حين شرعت حكومة رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن في النقاش حول الإصلاح الجديد لنظام المعاشات التقاعدية، في شهر أيلول الماضي، لم تكن تعتقد أنها ستطلق أعمق أزمة شهدتها الجمهورية الفرنسية الخامسة منذ حوالي ربع قرن.
منذ مطلع العام الحالي، ومع دخول النقاش حول القانون الجديد إلى غرفتي البرلمان؛ النواب والشيوخ، شهدت البلاد انبعاثًا قويًا للحركة الشعبية، وفي طليعتها النقابات العمالية. فقد غيرت هذه الأسابيع الحاشدة بالمظاهرات والإضرابات، بشكل عميق الجو السياسي للبلد، ودفعت الانهزاميةَ السائدة، وزعزعت المدافعين المتحمسين عن النظام الراسخ والسياسات النيوليبرالية، وبلورت السخط الاجتماعي الذي لم يجد وسيلة للتعبير عن نفسه سياسيًا، وتحول إلى غضب احتجاجي، تقوده حالة من عدم الثقة لدى جزء كبير من السكان -لا سيما الطبقة العاملة والشباب- تجاه ماكرون وحكومته.
لكن هذه الهبة الشعبية، وضمن نسق من التطور المتسارع، لم تعد فقط ترفع شعارات مضادة لمشروع القانون الجديد، بل أصبحت تدين نظام الجمهورية الخامسة، القائم على هيمنة الرئيس على السلطة من خلال حزمة صلاحيات هائلة يمنحه إياها الدستور، والتي من بينها مادة تجيز لحكومته تمرير مشاريع القوانين دون عرضها على البرلمان، لمرة واحدة في السنة. وهي السلاح الذي لم يتردد الرئيس ماكرون في استعماله لتمرير الإصلاح الجديد لنظام المعاشات التقاعدية.
قانون ضمن حزمة نيوليبرالية
أطلقت الحكومة الفرنسية على مشروع القانون الجديد اسم «تعديل فاتورة تمويل الضمان الاجتماعي لعام 2023»، في إشارة إلى أن هذا الإصلاح الجزئي لنظام المعاشات التقاعدية في البلاد، يستهدف تعديل ميزان الدفوعات، كي لا يدخل صندوق التقاعد خلال السنوات القادمة في عجز، يمكن أن يمنعه من توفير المعاشات. يمدد هذا التعديل سن التقاعد القانوني من 62 عامًا إلى 64 عامًا. اعتبارًا من أيلول 2023، كما سيرفع هذا العمر تدريجيًا، بمعدل ثلاثة أشهر لكل جيل من المؤمّن عليهم المولودين في أيلول 1961. وكذلك سيرفع سن التقاعد إلى 63 عامًا و3 أشهر في عام 2027 (جيل 65) إلى بلوغ سن 64 عام 2030 (الأجيال المولودة في عام 68 وما يليها).
وفي الوقت نفسه، ستزيد فترة الاشتراك للاستفادة من المعاش التقاعدي الكامل إلى 43 عامًا في عام 2027، للجيل المولود عام 1965. كما يتضمن مشروع القانون تسريع تطبيق ما يسمى بقانون «تورين» لعام 2014، والذي ينص على تمديد فترة الاشتراك من 42 عامًا اليوم إلى 43 عامًا بحلول عام 2035، لجيل 1973. تستند الحكومة في تقدير العجز المستقبلي إلى تقرير مجلس توجيه المعاشات التقاعدية الصادر في أيلول 2022، والذي يشير إلى التباطؤ التدريجي في مكاسب إنتاجية العمالة. وتتراوح السيناريوهات المختلفة التي تستخدمها الآن بين 0.7% و1% و1.3% و1.6% متوسط النمو السنوي. فكلما انخفضت الزيادة في الإنتاجية، ازدادت حصة المعاشات التقاعدية في الناتج المحلي الإجمالي. هذه الحصة الآن تبلغ 13.8%. ويمكن أن ترتفع إلى 14.7% في عام 2070 في سيناريو الإنتاجية الأدنى.
ضباط الشرطة خلال تواجدهم في مظاهرة في نانت غرب فرنسا، في 18 آذار 2023. تصوير لويك فينانس. أ ف ب.
بدلًا من البحث عن موارد أخرى، في دولة لديها الكثير من الموارد، أو فرض ضريبة على الثروات الكبرى كما وعد في حملته الانتخابية عام 2017، يريد ماكرون تمويل الضمان الاجتماعي من العمال والأجراء، ولو كان ذلك على حساب أن يعملوا إلى حدود 64 عامًا دون أن يتمتعوا بتقاعد أطول. لكن المسألة بالنسبة للرئيس الفرنسي أعمق من مجرد إصلاح قانوني، بل هي جزء من برنامجه النيوليبرالي القائم على الوصفة التقليدية في خفض الإنفاق العام، والتي تشكل المعاشات التقاعدية ربعه. تريد الحكومة دمج هذا الإصلاح في استراتيجيتها لخفض الإنفاق العام لتلبية المتطلبات المتفق عليها داخل الاتحاد الأوروبي. حيث ينص «برنامج الاستقرار 2022-2027» الذي قدمه وزير الاقتصاد والمالية، برونو لو مير، على خفض عجز الميزانية إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2027، وزيادة الإنفاق العام في الحجم بما لا يتجاوز 0.6% سنويًا. ولكن دون إصلاح، فإن النمو التلقائي لكتلة المعاشات التقاعدية سينمو بنسبة 1.8% سنويًا خلال هذه الفترة.
كما ترفع الحكومة أيضًا الحجة الديموغرافية، حيث يتقدم متوسط العمر المتوقع ببطء شديد، لذلك فهي تريد تمويل احتياجات الصحة والتعليم والانتقال البيئي من خلال التوفير في المعاشات التقاعدية والعمل أكثر. ومع ذلك، ستستمر شيخوخة السكان وسيزداد عدد المتقاعدين في المستقبل: سيرتفع العدد من 16.8 مليون في عام 2020 إلى حوالي 21 مليون في عام 2050. لذلك من غير المرجح أن يتم تخفيض صندوق المعاشات التقاعدية بالطريقة المطلقة. من منظور النيوليبرالية، فإن الطريقة الوحيدة المتبقية هي تخفيض قيمة المعاشات الفردية بشكل كبير. وبالتالي، فإن إطالة فترة الاشتراك من شأنها أن تحول دون وصول عدد أكبر من الأفراد إلى عدد المساهمات المطلوبة للحصول على معاش تقاعدي كامل. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تخفيض في معاشاتهم التقاعدية.
انبعاث الحركة الشعبية
في مواجهة هذا الإصلاح، تشهد البلاد منذ 19 كانون الثاني سلسلةً من المظاهرات المليونية المتكررة والإضرابات العامة والقطاعية. حيث بلغت نسبة التعبئة الشعبية معدلات غير مسبوقة منذ سنوات، كما شهدنا تحالفًا نقابيًا قويًا، لم تنجح السلطة في كسره. لكن هذه الحركة الشعبية، المؤلفة، من نقابات عمالية وأحزاب يسارية ومنظمات مدنية وحركات نسوية وبيئية، دخلت منعطفًا حاسمًا منذ قرار الحكومة استعمال المادة 49.3 من الدستور، والتي تتيح الإمكانية لرئيس الحكومة لتمرير مشاريع القوانين دون طرحها للتصويت أمام البرلمان. شكّل هذا «الإجراء التعسفي»، ضربةً قويةً للحركة المضادة للإصلاح، لكنه في الوقت نفسه عمّق من عزلة الرئيس ماكرون وإدارته، وأظهره عاجزًا عن حشد أغلبية داخل البرلمان، وكذلك بعث القوة التعبوية في صفوف الحركة الشعبية. حيث لم تعد المظاهرات تخرج أسبوعيًا، بل أصبحت مظاهرات يومية في الليل والنهار، في باريس والمدن الكبرى، ومواجهات مع قوات الأمن وإضرابات في القطاعات الحيوية كالكهرباء والغاز.
كما أظهرت هذه الهبة الشعبية التلازم العضوي بين السياسي والطبقي، حيث بدا واضحًا أن الحركة الشعبية لا تعبر فقط عن مطالب نقابية، بل تعبر أيضًا عن صوت الطبقات الشعبية، في مواجهة السلطة التي تدافع بقوة عن مصالح قاعدتها الاجتماعية البرجوازية. وبالتالي أعادت هذه الهبة الروح إلى الانقسام الإيديولوجي الذي كان سائدًا في فرنسا لعقود، والذي خفت منذ التسعينيات، بسبب تماهي سياسات اليمين واليسار في التوجه نحو النيوليبرالية بدفع من الاتحاد الأوروبي. كما لم تمنع مركزية القضية الطبقية هذه الحركة من استغلال الحشد الجماهيري، لرفع شعارات معادية للعنصرية والفاشية، من خلال حضور قوي للعمال المهاجرين، وكذلك شعارات تتعلق بالمسألة المناخية والنسوية، وحضور بارز للحركة النسوية والبيئية في صفوف المتظاهرين وحضور لافت لأعلام فلسطين والحركات التضامنية مع الشعب الفلسطيني، في أجواء شبيهة بانتفاضة أيار 1968. لكن الحركة الحالية، ورغم قوتها واتساعها مقارنة بالهبات الشعبية الفرنسية السابقة، إلا أنها تتصاعد على أكتاف كل التحركات التي سبقتها، على الأقل تلك التي انطلقت منذ عام 2010، مثل الإضرابات العمالية والسترات الصفراء، وحركة عمال السكك الحديدية، والتحركات النسوية.
ضباط الشرطة خلال تواجدهم في مظاهرة في نانت غرب فرنسا، في 18 آذار 2023. تصوير لويك فينانس. أ ف ب.
هذا التحول النوعي والكمي الذي تعيشه الحركة الشعبية الفرنسية، يتجلى أيضًا في حجم الدعم الشعبي لها، والمتصاعد منذ بداية الاحتجاجات، حيث نجحت في إدارة معركة المظاهرات والإضرابات، دون أن تضر مصالح عموم الشعب. وفقًا لاستطلاع نُشر في 28 أذار، يرفض 69% من الفرنسيين إصلاح نظام التقاعد، ويؤيّد المظاهرات والإضرابات 70% من الفرنسيين، في زيادة قدرها ثلاث نقاط عن الاستطلاعيْن السابقيْن اللذين تم إجراؤهما في 14 و22 آذار. فيما يريد ستة من كل عشرة فرنسيين (61%) أن تستمر النقابات العمالية في الدعوة إلى التعبئة (+3 نقاط). كما يشير الاستطلاع إلى أن واحد من كل خمسة فرنسيين (18%) يوافق على استخدام المتظاهرين للعنف، و25% بين مؤيدي الحركة. في المقابل يعتقد 45% من أفراد العينة أن الشرطة استخدمت الكثير من القوة لقمع المظاهرات والإضرابات. كما تحظى النقابات العمالية بثقة حوالي 50% من الشعب الفرنسي، ثم تأتي الحركات العفوية للأجراء (49%) والنشطاء الأفراد (40%). في المقابل لا يحوز الرئيس ماكرون سوى (25%) من الثقة.
جمهورية تلفظ أنفاسها
في أعقاب لجوء الحكومة الفرنسية إلى المادة 49.3 من الدستور، واجهت رئيستها إليزابيث بورن داخل البرلمان مقترحًا بسحب الثقة، لم تنجُ منه سوى بفارق تسعة أصوات في 20 آذار. بدا ذلك مؤشرًا واضحًا على وهن شعبية ماكرون، ليس فقط في الشارع، بل حتى داخل البرلمان، رمز الديمقراطية التمثيلية، التي يستمد منها الرئيس قوته الهائلة داخل نظام الجمهورية الخامسة، القائم على تفويض الشعب لفرد واحد كل خمس سنوات كي يقود البلاد. هذه الصورة القاتمة تؤكد أيضًا الوهن الذي وصلت إليه الجمهورية الخامسة، التي ولدت عام 1958 على يد الجنرال شارل ديغول. تبدو رئاسة إيمانويل ماكرون في أزمة عميقة. وهذا يترجم إلى تفكك لا هوادة فيه للروابط التي من المفترض أن توحد الجسم المدني بنظامه السياسي. عدم ثقة هائل، وضعف تمثيل انتخابي، واحتجاجات اجتماعية متكررة محرومة من المنافذ السياسية.
ولدت الجمهورية الخامسة في أعقاب انهيار نظام الجمهورية الرابعة البرلماني، الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية. كانت البلاد تعيش أزمات متلاحقة بسبب فشل الجيش الفرنسي في الهند الصينية في عام 1954، ورفض التصديق على معاهدة إنشاء مجموعة الدفاع الأوروبية في العام نفسه، والذي شهد أيضًا انطلاق الثورة الجزائرية، التي عمقت من أزمة النظام، حتى اضطر إلى استدعاء الجنرال ديغول، والذي بدوره أعاد بناء جمهورية جديدة بدستور جديد يقطع مع «الفوضى البرلمانية» واضعًا كل الصلاحيات التنفيذية في يد الرئيس وحكومته. لكن هذه القوة الرئاسية، ومع مرور الزمن لم تعد مطلقة، حيث أصبحت قدرته على التصرف مقيدة، ويطوقها «الحكم متعدد المستويات» الذي لم يعد له علاقة كبيرة بالحالة القوية لفترة الازدهار التي أعقبت الحرب.
فمنذ نهاية الثمانينيات تبنّى الرؤساء، المتعاقبون من اليسار واليمين، دخول المرحلة النيوليبرالية للرأسمالية بشكل متدرج، على حساب الدولة الاجتماعية التي يُقدر أنها أعطت للنظام تماسكًا واستقرارًا مديدًا. حيث أدى إضعاف الدور الاجتماعي للدولة، من خلال خفض الإنفاق العام، إلى صعود النسق الاحتجاجي، بدايةً من انتفاضة الضواحي في عام 2005، وصولًا إلى السترات الصفراء عام 2019، مرورًا باضطرابات ما بعد أزمة 2008 المالية. وفي كل هذه الهبات الشعبية والعمالية، كان هناك صوت قوي يدين النظام السياسي «الرئاسوي»، والذي لم يعد يعتبر الطبقات الوسطى قاعدته الشعبية، بل يعبر بشكل أوضح عن مصالح البرجوازية الكبيرة.
اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة في ليون في فرنسا، في 15 آذار 2023. تصوير جيف باشود. أ ف ب.
قبل أيام نشر أستاذ العلوم السياسية الفرنسي، فابيان اسكالونا، كتابه الجديد «جمهورية تلفظ أنفاسها»، مشيرًا إلى أن الجمهورية الخامسة فقدت تماسكها بفقدان مظهرها الاجتماعي ولم تعد قادرة على الاستجابة لأزمات العصر، لاسيما المناخية والاجتماعية. حيث يعتقد أنه لم يعد للرئيس ماكرون من حل سوى أن يحاكي «البادرة الديغولية»، أي أن يجري استفتاء على دستور جديد كما فعل الجنرال ديغول عام 1958، إذ لم تعد لديه الوسائل الناجعة لإدارة الأزمة والبلاد. فقد تغيرت فرنسا على نحو جذري منذ 1958 وزادت مطالب وإمكانيات المشاركة الشعبية في صنع القرار العام. في المقابل لا يستطيع إيمانويل ماكرون تجديد الجمهورية الخامسة من الداخل، لأن تماسك هذا النظام قد ضاع، واستعادته ستكون خارجة عن احتياجات العصر. بالنسبة لإسكالونا، فإن هذه الجمهورية تلفظ أنفاسها لأنها تدافع، في أحسن الأحوال، عن مصالح الأقلية، ولأن مشروع الرئيس غير قادر على مراعاة مطالب غالبية السكان. في كتابه، يتصور مخرجًا من أزمة النظام هذه من خلال إعادة تحديد أهداف الدولة حول جمهورية اشتراكية بيئية.
لكن طموح قطاع واسع من الفرنسيين بالجمهورية السادسة، القائمة على أسس اجتماعية وبيئة، لاسيما النخب اليسارية والنقابية، لا يمكن أن يخفي الخشية من زحف اليمين المتطرف، الذي أصبح يجد في الطبقات الوسطى والعاملة خزانًا انتخابيًا قويًا خلال السنوات الأخيرة. لذا فإن المشاعر المعادية لماكرون بشكل عام، والعداء تجاه قانون المعاشات التقاعدية بشكل خاص، قد يفيدان اليمين المتطرف، على المدى الطويل. فقد كشف استطلاع حديث عن أن مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، تظهر وكأنها الخصم الرئيسي لمشروع المضاد ماكرون متقدمةً على جان لوك ميلينشون زعيم أقصى اليسار، لا سيما داخل الطبقات العاملة، رغم أن حزبها، التجمع الوطني، لم يطرح أبدًا مقترح العودة إلى التقاعد في سن الستين كما فعل اليسار.
هذه المؤشرات تؤكد أن اليمين المتطرف يمكن أن يكون القوة السياسية التي ستستفيد أكثر من غيرها من رفض الإصلاح. لكن التعبئة الشعبية التي خلقت بلا شك وضعًا جديدًا وإمكانية حدوث تشعب، بمعنى ديناميكية القطيعة مع النظام القائم، فتحت الآفاق التي ربما بدت مغلقةً قبل بضعة أشهر لفرض واقع سياسي جديد، لا يكون فيه الفرنسيون مخيرين بين اليمين النيوليبرالي واليمين المتطرف.