شهدت الساحة الفلسطينية خلال السنوات الماضية تصاعد الحديث عن برامج وخدمات الحماية الاجتماعية للفلسطينيين في خطاب السلطة والمجتمع المدني، بالذات في مرحلة ما بعد الانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة. ستحاول هذه الورقة تتبع التطور التاريخي لسياسات الحماية الاجتماعية، كمقدمة للحديث عن شكلين من أشكال الحماية الاجتماعية في الأراضي المحتلة عام 1967. حيث تجادل الورقة بأن تصاعد الفعل المقاوم للاحتلال في الفترة الممتدة من حرب 67 حتى قدوم السلطة هو شكل من أشكال نظم الحماية الاجتماعية التي قامت على عدة أسس، أهمها الوعي السياسي الذي أفرز ذات/ هوية فلسطينية فاعلة في مساعدة وحماية نفسها، وطبيعة العلاقات الاجتماعية التي لم يكن قد اخترقها السوق الرأسمالي بعد، وبروز منظمات مجتمع مدني تتبنى نموذجًا ثوريًا راديكاليًا في حماية المجتمع. في حين ترى أنه كان هناك تآكلٌ ممنهجٌ في أساسات وبُنى الحماية الاجتماعية، ظهرت ملامحه وتسارعت بعد دخول منظمة التحرير الفلسطينية في خيار التسوية السياسية ومشروع بناء الدولة.
بالمجمل، ما زال معظم الفلسطينيين يعيشون خارج منظومة الحماية الاجتماعية، فمثلًا ما زال «حوالي 50% من الشعب الفلسطيني لا يحظى بأي نوعٍ من أنواع الضمان الاجتماعي»،[1] فضلًا عن ارتفاع نسب الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي. كما أنه من المؤكد بأن منظومة الحماية الاجتماعية/ المجتمعية قبل قدوم السلطة لم تكن هي أيضًا كافية لتلبية الاحتياجات المادية والمعيشية للشعب الفلسطيني. ولكننا لن نتطرق للمقارنة بين كلا نظامي الحماية الاجتماعية من منظور إحصائي أو كمي لإنجازات أو إخفاقات. بل سنقدم مقاربة نظرية للأسس الفكرية التي يقوم عليها كل منهما، وبالتالي جدوى كل منهما في السياق الاستعماري الذي ما زالت ترزح تحته الأراضي المحتلة. كما سنخصّ بالحديث الضفة الغربية وقطاع غزة.
تاريخ مختصر لسياسات الحماية الاجتماعية
أدى قيام الثورة الصناعية وترسُخ دعائم النظام الرأسمالي إلى «تحولات عظيمة»[2] في البُنى والعلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات الصناعية، حيث قادت هذه التحولات لظهور مجموعة من التداعيات والمشاكل الاجتماعية نتيجةً لطغيان علاقات السوق على العلاقات الاجتماعية، ولكن الأهم من ذلك نتيجةً لاحتكار النخبة السياسية والاقتصادية لأرباح الثورة الصناعية (فائض القيمة) وبالتالي اتساع الفجوة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية وانتشار الفقر وغيرها من التداعيات الاجتماعية. على إثر ذلك، بدأت الدول الصناعية بسن قوانين وتشريعات تشبه ما نطلق عليه اليوم نظام الضمان الاجتماعي، فكانت ألمانيا (بروسيا في حينه) أول من أقدم على سن مثل هذه التشريعات في ثمانينيات القرن التاسع عشر، تبعتها في ذلك سريعًا باقي الدول الصناعية وزادت عليها. فاتسعت قائمة الفئات المستفيدة وتطورت نظم الضمان الاجتماعي وسياسات الحماية الاجتماعية عمومًا، لا سيما في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وصار لزامًا على الدولة التدخل لضمان حصول مواطنيها على حد أدنى من الكثير من الخدمات الاجتماعية، بما يضمن لهم حدًا أدنى من أساسيات الحياة الكريمة مثل السكن، والتعليم، والرعاية الصحية، ودعم السلع الأساسية، وحد أدنى من الأجور، ونظام ضمان اجتماعي، ونظام مساعدات اجتماعية، وخلق فرص عمل، ونظام تقاعد عادل، وكذلك توفير خدمات أساسية وإضافية للعديد من الفئات، مثل الأطفال، وكبار السن وذوي الإعاقة. وعليه فقد اتصف القرن الماضي بظهور واتساع ما يعرف بدولة الرفاه «الاجتماعي» (Welfare State).[3]
في الفكر الاقتصادي الليبرالي غالبًا ما يتم تقديم ظهور أنظمة الضمان الاجتماعي في نهايات القرن التاسع عشر بوصفها أداة/ سياسة استحدثتها الدولة المركزية لتخفيف وطأة التداعيات والتحولات الاجتماعية (أو اللاعدالة الاجتماعية) التي أفرزها قيام الثورة الصناعية وتَرسُّخ دعائم النظام الرأسمالي في الدول الصناعية. بينما يتم تأطير تدخل الدولة في استحداث نظم الضمان الاجتماعي وباقي السياسات الاجتماعية عمومًا في الفكر الماركسي[4] بوصفها سياسة استحدثتها الدولة «للمساهمة في صيانة النظام الرأسمالي وإدارة اللاعدالة الاجتماعية أكثر مما هي سياسة للمساهمة في تلبية احتياجات الأفراد».[5] بكلمات أخرى، تم استحداث نظم الرعاية الاجتماعية لحماية النظام الرأسمالي من تناقضاته الداخلية، فقد «أدى مفهوم دولة الرفاه -كاستجابة إنسانية للحاجات [الاجتماعية]- دورًا أيديولوجيًا لا يقدر بثمن في ضبط الطبقة العاملة والسيطرة عليها، حيث إنه وباسم «الرفاه» يمكن تحقيق الكثير، الكثير الذي قد يكون تحقيقه مستحيلًا باستخدام أساليب عنف أكثر مباشرة».[6] وعليه، لم يكن دور دولة الرفاه خلال عملية إقرار قوانين النماذج الأولى من برامج الضمان الاجتماعي عبارة عن إدارة الصراع بين العمّال وأصحاب العمل، بل كان عبارة عن عملية وساطة بين جماعات الضغط المختلفة داخل الطبقة الرأسمالية ذاتها،[7] بشكل يسمح بحماية مصالح الطبقة الرأسمالية المهيمنة ويقلل فرص حدوث ثورات أو اضطرابات اجتماعية تعطل الدورة الاقتصادية.[8]
لم يكن دور دولة الرفاه خلال عملية إقرار قوانين النماذج الأولى من برامج الضمان الاجتماعي عبارة عن إدارة الصراع بين العمال وأصحاب العمل، بل كان عبارة عن عملية وساطة بين جماعات الضغط المختلفة داخل الطبقة الرأسمالية ذاتها.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانقسام النظام العالمي على جبهتي الحرب الباردة، تعدى الدور الوظيفي لبرامج الحماية الاجتماعية وسياسات دولة الرفاه مسألة حماية المجتمعات الرأسمالية من تناقضاتها الداخلية، ليكون جزءًا من ترسانة الحرب الباردة وحماية دول المعسكر الغربي من التوسع الشيوعي. حيث يرى كلاوس كنور أنه لمن المعقول جدًا القول «إن دولة الرفاه الديمقراطية هي أكثر وسيلة بَنّاءة للدفاع عن العالم الحر في مواجهة التوسع الشيوعي، ذلك أنها تقدم للعديد من المجتمعات -سواء كانت عن حق أو خطأ غير راضية عن اقتصاد السوق الحر الذي لديها- بديلًا عن عوامل الجذب للشيوعية».[9] إلا أن دور سياسات الحماية الاجتماعية في حقبة ما بعد الحرب كأداة لمحاربة الشيوعية والحد من انتشارها (Counter-Communist Role) لم يقتصر على دول المعسكر الغربي، بل تم تعميم هذا النموذج «الاجتماعي» على المستعمرات الغربية في آسيا وأفريقيا لخدمة ذات الأهداف السياسية، وكذلك في المستعمرات المستقلة حديثًا حول العالم لضمان بقائها في فلك المعسكر الغربي. وهنا لا بد من الإشارة أن مؤسسات المتروبول الاستعماري (مثل منظمة العمل الدولية، ومنظمة الأغذية والزراعة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، إلخ) لعبت دورًا أساسيًا في تصميم وتنفيذ وفرض سياسات وبرامج الحماية الاجتماعية على دول الجنوب، بما يحقق هذه الغايات.[10]
من الجدير بالذكر أن برامج الحماية الاجتماعية وسياسات دولة الرفاه منذ أواخر الثلاثينيات وحتى بداية السبعينيات كانت قائمة على مبادئ المدرسة الكينزية في الاقتصاد، والتي دعت إلى تدخل الدولة المحدود في إدارة السوق عبر زيادة الإنفاق الحكومي من أجل استمرار عجلة الاقتصاد الرأسمالي وتجنب حدوث الركود والأزمات الاقتصادية الكبرى كما حدث في الكساد الكبير. ولكن عجز الكينزية عن تفسير الأزمة الاقتصادية التي سببتها صدمة النفط في العام 1973، والفشل في التعامل مع تداعياتها، أدى لظهور المدرسة الاقتصادية التي باتت تعرف بالنيوليبرالية. على عكس الكينزية، رفعت النيوليبرالية شعار أن دولة الرفاه هي «مصدر كل الشرور»، وعليه لا بد من الحد من تدخلها في السوق. فدعت أول ما دعت إلى تحرير الأسواق من هيمنة الدولة وقوانينها وإلى التقشف الحكومي في الإنفاق على دعم السلع الأساسية وخصخصة الخدمات العامة والاجتماعية التي تقدمها الدولة لمواطنيها.[11] قامت النيوليبرالية على عقيدة مفادها أن «دولة الرفاه» هي كيان فاسد وغير كفؤ إذا ما قورنت بفعالية وكفاءة وعدالة السوق الحرة في إدارة الشأن الاقتصادي والاجتماعي.[12] لذا، يمكن القول إن دولة الرفاه وسياسات الحماية الاجتماعية شهدت انعطافة حادة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي بعد فوز الأحزاب المحافظة التي اعتنقت النيوليبرالية في كل من بريطانيا 1979 (ثاتشر) وأميركا 1980 (ريغان). وهي انعطافة سرعان ما امتدت إلى باقي الدول الصناعية التي اعتنقت النيوليبرالية بدرجات متفاوتة، وإلى دول الجنوب العالمي عبر ما سُميّ بـ«برامج التكييف الهيكلي» التي صممتها ونفذتها المؤسسات المالية الدولية، وبشكل أساسي البنك الدولي.[13]
لاحقًا وبعد انتهاء خطر التمدد الشيوعي، دخلت سياسات الحماية الاجتماعية منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي مرحلة جديدة تم فيها تقديم برامج الحماية الاجتماعية كحق من حقوق الإنسان ووسيلة لتحقيق التنمية المستدامة. لكن هذه الانعطافة لم تتجاوز البلاغة اللفظية لليمين الذي استفاد ببراعة من قاموس اليسار دون أي تغيير يذكر في عقيدته النيوليبرالية ونظرته للحماية الاجتماعية.[14] فما زالت برامج الحماية الاجتماعية على أرض الواقع تعبّر في أغلب الأحيان عن توجهات استثمارية لتحقيق التنمية عبر النمو الاقتصادي وميكانزمات السوق الحر، بدلًا من توفير الحماية الاجتماعية بشكل مباشر وعبر الدولة لمحتاجيها[15] الذين يزداد عددهم بتناسب طردي مع النمو الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، تشير منظمة العمل الدولية في آخر نسخة من تقريرها العالمي حول الحماية الاجتماعية إلى أن «47% فقط من سكان العالم مشمولون حاليًا بواحدة على الأقل من إعانات الحماية الاجتماعية، بينما لا يحصل 4.1 مليار شخص (53% من سكان العالم) على أي أمنٍ للدخل على الإطلاق من نظامهم الوطني للحماية الاجتماعية».[16]
بُنى الحماية الاجتماعية في الأراضي المحتلة عام 1967 قبل قدوم السلطة
كانت هزيمة العام 1967 نقطة تحول في تشكل هوية الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فظهر الفلسطينيون كذوات فاعلة في مواجهة الاحتلال. تأسس في ظل هذا الوعي السياسي مشروع مقاومة شعبية[17] متصاعدة، أفرزت العديد من التحولات الجذرية على صعيد التنظيم والوعي السياسي، وعلى صعيد القيم والمفاهيم والعلاقات الاجتماعية، وأنماط الإنتاج والاستهلاك، وكذلك أفرزت بعض التحولات في تركيبة الطبقات الاقتصادية والاجتماعية وأدوارها. ومن أجل فهم أشكال الحماية الاجتماعية التي شهدتها تلك الفترة، يتعين علينا التوقف عند نوعين من البنى التي قدمت هذه الحماية؛ البنى الاجتماعية التقليدية، ومؤسسات المجتمع المدني حديثة التشكل.
الحماية المجتمعية/ الشعبية
تاريخيًا، شكّلت العلاقات الاجتماعية القائمة على أسس القرابة والصداقة والجيرة والزمالة والواجب الديني، والقائمة كذلك على قيم التعاون والتشارك والتبادل، المصدرَ الأول للحماية الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني، كما هو الحال في المجتمعات ما قبل الصناعية التي ظلّ فيها «السوق خاضعًا للمجتمع» وليس العكس، وبالتالي لم تطغَ فيها العلاقات الاقتصادية على العلاقات الاجتماعية. [18] بالذات في الوقت الذي شكل فيه سكان الريف أكثر من ثلثي مجموع السكان، وشكلت الحَمولة (العائلة الممتدة) جوهر ومركز التنظيم والعلاقات الاجتماعية في الأراضي المحتلة.[19]
وقد أعطى احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة هذا الشكل من الحماية الاجتماعية بعدًا جديدًا، فتكثفت أسس وقيم التضامن والحماية لتحصين المجتمع أمام سياسات الطمس والتطهير العرقي الممنهج التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي على الصعيدين المادي والمعنوي. لذا يرى هلال والمالكي أن الواقع السياسي والاقتصادي [والعسكري] الذي فُرض على المجتمع الفلسطيني في مرحلة ما بعد احتلال الضفة وغزة، حفز وعزز العوامل اللازمة لاستمرار إنتاج وإعادة إنتاج المجتمع. وهو ما قاد بدوره إلى التكيف مع الظروف القاسية المفروضة عليه، عبر استحداث تغييرات جوهرية في شبكات العلاقات الداخلية والاجتماعية والإنتاجية. فالظروف القاسية فرضت تحييد جزء كبير من التناقضات وزيادة أسس التضامن على مستوى الحمولة أو القرية، وإعادة توزيع العمل والأدوار حسب العمر والجنس. وعليه، فإن ديناميكية العلاقات الاجتماعية والقرابية، والمفاهيم والنُظم التي يتم من خلالها توزيع العمل داخل المجتمع، ونمط الحياة اليومية، وأنماط الاستهلاك، كلها كانت خاضعة لمقتضيات إعادة إنتاج المجتمع واستمراره بيولوجيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.[20]
الحماية عبر مؤسسات المجتمع المدني
هناك الكثير من الإشكاليات والسجالات النظرية حول مصطلح «المجتمع المدني» من حيث تعريفه، ومكوناته، ودوره وحدود علاقته مع المجتمع والدولة والسوق. ولكننا لا نحتاج لحسم هذا السجال النظري -أو حتى الدخول فيه- للقول إن المجتمع المدني الفلسطيني تشكل في ظروف غير عادية. ليس فقط بسبب غياب الدولة الوطنية، بل وأيضًا بسبب ظهوره وتشكله وتطوره في ظل دول الاستعمار (بريطانيا والاحتلال الإسرائيلي) ودول الوصاية (الأردن ومصر) التي منعت ولاحقت وعاقبت واستخدمت مؤسسات المجتمع المدني تبعًا لسياساتها واستراتيجياتها في قمع المجتمع وفرض السيطرة عليه. في ظل هذه السيرورة التاريخية، لم تلعب مؤسسات المجتمع المدني في الأراضي المحتلة دورها التقليدي في إدارة الفضاءات والصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الدولة والمجتمع في سبيل حماية المواطن من هيمنة جهاز الدولة، بل سعت بشكل متزايد -في الفترة الممتدة بين احتلال الضفة والقطاع وقدوم السلطة- لتكوّن بنية مؤسساتية تهدف لفك ارتباط المجتمع عن البنية الاستعمارية وتعزيز قدرته على الصمود في مواجهتها من خلال تقديم العديد من الخدمات في المجال الصحي والزراعي والتعليمي والاقتصادي.[21]
امتازت مؤسسات المجتمع المدني في هذه الفترة عما سبقها من مؤسسات إبان حقبتيْ الاستعمار البريطاني والوصاية العربية في عدة جوانب. أولًا، الخلفية الطبقية والسياسية للقائمين عليها، فلم تعد إدارة هذه المؤسسات حكرًا على النخبة الفلسطينية التاريخية التي لم تأخذ موقفًا حاسمًا من حكومات الاستعمار والوصاية العربية.[22] ثانيًا، استهداف وتعبئة فئات اجتماعية جديدة مثل الطلاب، والنساء، والتجار والحرفيين، والمهنيين (المحامين، الأطباء والطواقم الطبية). ثالثًا، وهي الميزة الأهم، تركيز مؤسسات المجتمع المدني في هذه الفترة على تقديم كافة أنواع الخدمات العملانية والتوعوية كفعل ونشاط سياسي، بدلًا من كونه فعلًا إغاثيًا وخيريًا لسد عوز الفقراء والمحتاجين وتسكين آلام «البائس المريض» ومساعدة «المكفوفين والمتخلفين عقليًا»، كما يظهر من أسماء الجمعيات الخيرية التي تأسست في حقبة ما قبل عام 1967.[23] بكلمات أخرى تميزت مؤسسات المجتمع المدني بابتكار استراتيجية ذات بُعد عملي يقوم على توفير الاحتياجات اليومية للمواطنين من خارج البنية الاستعمارية، وكذلك بُعد سياسي قائم على رؤية سياسية ترى في الانفصال عن البنية الاستعمارية ضرورة حتمية من أجل مواجهتها وتفكيكها.[24]
قبل تأسيس السلطة الفلسطينية سعت مؤسسات المجتمع المدني لتكوّن بنية مؤسساتية تهدف لفك ارتباط المجتمع عن البنية الاستعمارية وتعزيز قدرته على الصمود في مواجهتها من خلال تقديم العديد من الخدمات في المجال الصحي والزراعي والتعليمي والاقتصادي.
استمرت هذه الرؤية الجديدة لمؤسسات المجتمع بالتطور على امتداد سبعينيات القرن الماضي، حتى وصلت ذروتها في انتفاضة العام 1987. وقد ضمت طيفًا واسعًا من اللجان والمؤسسات التطوعية القائمة على توجهات سياسية تعكس وجهات نظر واستراتيجيات الأحزاب السياسية الفاعلة في الساحة الفلسطينية مثل الاتحادات التجارية، والاتحادات النسائية، والاتحادات الطلابية، والنقابات المهنية والفلاحية، والاتحادات الطبية، والاتحادات الزراعية، والتعاونيات الإنتاجية، واللجان الشعبية، ولجان العمل التطوعي، والمراكز البحثية والفنية والثقافية، بالإضافة للمؤسسات الحقوقية ومؤسسات رعاية شؤون الأسرى والمعتقلين.[25]
خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات -وفي سنوات الانتفاضة بالذات- قدمت هذه المؤسسات واللجان العديد من الخدمات التي تقع ضمن حقل الحماية الاجتماعية، معتمدة على القاعدة الجماهيرية العريضة والمسيسة والتواقة لممارسة الفعل السياسي، بعد أن أدركت أو راكمت وعيًا سياسيًا مفاده أن «عليها صياغة تصورها عن مستقبلها بنفسها»[26] بدل انتظار الأنظمة العربية ومنظمة التحرير، بالذات بعد حرب عام 73 وانسحاب المقاومة من لبنان عام 82. في الشأن الصحي مثلًا، ومنذ الأسابيع الأولى للانتفاضة، كان علاج المصابين والمسائل الطبية عمومًا هي أكثر المسائل اليومية إلحاحًا. وعليه أطلق اتحاد لجان الإغاثة الطبية نداءً عاجلًا للطواقم الطبية من أجل التطوع لسد العجز في النظام الصحي الفلسطيني، نتيجة الارتفاع غير المسبوق في عدد الإصابات التي سببها قمع الاحتلال للمنتفضين. تطوع حوالي 800 كادر طبي نصفهم من الأطباء لسد هذا العجز، وشكلوا العديد من الفرق الطبية المتنقلة التي قامت بمعالجة أكثر من 28 ألفًا خلال أول خمسة أشهر من عمر الانتفاضة.[27] لكن دور المؤسسات الصحية لم يقتصر على خدمات العلاج الطبي والإسعاف الأولي، فكان لها دور وأثر واضح في العديد الجوانب، مثل الصحة الإنجابية، والتوعية الصحية الوقائية، وخدمات تأهيل المصابين وخدمات الإرشاد نفسي.[28]
أمّا في قطاع التعليم، فقد شهد عقد السبعينيات تأسيس العديد من الجامعات الفلسطينية كجمعيات خيرية غير هادفة للربح (مثل بيرزيت، والنجاح، والخليل، وبيت لحم) والتي تلقت دعمًا ماديًا من قبل العديد من الجهات الفلسطينية والعربية والدولية، واستمرت في تقديم خدماتها التعليمية مجانًا حتى العام الدراسي 1990/1991، حيث بدأت الجامعات بتحديد أقساط رمزية (بعد أزمة الخليج وتراجع دعم منظمة التحرير) لم تتجاوز نسبتها 10% من التكلفة الكلية للطالب.[29] كما شكلت الجامعات (والمدارس) خلال هذه الفترة بيئة حاضنة نمت وسطها حركة طلابية مسيسة، شكل خريجوها عماد الحركة الوطنية والنقابية والمؤسساتية إبان الانتفاضة، وشكل طلابها شرارة ونواة الانتفاضة على امتداد سنواتها، فسقط في السنة الأولى وحدها 166 شهيدًا وشهيدة من الطلاب، فيما قارب عدد الشهداء من الطلاب والطالبات نصف شهداء وشهيدات الانتفاضة بشكل عام.[30] لذا، مارس الاحتلال منذ أوائل الثمانينيات سياسة ممنهجة لإغلاق الجامعات بقرارات عسكرية لفترات طويلة، على أمل الحد من حالة الاشتباك المتصاعدة التي شكل الطلاب والطالبات جزءًا مهمًا فيها.
على الصعيد الزراعي، تم أيضًا إنشاء العديد من الاتحادات الزراعية التابعة للأحزاب السياسية. رغم حدة التنافس والمناكفات السياسية فيما بينها، إلا أنها عملت جميعًا نحو استراتيجية واحدة تهدف لمقاطعة منتجات الاحتلال وإنهاء الاعتماد عليه، من خلال تعزيز روح ومقومات الاعتماد على الذات. فقامت بإنشاء مئات اللجان الزراعية الفرعية وعشرات التعاونيات المختصة بالإنتاج الحيواني في القرى وقدمت لها العديد من الخدمات، مثل خدمات تدريب وإرشاد، وخدمات استصلاح زراعي، ومعدات زراعية وأشتال وأعلاف، إلخ. في المحصلة شهدت سنوات الانتفاضة ارتفاعًا ملحوظًا في العديد من مؤشرات الإنتاج الزراعي والحيواني، مثل زيادة عدد العاملين في الزراعة وبالتالي زيادة مساحة الأراضي المزروعة، وزيادة إنتاج الغذاء النباتي والحيواني من خضروات وحبوب وحمضيات، وزيادة في إنتاج الحليب والبيض والدواجن وتربية المواشي.[31]
لا بد من التنويه هنا إلى أنه ورغم أهمية الزيادة الكمية في الإنتاج، إلا أن أهمية هذا النمط من الحماية الاجتماعية (أو المجتمعية) هي مسألة تتخطى مقدار ونسبة الزيادة الكمية إلى مسألة كيف تم إنتاج هذه الزيادة وتحت أي ظروف. نبعت أهمية هذا النمط من قدرته على خلق حراك اجتماعي كانت له القدرة على إحداث تحولات جذرية على الهوية والذاتية الفلسطينية، وكذلك تحولات جذرية داخل المجتمع عمومًا.
على مستوى المجتمع، يمكن القول إن الطبقات الشعبية داخل الأراضي المحتلة -ومعها الطبقة الوسطى- سحبت البساط من تحت أقدام البرجوازية وملاك الأراضي واستردت مكانها كمركز الحدث والفعل الفلسطيني مرة ثانية بعد نصف قرن على ثورتها المغدورة في عام 1936، فارتأت أو حلمت بتحرير البلاد عبر تأمين قوت يومها من خلال زراعة الخضار والبقوليات وتربية الأرانب والدواجن في حدائقها المنزلية. كذلك يمكن القول إن تحولًا جذريًا حصل على منظومة ومفاهيم تقسيم العمل والأدوار النضالية والقيادية للأفراد داخل المجتمع، فظهرت المرأة الفلسطينية في الحيز العام خلال السبعينيات والثمانينيات كما لم تظهر من قبل، كذلك ظهرت الفئة الشابة كمركز الحدث من خلال دورها الواضح في قيادته. الأهم من ذلك أن هذه التحولات الاجتماعية الجذرية على التركيبة الطبقية والجندرية داخل المجتمع لم تكن لتحصل لولا التحولات على الذاتية الفلسطينية التي سئمت الانتظار -بعد سلسلة من الهزائم التي منيت بها البرجوازية العربية في الخارج وتاريخ طويل من هزائم ومساومات البرجوازية الفلسطينية في الداخل والخارج- ورأت في نفسها الإرادة والقدرة الكافيتين لأخذ زمام المبادرة. فأخذتها على شكل فعل جماعي واسع امتاز بالكثير من الانسجام بين فئات المجتمع من جهة، والكثير من التناغم والترابط في توزيع الفعل بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي من جهة ثانية. فكانت النتيجة نموذجًا تحرريًا وتنمويًا ارتفعت في ظله كل مؤشرات الإنتاج، وتراجعت فيه مؤشرات الاستهلاك، لا سيما استهلاك البضائع والخدمات التي ينتجها الاحتلال، والأهم من ذلك أنه نموذج يعي أن حماية المجتمع لا يمكن أن تتم إلا بالانفصال عن البنية الاستعمارية والصدام معها.
إعادة هيكلة منظومة الحماية الاجتماعية في ظل سلطة الحكم الذاتي
انخرطت منظمة التحرير الفلسطينية منذ العام 1991 في العديد من جولات المفاوضات -السرية والعلنية- التي أفضت لتوقيع العديد من الاتفاقيات السياسية والاقتصادية والأمنية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، كان أهمها اتفاقية أوسلو في 13 أيلول 1993.[32] وقد دشن توقيع هذه الاتفاقية لمرحلة جديدة في إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على مستوى الخطاب والممارسة. كان أبرز سمات هذه المرحلة إنشاء سلطة حكم ذاتي على الأراضي المحتلة عام 1967، مع التأكيد أنها سلطة لم تتمتع بأي سيادة سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وانحصر دورها -إلى حد بعيد- بتقديم بعض الخدمات الإدارية والبلدية والشُرَطِية لمعظم الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، باستثناء الفلسطينيين في الجزء الشرقي من القدس المحتلة. حسب الاتفاقيات الموقعة، كان العمر الافتراضي لهذه السلطة هو خمس سنوات، تقود خلالها -بإشراف المجتمع الدولي- عملية مفاوضات مع دولة الاحتلال. حيث كان من المفترض أن تفضي هذه المفاوضات إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 بعد التوصل لحل سلمي للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بالذات فيما يتعلق بقضايا الحل النهائي (ترسيم الحدود، والقدس، واللاجئين، وتقسيم الموارد الطبيعية).
يكمن التحول الجوهري الذي نتج عن الاتفاقيات في اعتراف منظمة التحرير -بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني- بشرعية الاحتلال، وبالتالي تخلي المنظمة عن الاستراتيجية أو الطريق المؤدي إلى التحرير والدولة الفلسطينية المستقلة من استراتيجية مقاومة الاحتلال بكافة السُبُل والوسائل الممكنة، والاستعاضة عنها باستراتيجية قائمة على التفاوض والسلام بين «الدولتين» الجارتين، والتعاون فيما بينهما في الكثير من المسائل، أهمها التعاون في الشأن السياسي لتحقيق السلام (اتفاقية أوسلو)، والتعاون في الشأن الاقتصادي لتحقيق النمو والازدهار (كما في اتفاقية باريس)، والتعاون في الشأن الأمني لمكافحة الإرهاب، والمحافظة على السلم والاستقرار (كما في مذكرة التفاهم الموقعة في واي ريفر «بلانتيشن»).
تميزت مؤسسات المجتمع المدني بابتكار استراتيجية ذات بُعد عملي يقوم على توفير الاحتياجات اليومية للمواطنين من خارج البنية الاستعمارية وكذلك بُعد سياسي قائم على رؤية سياسية ترى في الانفصال عن البنية الاستعمارية ضرورة حتمية من أجل مواجهتها وتفكيكها.
في أيلول من العام الماضي يكون قد مر 28 عامًا على إنشاء سلطة الحكم الذاتي، جرت خلالها مياه كثيرة في وديان السياسة الفلسطينية، ولكن الدولة المستقلة لم تقم ولم يقترب قيامها، بل على العكس، نحن اليوم أبعد ما يكون عن قيام دولة فلسطينية فوق الأراضي المحتلة عام 1967. خلال هذه العقود الثلاثة، أُتخم حقل الدراسات الفلسطينية بعدد هائل من الدراسات والأبحاث والمقالات الاكاديمية والأوراق السياساتية، لوصف وتحليل عبثية ولا منطقية -بل وسذاجة- خطاب واستراتيجية سلطة الحكم الذاتي للتحرر وقيام الدولة، ولوصف وتحليل النتائج الكارثية لهذه الاستراتيجية على حركة التحرر الوطني ومشروع التحرر برمته، وكذلك آثار هذه الاستراتيجية على الشعب الفلسطيني في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فبينما تميز الحراك الاجتماعي السياسي في الأراضي المحتلة خلال السبعينيات والثمانينيات بالرفض الراديكالي للاحتلال، وابتداع الوسائل لحماية المجتمع منه ومساعدته على الصمود، بالاستفادة من البنى الاجتماعية ما قبل الرأسمالية ومن مؤسسات المجتمع المدني، من أجل توفير احتياجات المجتمع خارج البنية الاستعمارية والسوق بمعناه الرأسمالي، كان برنامج منظمة التحرير لتحرير الأراضي المحتلة وبناء الدولة في المقابل هو الدخول في مفاوضات سلام مع الاحتلال الإسرائيلي هو النقيض الكلي لاستراتيجية المواجهة التي سادت المجتمع الفلسطيني على امتداد العقود الثلاثة التي سبقت عملية السلام.
في ظل هذا الواقع الجديد، فإن الإجابة على سؤال «لماذا تآكلت بُنى الحماية الاجتماعية؟» تبدو بديهية، فقد تم إيجاد هذه البُنى كجزء من استراتيجية مقاومة الاحتلال، لكن الاحتلال -بين ليلة وضحاها- أصبح «دولة جارة». ليجري التعامل مع أي عمل عدائي تجاه «الدولة الجارة» أو تجاه أحد «مواطنيها» كعمل إرهابي لا بد من إيقافه ومعاقبة مرتكبيه بتهمة الإرهاب، أو بصفته إساءة لحسن الجوار، وتخريبًا متعمدًا لعملية السلام التي ستقود حتمًا لبناء الدولة. بكلمات أخرى، أصبح أي عمل مقاوم تجاه الاحتلال حجر عثرة في طريق مشروع التحرر وبناء الدولة المستقلة.
اليوم، وبعد ثلاثة عقود من تحليل وتفصيل أسباب ومكامن فشل جهود ودعم وتمويل المجتمع الدولي في إنجاز عملية السلام وإقامة الدولة الفلسطينية، عبر الغوص عميقًا في نظريات علم الاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية، يرى البعض أنه إذا تمت إعادة تفسير عملية السلام على أساس كونها استراتيجية تهدف لمكافحة التمرد فإن الجهود الدولية في الأراضي المحتلة لم تفشل، بل على العكس، نجحت إلى حد بعيد في مكافحة التمرد الفلسطيني على الاحتلال الإسرائيلي.[33] من نافلة القول إن تذويب بنى الحماية الاجتماعية بشكلها المؤسساتي وكذلك المنظومة القيمية والمفاهيمية التي نشأت على أساسها كان أحد الأهداف الرئيسية لمسار التسوية السلمية التي تمظهرت على شكل برنامج لمكافحة التمرد وحماية الاحتلال من الحالة الجماهيرية وممارساتها الرافضة والمقاوِمة.
يمكن القول إن مشروع مقاومة الاحتلال فرض عملية إعادة هندسة المجتمع بما يخدم أهدافه، ففي ظل الحراك الاجتماعي والسياسي والطبقي بعد عام 1967، ظهرت وتطورت بُنى الحماية الاجتماعية بمختلف أشكالها ومستوياتها. ولكن عمليات بناء السلام (Peacebuilding) التي رعاها المجتمع الدولي في تسعينيات القرن الماضي هي أيضًا توصف بأنها «شكلٌ معين من الهندسة الاجتماعية».[34] بالطبع دفعت عملية الهندسة الاجتماعية في حقبة السلام باتجاه هوية فلسطينية فردانية كنقيض للهوية الجماعية، وهو ما فرض تحولًا في منظومة القيم التي تحكم شكل وطبيعة العلاقات الاجتماعية. كما أفرزت أنماط استهلاك وإنتاج جديدة على المجتمع الفلسطيني، وكذلك حراكًا اجتماعيًا وطبقيًا أدى لتوسع الطبقة الوسطى وأعاد الطبقة الرأسمالية والنخبة السياسية إلى واجهة القرار الفلسطيني، وبالتالي توجيه دفة مشروع التحرر إلى الطريق التي تخدم مصالحهما.[35]
في ظل عملية إعادة الهندسة هذه تآكلت تدريجيًا بنى الحماية الاجتماعية التي أنتجها خيار المواجهة مع الاحتلال (سواء الحماية عبر العلاقات الاجتماعية أو عبر منظمات المجتمع المدني) من خلال عدة مسارات تقاطعت وتكاملت فيما بينها. وفي المقابل، تم الترويج لمنظومة حماية اجتماعية رسمية لم تتحقق، فتُركت الطبقات الشعبية لتواجه الاحتلال بدون مقومات حقيقية تساعدها على الصمود. في الجزء المتبقي من هذه الورقة سنتناول مسارات تآكل منظومة الحماية السابقة وكذلك الأسس التي قامت عليها منظومة الحماية الجديدة، من خلال الاستعانة بالأدبيات النقدية التي درست وحللت الأيديولوجيا النيوليبرالية وآثارها على المجتمع الفلسطيني.
السلام، بناء الدولة ومكافحة التمرد/ الحماية
بداية، لا بد من التذكير أنه وبالإضافة لكل التناقضات الموضوعية التي يحتويها خطاب بناء «الدولة» بسبب الواقع الاستعماري الذي يفرضه الاحتلال، هو أيضًا يتضمن تناقضًا مفاهيميًا من حيث المبدأ. فالمجتمع الدولي الذي نظّر ورعى ومول «بناء الدولة» الفلسطينية، هو نفسه الذي شرع منذ الثمانينيات في تفكيك البنية الهيكلية للدولة عبر ما سمي بـ«برامج التكيّف الهيكلي»، لصالح توسيع دور القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية، في سبيل تعزيز عمل ميكانزمات السوق بحرية وفعالية أعلى، بعيدًا عن بيروقراطية الدولة وفسادها. مهما يكن من أمر، استمر المجتمع الدولي ومؤسساته المالية في بناء سلطة/ دولة نيوليبرالية للفلسطينيين. في الواقع إن عملية بناء الدولة هي نتاج عملية تاريخية طويلة تزخر بالصراعات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي عملية قد تمتد لعقود أو حتى لقرون. في حالتنا الفلسطينية تبدو عملية بناء الدولة أقصر من ذلك بكثير، فقد تم تحديد مدة زمنية مقدارها خمس سنوات لإنجاز المهمة حسب اتفاقية أوسلو. بينما كان رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض أكثر جرأة، فحدد قيام الدولة خلال سنتين، كما ظهر من عنوان الخطة الاستراتيجية لحكومته لعامي 2010–2011: «إنهاء الاحتلال، بناء الدولة». هذا التبسيط الزمني لبناء الدولة ينطبق أيضًا على ديناميكيات بنائها وتَشَكُّلِها الخالية كليًا من أي صراع. وعليه لا بد من توفير الأمن العام وضمان حكم القانون من أجل تهيئة وتشجيع مزيد من الاستثمارات في القطاع الخاص، بما يحقق نموًا/ تنميةً اقتصادية ستخلق بدورها سلامًا اقتصاديًا سيقودنا حتمًا لبناء الدولة الموعودة. إن هذا التبسيط المفرط للخطاب السياسي الذي يسود الحالة الفلسطينية هو أحد أهم سمات الخطاب السياسي في ظل منظومة الهيمنة النيوليبرالية. حيث يتم غالبًا ابتذال السياسة بحصرها ضمن علم الإدارة وقاموسه اللغوي، بما يتضمنه من لغة تقنية لحل المشاكل (Problem-Solving)، وتنفيذ البرامج (Program Implementation)، واتخاذ القرارات (Decision-Making).[36]
في سنوات الانتفاضة سحبت الطبقات الشعبية والوسطى البساط من تحت أقدام البرجوازية وملاك الأراضي واستردت مكانها كمركز الحدث والفعل الفلسطيني مرة ثانية بعد نصف قرن على ثورتها المغدورة في عام 1936.
لا يمكن التأكيد بما فيه الكفاية على كون التحول من استراتيجية المقاومة والتحرير إلى استراتيجية السلام ومن مشروع التحرر إلى بناء الدولة تحولًا مفصليًا يشكل قطعًا مع كل ما سبقه. هو تحول مفصلي لدرجة تستدعي إعادة تعريف وإعادة تشكل الأنطولوجيا والإبستمولوجيا التي ارتكز عليها الحقل السياسي الفلسطيني سابقًا لإنتاج خطابه وسرديته، وارتكز عليها المجتمع الفلسطيني عمومًا في صياغة الممارسة والفعل اللذين مهما اتسما بطابع اجتماعي/ ثقافي فهما -أو على الأقل كانا- يتفرعان من جذر سياسي. ضمن هذا التحول المفصلي يمكن فهم وتأطير ابتذال الخطاب السياسي لرسم الطريق نحو قيام الدولة باستخدام الكثير من المصطلحات/ التراكيب التقنية الفضفاضة التي تعني كل شيء ولا شيء في الوقت ذاته؛ مثل حفظ الأمن، وحكم القانون، والنمو، والتنمية، والحوكمة الرشيدة، والمساءلة، والشفافية، والنزاهة، إلخ. لكن هذا الابتذال هو هدف بحد ذاته، فالخطاب السياسي لا تتم صياغة مصطلحاته وتراكيبه جزافًا واعتباطًا، بل تبعًا لمنطق التدخل المهيمن للاحتلال والمجتمع الدولي ومؤسساته، من أجل تشكيل وإعادة تشكيل «المفاهيم والممارسات [السياسية] بطريقة يُنظر فيها للعوامل [البنيوية المعيقة مثل المحددات التي تفرضها البنية الاستعمارية] على أساس كونها عوامل عادية أو مفروغًا منها».[37] فتصبح السياسة في الخطاب والممارسة تعبيرًا عن الصراع المستمر على تحديد أو إلحاق المعنى المناسب بالمفردات الطارئة على الخطاب السياسي، وهو صراع يستثني فيه الخطاب المهيمن كل البدائل الأخرى الممكنة، بالذات تلك التي تحمل معنىً معاكسًا.[38] فحلّت الدولة محل الوطن، وعملية السلام محل مشروع التحرر، والإرهاب محل المقاومة، و«الطرف الآخر» محل الاحتلال، إلخ.
وفي هذا السياق أيضًا حلت الحماية الاجتماعية محل مقومات الصمود والتضامن الشعبي، بالذات لأن الحماية الاجتماعية تنتمي للخطاب المهيمن الذي أعاد إنتاج المعنى لإعادة تشكيل المجتمع على مستوى الوعي والممارسة. ولكن إعادة إنتاج المجتمع لا تتم «بكبسة زر» ولا حسب أهواء النخبة السياسية وخطابها المسيطر، ولكن التغيير يفرض على المجتمعات بالحديد والنار، و«العلاج بالصدمة»، و«صهر الوعي»، بـ«العصا والجزرة» وشراء النفوس. مع كل ذلك، ما زالت مبادرات التضامن والصمود ذات البعد السياسي -سواء بجهود فردية أو جماعية- تنبت في كل يوم وفي كل زوايا الأرض المحتلة. ولكن الصمود علامة من علامات المقاومة، والمقاومة هي استراتيجية الحماية التي «عفا عليها الزمن»، بالذات لأن فيها زعزعة للاستقرار وتعكيرًا لصفو أجواء السلام. لذلك هي الشيء الوحيد الذي تستنفر في سبيله المنظومة الأمنية «للدولة» الموعودة، التي تداخلت عملية بنائها مع وسائل وأدوات السيطرة الاستعمارية فأنتجت نخبة فلسطينية تحكم شعبها بالقبضة الأمنية.[39] وهنا لا بد من التساؤل، هل من قبيل الصدفة أن حصة قطاع الأمن في الموازنة العامة هي أكبر من حصة ثلاث وزارات ضمن قطاع الحماية الاجتماعية (هي التعليم والصحة والزراعة)؟[40] وأن حصته في سنة واحدة تزيد عن موازنة وزارة التنمية الاجتماعية في ثلاث سنوات؟[41] هل كان مطلب إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية خلال سنوات الانتفاضة الثانية (بصفتها أكبر حملة تمرد فلسطيني جماعي على الاحتلال بعد قدوم السلطة) مجرد مصادفة؟ أم هو مطلب ملح بالذات لأن بنيتها في ذلك الحين أثبتت فشلًا واضحًا في وقف ومنع «العنف» تجاه الاحتلال؟ في النهاية ومن أجل ضمان عدم تكرار موجات تمرد/ مقاومة مشابهة تم إعادة هيكلة الأجهزة وتدريبها حسب عقيدة أمنية جديدة بمئات ملايين الدولارات (228 مليون دولار بين الأعوام 2008 و2010 فقط)،[42] في حين كان حوالي نصف الفلسطينيين غارقين في الفقر والبطالة. بكلمات أخرى، كان تفكيك البنى السابقة للصمود والتضامن المجتمعي والمنظومة القيمية المرتبطة بها خطوة ضرورية لمكافحة «التمرد» الفلسطيني، ومكمّلة للجهود الأمنية المباشرة. لكن ما الذي حل محل هذه المنظومة السابقة؟
الدولة/ السلطة النيوليبرالية: بناء الفرد وتذرير المجتمع
في أحد تصريحاتها حول السياسات الاقتصادية التي استحدثتها، تختصر مارغريت ثاتشر -كواحدة من أوائل السياسيين النيوليبيراليين في العالم- هدف ودور هذا النظام الاقتصادي في تشكيل الفرد/ الذات بقولها «الاقتصاد هو الوسيلة، ولكن الغاية هي تغيير الروح».[43] إذا ما كانت عملية السلام «نوعًا من الهندسة الاجتماعية»، فالشيء نفسه ينطبق أيضًا على الهيمنة النيوليبرالية كفكر وممارسة اقتصادية. فبالإضافة لدورها في إعادة هيكلة جهاز الدولة ودوره الوظيفي، يرى ديفيد هارفي أن الهيمنة النيوليبرالية «كان لها آثار طاغية على طرق التفكير لدرجة أصبحت معها مدمجة في الفطرة أو المنطق السليم (the common-sense way) الذي نفسر ونعيش ونفهم به العالم من حولنا».[44] كما يرى هارفي أنها «تضمنت الكثير من التدمير الخلاق (creative destruction)، ليس فقط للأطر المؤسسية التي سبقتها ولكن أيضًا لمنظومة تقسيم العمل، وشكل العلاقات الاجتماعية، وخدمات الرفاه الاجتماعي، وأنماط الحياة والتفكير، ونشاطات إعادة الإنتاج، والارتباط بالأرض»، وكذلك لتصورات الفرد عن نفسه وسلوكه المجتمعي، في سبيل إيجاد المعنى وتحقيق الذات (Habits of the Heart)[45] باتجاه ما بات يعرف في العلوم الاجتماعية بظاهرة الفردانية (Individualism). وخلق الذات الفردانية هي جوهر الفكر النيوليبرالي، فبالنسبة لثاتشر أيضًا «لا يوجد شيء اسمه المجتمع، فقط أفراد من النساء والرجال، وعائلاتهم» وبالتالي كان لا بد من تذويب كل أنماط التضامن المجتمعي لصالح الفردانية، الملكية الخاصة، المسؤولية الفردية.[46]
لكن هارفي في عمله الذي يؤرخ بشكل مختصر لتطور النظام النيوليبرالي وأثره على تشكيل السياسة والاقتصاد في زمن العولمة، لم يطلعنا على الديناميكيات التي عملت بها هذه المنظومة على إعادة صياغة هوية الفرد النيوليبرالي. وهو عمل كان ميشيل فوكو قد بدأه ثم طوره وبنى عليه الكثير ممن عملوا على شرح أعماله ونقدها.[47] على سبيل الاختصار، في هذا السياق الذي تم فيه تذويب أنماط التضامن المجتمعي، يمكن القول إن الفرد أو الذات النيوليبرالية المثالية -من وجهة نظر الدولة- هي الذات التي تسعى لعيش حياتها بمنطق اقتصادي بحت، «تستثمر في رأسمالها البشري كوسيلة لضمان المزيد من الاستهلاك الذي سيحقق سعادتها هي»،[48] دون أخذ المصلحة أو القضايا أو العلاقات المجتمعية بعين الاعتبار. فإذا كان الاقتصاد هو الوسيلة لتغيير الروح، فإن النتيجة هي حتمًا بروز روح أو «إنسان اقتصادي» (Homo Economicus) بذاتية جديدة تمتاز بنزعة أقل نحو الشراكة والتبادل، وتهتم أكثر بتطوير ذاتها الريادية.[49] النيوليبرالية وإن تعددت أوجهها -كما يفسرها فوكو- هي توسيع المنطق الاقتصادي لدرجة لا يَحكم فيها الحيز السياسي فقط، بل جميع التفاعلات والتعاملات الاجتماعية، من منطلق التنافس بين الأفراد، سواء بوعي أو بغير وعي منهم.[50]
التحولات الاجتماعية الجذرية على التركيبة الطبقية والجندرية داخل المجتمع لم تكن لتحصل لولا التحولات على الذاتية الفلسطينية التي سئمت الانتظار بعد سلسلة من الهزائم التي منيت بها البرجوازية العربية والفلسطينية، ورأت في نفسها الإرادة والقدرة الكافيتين لأخذ زمام المبادرة.
في فلسطين، كان هدف الاحتلال دائمًا تدمير أُسس قيام مجتمع فلسطيني، بما في ذلك تدمير البنية الاقتصادية (الإنتاجية منها بالذات) واحتواء الجزء البدائي (أو ما قبل الرأسمالي) المتبقي منها ضمن بنيته الاقتصادية. رغم كل التناقضات والنزاعات داخل المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة سواء على المستوى الجغرافي (مخيم – ريف – مدينة) أو على المستوى الطبقي (صغار الفلاحين – كبار الملاك) أو النزاعات القبلية والعشائرية التي ساهم الاحتلال في إذكائها، إلا أنه يمكن القول إن غياب اقتصاد رأسمالي أبقى على التوجهات والتطلعات الفردية والعلاقات الاجتماعية عمومًا خارج إطار السوق ومبدأ العقلانية الاقتصادية.
ولأن الاحتلال حاول دائمًا فرض هيمنته الاقتصادية، حاول الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة مقاطعة البنية الاقتصادية والانفصال عنها كفعل سياسي. وفي الوقت ذاته نظّرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في العديد من المناسبات حول نيتها بناء نواة اقتصاد فلسطيني مستقل وقطاع حكومي خالٍ من البيروقراطية ومفعم بالتصميم وروح الثورة، واعتبرت مؤسسة صامد -كونها تأسست تجسيدًا لهذه الشعارات- بداية تشكيل نواة الاقتصاد الفلسطيني المنتج والمستقل وكذلك نواة للقطاع العام الفلسطيني المفعم بروح الثورة،[51] لكن الواقع الذي أتت به سلطة الحكم الذاتي جسد النقيض الكلي لهذه الشعارات. لن نتطرق هنا لفساد القطاع الحكومي إلا بالقدر الذي يتصل ببرامج وخدمات الحماية الاجتماعية، لكننا سنستفيض أكثر في الحديث عن الاقتصاد الفلسطيني في ظل السلطة التي نشأت في الحقبة النيوليبرالية.
كانت أولى بوادر هذه السلطة النيوليبرالية اعتمادها مبادئ السوق الحر، لكن الطريقة أو الكثافة التي تم فيها تطبيق المبادئ النيوليبرالية على الاقتصاد الفلسطيني تطورت وتحولت مع الوقت[52] تبعًا لضغوطات المجتمع الدولي وأجندته السياسية في الساحة الفلسطينية. إذا يبدو أن الأحداث السياسية المتتابعة (انتفاضة الأقصى، وصول المعارضة الإسلامية لسدة الحكم، سيطرة خيار المقاومة على غزة) استدعت موجة ثانية من التحولات النيوليبرالية. مع العلم أن هذه التحولات نحو سياسات اقتصادية أكثر وضوحًا وعدوانية «لم تقتصر على إعادة هيكلة مؤسسات السلطة، بل عملت على إعادة تشكيل هوية جميع الفلسطينيين وغيرت بشكل جوهري الثقافة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في فلسطين»،[53] بالذات لأن «النظام النيوليبرالي الذي فرض علينا هو حاكمية، ونمط وذهنية جديدة يكون فيها الفرد مَحكومًا وفي ذات الوقت يَحكم نفسه» ليس عبر مبدأ التبادل، بل التنافس الاقتصادي. فمن أجل دخول الفرد حلبة المنافسة لا بد أن يتخلى عن مبدأ التبادلية الاقتصادية القائم على قبوله بيع قوة عمله كأجير أو عامل أو موظف مقابل مبلغ معين من المال، ويستدخل مبدأ التنافس القائم على قبوله بتصوّر ذاته وتقديمها على هيئة رأسمال بشري (Human Capital).[54] داخل هذه الحلبة التنافسية تصبح مسألة تحقيق الذات الاقتصادية أكثر تعقيدًا من مجرد بيع قوة العمل، فكل ميزة أو صفة أو مهارة ذاتية تمتلكها -بغض النظر عن صلتها أو عدم صلتها بطبيعة العمل- هي رأسمال «متاح»، وبالتالي يزيد من قدرتك على المنافسة على طيف أوسع من الوظائف. من نافلة القول إن مزيدًا من رأس المال -أي مراكمة عدد أكبر من الميزات والصفات والمهارات- يحقق مزيدًا من العوائد؛ راتب أعلى، مركز اجتماعي أعلى، إلخ، والعكس صحيح.
بالعودة إلى سياقنا الفلسطيني، يمكن ملاحظة أن مكونات رأس المال البشري اشتملت على طيف واسع جدًا -حتى وإن كانت غير محكية بصراحة- من الميزات والصفات والمهارات لا بد من ذكر بعضه: الجنس، والعمر، والخلفية الطبقية (مدى تحررك واعتناقك للأفكار الليبرالية)، والخلفية السياسية (موقفك من الاحتلال والسلطة)، ومعرفة اللغات (الإنجليزية بالذات)، والقدرة على كتابة التقارير ومقترحات التمويل (Proposals)، ومهارات التواصل والعمل ضمن الفريق، والقدرة على العمل تحت الضغط، والقدرة على السفر، والقدرة على العمل خارج ساعات العمل الرسمية، وعدم المحكومية، والمظهر الخارجي، إلخ. أكثر وأخطر ما يهمنا ضمن هذه الشبكة الواسعة من مكونات رأس المال البشري، هو تسليح الخلفية السياسية (وما يترتب عليها مثل المنع من السفر) ضد الفلسطيني الذي يبحث عن مكانٍ له -عن لقمة عيشه- داخل سوق العمل. ولكن سوق العمل الذي يطلب «سيرتك الذاتية» لا يهتم إلا بسيرتك الاجتماعية والسياسية، وهو يفرض على الأفراد -بوعي وبغير وعي منهم- تعديل مواقفهم وسلوكهم في الحيز الاجتماعي والسياسي.
في هذا السياق نفهم معنى شهادة «حسن السير والسلوك» و«الفحص الأمني» الذي تقوم به أجهزة الأمن قبل دخول الموظفين الجدد في سلك الوظيفة العمومية، وكذلك معنى مساومتهم وابتزازهم للموظفين العموميين الحاليين في لقمة عيشهم بناء على مواقفهم السياسية. ونفهم أيضًا نظام الفحص والتدقيق (Vetting) الذي اشتهرت به الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID وغيرها من المنظمات الدولية العاملة في فلسطين. فالمعنى واضح ولا لبس فيه، هي سياسات وممارسات تقول للفلسطيني: «إما حسن السير/ الخضوع وإما الجوع»، ولأن المجتمع الدولي هو المحرك والممول الأول لمسيرة بناء الذاتية الفلسطينية الجديدة ربما من الواجب ترجمة هذه الرسالة بلغته: Mind Your OWN Business Or Starve. وعليه، يصبح انخراط المرء في بنى ومؤسسات وتحركات تسعى لتوفير حماية اجتماعية للآخرين أمرًا يجلب الشبهة.
تذويب بنى الحماية الاجتماعية بشكلها المؤسساتي وكذلك المنظومة القيمية والمفاهيمية التي نشأت على أساسها كانت أحد الأهداف الرئيسية لمسار التسوية السلمية التي تمظهرت على شكل برنامج لمكافحة التمرد وحماية الاحتلال من الحالة الجماهيرية وممارساتها الرافضة والمقاوِمة.
في ظل هذا السياق الذي حارب الفلسطيني في لقمة عيشه بأكثر الأساليب نعومة -وعنفًا- تمت إعادة إنتاج ذات الفلسطينية «جديدة»، تقبل مُكرهة بهجر الحزب والسياسة وأيديولوجيا التحرير كمشروع جماعي، لتنتصر الذات الاقتصادية (Homo Economicus) الجديدة، على الذات السياسية (Homo Politicus) وتحل محلها.[55] وهو سياق -مرة أخرى- تنشغل فيه كل ذات جديدة في همها الفردي لتأمين لقمة عيشها، عبر المراكمة والاستثمار في رأسمالها البشري في جو من التنافس المحموم لتأمين لقمة العيش، داخل حلبة/ سوق ضيّقه الاحتلال منذ زمن طويل، عبر سياسات الإبادة الجماعية من قتل وتهجير وسلب ومصادرة وحصار، وضاق أكثر في ظلّ نمط التراكم النيوليبرالي.[56] بكلمات أخرى، فإن أحد أهم جوانب مشروع بناء السلطة/ الدولة النيوليبرالية هو كيّ وعيّ الفلسطيني -من الطبقات الشعبية والفئة الشابة بالذات- لإنتاج ذات فلسطينية فردية تقبل وتخضع لمشروعها تمهيدًا لسلخها عن الذات الجمعية، من أجل تفتيت أو تذرية[57] (Atomizing) المجتمع إلى ذوات مسلوبة تصرخ بملء حناجرها -كلٌ على حدة- «بدنا نعيش» بدلًا من ذات جمعية واحدة/ موحدة تصرخ «بدنا نتحرر».
في معرض شرحه للحوكمة النيوليبرالية، يؤكد ميشيل فوكو أنه لم يقدم شرحه هذا ليقول أن القيم السائدة أصبحت هي قيم الطبقة الحاكمة، ولكنه شرح لا بد منه لفهم كيف تقوم الحوكمة النيوليبرالية بتشكيل الذات وتعزيز القيم الفردانية. وعليه، لا بد لنا نحن أيضًا أن نسحب هذا الاستدراك على حالتنا الفلسطينية. لنقول حتى وإن كان المشروع السياسي والاقتصادي للسلطة قد حقق نجاحًا ملحوظًا في تقويض قيم التضامن المجتمعي،[58] فنحن لا نقدم مسار تشكل الذاتية الفلسطينية الفردية هنا لنقول أن القيم التي أنتجها مشروع السلطة هي القيم السائدة والمهيمنة على المجتمع الفلسطيني. على العكس من ذلك، يمكن القول إن تصاعد إجراءات وممارسات السلطة في قمع المجتمع والأفراد على حد سواء، في السنوات الأخيرة بشكل عام والأشهر الأخيرة بشكل خاص، ما هو إلا إشارة على إفلاس مشروعها وفشلها في فرض قيمها على المجتمع. فهل من أحد يستطيع الادعاء أن مشروع المقاومة الشعبية في قرية بيتا على طوال عام 2021 -وقرية بُرقة في الأسابيع الأخيرة- نابع من ذات فلسطينية نيوليبرالية؟
بقي أن نقول، إنه في ظل مشروع السلطة النيوليبرالية، لم تكن لقمة العيش -بمعناها المجرد أو القسري- هي دائمًا الأداة المستخدمة لكي وعي الفلسطيني ومساومته على خياراته السياسية. فهناك الكثير من النخب الفلسطينية -على اختلاف مشاربها- قبلت وتساوقت مع فكرة إعادة إنتاج ذاتها وخطابها السياسي، حفاظًا على امتيازاتها الطبقية أو طمعًا بصعود درجات أعلى في السلم الطبقي. وهو ما سنستفيض فيه أكثر في القسم التالي.
التنمية النيوليبرالية وهيمنة التمويل الدولي
مثلما يقود المجتمع الدولي عملية السلام وبناء الدولة، يقود كذلك عملية التنمية بصفتها الطريق الوحيد لاستدامة السلام، وبالتالي جزءًا لا يتجزأ من مشروع بناء الدولة. والقيادة هنا تعني تمويل عملية التنمية وكذلك فرض الخطاب النظري المهيمن الذي تقوم على أساسه، على مستوى السياسات والممارسة. في ظل هذا السياق الخطابي المهيمن لمؤسسات المجتمع الدولي فإن التنمية تعادل النمو الاقتصادي، أو بكلمات أخرى تعادل التراكم الرأسمالي. ولكن خطاب التنمية في السياق الفلسطيني يحتوي على الكثير من التناقضات. أولها التناقض البنيوي القائم على فكرة أن تحقيق مشروع التنمية «تحت بساطير الاحتلال» هي عملية ممكنة.[59] وثانيها هو تناقض مفاهيمي يتعلق بدور كل من الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص. ففي الفترة الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة، كانت الدولة هي المسؤول الوحيد عن عملية التنمية. ولكن مع نهاية الحرب الباردة، فرضت الأجندة السياسية النيوليبرالية المهيمنة ضرورة تفكيك الدولة -خصخصتها- في السياق العالمي، وتقديم المجتمع المدني والقطاع الخاص كبديل لتقديم الخدمات التي اضطلعت بها الدولة.
في فلسطين، خلافًا لما كان يجري حول العالم في حينه، تضمنت الأجندة السياسية للمجتمع الدولي بناء الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص بالتزامن والشراكة فيما بينهم، في سبيل تحقيق التنمية. لذلك، كان للنموذج النيوليبرالي في فلسطين «نكهته الخاصة».[60] بالمجمل «ترتكز هذه الأجندة على افتراض شائع وغير معقد مفاده أن السلام يؤدي إلى انتشار الأمن، وانتشار الأمن يؤدي إلى التنمية»[61] مع إلحاق الحماية الاجتماعية بالتنمية حصرًا كنتيجة حتمية لها. وسنفصّل فيما يلي كيف جرى تنفيذ هذه الأجندة من خلال تحالفات عقدتها السلطة مع كل من رأس المال المحلي والعشائر والمجتمع المدني بشكله الجديد والممول.
رأس المال الفلسطيني وتوسّع الشرخ الطبقي
بالنسبة للنخبة السياسية «السلطة» ورأس المال الفلسطيني، فإن تاريخ الشراكة بينهما طويل، تعود أصوله لمرحلة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. ضمن هذه العلاقة لعب رأس المال المغترب دورًا مهمًا في تعديل حدة الخطاب الراديكالي الذي ساد حقبة الستينيات والسبعينيات، وكذلك دورًا وسيطًا بينها وبين العديد من الأنظمة العربية والقوى الغربية، أفضى في نهاية الأمر لدخول المنظمة في مفاوضات السلام. وقد شكلت عودتهما إلى الأراضي المحتلة معًا بعد توقيع اتفاقيات السلام مرحلة جديدة في هذه العلاقة، تسارعت خلالها ديناميكيات تراكم رأس المال -ضمن منظومة الهيمنة الاستعمارية وبالتعاون معها- عبر شبكة فاسدة من العلاقات المصلحية والمحسوبية، اشتملت على تقاسم مواقع التراكم الرأسمالي. أولًا، تقاسم الاحتكارات الاقتصادية (مثل احتكار استيراد وتوزيع المواد التموينية، احتكار توزيع المشتقات البترولية، احتكار توزيع التبغ، احتكار قطاع الاتصالات، توزيع الإعفاءات الضريبية، إلخ). ثانيًا، المحسوبية في توزيع ما يعرف بـ«أراضي الدولة». وثالثًا، احتكار المناصب العليا في الجهاز الإداري والأمني. ورابعًا: جزء كبير من المساعدات الدولية «التنموية» أيضًا كانت مرتبطة بمصالح النخبة السياسية والرأسمالية.[62]
في الوقت الذي كان فيه مشروع بناء الدولة يعيد هندسة العلاقات الاجتماعية على أساس التنافس الحر في السوق سعيًا وراء لقمة العيش، كان ينشئ أساسات الرأسمالية الفلسطينية على أساس الإقصاء الذي منح حقًا حصريًا سمح لمجموعة صغيرة من «الأصدقاء» (من نخب السياسة والاقتصاد والأمن) لمراكمة رأسالمال وتقاسم «عوائد السلام» على حساب الطبقات الشعبية. لذا، وبعد ثلاثة عقود على مشروع التنمية وبناء الدولة «فإننا نشهد ازدهارًا في تراكم رأس المال، والتحول إلى سوق الخصخصة والرسملة والتجارة الحرة، في الوقت الذي تغرق فيه قطاعات كاملة من الجماهير الفلسطينية -في داخل فلسطين وخارجها- في الفقر والبطالة وبؤس المدن والحرمان والتدهور البيئي وامتهان الكرامة الإنسانية بصورة عامة. [حيث] ما كان يمكن للمقايضة الوظيفية أن تكون صارخة أكثر، بين الزيادة في رأس المال والاستهلاك والتشكل الطبقي من جهة، وتراجع[63] الوطن وفلسطين والبرنامج السياسي [والعدالة الاجتماعية] من جهة ثانية».[64] بكلمات مختصرة يمكن القول، إن تحالف السلطة مع رأس المال واحتكارهما لأسس وآليات التراكم رأسمالي أوجد شرخًا طبقيًا ساهم -بالتقاطع مع سياسات البنية الاستعمارية- في تقويض الأساسات المادية وفرص العيش الكريم لشريحة واسعة من الطبقات الشعبية.
التحالف مع العشائر
ارتباطًا بمسار تآكل بنى الحماية الاجتماعية خلال العقود الماضية، لا بد من التنويه لنوعٍ آخر من التحالفات الهدامة التي عقدتها السلطة وكان لها أثر ملحوظ ضمن هذا المسار. لا لكونه شرطًا من شروط عملية التنمية كما فرضها تدخل وهيمنة المجتمع الدولي، بل كشرط وجودي للنخبة السياسية العائدة من الخارج، لفرض وترسيخ سيطرتها على المجتمع وتأسيس قاعدة محلية تستمد منها شرعيتها التمثيلية. على عكس ما كان متوقعًا في السنوات التي سبقت قدوم السلطة، وجدت السلطة ضالتها في البُنى العشائرية، فتحالفت معها بدلًا من تحالفها مع منظمات المجتمع المدني التي شكلت نواة مؤسساتية يمكن تطويرها وتوسيعها لبناء الجهاز البيروقراطي والخدماتي للسلطة الناشئة. في الوقت ذاته، وجدت البُنى العشائرية هي أيضًا ضالتها بالتحالف مع السلطة، كوسيلة لاسترجاع مكانتها السياسية والاجتماعية التي تراجعت بسبب عدة عوامل أهمها: أولًا، خسارة جزء كبير من ممتلكاتها وأراضيها إبان حرب العام 1967 وكذلك ضمن عملية التوسع الاستيطاني بعد الحرب. ثانيًا: ظهور أطر جماهيرية أكثر حداثة وأكثر عملانية وجذرية في مواجهة الاحتلال وكذلك في تلبية الاحتياجات اليومية للشعب المُحتل، نتيجة الوعي الجماهيري بالدور الملتبس الذي لعبه شيوخ العشائر إبان الحكم الأردني واستمرارهم في مهادنة الاحتلال بعد العام 1967. يمكن القول إن هذا الدور الملتبس والمهادن للاحتلال هو الأساس الذي أهلها للدخول في التحالف مع سلطة تسعى لتحقيق السلام، بالذات لأن الخيار الآخر هو -أو كان في حينه- الجسم الذي يقود حالة الاشتباك مع الاحتلال.
تم هذا التحالف بين السلطة والعشائر في نهاية الأمر على شكل شبكة علاقات ومصالح وامتيازات قائمة على المحسوبية والزبائنية كانت أول مظاهرها اعتراف السلطة بالشخصية الاعتبارية لشيوخ العشائر ورجالات الإصلاح العشائري[65] والسماح لهم ببناء قضاء موازٍ تحكمه قيم رجعية وما قبل حداثية «كالواسطة والمحسوبية والتعصب الديني والذكورية والخضوع للعادات والتقاليد البالية والنظرة الدونية للمرأة والثأر وقتل النساء على خلفية ما يسمى بشرف العائلة، إلخ».[66]
دفعت عملية الهندسة الاجتماعية في حقبة السلام باتجاه هوية فلسطينية فردانية كنقيض للهوية الجماعية وهو ما فرض تحولا في منظومة القيم التي تحكم شكل وطبيعة العلاقات الاجتماعية.
كما ذكرنا سابقًا، أدت الحالة الجماهيرية في حقبة ما قبل السلطة إلى ظهور تحولات جذرية في شكل العلاقات والبنى الاجتماعية تمحورت حول «تعزيز روح العمل التطوعية والإيمان بالهم الجمعي وتقوية روح الإخاء والمناصرة»[67] في سبيل هدف جمعي هو التحرر من الاحتلال. بينما أسس التحالف بين السلطة والبُنى العشائرية لشرخ في هذه العلاقات الاجتماعية، عندما نقل أساس التضامن بين الناس من الوطن إلى مستويات أدنى تتمثل في العشيرة والحمولة، فشتّان بين الانتماء للوطن بهدف تحريره والانتماء للعشيرة في سبيل تأمين بعض الامتيازات المادية. في ظل منظومة العلاقات الزبائنية مع بنية السلطة الإدارية والسياسية، نظرت العشيرة للسلطة ومؤسساتها كغنائم لا بد من استملاكها، بهدف تحقيق المنفعة الاقتصادية لها ولأبنائها، ولتعزيز نفوذها السياسي والاجتماعي، وهو ما خلق تنافسًا في الحيز السياسي يكون رأسمال الفرد فيه هو اسم العشيرة والمنطقة الجغرافية التي ينحدر منها بدلًا من انتمائه الحزبي وتاريخه النضالي، وهو ما ظهرت ملامحه في أول برنامج انتخابات تشريعية في العام 1996. لم تحقق العشيرة إنجازًا ملحوظًا في حينه، ولكن في السنوات الأخيرة وصلنا لحالة يصح معها القول إن فلسطين «لم تكن (..) يومًا بهذا المستوى من تغول العشيرة في الشأن العام».[68]
مع العلم أن هذا التغول -بما يمثله ويفرزه من قيم رجعية- لم يقتصر على تقويض مؤسسات المجتمع المدني كنواة للبرنامج الوطني والديمقراطي والتحرري، بل تعداه لتوجيه تحذيرات شديدة اللهجة لمؤسسات المجتمع المدني وللسلطة ومؤسساتها في حال عدم انصياعها لرغبات ومطالب العشائر. بالتالي، لعب هذا التحالف دورًا مكملًا في تقويض بنى الحماية الاجتماعية السابقة ومنع بروز بنى بديلة على المستوى الوطني، عبر نقل مهمة توفير الحماية الاجتماعية ولو جزئيًا للعشيرة والحمولة.
إعادة هيكلة المجتمع المدني
على العكس من السلطة والسوق الرأسمالية، لم تكن هناك حاجة لإنشاء مجتمع مدني؛ الشريك الثالث في عملية التنمية، فهو موجود أصلًا، بل والأكثر ظهورًا ومأسسةً وخبرةً في حقل التنمية. ولكن كشرط لمشاركته، كان عليه أن يعيد هيكلة نفسه، أو بالأحرى أن يقبل بإعادة هيكلة نفسه، بما يتلاءم مع نمط التنمية السائد وخطابه المهيمن، بصفته جزءًا لا يتجزأ من عملية السلام وبناء الدولة. ولأن عملية التنمية وبناء الدولة في السياق النيوليبرالي المعولم هي عملية تقنية أكثر مما هي عملية سياسية -كما أوضحنا أعلاه- كان الشرط الوحيد لدخول المجتمع المدني فيها هو هجر السياسة (بمعناها التحرري) على مستوى الخطاب والممارسة تحت ضغط العديد من العوامل، أهمها شروط التمويل الخارجي. في المحصلة، أدى دخول مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني إلى الفضاء السياسي والاقتصادي الذي خلقته عملية السلام ومنظومة التمويل التي رافقتها إلى تحولات بنيوية في منطلقاته الفكرية التي يقوم عليها، في بنيته التنظيمية، وفي خطابه، وبرامجه التنموية، وبالتالي في علاقته مع مشروع التحرر الوطني والاجتماعي، ومع القاعدة الجماهيرية التي كان يمثلها. وهو تحول تم وصف مساره وتحليل ديناميكياته بشكل واسع في الدراسات الفلسطينية.[69]
ما يهمنا أكثر في هذه الورقة، هو أثر هذه التحولات على مسار تآكل بنى الحماية الاجتماعية. بدايةً يمكن القول إن كل جانب من جوانب التحولات التي عاشها المجتمع المدني ساهمت بطريقتها المباشرة أو غير المباشرة في تآكل بنى الحماية الاجتماعية/ الشعبية التي ارتكز عليها المجتمع في حماية نفسه ومواجهة الاحتلال، في الفترة التي سبقت المشروع التنموي النيوليبرالي في الأراضي المحتلة. في القسم المتبقي من هذه الورقة سنقف سريعًا عند هذه الآثار.
لم تقتصر التحولات النيوليبرالية على إعادة هيكلة مؤسسات السلطة، بل عملت على إعادة تشكيل هوية جميع الفلسطينيين وغيرت بشكل جوهري الثقافة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في فلسطين.
أولا: التحول في المنطلقات الفكرية التي يقوم عليها المجتمع المدني. على المستوى النظري -باختصار شديد- يتم تأطير الدور السياسي المناط بالمجتمع المدني عبر مدرستين فكريتين. الأولى ماركسية-غرامشية ترى أن المجتمع المدني هو حيزٌ سياسي راديكالي يتيح مجالًا لإنتاج ممارسات تحررية في سبيل محاربة هيمنة الدولة الرأسمالية أو الكولونيالية. وهو النموذج الذي استلهمته العديد من حركات التحرر حول العالم، بما فيها حركة التحرر داخل الأراضي المحتلة. أما الثانية فهي المدرسة الليبرالية التي تراه كحيز سياسي ديموقراطي يقوم بدور وسيط بين المواطن والدولة، بما يضمن مصلحة وحق المواطنين في المشاركة السياسية الديموقراطية وفي ذات الوقت يشرعن سلطة الدولة على المواطن ما دامت هذه السلطة قائمة على حكم القانون. وهو النموذج الذي ساد وتمت عولمته بعد نهاية الحرب الباردة.[70] كان مجرّد قبول مؤسسات المجتمع المدني[71] بهجر أساسها الفكري الراديكالي بمثابة تورط في النموذج النيوليبرالي المعولم القائم على إعادة هندسة المجتمع حول منظومة مؤسساتية وقيمية جديدة، تقبل بشروط السلام وتساهم في بناء الدولة بدلًا من مواجهة الاحتلال. بكلمات أخرى، ساهم هذا التحول الفكري في تآكل الحالة الجماهيرية التي مثلت العمود الفقري للحماية الشعبية والمجتمعية كنتيجة حتمية لقبوله ومشاركته في عملية السلام. الأهم من ذلك، هو أن هذا التحول أدى إلى تفتيت المجتمع المدني بشكله السائد في المجتمع الفلسطيني وبالتالي تذويب نمط الحماية الاجتماعية التي وفرها في السابق. وقد كان الفرق بين دور وحضور منظمات المجتمع المدني في الحيز العام أثناء انتفاضة الأقصى ودورها في انتفاضة العام 1987 دليلًا واضحًا على مدى هذا التحول.[72] وكنتيجة حتمية لهذا التحول، تغير خطاب هذه المؤسسات وانزاح باتجاه الفكر النيوليبرالي. تمظهر هذا الانزياح الفكري عبر الانتقال من الحديث عن «المقاومة الشعبية»، و«التحرير»، و«الصمود»، و«تعبئة الجماهير»، و«تقرير المصير» إلى الحديث عن «التمكين»، و«المشاركة»، و«الفئة المستهدفة»، و«الجندر»، و«حقوق الانسان».[73] مرة ثانية، هو تحول من الاهتمام والتعبير عن قضايا الهم الجمعي إلى القضايا الفردية.
تحالف السلطة مع رأس المال واحتكارهما لأسس وآليات التراكم رأسمالي أوجد شرخًا طبقيًا ساهم – بالتقاطع مع سياسات البنية الاستعمارية – في تقويض الأساسات المادية وفرص العيش الكريم لشريحة واسعة من الطبقات الشعبية.
ثانيًا: التحول في البنية التنظيمية للمجتمع المدني، وهي ظاهرة أطلق عليها صبيح -وآخرون غيره- مسار مهننة (Professionalization) دور وممارسات المجتمع المدني عبر «التخلي عن الأيديولوجيا مقابل الاكتفاء بتقديم الخدمات، وفرض التخصص التقني الذي حد من اللجوء إلى الجماهير كأساس لشرعنة الفعل، والتدخل في الحيز العام».[74] حيث شكلت مؤسسات المجتمع المدني في السابق شبكة واسعة جدًا من المؤسسات والجمعيات والاتحادات والتعاونيات ولجان الأحياء المنتشرة أفقيًا في كافة أنحاء الأراضي المحتلة. امتازت هذه المؤسسات -إلى حد كبير- باعتمادها على الجهود التطوعية وبالتالي على نظام عضوية مفتوح، وامتازت كذلك بلامركزية اتخاذ القرارات. على العكس من سابقتها، امتازت منظمات المجتمع المدني بعد تحول بنيتها وفقًا لمتطلبات المرحلة، بتركّز حضورها في المدن بالقرب من مصادر التمويل. وامتازت كذلك بطبيعتها البيروقراطية التي فَرضت عليها هيكلية إدارية وتراتبية وظيفية (مثل مجلس إدارة، هيئة عامة، مدير عام، مدير تنفيذي، مدير برنامج، موظفين) تحتكر القرار حول شكل ونوع التدخل في الحيز العام، وتتمتع برواتب مجزية، بالإضافة للعديد من الامتيازات الطبقية والسياسية. لدرجة لم يعد ارتباط الأفراد بقضايا الهم الجمعي كافيًا للانتماء والعضوية، فكان لا بد من أن تتوفر فيهم الكثير من المهارات الإدارية والتقنية فيما يتعلق بإدارة المشاريع، وكتابة التقارير، وتسوية الأمور المالية، ومعرفة جيدة بالتكنولوجيات الحديثة وإتقان اللغات، إلخ.
ضمن هذا المسار الذي فَرضَ على المؤسسات والأفراد التخلي عن السياسة/ الأيديولوجيا ساهم المجتمع المدني في تعزيز القيم الفردانية والمصلحة الشخصية. لتوضيح أثر مؤسسات المجتمع المدني في هذا السياق، سنأخذ العمل التطوعي (العونة) كأحد نُظم الحماية الاجتماعية/ الشعبية التي انتشرت بشكل واسع قبل انطلاق مشروع التنمية النيوليبرالية، فقد واجه هذا المفهوم عملية تشويه ممنهجة عبر العديد من ممارسات مؤسسات المجتمع المدني ووكالات التنمية الدولية. أولًا: دعوة الجماهير -من الفئة الشابة بالذات- للتطوع في كافة أنواع الأنشطة والفعاليات والبرامج، باستثناء كل ما هو سياسي. ثانيًا: شكل التطوع داخل قاعات المؤسسات (على شكل ورشات عمل، ندوات، مجموعات بؤرية، تدريبات تنمية المهارات الذاتية) الجزء الأكبر من العمل التطوعي عوضًا عن التطوع في الأنشطة الإنتاجية. ثالثًا: أصبح العمل التطوعي عملًا مدفوع الأجر، حيث أصبح المتطوع -سواء داخل قاعات المؤسسة أو خارجها- يحصل على مقابل مادي بدل أجرة المواصلات، وجبات طعام، ضيافة. كانت نتيجة هذه الممارسات فرقًا شاسعًا بين فهم معنى العمل التطوعي بين جيل الانتفاضة الأولى الذي يرى أن العمل التطوعي هو عمل وطني، عمل من الناس للناس، عمل دون مقابل وعمل يهدف أساسًا لمقاومة الاحتلال. وبين جيل الانتفاضة الثانية الذي يرى فيه فرصة لمراكمة الخبرة والمهارات الذاتية قبل التخرج من الجامعة، للحصول على مبالغ مالية تساهم في دفع تكاليف التعليم الجامعي، لإنشاء علاقة مع مؤسسات المجتمع المدني وزيادة فرص الحصول على وظيفة فيها، وكذلك اعتبروه فرصة للسفر.[75]
ثالثًا: التحول في أهداف البرامج التنموية للمجتمع المدني. كما ذكرنا في القسم الأول من هذه الورقة، تم ربط سياسات وبرامج الحماية الاجتماعية منذ تسعينيات القرن الماضي -ربطًا عضويًا مع منظومة حقوق الإنسان. في ظل النمط التنموي النيوليبرالي المعولم، لم تكن الحماية الاجتماعية في الأراضي المحتلة بمعزل عما يجري في العالم. فقد تحوّل جزء كبير من مؤسسات المجتمع المدني- المنشأة حديثًا وتلك التي «عقلنت»[76] خطابها منذ ذلك الحين إلى الحديث عن تزويد الفلسطينيين بالخدمات بصفتها حقًا إنسانيًا. يمكن القول إن هذا التحول كان تحولًا مصلحيًا يخدم المصالح الطبقية والسياسية «للنخبة الفلسطينية المعولمة» التي تشكلت وقادت منظمات المجتمع المدني في حقبة ما بعد أوسلو، عبر سعيها المتواصل لتحصيل المزيد من ريع المساعدات الدولية.[77] في نهاية الأمر، تنامى حجم المساعدات الإغاثية والإنسانية فحصل قطاع حقوق الإنسان على 30% من مجمل المساعدات الدولية الموجهة للمجتمع المدني، وأصبح متوسط حصة الفرد الفلسطيني من المساعدات الإنسانية هو الأعلى في العالم.[78] هذا بالإضافة إلى أن الخدمات الاجتماعية الاقتصادية عمومًا (مثل الخدمات في مجال الصحة، التعليم، الأمن الغذائي، محاربة الفقر، تمكين النساء، إلخ) يتم تأطيرها وتقديمها بصفتها حقًا من حقوق الإنسان.
لا يمكن فهم تنامي الخطاب والممارسة الإنسانية في الساحة الفلسطينية خلال العقود الماضية، إلا بصفتهما النموذج «اللا-سياسي» الأوسع انتشارًا حول العالم منذ تسعينيات القرن الماضي. وكذلك الأصعب للنقد، فمن له الحق في -أو حتى الجرأة على- انتقاد هؤلاء الإنسانيين ممن يحاولون تخليص الإنسان الفلسطيني من بؤس الفقر وتخليص المرأة الفلسطينية من بؤس الاضطهاد الأبوي؟ ولكن لفهم الأثر الكارثي «للإنسانية» على بنى الحماية الاجتماعية، لا بد من استعراض تاريخ مختصر جدًا لمراحل الخطاب الإنساني لدى مؤسسات المجتمع المدني في فلسطين.
فقد طغت التوجهات الخيرية (Charity) على عمل مؤسسات المجتمع المدني منذ بدايات ظهورها حتى ستينيات القرن الماضي، وهي توجهات تنبع من واجب ديني -مسيحي وإسلامي- بالأساس، لمساعدة الضحية الفلسطينية «البائسة»، «الفقيرة»، «المحتاجة» التي لا تملك من أمرها شيئًا، بصرف النظر عن كل الظروف المادية والموضوعية التي تسببها. في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ظهر شكل جديد من المجتمع المدني يقوم على فكرة ثورية مفادها أن الفلسطيني ليس ضحية مسلوبة بل «ذات واعية» بالظروف المادية والموضوعية المحيطة و«ذات فاعلة» في تغيرها، ليس بالاعتماد على غيرها بل على الجهود الجماعية لمجموع هذه الذوات الواعية والفاعلة. فيما شهدت حقبة التنمية النيوليبرالية تقمص المجتمع المدني لدور الإحسان (Philanthropy) لمساعدة «الفقراء» (Poor)، «المهمشين» (Marginalized)، «المعرضين للخطر» (Vulnerable). في هذا السياق، ساهمت التنمية ومجتمعها المدني في سلب الإرادة والفعل من الذات الفلسطينية، وإعادتها لموضع الضحية التي تنتظر مساعدة «الإحسان» الغربي.[79] ولكن الدين هذه المرة ليس دينًا سماويًا، بل دين الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية، دين لا ينتظر معتنقوه ثواب الآخرة، بل ثوابًا دنيويًا على شكل رواتب مجزية، وسيارات فارهة، وتذاكر سفر ومخصصات مالية لحضور المؤتمرات الدولية وغيرها الكثير من الامتيازات الطبقية والسياسية. الدين هذه المرة هو دين السوق والرأسمالية المعولمة العمياء أو المتعامية عن الواقع المادي والموضوعي الذي يسببه الاحتلال.
بالمختصر، يمكننا القول إن التنمية بشكلها النيوليبرالي المعولم ساهمت في تآكل بنى الحماية الاجتماعية عبر مساهمتها وتعزيزها لمسار تحويل الفلسطينيين من مناضلين في سبيل التحرر وتقرير المصير، إلى ضحايا مسلوبة تنتظر من يخلصها من بؤسها.
خاتمة
إن تتبع صعود وهبوط بُنى الحماية الاجتماعية في الأراضي المحتلة خلال العقود الماضية يوضح أن هذه البُنى بشكلها الحالي قاصرة عن توفير الحماية الاجتماعية إمّا لكونها تنبع من فكر نيوليبرالي معادٍ للتحرر (بنى الحماية المرتبطة بالسلطة والمجتمع المدني) وإمّا لكونها قائمة على منظومة قيمٍ رجعيةٍ معاديةٍ للتحرر الوطني والاجتماعي (بنى الحماية المرتبطة بالعشائر). فيما كان الشكل الوحيد لبناء منظومة حماية اجتماعية فعالّة هو العمل المجتمعي المرتبط عضويًا والمكمّل للعمل المقاوم. وذلك بسبب قدرته على تكوين بُنى وآليات محلية خالصة لم يقتصر دورها على حماية المجتمع والفرد، بل كانت قادرة على خلق منظومة قيمية لترسيخ هذه البُنى وتطويرها، وهي نفسها المنظومة القيمية الداعمة للعمل المقاوم. بكلمات أخرى، إن التحول أو العودة نحو فكر وممارسة تحررية معتمدة على الذات، هدفها الأول مواجهة الاحتلال والاشتباك معه، هو وحده القادر على خلق حماية اجتماعية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
-
الهوامش
[1] جميل (2016)، خيارات أنظمة الضمان الاجتماعي والحماية الاجتماعية في فلسطين: مراجعة عامة، معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) – رام الله.
[2] انظر/ي Polanyi (2001), The Great Transformation: The Political and Economic Origins of Our Time, Beacon Press, Boston.
[3]Schmitt (2020), About the Series, In Schmitt (Ed.), From Colonialism to International Aid: External Actors and Social Protection in the Global South: Cham – Switzerland: Palgrave McMillan.
[4] للمزيد حول القراءة الماركسية لدور دولة الرفاه في صيانة النظام الرأسمالي وحمايته من نفسه انظر/ي: Gough (1979), The Political Economy of Welfare State, London: McMillan Press. Greenoug, William C. and Francis P. King
[5] Brents (1984), Capitalism, Corporate Liberalism and Social Policy: The Origins of the Social Security Act of 1935, Mid-American Review of Sociology, Vol. IX(1), p. 23.
[6] المرجع السابق، ص vii.
[7] Quadango (1984), Welfare Capitalism and the Social Security Act of 1935, American Sociology Review, Vol.(49)5, 632-47.
[8] Mioni and Petersen (2020), Cold War and Social Protection In Burma and Malaysia, in Schmitt (Ed.), From Colonialism to International Aid: External Actors and Social Protection in the Global South, Cham – Switzerland: Palgrave McMillan.
[9] Knorr (1950), The European Welfare State in the Atlantic System, World Politics, Vol. 3(4), p. 448.
[10] المرجع رقم 8، ص 63.
[11] انظر/ي حنش (2006) في دولة الرفاهية الاجتماعية: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي، بيروت – لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 332-33.
[12] المرجع السابق، ص 333، انظر\ي أيضًا McGroger (2001), Neoliberalism and Health Care, International Journal of Consumer Studies, Vol.(25)2; Harvey (2006), Neo-liberalism as Creative Destruction, Geografiska Annaler. Series B, Human Geography, Vol. 88(2).
[13] المرجع رقم 11.
[14] المرجع رقم 12، ص83.
[15] انظر/ي: Hujo (2021), Social Protection and Inequality in the Global South: Politics, Actors and Institutions, Critical Social Policy, Vol.(41)3.
[16] انظر/ي: منظمة العمل الدولية (2021)، تقرير الحماية الاجتماعية في العالم للفترة 2020 – 2022: الحماية الاجتماعية عند مفترق طرق (الملخص التنفيذي) على الرابط.
[17] شعبية هنا ليس بالضرورة لوصف أدوات وأساليب المقاومة بقدر ما هي وصف لطبيعتها الجماهيرية.
[18] Örmeci (2011) , Karl Polanyi and the Great Transformation, Uşak Üniversitesi Sosyal Bilimler Dergisi, Vol. (4)1, p. 40
[19] Muslih (1993), Palestinian Civil Society, Middle East Journal, Vol. (47)2.
[20] Hilal and El-Malki (1997), Informal Social Support System (Non-Institutionalized) in the West Bank and Gaza Strip, Palestine Economic Policy Research Institute – MAS – Ramallah; Johnson (1997), Social Support: Gender and Social Policy in Palestine, In Palestinian Women: A status Report, Women’s Studies Program – Birzeit University.
[21] انظر/ي: Abdel Shafi (2004), Civil Society and Political Elite in Palestine and the Role of International Donors: A Palestinian View, EuroMeSCo, Lisboa – Portugal; مصدر رقم 19.
[22] Fleischmann (2000). The Emergence of the Palestinian Women’s Movement, 1929-39. Journal of Palestine Studies, Vol(29)3; Dana (2016), Disconnecting Civil Society from Its Historical Extension: NGOs and Neoliberalism in Palestine (Ch.7), In Takahashi (Ed.), Human Right, Human Security, and State Security: The Intersection, Volume one, Praeger Security International
[23] انظر/ي: مرجع رقم 19; المتحف الفلسطيني، اتحاد الجمعيات الخيرية يطالب بالإفراج عن أمين الخطيب من سجون الاحتلال على الرابط: .Tamari (1988), What the Uprising Means, Middle East Report, No. 152, The Uprising (May – Jun., 1988), pp. 24-30.
[24] مرجع رقم 19.
[25] مرجع رقم 22; مرجع رقم 19).
[26] Said (1989), Intifada and Independence, In Lockman and Beinin Intifada: The Palestinian Uprising against Israeli Occupation, Boston: South End Press), P.10.
[27] See UPMRC (1988), Emergency Newsletter No. 6, April 1 – May 15, Cited in Rigby (1991), Coping with the ‘Epidemic of Violence’: The Struggle Over Health Care in the Intifada, Journal of Palestine Studies, Vol(20)4.
[28] للمزيد حول دور المؤسسات الصحية إبان الانتفاضة وقبلها انظر/ي Barghouthi and Giacaman (1990), «The Emergence of an Infrastructure of Resistance: The Case of Health,» In Nassar and Heacock (eds.), Intfada: Palestine at the Crossroads. New York: Praeger, pp. 73-87; See also: Robinson (1993), The Role of the Professional Middle Class in the Mobilization of Palestinian Society: TheMedical and Agricultural Committees, International Journal of Middle East Studies, Vol.(25)2.
[29] انظر/ي المصري (2017)، الحق في التعليم والأزمة المالية في الجامعات الفلسطينية العامة، الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان – رام الله، ص22؛ نخلة وآخرون (2005)، خطة عمل استراتيجية لتطوير التعليم العالي في فلسطين، رام الله – فلسطين، ص80.
[30] الرحلات الفلسطينية، قصة بعنوان «تعليم ثوري لمرحلة ثورية» على الرابط.
[31] انظر/ي Robinson (1993)، مرجع سابق.
[32] بالإمكان الاطلاع سريعًا على أسماء هذه الاتفاقيات وتواريخ توقيعها ووصف موجز لأهم بنودها على الرابط؛ للاطلاع بشكل معمق على بنود هذه المعاهدات ونصوصها انظر/ي الرابط.
[33] Turner (2015), Peacebuilding as Counterinsurgency in the Occupied Palestinian Territory, Review of International Studies, Vol. 41(1), pp 73-98.
[34] Paris (2004), At War’s End: Building Peace after Civil Conflict, Cambridge University Press, P. 4-5.
[35] انظر/ي الخالدي (2019)، الوطن والطبقة: أجيال التحرير الفلسطيني، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 118؛ Hilal (2015), Re-thinking Palestine: Settler Colonialism, Neoliberalism and Individualism in the West Bank and Gaza Strip, Contemporary Arab Affairs.
[36] Brown (2015) cited in Hoppania (2019), Politicisation, Engagement and Depoliticisation – the Neoliberal Politics of Care, Critical Social Policy, Vol. 39(2), P.1.
[37] Tregidga et al. (2014), Cited in Rosengren (2015), A Palestinian National Authority? An Investigation of the World Bank’s Neoliberal Influence on the Emerging Palestinian National Authority (Mater Thesis), Lund University (Department of Political Science), P. 10.
[38] المرجع السابق.
[39] Turner (2015)، مرجع سابق.
[40] الترتير (2021)، حدود السلام القائم على الأمن: رعاية الاتحاد الأوروبي للسلطوية الفلسطينية، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 126، مؤسسة الدراسات الفلسطينية – رام الله.
[41] معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس (2019)، ورقة خلفية: جلسة طاولة مستديرة (5): أداء الموازنة العامة 2018 بالمقارنة مع 2017 وأزمة إيرادات المقاصة 2019، على الرابط.
[42] Khalidi and Samour (2011), Neoliberalism as Liberation, Journal Of Palestine Studies, The Statehood Program and the Remaking of Palestinian National Movement, Vol. XL(2), P. 9.
[43] Harvey (2005), A brief History of Neoliberalism (Oxford: Oxford University Press), P23.
[44] المرجع السابق، ص3
[45] نفس المرجع، ص3.
[46] نفس المرجع، ص23.
[47] انظر/ي Houghton (2019), Becoming a Neoliberal Subject, Ephemera: Theory & Politics in Organization, Vol. 19(2); Read (2009), A Genealogy of Homo-Economicus: Neoliberalism and the Production of Subjectivity, Foucault Studies, Vol. 6.
[48] Houghton (2019)، مرجع سابق ص623.
[49] Foucault (2008) cited in Bowers-Brown (2017), Constituting Neoliberal Subjects? ‘Aspiration’ as Technology of Government in UK Policy Discourse, Journal of Education Policy, Vol.3(3).
[50] Read (2009)، مرجع سابق.
[51] قريع (2007)، صامد التجربة الإنتاجية للثورة الفلسطينية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان – بيروت، ص36.
[52] Leech (2017), The State of Palestine: A Critical Analysis, Routledge: New York, NY:
[53] Rosengren (2015, A Palestinian National Authority?: An Investigation of the World Bank’s Neoliberal Influence on the Emerging Palestinian National Identity (Mater Thesis), Lund University (Department of Political Science), P. 1.
[54] Read (2009)، مرجع سابق ص27-29.
[55] جرت العادة أن يتم تعزيز هذا الإحلال للإنسان الاقتصادي محل الإنسان السياسي في تصريحات السياسيين الفلسطينيين بين الفينة والأخرى. كان آخرها وأشهرها السؤال الذي طرحه محمد اشتية – رئيس الوزراء الحالي – على عامة الشعب: «بدم مصاري أكثر ولى وطن أكثر». مع العلم أن هناك العديد من التصريحات لرؤساء الوزراء والوزراء السابقين التي حملت ذات الفحوى على امتداد العقدين الماضيين، بالذات لرئيس الوزراء الأسبق سلام فياض.
[56] مرجع رقم 35.
[57] المصطلح مقتبس بتصرف من Hilal (2015)، مرجع رقم 35.
[58] المرجع رقم 35 Hilal (2015)، ص 5.
[59] انظر/ي شاهين (2012) (مُحرر): دراسات نقدية في واقع التنمية في فلسطين، مركز بيسان لبحوث الانماء – رام الله.
[60] انظر/ي الترتير والشقاقي (2020)، التنمية كأداة للمقاومة والتحرر ، في المرجع السابق.
[61] مرجع رقم 22، ص 130.
[62] Hanieh (2013), The Oslo Illusion، على الرابط؛ انظر/ي أيضًا Dana (2019), Crony Capitalism in the Palestinian Authority: A Deal Among Friends, Third World Quarterly, DOI: 10.1080/01436597.2019.1618705.
[63] التوكيد كما ورد في المصدر
[64] الخالدي (2019)، مرجع رقم 35، ص 152 – 153.
[65] انظر/ي موقع وزارة الداخلية (صفحة الإدارة العامة لشؤون العشائر والإصلاح) على الرابط.
[66] البطران (2020)، السلطة والعشائر مَن يحكم مَن اجتماعيًا؟ مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 122. ص 196.
[67] الترتير والشقاقي (2012)، التنمية كأداة للمقاومة والتحرر، في شاهين (مُحرر): دراسات نقدية في واقع التنمية في فلسطين، مركز بيسان لبحوث الانماء – رام الله، ص 29.
[68] البطران (2020)، مرجع سابق، ص 191.
[69] انظر/ي على سبيل المثال: مرجع رقم 22. انظر/ي أيضًا: صبيح (2011)، مقاتلو التنمية: بين خرافة التطبيق وعقائدية الخطاب والتصوير، مركز بيسان للبحوث والإنماء – رام الله؛ Dana (2015), The Structural Transformation of Palestinian Civil Society: Key Paradigm Shift, Middle east Critique, Vol. 24(2), DOI: 10.1080/19436149.2015.1017968.
[70] مرجع رقم 22، ص 119- 120.
[71] بعد مرور عدة سنوات على عملية السلام، لم يعد مصطلح مؤسسات «المجتمع المدني» تسمية مناسبةً أو دقيقة لوصف المؤسسات التنموية الفاعلة في الساحة الفلسطينية، حيث تم احتكار المساحة المسماة بـ «المجتمع المدني» من خلال «المنظمات غير الحكومية – NGOs» الناشئة حديثًا والممولة من الخارج. فبدلًا من أن تمثل هذه الفئة من المنظمات شكلًا من أشكال مؤسسات المجتمع المدني، أصبحت هي المجتمع المدني بذاته وتم استخدام المصلحين بشكل متبادل وكأن لهما ذات المعنى. مع التأكيد على هذه النقطة، ولكننا سنستمر في استخدم مصطلح «المجتمع المدني» للتعبير عن الـNGOs في حقبة ما بعد أوسلو، في سبيل الحفاظ على الاتساق خلال الورقة.
[72] انظر/ي: Hanafi and Tabar (2002), NGOs, Elite Formation and the Second Intifada; Hanafi and Tabar (2005), The Intifada and the Aid Industry: The Impact of the New Liberal Agenda on the Palestinian NGOs, Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East, Vol. 23(1,2).
[73] مرجع رقم 22، ص 199.
[74] صبيح (2011)، مقاتلو التنمية: بين خرافة التطبيق وعقائدية الخطاب والتصوير، مركز بيسان للبحوث والإنماء – رام الله، ص41.
[75] Gerster and Baumgarten (2011), Palestinian NGOs and their Cultural, Economic and Political Impact in Palestinian Society, Rosa Luxemburg Foundation, Ramallah – Palestine.
[76] انظر/ي مرجع رقم 74، ص 41.
[77] Hanafi and Tabar (2004), Donor Assistance, Rent-Seeking and Elite Formation, in Khan et al. (Eds.), State Formation in Palestine. Viability and Governance during a Social Transformation, (London: Routledge Curzon, 2004)
[78] انظر Dana (2016)، مرجع رقم 22، ص131؛ Tabar (2016), Disrupting Development, Reclaiming Solidarity: The Anti-politics of Humanitarianism, Journal of Palestine Studies, Vol. XLV(4), P.16.
[79] انظر/ي المرجع السابق، ص17.