خفضت مصر عملتها للمرة الثالثة في أقل من عام، بعد أن سمحت الحكومة لسعر الصرف الرسمي في البنوك بالتحرك من 24.6 جنيهًا للدولار إلى ما يقارب 32 جنيهًا للدولار، قبل أن يتراجع سعر الصرف لحوالي 30 جنيهًا للدولار بعد تدفقات دولارية من دول الخليج، التي اشترت ما يقرب من ربع مليار دولار من السندات المصرية في يوم واحد.
كانت مصر قد بدأت تخفيضات متكررة على عملتها في آذار 2022، سمحت فيها بتحرك سعر الصرف من 15.6 جنيهًا للدولار إلى ما يقارب 19 جنيهًا في 20 آذار، ثم إلى ما يقرب من 24 جنيهًا للدولار في 28 تشرين الأول، قبل أن يتكرر الأمر وتسمح له بالتحرك مطلع العام الحالي من 24.6 جنيهًا إلى ما يقرب من 30 جنيهًا حاليًا.
بدأت الأموال الساخنة في العودة مرة أخرى للسوق المصري بعد ارتفاع العائد على أذون الخزانة المصرية بأكثر من 21.5%، إذ أشارت تقديرات بلومبيرج أن ما يقرب 950 مليون دولار من تلك الأموال قد عادت لمصر مرة أخرى.
تلك التخفيضات المستمرة للعملة تُقدم ضمن خطاب صندوق النقد الدولي على أنها جزء من مرونة سعر الصرف المطلوبة في مصر من أجل معالجة الاختلالات الكبيرة في ميزان المدفوعات والميزان التجاري المصري. وفي حين تتفق الحكومة المصرية مع صندوق النقد على ضرورة تخفيض سعر الصرف، وتعرض الأمر على أنه لا بديل عنه، إلا أن الاثنان يختلفان في أسباب الاختلالات التي دفعت لذلك.
تحاول الحكومة إلقاء اللوم على الظروف الاقتصادية العالمية التي رفعت من التضخم العالمي، بالأخص في الغذاء والوقود، ما عمق من عجز الميزان التجاري لمصر، التي تعد مستوردًا صافيًا للوقود وأكبر مستورد للقمح في العالم. إلا أن صندوق النقد يشير لأسباب أعمق نسبيًا للأزمة الحالية، منها أن الحكومة المصرية لم تلتزم بالإجراءات التي اتفقت مع الصندوق عليها خلال قرض 2016، وأن تحرير سعر الصرف لم يكن كاملًا. بالتالي، منع استقرار سعر الصرف الصوري أو محاولة المركزي الإبقاء على سعر صرف مستقر للجنيه أمام الدولار، من معالجة تلك الاختلالات. لذا، في خطاب النوايا المرتبط بالقرض الجديد، يؤكد الصندوق على ضرورة الحفاظ على مرونة سعر الصرف، وعدم تدخل البنك المركزي في سوق العملة من أجل ضمان استقرار الجنيه إلا في أوقات التقلبات الشديدة.
المشكلة الحقيقية مع متطلبات الصندوق هي أنه يرى الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، ولكنه يطرح حلولًا غير هيكلية لها. إذ يرى الصندوق أن الاقتصاد المصري يعاني من عجز شديد في توليد العملة الصعبة بسبب انخفاض الصادرات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ويُرجع ذلك إلى تراجع دور القطاع الخاص في السنوات الأخيرة، إثر مزاحمة الشركات المملوكة للدولة والجيش له. لكنه في نفس الوقت يطرح مرونة سعر الصرف على أنها الحل، أو على الأقل جزء مهم من الحل، وذلك بفرضية بسيطة وهي أن مرونة سعر الصرف ستشجع جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تحديدًا في أدوات الدين المصرية التي سوف تصبح أكثر جاذبية مع تخفيض سعر الصرف.
هذا التعويل على التدفقات النقدية المنتظرة هو فعليًا مجرد شراء للوقت ولاستقرار عدد من المؤشرات الاقتصادية الأخرى، في انتظار أن تمطر السماء علينا دولارات. وذلك ببساطة لأن الاختلالات أكبر من أن يعالجها تخفيض أو مرونة سعر الصرف. على سبيل المثال، بعد التعويم الذي حدث في 2016، اعتقدت الحكومة والصندوق أننا في انتظار قفزة في الصادرات. بدا الأمر منطقيًا، فبعد تخفيض العملة بنسبة 50% تقريبًا، كان من المتوقع أن تزيد الصادرات المصرية كنسبة من الناتج المحلي، على الأقل بنسبة 7.5%، وتزداد قدرتها التنافسية على الدخول للأسواق العالمية. لكن ما حدث على أرض الواقع كان أن الصادرات السلعية لم تنمُ، بل على العكس من ذلك، نمت صادرات المواد الخام بنسبة كبيرة، وأهمها الغاز المصري مع الاكتشافات في شرق المتوسط، بالإضافة لعدد من المعادن الأخرى.
هذه المسألة تمثل معضلة حقيقية فعلًا بالنسبة لبرامج الصندوق في كثير من الدول النامية، لا مصر فقط. فمن المفترض أن يدفع تخفيض سعر الصرف الصادرات للأمام ويخلق توازنًا «خياليًا» في المستقبل بين العرض والطلب على الموارد الدولارية. لكن ذلك لم يحدث في مصر ولا في غيرها من الدول النامية. وكما يظهر في الشكل التالي، الذي يوضح تغير الصادرات المصرية كنسبة من الناتج المحلي، كانت الصادرات المصرية في عام 2014، أي قبل التعويم، في وضع أفضل من وضعها بعد التعويم في 2021.
ثمة عاملان أساسيان في عدم قدرة الصادرات المصرية على النمو، الأول متعلق بالاقتصاد المصري والقدرات الإنتاجية فيه والقيمة المضافة التي يستطيع أن يولّدها من المواد الخام القابلة للتصدير. يرتبط هذا بدوره بالمشاكل الأكبر في الاقتصاد، مثل توجيه المدخرات المحلية نحو الصناعة، ومدى مهارة العمالة الفنية في الإنتاج، والتي تعد مشكلة كبيرة في مصر لضعف التعليم الفني والتعليم بشكل عام.
أما العامل الثاني، الذي غالبًا ما يتغافل الصندوق والمؤسسات الدولية عن ذكره، فهو التنافسية الشديدة في تقسيم العمل والإنتاج الدولي، التي تجعل دولًا نامية مثل مصر تواجه صعوبة في كبيرة في النفاذ لأسواق التصدير، نظرًا للتنافس مع دول أكبر وأقدم في الاعتماد على ذلك النموذج التصديري، مثل الصين وفيتنام وغيرها. على سبيل المثال، تمتلك مصر ميزة جيدة لتصدير المنسوجات، وترتبط باتفاقات تجارية كبيرة مع دول أوروبية ومع الولايات المتحدة للتصدير، وهناك أيضًا قطاع خاص كبير في سوق المنسوجات المصرية. ومع ذلك، لا تتعدى صادرات المنسوجات المصرية 1.5 مليار دولار سنويًا، بسبب التنافسية الكبيرة مع الدول الأخرى المنتجة الأخرى، مثل بنغلادش وتركيا وغيرها، وهي مشاكل يمكن أن نراها في قطاعات أخرى كذلك.
تمثل الأسباب السابقة معضلات كبيرة، يتطلب حلها الكثير من الوقت، ولا توجد في ظلها أية ضمانة لنجاح مشروعات تصنيعية قائمة على التصدير. قد يكون ذلك ممكنًا على المدى الطويل بإصلاحات أشمل في الاقتصاد، لكن على المديين القصير والمتوسط، يبدو من الصعوبة بمكان أن يحدث ذلك. وعلى الرغم من ذلك، يظل الصندوق والحكومة يراهنان على تحسن الصادرات في المدى المنظور.
يبدو أيضًا أن حل زيادة الصادرات المنتظر يحمل في طياته الكثير من التعقيدات. فزيادة التصدير ترتبط بزيادة القدرة التصنيعية، وفي ظل تعقد سلاسل التوريد في كل العالم حاليًا، فإن ذلك يعني زيادة الواردات من السلع الوسيطة ونصف المصنعة من أجل تشغيل المصانع، وهو ما يعني بدوره ضغوطًا أكبر على الواردات السلعية في مصر. تشكل السلع الوسيطة حاليًا حوالي نصف الواردات المصرية سنويًا، وهي مهمة لعمل الاقتصاد وتشغيل القطاعات الإنتاجية فيه. بالتالي، حتى إذا اتفقنا مع صندوق النقد والحكومة وافترضنا أن الصادرات ستزيد، فإن تلك الزيادة في الصادرات يجب أن يصاحبها زيادة في الواردات أيضًا، حتى وإن كانت هذه الزيادة أقل من الزيادة في الصادرات. ما يرجح أن الميزان التجاري المصري سيستمر في تسجيل عجوزات، حتى لو نجح مشروع التصنيع من أجل التصدير.
إذن، ما الذي يجعل الصندوق يصر على مرونة سعر الصرف، رغم أنها وحدها لا يمكن أن تحل المشكلات الهيكلية للاقتصاد المصري؟ ربما تكمن الإجابة في أن الصندوق لا يمكنه أن يفرض أي إصلاحات أخرى. ببساطة، يتحرك الصندوق ضمن أجندة عمل هدفها الضبط المالي وتسهيل نفاذ الدول لسوق الديون الدولية، في انتظار أن تنضج الاقتصادات المحلية بالشكل الكافي للاندماج في منظومة السوق العالمي. لكن في الوقت نفسه، فإن هذه الاقتصادات المحلية تدمن الديون، وهو الحال في مصر منذ 2014 على الأقل.
اقترضت الحكومة المصرية بكثافة من أسواق الديون الدولية عن طريق مستثمري الأموال الساخنة، في محاولة مستمرة لشراء الوقت أملًا في تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة. لكن هذه المحاولة لم تأتِ كما كان متوقعًا، فالتحسن في المؤشرات الاقتصادية الكلية في الفترة ما بين 2018 و2020 صاحبه اختلالات أعمق في البنية الاقتصادية للبلاد. فقد ولّد دخول الجيش ومزاحمة الاستثمار الحكومي في البنية التحتية للقطاع الخاص هواجس لدى المستثمرين الأجانب.
لكن حتى ذلك يمكن الجدال بأنه لم يكن السبب الرئيسي وراء ضعف الاستثمار الأجنبي المباشر، فمصر كانت تعاني تاريخيًا من تلك المشكلة. وهو ما يحيلنا لمشكلة الاقتصاد المصري الأعمق، وهي هيكل إنتاج القيمة في الاقتصاد في العقود الأخيرة، الذي اعتمد على نمو قطاعات الخدمات والعقارات، والاتصالات لاحقًا، دون نمو كبير في القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة الأكبر، مثل التصنيع.
يوضح الشكل السابق معضلة الاعتماد على تدفقات رأس المال الخارجي في مصر. فطوال الفترة منذ السبعينيات وحتى اليوم، كانت هناك طفرات قليلة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة. الأولى حدثت بعد الانفتاح الاقتصادي في عام 1974 وانفتاح مصر أمام الاستثمارات الخليجية، حين كانت طفرة البترول في أوجها. وما لبثت تلك الطفرة أن انهارت كليًا مع بداية الثمانينيات وانخفاض أسعار البترول، لتتوجه الفوائض الاقتصادية الخليجية لاحقًا نحو الاستثمار في أسواق أكثر استقرارًا، في أوروبا والولايات المتحدة.
الطفرة الثانية جاءت في الفترة من 2003 و2008، وارتبطت بنمو قطاعات تعتمد على الاستثمار الأجنبي المباشر، وهي القطاع البترولي الذي انتعش مع اكتشافات الغاز في شرق المتوسط في تلك الفترة، بالإضافة لقطاع الاتصالات والصناعات كثيفة الطاقة، التي اعتمدت على أسعار الغاز الرخيصة في مصر في تلك الفترة، مثل الحديد والإسمنت.
لكن بعيدًا عن تلك الطفرات القليلة، ظل نصيب الاستثمار الأجنبي المباشر من الناتج المحلي في معظم العقود الخمس الأخيرة في حدود الـ3%، وهي نسبة لا تكفي لبناء سردية حول أهمية الاستثمار الأجنبي المباشر في تحقيق التراكم الرأسمالي والتكنولوجي المطلوب للنهوض بالقطاعات الإنتاجية في الاقتصاد. أيضًا كانت مشكلة تركز الاستثمارات الأجنبية المباشرة في عدد من القطاعات الواعدة التي شجعتها الحكومة سابقًا، مثل القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، تعني أنه بمجرد تحرير سعر الطاقة فإن تلك القطاعات سوف تواجه مشكلات كبيرة، وهو ما بدأ يحدث في 2014 في صناعات مثل الحديد والصلب والإسمنت، مع الرفع التدريجي لأسعار الغاز بسبب عجز الموازنة المزمن.
يبدو إذن أن رهان الصندوق والحكومة يتخلله الكثير من المشكلات. فتدفقات الديون والأموال الساخنة من المفترض أن تشتري بعض الوقت لحين مجيء الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لكن طبيعة وكم تلك الاستثمارات في السابق لم يكن يكفي لبناء اقتصاد إنتاجي موجه للتصدير، كما حدث في حالات شبيهة في الدول النامية، كانت تركيا أبرزها في المنطقة. بالتالي، حتى لو جاءت الاستثمارات الأجنبية فإنها على الأرجح لن تكفي لحل مشكلات هيكلية أكبر في الاقتصاد المصري، ناهيك عن أن الاستثمارات الأجنبية المقترحة حاليًا يرجح أن تتركز أيضًا في قطاع الطاقة، بشقيها المتجددة وغير المتجددة، سواء عبر مشروعات الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية التي تروج لها الحكومة، أو اكتشافات الغاز في شرق المتوسط.
اقرأ/ي أيضا:
إذن، يتغافل كل من الصندوق والحكومة عن تلك المعضلة، ويقدمان مرونة سعر الصرف بوصفها الحل الأمثل لكل المشكلات. لكن مصر خفضت عملتها أكثر من مرة خلال العشرين سنة الأخيرة، بدءًا من 2003 وانتهاءً بالتخفيض الأخير، دون أن يحدث تحسن حقيقي في الاقتصاد أو في مستويات معيشة المواطنين. بالعكس، زادت نسبة الفقراء في مصر تبعًا للأرقام الحكومية من 16% سنة 2000 إلى ما يقرب من 30% حاليًا، علمًا بأن الـ16% من عدد السكان عام 2000 كانت تعني ما يقارب من 11 مليون مصري تحت خط الفقر، أما الآن مع زيادة عدد السكان لما يقارب 108 مليون نسمة، فإن الـ30% تعني 32.5 مليون مصري تحت خط الفقر الرسمي للحكومة. أما تقديرات البنك الدولي، فتشير إلى أن ما يقرب من 60% من المصريين باتوا تحت خط الفقر بالفعل. خلال السنوات العشر الأخيرة فقط، انخفض متوسط الأجر الحقيقي للمصريين بنسبة كبيرة نتيجة تخفيض العملة والتضخم المرتفع الناتج عن ذلك.
خلال هذه العشرية الماضية، كان المستفيد الوحيد من مصر هي أسواق الديون الدولية والمحلية، إذ نما الدين العامّ بشكلٍ أسرع من الاقتصاد المصريّ نفسه، ويُتوقع أن يصل هذه السنة إلى ما يقرب من 86% من الناتج المحلي، وقرابة 41% من هذا الدين خارجي. وقد ارتفع الدين الخارجي بنسبة 11% سنويًا في المتوسط، في حين كان الاقتصاد يسجل معدلات نمو لا تتعدى 6% في أفضل الأحيان. ضغطت مدفوعات الفوائد بشكل كبير على الإنفاق الاجتماعي للحكومة، وأصبحت حاليًا تستهلك أكثر من نصف الاستخدامات في الموازنة العامة، في ظل ضعف شديد في الإنفاق على الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية.
كان هذا هو حصاد رهانات الصندوق والحكومة. لا نعرف كيف يمكن أن نخرج من تلك الدائرة المفرغة للاقتراض وإعادة الاقتراض التي يمر بها الاقتصاد المصري، لكن المؤكد أن تفكيرًا مختلفًا في أزماتنا الاقتصادية يجب أن يحدث الآن. رفع الإنتاجية للعمال المصريين، ودمج الكثير من العاملين في القطاع غير الرسمي يمكن أن يحل تلك المشكلة، لكن هذا يتطلب من الحكومة حلولًا طويلة المدى لمشاكل طويلة المدى.