أعلنت إدارة العمليات العسكرية في سوريا، والمؤلفة من فصائل المعارضة المسلحة، تولي أحمد الشرع رئاسة البلاد وتمثيلها رسميًا خلال المرحلة الانتقالية. جاء القرار ضمن حزمة قرارات أعلنها المتحدث باسم إدارة العمليات العسكرية، العقيد حسن عبد الغني وشملت تفويض الشرع بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة الانتقالية يتولى مهامه إلى حين إقرار دستور دائم للبلاد ودخوله حيز التنفيذ بعد إلغاء العمل بدستور سنة 2012، بالإضافة لحل حزب البعث العربي الاشتراكي ومجلس الشعب والجيش والأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد.
بدأت المرحلة الانتقالية في سوريا بعد يومين فقط من سقوط نظام الأسد مطلع كانون الأول الماضي، وبالتحديد عندما كلّفت فصائل المعارضة محمد البشير رئيس حكومة الإنقاذ السورية، التي كانت تدير إدلب منذ سنوات، بتشكيل حكومة سورية جديدة لإدارة المرحلة الانتقالية التي تمتد حتى الأول من آذار 2025. جاء هذا القرار عقب اجتماعٍ عُقد لتنسيق ترتيبات نقل السلطة وتجنّب دخول البلاد في حالة من الفوضى، إلا أن سوريا اليوم تواجه تحديات معقدة على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي تهدد فرصها في الانتقال لمشروع وطني شمولي يضمن حقوق أفراده ويحقق سيادة البلاد.
لمناقشة هذه التحديات، نحاور الباحث السوري المتخصص في دراسة الاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عمر ضاحي، وهو أستاذ مشارك في الاقتصاد في كلية هامبشاير في الولايات المتحدة الأمريكية حرر ونشر عشرات المقالات والأوراق البحثية حول سوريا في العديد من المواقع العربية والمجلات الأكاديمية العالمية.
أفنان أبو يحيى: أمام المشهد المعقد والملفات الكبيرة المطروحة في سوريا اليوم، كيف يمكننا التفكير بأبرز التحديات التي تعتقد أنها تواجه البلاد بعد سقوط نظام الأسد؟
عمر ضاحي: لا يمكننا فهم التحديات التي تمر بها المرحلة الانتقالية دون فهم تركة الحرب على سوريا وتركة نظام البعث. في الحالة السورية، نحن لسنا بصدد الحديث عن انتقال من حكومة لأخرى، بل عن سقوط منظومة كاملة متشابكة ومعقدة كانت تدير وتسيطر على كل القطاعات الحيوية، وخلّفت الكثير من الإشكاليات التي أفضّل أن أفكر بها كعناوين أكثر من كونها قائمة تسلسلية، لأن العنوان الواحد أيضًا يشمل الكثير من الإشكاليات والتحديات الفرعية.
تركت الحرب سوريا بلدًا فقيرًا جدًا ومدمرًا، يعاني من شروخ متفرقة على الصعيد الاجتماعي والعرقي والطائفي، وتحيط به المخاوف الأمنية التي تفقده جزءًا من سيادته. إن أردنا أن نفكر بشيء إيجابي حول هذه المرحلة، فهو فقدان النظام السابق لشرعيته، ليس فقط عند المعارضة التي خسرها منذ سنوات، بل أيضًا عند نسبة كبيرة ممن كانوا مؤيدين له أو معارضين للمعارضة، سواء أكان ذلك لتحفظاتهم على المعارضة أو لاعتقادهم بأن النظام أفضل من غيره.
أدت طريقة سقوط النظام وهروب رأسه واختفاء الجيش في أكثر الأحداث مفصلية إلى نشوء وعيٍ جديدٍ عند السوريين كرّس الحاجة للانتقال إلى مرحلة جديدة، وسنحت الفرصة للبحث عن انتقال سلمي قدر الإمكان يشمل جميع القطاعات والملفات والفئات المجتمعية. في البداية، تصرفت قوى المعارضة أو سلطة الأمر الواقع أو حكومة تصريف الأعمال التي استلمت السلطة بعد سقوط النظام بشكّل مسؤول، إذ أعلنت الأمان على كل من ألقى سلاحه، ولم يقوموا بارتكاب عمليات قتل أو عقاب جماعي، وحاولوا الحفاظ على مؤسسات الدولة، وأعربوا عن سعيهم لبناء دولة ذات سيادة قانون، وهو ما كان مطمئنًا إلى حد ما من أجل افتراض حسن النية وخلق فرصة قد تؤسس لمشروع وطني شامل.
إلا أن هذه الفرصة قد تكون مهددة أيضًا بتصرفات الحكومة المؤقتة الحالية والمجموعات المسلحة المنضوية تحتها كما هي مهددة بالشروخ العميقة التي خلفتها الحرب وممارسات النظام السابق، وحتى لو تصرفت هذه الحكومة على أفضل نحو وبشكل عادل وشمولي وعقلاني -وهو ما لا يحصل حاليًا-، فقد لا يكون ذلك كافيًا لتجاوز العديد من الأزمات البنيوية والتهديدات الداخلية والخارجية التي لحقت بسوريا عبر السنوات الماضية، والتي تعيق بالضرورة سلمية هذه المرحلة الانتقالية.
من ناحية أخرى، فإن فهمنا للتحديات التي تواجهها سوريا اليوم مرتبط بشكل وثيق برؤيتنا نحو المضي قدمًا، ولذلك فإن حديثي عن أولويات المرحلة يتمحور حول هدف واضح، وهو بناء سوريا لتكون بلدًا ديموقراطيًا غير طائفي وذات سيادة وتتمسك بسيادة القانون وحقوق الإنسان والمساواة على أساس المواطنة، فضلًا عن المؤسسات الوطنية القوية القادرة على تلبية احتياجات المجتمع السوري وطموحاته. هذا ما أتطلع له في المستقبل، وفي ضوئه أحدد التحديات والمخاوف والتي ستكون مختلفة لو كان الهدف أن نذهب لحكومة دكتاتورية أخرى مثلًا.
تشكل احتمالات الفوضى الأمنية قلقًا حقيقيًا في سوريا، تحديدًا مع تكرار بعض الحوادث ذات البعد الانتقامي. ما رأيك بتعامل الإدارة الجديدة مع هذا الملف حتى الآن، وكيف يمكن تجاوز هذا التحدي خصوصًا وأن القوى العسكرية لم تنضوِ بعد تحت جيش جديد يضبط الأمن ويحتكر السلاح؟
يعتبر التحدي الامني واحدًا من أكثر الملفات حساسية إذ كانت سورية خلال الـ14 عامًا الماضية مقسمة كأمر واقع، وهو ما ولّد العصابات ومجرمي الحرب وشبكات الفساد والتهريب والتسليح. هذه الهواجس موجودة بقوة في أوساط المجتمع جراء تنامي اقتصاد الحرب بمعناه السيئ والذي ينطوي على تسهيل تجارة المخدرات وارتكاب عمليات سرقة وخطف، يضاف لها الحساسية الطائفية في سوريا في مناطق مثل حمص، حيث تصلنا بشكل متكرر أخبار حول انتهاكات كبيرة مرتبطة باستهداف الأفراد بناءً على انتمائهم الطائفي.
يحيط الغموض بكثير من هذه الأحداث وتشكل المرحلة الحالية بيئة خصبة لانتقال الشائعات والأخبار المضللة، رغم تواجد بعض المؤسسات الحقوقية التي ترصد التوترات الطائفية وانتهاكات حقوق الإنسان أو حتى محاولات مجموعات النظام السابق لإعادة سيطرتها وهيمنتها في بعض المناطق. ومع الوقت، يتزايد لدى الأفراد شعورٌ بأن الحكومة الحالية تتجاهل هذه الحوادث المقلقة وتغض النظر عنها، عدا عن كون الحكومة نفسها جزءًا من هذه الضبابية، جرّاء تخبط القرارات والتراجع عن بعضها.
بالإضافة لذلك، ثمة تحدٍ داخلي آخر مرتبط بحفظ الأمن والاستقرار، فحتى لو حاولت الإدارة الحالية أن تفرض حلًا أمنيًا، فقد لا يكون هذا الحل الأمني مرغوبًا به، نظرًا لاختلاف توجهات الجماعات المسلحة المنضوية ضمن هذه الإدارة والتي تعتبر نفسها قد قاتلت مع هيئة تحرير الشام ولها الحق بالتعبير عن أجندتها الخاصة، وهي أجندة قد لا تكون أيضًا مسرورة بالنهج المعتدل التي تحاول الهيئة تمثيله. مثلًا، أثار إعلان إدارة العمليات العسكرية في سوريا العفو العام عن العسكريين المجندين تحت الخدمة الإلزامية جدلًا كبيرًا، ولذلك وجدت الإدارة نفسها مضطرة لتؤكد في إعلان آخر أن هذا العفو لا يشمل المتورطين في جرائم الحرب.
افتتحت الحكومة الحالية أكثر من مركز للتسوية في مدن حلب وحمص وحماة وطرطوس واللاذقية، بهدف تسوية أوضاع عناصر قوات النظام السوري والسيطرة على انتشار السلاح وسد الفراغ الأمني الكبير الناجم عن انهيار قوات النظام وجهاز الشرطة، إلا أن هناك حاجة لإدانة عمليات العقاب الجماعي وانتهاكات حقوق الإنسان على أساس عرقي أو طائفي بدون أي التباس أو مواربة. حتى لو اشتبه بارتكاب شخص ما جرائم حرب ضمن خدمته للنظام السابق، لا يحق قتل أي أحد خارج إطار المحاكمة العادلة والقانون.
لا ينبغي على الحكومة أيضًا أن تعتمد على مقاتليها السابقين أو أجهزتها الأمنية التي كانت تعمل في إدلب فحسب، إذ لا تملك الهيئة الكوادر الكافية، والتي يقدر عددها بحوالي 30-45 ألف فرد، لبسط سيطرتها الأمنية على جميع أنحاء سوريا، الأمر الذي يستدعي الاعتماد على الكادر المؤهل والخبرات التي أنتجتها المؤسسات السابقة. ترتبط هذه القضية أيضًا بالحاجة لحل الفصائل السورية تمهيدًا لتشكيل جيش جديد يتبع وزارة الدفاع إذ تعمل الإدارة الحالية «على إيجاد صيغة تضمن ذوبان التشكيلات في جسم عسكري واحد».
إن دمج كل الفئات المقاتلة تحت جيش وطني واحد ضروريٌ لتوحيد وعي هذه المجموعات، ولتوجيه بوصلتها لمواجهة التحديات السيادية التي تواجه سوريا، إلا أن مدى فاعلية الانتقال إلى جيش وطني حقيقي وتجاوز حالة الفوضى الأمنية الداخلية غير مستقلة عن التحديات الأخرى وأبرزها تحديد خارطة طريق واضحة وصيانة كرامة المواطن وحقوقه. إذا شعر المجتمع السوري ومكوناته بقدرة الإدارة الحالية على تحقيق العدالة، ستتجدد ثقتها بالمؤسسة الأمنية والعسكرية، وإلا فإن انعدام العدالة قد يؤدي بالناس للقبول بالفصائل المسلحة كونها هي الوحيدة القادرة على حمايتها وتحصيل حقوقها.
تتعامل الإدارة السورية مع خرائط سيطرة معقدة تهدد سيادة الدولة، أولًا هناك بعض المناطق الجغرافية الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، وثانيًا هناك الوجود العسكري الأجنبي في سوريا بما فيه احتلال «إسرائيل» لمساحات واسعة من سوريا، فضلًا عن التواجد الأمريكي المستمر. ما هي المخاوف التي تثيرها هذه التحديات؟ وكيف تنظر الإدارة الجديدة لكل منها؟
يعتبر الاحتلال الإسرائيلي لبعض المناطق في سوريا والهجمات الجوية التي ينفذها جيشه على المواقع العسكرية والتوغلات البرية التي يقوم بها جنوبيّ البلاد أبرز التحديات الخارجية التي تهدد سيادة سوريا اليوم. ما زالت الإدارة السورية الجديدة لا تتعامل أو تتفاعل بالشكل الكافي مع هذه التهديدات، ويمكن من ناحية أن يكون هذا الصمت الحكومي مفهومًا بطريقة ما، لأنها تدرك حجم الانحياز الغربي الكامل للإجرام الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، ما يعني أن إثارة القضية أو تصعيدها قد لا يكون في مصلحتها، وقد يفتح عليهم باب الويلات من قبل الدول الغربية التي لا تزال تحاصر سوريا اقتصاديًا.
مجتمعيًا، فإن هذا التجاهل الرسمي غير مبرر بالتزامن مع حرص الإدارة الجديدة عبر تصريحات مختلفة على التأكيد أنها لا تخطط لأي تحرّك خارجي، خصوصًا وأن الغارات الاسرائيلية الجوية قد ألحقت دمارًا بأكثر من 80% من الأسلحة الاستراتيجية السورية بما فيها القوات الجوية والأسطول البحري. يضاف للتهديدات الإسرائيلية تواجد «شبه احتلال أمريكي» في الشمال الشرقي لسوريا يدعم قوات سوريا الديموقراطية «قسد» التي يغلب عليها الطابع الكردي.
يصبح التهديد الأمريكي أكثر تعقيدًا لالتقائه مع شرخ من شروخ الحرب وهو التمييز العرقي ضد الأكراد في سوريا. عانت القومية الكردية من الاضطهاد المرير من قبل الحكومات السورية المتعاقبة وحُرِمت من حقوقها السياسية والثقافية والمدنية جرّاء اعتداءات النظام السوري والمعارضة على حد سواء، خصوصًا وأن قوى المعارضة التي تستلم الحكم اليوم متحالفة مع تركيا التي تعلن لهم العداء. تتضارب الأخبار اليوم حول الوضع في الشمال الشرقي، إذ تجري مواجهات عسكرية ما بين قسد وقوات موالية لتركيا بالتزامن مع عملية تفاوض تشمل أطرافًا دولية بهدف تسوية القضية.
بحسب ما تداولته وسائل الإعلام، قامت الإدارة الجديدة في دمشق بالتفاوض مع قسد وتقديم عرض يتضمن الاعتراف بالحقوق الكردية الثقافية، وتضمينها ضمن الدستور القادم، بالإضافة إلى فتح المجال أمام الأكراد للدخول ضمن مؤسستي الأمن والجيش، مع التأكيد على أن الإدارة لن تكون مركزية وستتيح نطاق عمل للمجالس المحلية لإدارة شؤون المحافظات. إلا أن قسد لم توافق على العرض لإصرارها على دخول الجيش كتلة واحدة، ونيتها الحفاظ على مناطق انتشارها العسكري الحالية.
برأيي، فإن التفاوض على هذا الملف يتطلب مساومة حقيقية من جميع الأطراف ونية جادة للإعلاء من المصلحة الجمعية وهي وحدة سوريا وسيادتها والتخلص من القوات الأمريكية، وفي الوقت ذاته على الحكومة أن تعترف بالاضطهاد التاريخي للأكراد وتقر باحترام حقوقهم السياسية والاقتصادية ضمن إطار مبني على المواطنة وليس التحاصص العرقي أو الديني، وقد يكون هناك نوع من الاعتراف باللامركزية الإدارية، على ألا تكون هذه اللامركزية سياسية. لا يمكن أن تطبق الحكومة حلًا في أراضيها غير موجود في منطقة أخرى، أو بكلمات أخرى لا يمكن أن تكون سوريا مقسمة وبعض أجزائها مستقلة وبعض أجزائها تابعة لدمشق.
يهدد ذلك وحدة الدولة وسيادتها، خصوصًا وأن الأكراد لم يكونوا وحدهم الشريحة الاجتماعية السورية المهمشة تاريخيًا، وما نحتاجه اليوم هو عقد اجتماعي جديد يحترم كل الثقافات والقوميات. أمّا حول تصريحات وزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، والتي تلوّح باللجوء للقوة مع القوات الكردية في حال تعثرت جهود التفاوض، فهي مرفوضة بالكامل. أولًا لأن استخدام القوة سيورط كل سوريا في حرب ونزاعات جديدة تؤثر على العملية الانتقالية وطبيعة العلاقات العربية الكردية. وثانيًا لأن التصريحات الحكومية التي تخير الأفراد بين الانصياع للقرارات أو مواجهة العقوبة هي جزءٌ من إرث النظام السابق الذي لا ينبغي لنا أن نعيد إنتاجه.
كيف تنظر لآفاق تجاوز الانقسام السوري الداخلي وبناء مشروع وطني سوري وتحقيق المصالحة، خاصة في ظل المخاوف تجاه تجدد الصراعات الطائفية والإثنية؟
ما زال من غير الواضح طبيعة خارطة الطريق التي تقود هذه المرحلة. لا يعلم السوريون إن كان سيكون هناك مؤتمر وطني شامل يؤسس للمرحلة القادمة، خصوصًا وأن الحكومة الحالية لا تتمتع بشرعية قانونية، لأن شرعيتها ثورية مستمدة من إسقاط النظام السابق. حددت الإدارة الجديدة تاريخ الأول من آذار لإنهاء المرحلة الانتقالية دون أن تحدد ما يترتب على ذلك. من الممكن تفهّم هذا القصور في التخطيط، لأن قوى المعارضة نفسها لم تكن تتوقع استلام الحكم بهذه السرعة، إلا أن التطورات المتسارعة بما فيها انهيار النظام وعقد اتفاق معين مع الجيش وجهات أخرى ما زلنا لا ندرك تفاصيله، دفعهم للتوجه لدمشق وتولي السلطة.
ولذلك، ينبغي البدء برسم خارطة طريق تنظم هذه المرحلة الانتقالية وتحدد عناوينها، فمع أن مجموعات كبيرة من المجتمع السوري قد تكون مستعدة لمنح الإدارة الحالية فترة تجربة، إلا أنهم لا يثقون بها بالضرورة ولا بتاريخها الذي يعتبره المجتمع الدولي إرهابيًا بالتعريف الغربي، حتى لو لم يكونوا معتبرين داخليًا كذلك. التوجس اليوم هو التشكيك فيما إذا كانت نية هذه المجموعات تحقيق انتقال شامل في سوريا أو الاستفراد بالسلطة. توحي بعض تصرفاتهم بالنية الجادة لتجاوز مرحلة الحرب في سوريا وتحقيق انتقال حقيقي نحو السلم لأنهم واعون لمخاطر المحاولة بالاستفراد بالسلطة، إلا أن بعض قراراتهم تناقض ذلك.
قامت الإدارة السورية الجديدة بتعيين كل الوزارات والمؤسسات والإدارات الرسمية بلون واحد من التوجهات السياسية، وأصدرت قرارات رسمية لا يمتلكون الشرعية القانونية لإصدارها. لا يمتلك الشكل الحالي من الحكم الشرعية الكافية لرسم شكل الدولة المستقبلية أو إجراء تغييرات جذرية في هيكل سوريا مثل توقيع اتفاقيات دولية أو إرساء خطط تغيير القطاع العام ومؤسسات الحكومة، لأن هذه الحكومة الانتقالية مؤقتة، أي لا نعلم بعد إن كانت ستستمر في المرحلة القادمة، ولذلك عليها أن تبتعد عن اتخاذ القرارات العشوائية غير الشرعية التي تلحق الضرر بالسوريين مثل صرف نصف موظفي القطاع العام.
برأيي، فإن الإدارة الحالية تمرر قرارات مشابهة تحت عناوين ملاحقة فلول النظام السابق ومنع إنتاجه من جديد، لكن ذلك مبالغ به، فرغم أن الحكم الديكتاتوري السابق كان يرفض تشكيل أي ند له ويدمّر أي مراكز ثقل مستقلة عنه، إلا أن مفهوم «الدولة العميقة» غير موجود في سوريا حتى يعيد النظام إنتاج نفسه. لم يبق هناك من يحارب عن الأسد بعد الآن وتشتت القوى المؤيدة للنظام خلال سنوات طويلة من الحرب وحتى ما تبقى منها من أفراد وشبكات كانوا قد أعلنوا تعاونهم وحاولوا أن يتصالحوا مع الحكم الجديد. ولذلك ينبغي أن توجه الحكومة الحالية جهودها لتحقيق العدالة الانتقالية عبر ضبط الأمن ودراسة الواقع السوري والتمهيد لمشروع وطني قادم وحوار شمولي حول شكل الدولة الجديدة وتمثيلها السياسي.
تتقاطع المصالحة الوطنية من ناحية أخرى مع ملفات مركزية مثل محاكمة مجرمي الحرب وعودة اللاجئين، ليس فقط من أجل إعادة استقبال اللاجئين السوريين الذين يرغبون بالعودة لكنهم لا يجدون مكانًا يعودون إليه، بل أيضًا ليكونوا جزءًا من الحوار الوطني الذي ينطلق من احترام حقوق السوريين المضطهدة والحاجة للاستماع لاحتياجاتهم وتطلعاتهم في سوريا الجديدة. على الخطط الرسمية أيضًا أن تمهد لمحاكمة رؤوس النظام السابق من الأشخاص المسؤولين عن إصدار الأوامر وانتفعوا أمنيًا وعسكريًا واقتصاديًا من كل المنظومة القمعية، إلا أن غالبية من قاتلوا لجانب النظام كانوا من السوريين المأمورين الذي خُيّروا بين الخدمة الجبرية أو القتل أو السفر للخارج، وهو خيار لم يكن متاحًا لجميع السوريين خصوصًا وأن العقاب قد يطال العائلة أو الأصدقاء أو كل البلدة في حال قرر أحد الأفراد الانشقاق والهرب.
إلا أن العدالة الانتقالية أكثر تعقيدًا من وجود العفو أو المحاكمات، فحتى بعض الدول التي شهدت عدالة انتقالية، لم تشرع في تنفيذ محاكمات مجرمي الحرب قبل عشرات السنين من إرساء نظام حكم جديد. تشمل العدالة الانتقالية جلسات التصالح والإعلان عن حقيقة ما حصل خلال السنوات الماضية واحترام حق الشعب السوري في الوصول للحقيقة ورصد الانتهاكات، سواءً تلك التي ارتكبها النظام السوري أو المعارضة نفسها، وكلما سارعت الحكومة الحالية في تحقيق ذلك، مبتعدةً عن اتخاذ القرارات التي تمس بالسيادة السورية أو التي تقع خارج اختصاصها، أكدت للشعب السوري أهليتها بقيادة المرحلة وبددت مخاوفهم حول الانتهاكات الأمنية.
نتيجة الصراع المسلح وعقود من نهب مقدرات الدولة، تواجه سوريا تحديات اقتصادية هائلة، فضلًا عن العقوبات الغربية التي تنعكس على حياة المواطنين اليومية، كيف ترى القرارات الحكومية الأخيرة المرتبطة بالمشهد الاقتصادي؟ وما الذي يؤخر رفع العقوبات عن البلاد حتى الآن؟
ألقت الحرب بظلالها على الظروف المعيشية للسوريين، يعيش 90% من السوريين تحت خط الفقر الأدنى، وتعذر على أكثر من 12 مليون شخص الحصول على ما يكفي من الغذاء أو توفير كلفته، بينما يعاني أكثر من 600 ألف طفل من سوء التغذية، واحتاج 15 مليون شخص على الأقل إلى أحد أشكال المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة، في حين تصل نسبة الدمار في المساكن والممتلكات العامة إلى نحو 27%. يفتقر معظم الشعب السوري إلى أبسط مقومات الحياة اليومية في ظل ارتفاع معدلات البطالة، وتوقف الإنتاج واعتماد اقتصاد البلاد على الاستيراد، عدا عن تواجد الاحتلالين الإسرائيلي والأمريكي في غالبية أماكن تواجد النفط السوري، والذي إن كانت معدلاته غير مؤثرة عالميًا، لكنه مهم لدولة فقيرة مثل سوريا تحتاج لموارد الطاقة من أجل النهوض بالبلاد.
على الصعيد الاقتصادي الداخلي، أصدرت الحكومة الحالية قرارات كارثية غير مدروسة مثل قرار وزير التجارة السوري ماهر خليل الحسن إلغاء الدعم عن الخبز. لا تمتلك الحكومة الحالية الشرعية لإصدار قرارات كذلك ولو كان لها الشرعية، فكيف تقوم بوقف دعم الخبز عن شعب يعاني معظمه من الفقر ويعتمد بشكل أساسي على المعونات لتوفير الطعام. صرح وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني عن الخطط الحكومية التي تعتزم بيع الموانئ وخصخصة الشركات والمصانع العامة، وهي قرارات تُظهر أن الإدارة الحالية مشبّعة بالفكر النيوليبرالي الرأسمالي المدمر الذي سيدخل البلد في دوامات جديدة من الفقر وعدم المساواة، وستعمق الشروخ الاقتصادية والتفاوت الطبقي ضمن سوريا.
أعتقد أنه ما زال من المبكر للغاية أن تقوم الحكومة بالتصريح في أمور كهذه بدون تنفيذ الدراسات اللازمة. واللازم فعليًا حلحلة الأزمات المعيشية المرتبطة بحياة المواطنين اليومية، بما يشمل توفير المواد الغذائية، والسلع الأساسية، والوقود، والمواصلات، والاتصالات، والكهرباء، والمياه، وغيرها. كما أن ذلك يتناقض مع دعواتها لرفع العقوبات الغربية عن سوريا والتي ما زالت أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية تماطل في رفعها رغم سقوط النظام، وتستمر في نفاقها المنحاز للإجرام الإسرائيلي.
فُرضت سلسلة من العقوبات الدولية على سوريا بشكل سريع وصادم منذ عام 2011، ردًا على قمع النظام للمدنيين خلال الثورة السورية. وتضمنت هذه العقوبات إقرار مجلس الأمن تجميد الأصول المالية، وقيودًا على التجارة وتصدير النفط، ما أدى إلى انكماش الاقتصاد السوري وتدهور العملة. وفرضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي لا تمتلك سياسة مستقلة عن السياسة الأمريكية، عقوبات على البنك المركزي السوري ضمن ما يسمى «بالتدابير القسرية أحادية الجانب»، وحظرت تصدير السلع والخدمات الأميركية إلى سوريا، إضافة إلى «قانون قيصر» الذي يحظر على الشركات غير الأمريكية أن تتعامل أو تستثمر مع الحكومة السورية أو مؤسساتها إذا كانت هذه الشركات ترغب بالحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة.
تؤثر هذه العقوبات على الاقتصاد السوري بالاعتماد على جدية تطبيقها، ولذلك يُتوقع أن تشهد الفترة الحالية تخفيفًا من التشديد على ملاحقة مدى منتهكي هذه العقوبات، إلا أن رفع جميع العقوبات هي حاجة ملحة، وهنا لا أتحدث عن العقوبات المفروضة بحق أشخاص معينين، بل عن العقوبات الاقتصادية الشاملة المفروضة على قطاعات ومؤسسات كاملة مثل المصرف التجاري السوري.
في هذا السياق، حددت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، كانون الأول الماضي أربعة شروط للاعتراف بالحكومة الجديدة والتمهيد لرفع العقوبات وهي «احترام كامل لحقوق الأقليات، وتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية إلى كل المحتاجين، ومنع استخدام سوريا قاعدةً للإرهاب أو تهديد جيرانها، وضمان تأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية أو البيولوجية وتدميرها بأمان»، إلا أن الدول الغربية تأمل مقابل رفع العقوبات أو حتى إزالة هيئة تحرير الشام من ضمن قوائم الإرهاب التابعة للأمم المتحدة أن تحقق من خلالها أهدافًا أخرى مثل حماية المصالح الإسرائيلية أو محاصرة سوريا للابتعاد عن المعسكر الشرقي وتكريس تبعيتها للمعسكر الغربي بما يخدم مصالحهم الاستراتيجية، أو حتى تمرير شروط ذات علاقة بحقوق النساء، وهي أمور يجب أن تبقى متروكة للسوريين أن يقرروا حولها، لا أن تأتي على صيغة إملاءات خارجية.