى طالب أركان النظام السياسي والعسكري الدولي السلطة الفلسطينية بإجراء «الإصلاحات»، لكن هذه الدعوة ليست سوى قناع يغطي الخوف العميق من احتمال غياب رأس السلطة، ومن ثم انفجار الفراغ السياسي في الضفة الغربية على شكل انتفاضة أو غيرها من أشكال المقاومة. فالإصلاح هنا ليس مشروعًا سياسيًا فعليًا، بل عملية استباقية هدفها تدعيم السلطة بوصفها جهاز ضبط إداري وأمني، يحمي الاستقرار الهش أكثر مما يمثل إرادة الفلسطينيين.

غير أن الإصلاح المطلوب ينطوي أيضًا على حنين دفين، بل واستدعاء مستحيل، إلى سلطة فلسطينية قادرة على الإقناع بدل أن تكون مجرد أداة قمع. في ظل العمليات المتتالية التي تشنها المقاومة في غزة وحرب الإبادة التي شنتها دولة الاحتلال، يجد العالم نفسه في مأزق: الحاجة إلى سلطة فلسطينية حاضرة، قادرة على التفاوض والترويج، لا مجرد سلطة متكلّسة وظيفتها الأساسية كبح الانفجار دون امتلاك شرعية. ولعل هذا ما يفسر تصاعد الخطابات الغربية والعربية حول «تجديد الشرعيات»، و«ضخ دماء جديدة»، و«بناء مؤسسات حوكمة فعالة»؛ شعارات تكرر نماذج فشلت، لكنها تعبر عن قلق حقيقي من أن تلك السلطة، التي مارست التعاون الأمني مع الاحتلال تحت شعارات مثل «حماية الوطن»، لم تعد قادرة على ادعاء شرعية وطنية أو ثورية أو ديمقراطية.

المفارقة هنا أن هذا «العالم» -أي النظام السياسي والاقتصادي والعسكري القائم- هو نفسه من أنتج تكلس السلطة وانهيارها: فلا أفق لحل سياسي تفاوضي، ولا استثمار في إعادة بناء الحقل الوطني، بل تثبيت وضع قائم على مراكمة رأس مال فلسطيني ضئيل لطبقة سياسية واقتصادية صغيرة مقابل تفتيت البنية المجتمعية. ومن هنا، فإن من أراد للسلطة أن تبقى قوية، من خلال إحاطتها بشبكات التمويل والتنسيق الأمني والدعم المشروط، كان في الحقيقة من أضعفها: أفرغها من قدرتها على الفعل الذاتي، وحاصرها بمعايير البقاء التقني بدل الشرعية الوطنية، وجعلها مشلولة أمام أي مواجهة حقيقية مع الاحتلال أو مع المجتمع الفلسطيني الذي لم يعد يرى فيها أكثر من ظلال إدارة عاجزة. 

لم يكن غريبًا إذًا أن معظم برقيات التهنئة التي أُرسلت إلى نائب رئيس السلطة الفلسطينية والتي صدرت عن دول عربية، احتفت بهذا التعيين بوصفه علامةً على خطوة إصلاحية مهمة.

انتصار العباسية 

عادةً ما يُتناول مصطلح «العرفاتية السياسية» في الحقل السياسي الفلسطيني بوصفه مقولة إجرائية متلبسة بشخص الرئيس ياسر عرفات حتى حدود التماهي. العرفاتية هنا إحالة لمنظومة تستند إلى القدرة على المناورة الدائمة داخل فضاءات متناقضة؛ وبناء شبكات ولاء تقوم على هشاشة الانتماء وقابلية التحول؛ واستخدام المال السياسي كآلية تغذيةٍ شبكية؛ وأخيرًا، تفعيل الأداء المسرحي كأداة للهيمنة الرمزية. في هذا السياق، تصير العرفاتية سياسةَ إدارةٍ للاختلاف عبر إعادة إنتاجه لا تسويته، ومراكمةً لفائض بشري حول مركز متحوّل لا يعرف الاستقرار إلا كحركة دائمة تتجه نحو الفوضى بوصفها آلية لإعادة تدمير البنى القائمة وإعادة ترميمها تحت سقف الزعامة العرفاتية. العرفاتية، إذًا، رفضٌ صريحٌ للشكلانية المستقرة، ومقاومةٌ لأي تجميد أو رسوخ قد يُهدد دينامية التحكم.

في المقابل، يمكن النظر إلى تجربة محمود عباس بوصفها قطيعةً مع هذا النمط: قطيعةٌ تتأسس على معركةٍ مع التحول ذاته، وعلى قتالٍ دائمٍ في سبيل تثبيت الجمود بوصفه غايةً سياسية. صراعٌ شخصي-سياسي خافت، لكنه عميق، بين من جعل من السيولة مبدأً للقيادة (عرفات)، ومن جعل من التصلب شرطًا لبقاء السلطة (عباس). فحتى براغماتية عباس لا تتضمن مرونة، وواقعيته تتجاهل الواقع. 

هكذا تتجسد العباسية كأيديولوجيا راسخة، لا مجرد خيار ظرفي. أيديولوجيا تقوم على رباعية صلبة؛ مراكمة رأس المال السياسي والمالي في يد طبقة متغوّلة مرتبطة بشبكات دولية وإقليمية؛ وتأبيد الهزيمة لا بوصفها كارثة عابرة، بل كشرط وجودي للسلطة ذاتها؛ والتجارة بالتاريخ الثوري الفلسطيني وتحويله إلى متحف جامد يخدم سردية «الحكمة» و«الاعتدال»؛ وأخيرًا قتل إمكانيات المقاومة لا عبر القمع المباشر فحسب، بل عبر إعادة تعريف العدو. ففي العباسية، يصبح المقاوم خصمًا يجب حصاره، والعدو الصهيوني شريكًا محتملًا في «السلام»، بينما يتحول أبناء المخيمات والفقراء ومقاتلو الهامش إلى «تهديد أمني». باختصار، العباسية ليست فقط مشروع سلطة، بل منظومة لعالم لا ينتج إلا الإخضاع. 

لهذا، لا يكمن في استحداث منصب النائب، ولا في ترسيخ شبكات النفوذ المرتبطة بالمرشح بعينه، سوى استمرارٌ للمزيد من هذه الرباعية، مع تكثيفٍ لآلياتها وتفاصيلها، خصوصًا عقب طوفان الأقصى وما تبعَه من حربٍ مستمرةٍ تقارب العام والنصف. فما يساهم اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، في استدامة السلطة، هو مجموعة من التحولات البنيوية التي رافقت قدرة دولة الاحتلال على تجاوز الأعراف والقوانين في عملياتها العسكرية، واستحداث شكلٍ جديدٍ من المجزرة، يجمع بين احتفائيةٍ سادية، وممارسةٍ تقنيةٍ تأخذ هيئة عقلانيةٍ باردة وشكلانية (formalism) عالية الدقة.

ما يهمنا هنا أن هذه القدرة على التجاوز، وهذه الإتاحة الممنوحة لدولة الاحتلال كي تمارس وحشيتها بلا قيد، قد ساهمتا في خلق وضعٍ تظهر فيه السلطة كخشبة نجاة، حتى وإن كانت هذه الخشبة متسخة، مهترئة، ومحمّلة بثقل العجز. بل لعلها تمثل، في حقيقتها، محاولة بائسة للإفلات من الغرق القادم، لا انتصارًا على الأمواج. بمعنى آخر، تبرز السلطة اليوم كبديل عن الانهيار الكلي، لا بوصفها قوة بناء أو إعادة ترميم، بل كصمّام كبحٍ مؤقت، وتدبير هشّ لفراغٍ آخذ في الاتساع. فراغٌ لم تعد تملؤه سوى أشكال مبتورة من الإدارة والضبط، إدارة للأشلاء أكثر منها قيادةً لجسدٍ حيّ.

إدارة الأشلاء: فن المناضل السابق

ليس صدفة أن يتقن المناضل السابق، القادم من تاريخ هزائم متراكمة، فنّ إدارة الأشلاء. فحسين الشيخ، اللاجئ من دير طريف، والمناضل في صفوف حركة فتح، لم يهبط على هذا الموقع السياسي من فراغ؛ بل هو، بطريقة مأساوية، نتاج مسار طويل من اعتياد الخسارة والتطبيع مع موازين القوى المختلّة، والسعي الدؤوب لطبقات اجتماعية هامشية تسعى لصعود طبقي سريع.

كان تاريخ حسين الشيخ النضالي جزءًا من تجربة أوسع لحركة تحرر اعتادت الهزيمة، ثم حوّلت الهزيمة إلى نمط حياة، إلى ميثاقٍ غير مكتوب يحكم علاقتها بالخصم. في هذا المسار، لم تعد الخسارة حادثةً طارئة بل أصبحت جزءًا من النفس؛ اعترافٌ في السجون، ومساومةٌ في العلن، وتحويل النضال إلى تجارةٍ بالآن واللحظة، ترتكز على بيع أثر المعاناة بدل مواجهتها.

في هذا التكوين، يصبح الانحناء أمام قوة الخصم فعلًا يوميًا، يكفّ عن كونه اضطرارًا ليغدو عادةً، ويولّد بذلك نوعًا خاصًا من الوعي السياسي: وعيٌ لا يسعى إلى تغيير موازين القوى، بل إلى لملمة البقايا، جمع الأشلاء، وترتيب الخرائب بطريقةٍ تسمح لها بأن تدّعي لنفسها شكلًا من أشكال الحياة الثانية التي تقوم على إدارة الموت بدل مقاومته، وعلى تصريف الخسارة بدل الانتصار.

 تبرز السلطة اليوم كبديل عن الانهيار الكلي، لا بوصفها قوة بناء أو إعادة ترميم، بل كصمّام كبحٍ مؤقت، وتدبير هشّ لفراغٍ آخذ في الاتساع.

في هذا السياق، يتحول المناضل السابق إلى مديرٍ لما تبقى، إلى صاحب حرفة في تأبيد البقايا: لا ترميم يعيد بناء قوة هجومية، بل ترميم يحفظ النظام القائم على ضعف الذات وقوة العدو. هكذا يصنع المناضل السابق سياسةً من أشلاء السياسة: إعادة ترتيب الفتات في صفقات يومية، هوية لهذا وهوية لذاك، تصريح دخول «لدولة إسرائيل» لهذا وليس لذاك، لم شمل لتلك التي تزوجت فلسطينيًا من الأردن، أو لذلك الذي تزوج سورية في الولايات المتحدة الأمريكية.

هذا، لربما، ما يمكن تسميته حين نتحدث اليوم عن حركة فتح: قتالٌ وتنافسٌ محموم على إدارة البقايا. لم يعد الصراع فيها صراع مشاريع أو رؤى، بل صراع على ترتيب ما تبقى، على إدارة الخسارة دون أي أفق لتحويلها. كأنّ التنظيم الذي حمل يومًا وعد التحرر، لم يعد يرى في نفسه سوى مدير أزمةٍ دائمة، يقتات على ما تبقى من رمزية ماضٍ بعيد، ويعيد تدوير الهزيمة من خلال بيروقراطية متكلسة، ولكن ما زالت تتدافع فيها الأجساد لتحصيل أكبر عدد من غنائم الحاضر، أي تلك الثنائية من النفوذ والأموال.

ليس النضال، في معناه الجوهري، تجربةً تهدف إلى مكافأة أو اعتراف. النضال الحقيقي، كما يفترض، يجب أن يكون عطاءً خالصًا، حركةً لا تعود على صاحبها لا بامتنان ولا بامتياز ولا حتى بذكر. فبمجرد أن يتلقى الفاعل اعترافًا بنضاله، أو أن ينتظر نتيجةً له، يفقد النضال طبيعته الأصلية ويغدو صفقةً مؤجلةً أو تبادلًا مقنعًا. غير أن الواقع الفلسطيني، منذ عقود، أطاح بهذا الشرط المستحيل. صار النضال خبرًا متداولًا، واستثمارًا في رأس مال رمزي يتراكم على هيئة مواقع سلطوية أو وظائف رفيعة أو شبكات نفوذ. ومع كل خسارة تاريخية كبرى، تترسخ هذه الدينامية أكثر: تتحول الخسارة إلى رأس مال، والهزيمة إلى أداة مفاوضة، والتجربة النضالية إلى بابٍ للشرعية السلطوية.

بهذا المعنى، لا يكون المناضل السابق الذي يتحول إلى مديرٍ للأشلاء خائنًا لماضيه، بل هو امتداد منطقي لمنظومة حكمت النضال نفسه: منظومة تتأسس على استحالة الحفاظ على العطاء نقيًا من التبادل، وعلى استحالة أن يبقى الفعل النضالي في مدار اللا مقابل. ومن هنا يمكن فهم التحولات التي عرفتها شخصيات مثل حسين الشيخ، وغيره من أبناء جيل نضالي كامل. لا يتعلق الأمر بانحراف أخلاقي فردي، بل بانقلاب بنيوي في معنى الفعل السياسي الفلسطيني: من قتال الخصم إلى إدارة الخسارة؛ من استعادة الأرض إلى ترتيب ما تبقى منها في صيغ إدارية هامشية.

فشل اتخاذ القرار: حين يتحول البقاء إلى استراتيجية انتحار

يسأل البعض اليوم، بتبريرٍ مكسوٍّ بالعجز: ماذا كان بوسع السلطة أن تفعل في ظل حرب الإبادة الجارية؟ سؤال ينطوي على تسليمٍ مسبق بأن العجز قدرٌ محتوم، وبأن الجمود استراتيجية معقولة في مواجهة الكارثة. غير أن الإجابة، وإن كانت غير مريحة، تظل واضحة: كان بوسع السلطة أن تفعل الكثير، لكنها اختارت ألا تفعل.

كان بإمكانها أن تفكك شبكات التنسيق الأمني، لا لأن ذلك سيقلب موازين القوى مباشرة، بل لأن فيه إعادة تعريف للذات الفلسطينية بوصفها خصمًا لا ذيلًا. كان يمكن لها أن تفتح المجال أمام الغضب الشعبي بدل أن تواصل قمعه، أن تسمح للمجتمع بأن يعبر عن جرحه بدل أن تحرس صمته. كان بإمكانها أن تتحول إلى منبر للمواجهة الرمزية والسياسية، أن تعيد بناء مشروعيتها عبر خيار الانحياز للمحكومين لا للحاكمين؛ أن تكون شاهدًا على الجريمة لا شريكًا في هندستها.

كان يمكن للسلطة أن تقرأ الواقع بحقيقته العارية، أن تدرك أن ما يجري ليس مجرد مواجهة مؤقتة، بل بداية زمن فاشي طويل يقوده أمثال إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، زمن لا يرى في الوجود الفلسطيني بالضفة الغربية إلا هدفًا للقتل والمحو. كان يمكن للسلطة أن تفهم أن شروط التحول قد نضجت: أن الزمن لم يعد زمن إدارة البقايا، بل زمن محاولة استعادتها. لكنها، وقد تحوّلت إلى جهاز لإدارة جثة وطنية متحللة، لم ترَ في نفسها إلا ضرورة البقاء، ولو في حضن الدمار. وتمسكت بإدارة الفراغ كأنه خلاص، مع أن خلاصها الوحيد كان يمكن أن يكون في كسر هذه البنية كلها، في قلب الطاولة بدل ترتيب الكراسي فوقها.

وهكذا، لم يكن فشل اتخاذ القرار مجرد عجزٍ سلبي، بل كان فعلًا سياسيًا واعيًا: استثمارٌ في الموت بدلًا من الحياة، ومراهنةٌ خاسرة على ديمومةِ إدارة الأشلاء. لا مفاجأة إذًا ألا تقدم السلطة اليوم أي جديدٍ مع إعلان منصب النائب. الإعلان لا يعدو كونه إعادة إنتاج للفراغ؛ لحظةٌ لا تبشر بتحول أو انبعاث، بل تؤكد أن اللعبة قد انتهت. ففي تسمية النائب، لا تمارس السلطة إلا فعل التصريح بأن محمود عباس لم يعد يمارس سياسة الإرجاء: لم يعد يلوّح بجزرة «الوريث السياسي» كأداة لتطويع الخصوم أو اللعب بين الفرقاء. بالعكس، تكشف السلطة ببرودها الجاف أنها قد حسمت أمرها: لا انتقال، بل توزيعٌ منظم على إدارة ما تبقى؛ وتدبيرٌ ميكانيكي لاحتضارٍ طويل. وكل ما في الأمر أن الخليفة أصغر بالعمر قليلًا.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية