منتصف آيار الماضي، أصدر حزب جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، تصريحًا صحفيًا أعلن فيه أن المحاكم الداخلية في الحزب قرّرت تجميد عضوية القيادي زكي بني ارشيد لمدة سنتين على خلفية «الإساءة للصحابي معاوية بن أبي سفيان على مواقع التواصل الاجتماعي، مخالفًا لرأي أهل السنة والجماعة». قرار ردّ عليه بني ارشيد بتقديم شكوى لمحكمة البداية النظامية ضد الحزب. وهو الأمر الذي وصفه الحزب بالسابقة، إلا أن بني ارشيد يرى أن «الواقعة غير المسبوقة» هي المحاكمة الفكرية على الرأي الآخر.
بدأت القصة، في 20 شباط من العام الفائت، حينما نشر المعارض الأردني ليث شبيلات منشورًا عبر فيسبوك، قال فيه: «ألعن كل من يلعن الصحابة ولا أقصد فقط أمّنا السيدة عائشة والشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهم ولكن حتى سيدنا الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مؤسس دولة الملك العضوض ومخاصم سيدنا علي بن أبي طالب أسد الله الغالب». يقول بني ارشيد إنه وجد تناقضًا في كلام شبيلات، إذ «يمجد وبترضى عن خصمين تقاتلا، وهما علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. لكن أحدهما مصيب محق والآخر مخطئ باغ».
يقول أحمد الزرقان، عضو المكتب التنفيذي للحزب، إن بني ارشيد قدح بالصحابي معاوية ووصفه بـ«الداعشي والطاغية المجرم». منوّهًا إلى أنه بعد جدال حول تقديمه «روايات شيعية ليست صحيحة»، وجه البعض إساءة للحركة الإسلامية واتهما بأنها «متشيّعة وخارج عقيدة أهل السنة والجماعة»، وهو رأي مخالف لعلماء أهل السنة والجماعة باعتبار الصحابة «كلهم ثقات وعدولًا».
لاحقًا، قدم عضو شورى الحزب، عماد أبو خطب، شكوى «قدح أحد الصحابة» ضد بني ارشيد لدى المحكمة المركزية في الحزب، لتتحول فيما بعد إلى دعوى قضائية.
انتسب بني ارشيد لجماعة الإخوان المسلمين مطلع السبعينيات، حين كان رئيسًا للاتحاد العام لطلاب كلية البوليتكنيك، وتدرّج في المناصب الداخلية للحزب والجماعة، حتى ترشح لمنصب الأمين العام للحزب أمام القيادي الراحل عبد اللطيف عربيات، في العام 2006. وكان بني ارشيد حينها محسوبًا على تيار الصقور داخل الجماعة، والذي دعمه للوصول للأمانة العامة في العام نفسه بعد هيمنة تيار الحمائم على قيادة الحزب منذ تأسيسه. كما تسلم رئاسة الدائرة السياسية في الحزب عام 2010 لغاية عام 2012. وانتخب نائبًا للمراقب العام للجماعة في عام 2012، واعتقل عام 2014 بتهمة تعكير صفو العلاقات مع دولة الإمارات، بعد كتابته مقالًا هاجم فيه تصنيفها لجماعة الإخوان «منظمة إرهابية»، وأفرج عنه بعد انتهاء محكوميته مطلع كانون ثاني عام 2016.
محاولات لاحتواء الأزمة
في البداية، قدمت عدة جهات داخل الحزب مبادرات لاحتواء الأزمة، إلّا أنها فشلت جميعها في الوصول إلى حلّ. وقبل صدور القرار النهائي للمحكمة الداخلية، تدخل المكتب التنفيذي للحزب، والذي يمثل الادعاء العام بالقضايا المنظورة أمام محاكم الحزب، بهدف إلغاء الحكم بحق بني ارشيد، كما تدخّل الأمين العام للحزب، مراد العضايلة، ضمن مبادرة قيادة الحزب، لتنفيذ شروط اقترحها أبو خطب، كان على رأسها أن يترضّى بني ارشيد على الصحابي معاوية وأن يقدّم اعتذارًا عبر صفحته، لكنه رفض. كما طُلب منه كتابة سطرين في ورقة ليعتذر ورفض كذلك، بحسب ما يروي الزرقان.
لكن رامي العياصرة، عضو مكتب شورى الحزب، يؤكد أن بني ارشيد ترضّى عن جميع الصحابة عبر صفحته على الفيسبوك، واعتذر في مجموعة شورى الحزب، لكن صيغة الاعتذار لم ترضِ المشتكي، وكان بها لبُس بالصياغة التي طُلبت من طرف المشتكي.
حينما أبُلغ بني ارشيد بوجود قضية بحقه لدى المحكمة المركزية، رفض المثول أمامها، ليصدر القرار الأول بالفصل، لكن تم التراجع عن القرار ليصير تجميدًا لعضويته لمدة سنتين. بعدها استأنفَ لدى المحكمة العليا، ليعاد فتح ملف القضية من جديد، قبل صدور القرار النهائي بالتجميد مدة سنتين.
يمكن القول إن أزمة التجميد جاءت نتيجة قناعة فكرية للقيادي بني ارشيد؛ الأمر الذي يؤكده خصومه -فكريًا وتياريًا- داخل الحركة.
يقول بني ارشيد حول أزمة التجميد لحبر، فعلتُ كل ما طُلبَ مني، حذفتُ التعليقات، وترضيتُ على جميع الصحابة عبر صفحتي الخاصة وقدمت اعتذارًا في مجموعة شورى الحزب [عبر الواتساب] كما طُلِب مني. أمّا الذهاب إلى محكمة البداية فهو حق كفله لي قانون الأحزاب، وهو طعن في قرار التجميد وليس في الحزب. ويؤكد بني ارشيد أن انتقاد معاوية ليس مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة، إذ إن هذا موضوع خلافي بين أهل السنة، قديمًا وحديثًا. ويضيف بني ارشيد أن قيادة الحزب تعاملت مع الشكوى باعتبارها شكوى شخصية وليست من قضايا الحق العام.
أمّا العياصرة، فيؤكد أن حضور المحاكم الرسمية أو الداخلية، والذهاب اتجاه العقوبة؛ أمر غير مرغوب به، فذلك يشكل حالة من الاستعصاء الداخلي، خاصة وجود محاكم في القضايا الفكرية، «كان من المفترض أن تُترك القضية للجماعة وليس للحزب، حيث إن ميدان عمل الحزب سياسي وليس فكري، كما أن الجماعة التي تعتبر مدرسة دعوية لا تتبنى رأيًا فقهيًا محددًا؛ فهناك من يعتقد بالعقيدة الأشعرية ونجد من يعتقد بالعقيدة السلفية أو حتى بالطريقة الصوفية، والقضية بحد ذاتها [الفتنة بين علي ومعاوية بعد مقتل عثمان] محل نظر في التاريخ الإسلامي والموروث العربي».
يعارض العضايلة ما تحدّث به العياصرة، فيرى أن الحركة الإسلامية واسعة ومؤسسية وتحتكم للمؤسسة الشورية، وهي وعاء واسع، وتحمل التنوع الفكري والسياسي، وهذه من عناصر قوتها، فلا تصنع قوالب متشابهة بل على العكس تبرز الطاقات المختلفة، لكن هناك ضوابط وسياسات محددة سواء للجماعة أو الحزب، ضمن المرجعيات المتفق عليها، «أي فرد داخل الحركة يحق له التفكير كيفما شاء لكنه حينما يريد أن يعبر أو ينطق وجب عليه النطق وفق رؤية الحركة الإسلامية وسياساتها».
ويعتبر العياصرة أنّ رأي بني ارشيد ليس «خطأ أو هفوة» يجب محاكمته عليه، فهو رأي قابل للحوار والنقاش، فالصحابة عدول لكنهم ليسوا معصومين، مؤكدًا أن الرأي الذي صدر جاء عن قناعة فكرية.
إذًا فأزمة التجميد جاءت نتيجة قناعة فكرية للقيادي بني ارشيد؛ الأمر الذي يؤكده خصومه -فكريًا وتياريًا- داخل الحركة. يشدد الزرقان على أن بني ارشيد عرف تحوّلًا فكريًا كاملًا خلال السنوات الأخيرة، حتى صار ينظّر بمفاهيم الدولة المدنية ويطالب بتطبيقها، وهو ما يخالف مبادئ الحركة الإسلامية، سواء الجماعة أو الحزب.
مراجعات بني ارشيد
عام 2014 بدأ بني ارشيد، كما ينوه خصومه داخل الحركة، بالتحول نحو اتجاه التيار الآخر داخل الحركة حتى بات أقرب، أكثر من أي وقت مضى، من الحمائم.
يشير بني ارشيد إلى أنه بدأ مراجعاته نهاية العام 2013، ويقول إن هذه المراجعة الفكرية والسياسية جاءت نتيجة تراكم العمل السياسي والتجارب العامة، ومحطات الثورات المضادة للربيع العربي والانقلاب العسكري على الرئيس المصري الراحل محمد مرسي. وفي السياق ذاته بدأ العمل ضمن شخصيات عربية وعالمية على منتدى كوالالمبور الفكري والحضاري، واختير أمينًا عامًا للمنتدى الذي ترأسه مهاتير محمد، وحمل المؤتمر الأول للمنتدى عنوان «الدولة المدنية» عام 2014.
دولة إسلامية أم مدنية؟
أولى المراجعات الفكرية والسياسية التي قدمها بني ارشيد في العلن كانت عن الدولة المدنية، والتي سرعان ما اصطدمت بـ«الموروث والمألوف»، داخل الحركة التاريخية، كما يقول بني ارشيد لحبر، رافضًا توظيف الفتوى الدينية في الاجتهادات السياسية، وأن الحكم على الأداء السياسي يأتي تقديرًا للمصلحة، لأن الحلال والحرام يختلف فيه العلماء، كالمشاركة في البرلمان والحكومة.
أولى المراجعات الفكرية والسياسية التي قدمها بني ارشيد في العلن كانت عن الدولة المدنية، والتي سرعان ما اصطدمت بـ«الموروث والمألوف»، داخل الحركة التاريخية.
ووفق تعريف بني ارشيد للدولة المدنية فإنها دولة يحكمها الدستور (العقد الاجتماعي) وتشكل منظومة التشريعات والقوانين مرجعية حاكمة لتنظيم التوازن والتلازم بين السلطات والصلاحيات وطريقة التداول على السلطة، وضمان حق المواطنين بممارسة حرية الرأي والتعبير والتنظيم، والأمة هي مصدر السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية أو التقنينية من خلال ممثليها.
ويرى أن هناك معايير محددة تجعل الدولة مدنية وهي؛ تمثيلها إرادة المجتمع، وكونها دولة قانون، وانطلاقها من نظام مدني يضمن الحريات ويقبل التعددية والآخر، وقيامها على اعتبار المواطنة أساسًا في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين فيها، والتزامها بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.
طروحات بني ارشيد حول الدولة المدنية أثارت جدلًا عميقًا داخل الحركة الإسلامية، وأخذت مساحة من النقاش بين القيادات والتيارات المختلفة.
يرى بني ارشيد أن المقاومة داخل بعض أطر الحركة لهذا المفهوم أمرًا طبيعيًا، لكن لا يجب التأخر في نقاشه، لما فيه من تعزيز وتعظيم للمسارات المستقبلية لكلٍ من الحركة والدولة التي عبرت عن أهمية الدولة المدنية في أكثر من مناسبة. مؤكدًا أن مفهوم الدولة المدنية ورد بكل مضامين الوثيقة السياسية التي أقرتها الحركة الإسلامية، ومن يَقُل غير ذلك فهو مخالف لتوجهات وسياسات الحركة الإسلامية المعتمدة.
السنة والشيعة والمشروع الإيراني
يقول بني ارشيد إنه أجرى مراجعة في التاريخ الإسلامي، والموقف منه مسبوقٌ بمواقف علماء ومؤرخين قديمًا وحديثًا والأمر ليس جديدًا، كما قدّم مراجعة كاملة في المشروع الإيراني، حيث كتب مقالًا في عام 2017 حمل عنوان قراءة هادئة في المشروع الإيراني، قال فيه إن الأوصاف التي يطلقها الذين يروْن في المشروع عدوًا تاريخيًا يتصدر أولويات المواجهة؛ نجدهم يصفون المشروع بـ«فارسي، مجوسي، رافضي، شيعي، صفوي، كافر، إلخ» وهو ما وصفه بخلط القومي بالسياسي بالطائفي الديني، ما من شأنه أن يزيد الوضع تعقيدًا.
واعتبر بني ارشيد القول إن العرق الفارسي هو سبب العداوة، عصبية وعنصرية تتناقض مع روح الإسلام، وأن إيران دولة تتكوّن من عدة إثنيات عرقية ودينية ومذهبية. صحيح أن لها مشروعها الإقليمي الذي يتنافس أو يتناقض مع بقية الدول التي تتبنى مشروعًا ونفوذًا لتحقيق مصالحها، لكن «في عالم السياسة ليس عيبًا؛ أن تسعى الدولة (أي دولة) لإنجاز مصالحها وحماية أمنها. ولكن الخلل أن تكتفي الدولة بدور وظيفي في خدمة الآخرين». منوّهًا أن الشعب الإيراني نجح في الثورة ضد نظام الشاه، وفي بناء قوة عسكرية ونفوذ إقليمي عبر الامتداد الطائفي، ولكن النظام الإيراني فشل في بناء دولة مدنية حديثة.
ووفق مراجعة بني ارشيد للمشروع الإيراني، فإنه يرى أن من الممكن التفاهم والتعاون مع إيران على قواسم مشتركة؛ باعتبارها أحد وقائع الجغرافيا السياسية مع المحيط العربي، أو الانزلاق في صراعات معها يدفع ثمنها الجميع، ويتابع: «المنطقة العربية تواجه تحديات وتهديدات، وإيران إحداها، فيما تشكل «إسرائيل» التهديد الحقيقي، حيث تحاول الأخيرة تكوين تحالف مشبوه تحت زعم الخطر الإيراني. لذلك، فإن مواجهة المشروع الإيراني سواء أكان تحديًا أم تهديدًا لا يمكن أن يتم عبر التحالف مع المشروع الصهيوني». مضيفًا أنه ينبغي إدارة الاختلاف بين الشيعة والسنة من خلال الحوار والتعاون وليس من خلال الحسم العسكري، وهذا يتطلب حسن نوايا من جهة إيران بالتوقف عن التدخل في البلاد العربية.
بني ارشيد: لن أنشق والمستقبل بيد الحركة ذاتها
مساء 26 آيار الماضي، جُدّدَ انتخاب العضايلة أمينًا عامًا للحزب بفارق كبير، إذ حصل على 338 صوتًا مقابل منافسه علي أبو السكر، الذي كان حليفًا لتيار الحمائم والوسط الذي ينتمي إليه بني ارشيد، الذي حصل على 199 صوتًا.
وهذه ثالث انتخابات يخسر فيها ذلك التحالف منصب الأمين العام، الأولى كانت عام 2018 حينما خسر بني ارشيد أمام الزيود، ثم خسارة محمد خليل عقل أمام العضايلة في انتخابات 2019، لكن لم تكن تلك الخسارات بالفارق الذي شهدته الانتخابات الأخيرة. ورغم صعوبة النتائج على القيادات الحمائمية والوسطية، لا يفكر بني ارشيد بالخروج من الجماعة، كما يرى أن القيمة الحقيقية للتأثير تكون داخل الحركة لا خارجها، ويستدل بحديثه عن تجارب الانشقاقات السابقة التي أثبتت فشلها اليوم، مؤكدًا أن الفترة الماضية شهدت عودة شخصيات وقيادات خرجت من الحركة سابقًا، وهو ما أكده العضايلة أيضًا.
يقّر بني ارشيد أن هناك تراجعًا للحركة في الأردن والعالم الإسلامي عمومًا، لكنها كما يقول، ليست المرّة الاولى التي تمرّ بها الحركة بمنعطفات تاريخية.
فيما يعتقد خبير الحركات الإسلامية، حسن أبو هنية، أن أزمة التجميد قد تبدو قانونية ولكنها في حقيقتها شخصية، لوجود تيار صقوري يتربص في بني ارشيد، فيما تبدو الخيارات أمامه محدودة، حيث إن القيادي الذي صعد داخل مناصب الحركة الإسلامية بدعم من التيار ذاته، بات يشكل عبئًا عليه وعلى قواعد الجماعة في ظل قفزاته المختلفة دون العودة إلى القرارات الهيكلية أو المؤسسية بداخلها، بالتزامن مع محاولة قيادة الحركة الحفاظ على هيكلها التنظيمي في السنوات الأخيرة.
ويقول أبو هنيّة لحبر إن بني ارشيد يتمسك بالجماعة؛ لإدراكه أن في حال خروجه يفقد الامتيازات، وكذلك لمعاينته تجارب الخروج السابقة. ما يريده بني ارشيد هو العكس، أي إعادة تموضعه مع القواعد، ولذلك يحاول الطعن في قرار تجميده، لكن الحزب حسم قراره بشكل نهائي في قضيته، مؤكدًا أنه لو ألغي القرار فستبقى القطيعة موجودة بينه وبين جماهيريته داخل الجماعة.
أمّا عن مستقبل الحركة الإسلامية في الأردن، فيقّر بني ارشيد أن هناك تراجعًا للحركة في الأردن والعالم الإسلامي عمومًا، لكنها كما يقول، ليست المرّة الاولى التي تمرّ بها الحركة بمنعطفات تاريخية، «هناك محطات زمنية استُهدِفت فيها التيارات الإسلامية على وجه العموم، والإخوان المسلمون تحديدًا، لكن لم تكن النهاية أو الخاتمة»، والدليل أنه رغم استهداف الحركة على مدى سنوات إلّا أن هذه المحاولات لم تنجح وبقيت الحركة موجودة في الشارع والبرلمان والنقابات. ويوضح أن مستقبل الحركة رغم تأثره بالمتغيّرات الرسمية المحيطة بها، إلّا أنها هي من ترسمه وتحدده من خلال إرادتها وإدارتها لنفسها، و«إذا استطاعت الاستمرار في التوسع وبناء شركات وطنية وتحالفات سياسية فلن يستطيع أحد أن يمنع دورها وحضورها المستقبلي».