أردوغان وتحالف الشعب: خطاب الإنجازات واقتصاد الانتخابات
لا خلاف على أن الانتخابات القادمة في تركيا ستكون أصعب انتخابات يخوضها حزب العدالة والتنمية ومرشحه رجب طيب أردوغان، إذ دخلت البلاد، لا سيما في العقد الماضي، دوّامة أزمات سياسية واقتصادية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ساهمت في وضع النخب الحاكمة في موقف صعب أمام العديد من شرائح الناخبين، خاصة الشباب منهم. وفي هذا السياق فإن أبرز التحديات في وجه الرئيس الحالي أردوغان وتحالفه هي الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ سنوات، والتي تظهر في العديد من المؤشرات، وعلى رأسها التضخم وسعر صرف العملة. إضافةً إلى ذلك، أفرزت كارثة السادس من شباط التي أثرت بشكل مباشر على حياة 13.5 مليون مواطن تحديًا كبيرًا للعدالة والتنمية وتحالفه. إذ أصبحت أسباب هذه الكارثة وآثارها والأزمات التي ظهرت خلال التعامل معها محل غضب شعبي كبير، توجهه شريحة ملحوظة نحو حزب العدالة والتنمية وحكوماته بصفته المسؤول عن البلاد طوال العقدين الماضيين. وهنا تشتبك الظروف لتخلق لدى شريحة من الشعب التركي رغبة واضحة بالتغيير وحالةً من عدم الثقة، تضع تحالف الشعب ومرشحه أردوغان أمام تحدٍ صعب سيلعب دورًا أساسيًا في تحديد مستقبله.
في الوقت نفسه يواجه تحالف أردوغان تحديات داخلية يراها البعض من أبرز نقاط ضعفه. إذ ورغم القرب الأيديولوجي بين أحزاب هذا التحالف الأربعة، إلا أنها لم تتمكن من التوصل إلى صيغ تعاون مشتركة في الانتخابات البرلمانية. ففي النظام الانتخابي التركي الحالي الذي يستخدم طريقة هوندت، تتنافس أحزاب التحالفات فيما بينها أيضًا، ما يجعل خيارات التعاون الجزئي أو الكلي؛ مثل التنسيق عبر تقديم قوائم مرشحين مشتركة تحت شعار حزب واحد في بعض الولايات أو جميعها، أضمن الخيارات المتاحة لتجنب المنافسة الداخلية التي قد تؤدي إلى ضياع الأصوات. لكن أحزاب تحالف الشعب، وللتأكيد على استقلاليتها، قررت خوض الانتخابات بقوائمها وشعارتها بشكل منفصل، وهو ما قد يؤثر سلبًا عليها، خاصة وأنها تتنافس على قاعدة انتخابية متشابهة ومتداخلة. ليس هذا فحسب، إذ رغم توافق الأحزاب رسميًا على دعم أردوغان كمرشح مشترك، إلا أن البعض يرى احتمالية واردة لهجرة بعض الأصوات، خاصةً بين القوميين، نحو سينان أوغان، الشخصية القومية ومرشح تحالف أتا (السَلَف)، المنشق أصلًا عن حزب الحركة القومية (أحد أحزاب تحالف الشعب).
أمام هذه التحديات يتبنى حزب العدالة والتنمية مقاربةً دفاعية هجومية، تهدف إلى محاولة سد الثغرات وسحب البساط من تحت الخصوم كذلك. إذ يركز أردوغان باستمرار على عرض إنجازات حزبه طوال سنوات حكمه، مع دمج ذلك بالحديث عن استمرارية هذه المشاريع ضمن رؤية «قرن تركيا» التي يتبناها، في ظلّ حرصه في الآونة الأخيرة على افتتاح أو إطلاق مشاريع جديدة في مختلف أنحاء البلاد. كما يوظف تحالف الشعب (الذي ينتمي له العدالة والتنمية) أيضًا التشتت الأيديولوجي عند المعارضة وهشاشة التوازنات عند خصمه (تحالف الأمة)، للتأكيد على أنه عنوان الاستقرار السياسي الذي يمكن أن يمنح البلاد فرصة حقيقية لتجاوز مختلف أزماتها الحالية، بدل افتعال أزمات جديدة.
يحاول أردوغان عبر توظيف إمكانيات الدولة ضبط نقاط ضعفه، مستعينًا بتبني حكومته نموذج «اقتصاد الانتخابات» في الأشهر الأخيرة، حيث شهدت هذه الأشهر زيادةً كبيرة في الإنفاق الحكومي، خاصةً الإنفاق الاجتماعي الذي يستهدف الشرائح الهشة المتأثرة بالأزمة الاقتصادية، إضافة إلى قرارات اقتصادية مؤثرة متتابعة يسميها أردوغان بالـ«بُشريات»، أبرزها رفع الحد الأدنى للأجور ورفع رواتب الموظفين والمتقاعدين، وإنشاء مشاريع إسكان اجتماعي بقروض ميسرة، وتوفير آلاف الوظائف الحكومية الجديدة، عدا عن تخفيف الضريبة وإعادة هيكلة الديون وإسقاط بعضها. فمثلًا، كانت آخر هذه البشريات إعلان أردوغان يوم 20 نيسان، خلال حفل نقل الغاز الطبيعي المحلي المستخرج من البحر الأسود إلى البر، إعفاء جميع المنازل من فاتورة الغاز بالكامل لمدة شهر واحد، وخصم ما يعادل 25 مترًا مكعبًا شهريًا من فواتير الغاز المنزلي (ما يقارب 130-140 ليرة) لمدة عام كامل.
اقرأ/ي أيضا:
إضافةً إلى هذه الحوافز الاقتصادية، عزمت الحكومة بناء 650 ألف وحدة سكنية مع مرافقها وبنيتها التحتية لمتضرري الزلزال، على أن يتم إنهاء بناء 319 ألف وحدة منها خلال عام واحد فقط. وفي هذا السياق دخلت الحكومة التركية في سباق مع الوقت للبدء في خطوات عملية في سياق عملية إعادة الإعمار، لتعلن أنها تمكنت خلال 75 يومًا على الكارثة من وضع حجر الأساس لأكثر من 100 ألف مسكن حتى منتصف نيسان الجاري. وبالتوازي مع ذلك، ركز أردوغان بشكل خاص على مشاريع التجديد الحضري التي تستهدف إعادة تأهيل المباني المهددة بخطر الزلازل، واعدًا بتكثيف هذه المشاريع، وتركيز الدورة البرلمانية المقبلة قانونيًا على هذا الملف. كما أعلن مؤخرًا عن مشروع تجديد حضري ضخم يستهدف معالجة المباني المهددة في مدينة إسطنبول، من خلال تكفل الحكومة بنصف التكاليف، وتوفير قروض ميسرة لتغطية النصف الآخر.
تأتي هذه الخطوات المتسارعة في سياق تعزيز خطاب الأقدر على الإنجاز وتنفيذ الوعود، من خلال التركيز على البعد الملموس الذي يؤثر على المواطنين. وفي الوقت عينه، لا تنفصل دعاية أردوغان في هذا الملف عن إشارته المستمرة إلى مشاريع الصناعات الدفاعية. إذ أصبحت هذه المشاريع في الآونة الأخيرة جزءًا أساسيًا من خطاب الإنجازات الذي يوظفه لتقديم نفسه وحزبه كحامي استقلال تركيا ومنجزاتها، في مقابل المعارضة التي تسعى لهدم هذه المنجزات وإعاقتها. وكذلك لا يمكن إهمال حضور ونفوذ أردوغان الإعلامي الذي تنامى طوال العقدين الأخيرين، بما يمنحه نافذة مهمة لمخاطبة شرائح واسعة، لا سيما عبر الإعلام التقليدي.[1]
كلتشدار أوغلو وتحالف الأمة: الفرصة الذهبية الصعبة
تعتبر الظروف الحالية التي تمر بها تركيا، لا سيما الأزمات الاقتصادية والسياسية وتراجع شعبية العدالة والتنمية على إثرها، أبرز نقاط قوة تحالف الأمة ومرشحه كمال كلتشدار أوغلو، خاصة وأنه يحمّل الحكومة مسؤولية التسبب بها أو الفشل في حلها على الأقل. وفي هذا السياق يستخفّ كلتشدار أوغلو بخطاب الإنجازات الذي يطرحه أردوغان، في الوقت الذي يجد المواطن العادي صعوبة في الحصول على قوت يومه من المواد الأساسية.
كما يركز خطاب كلتشدار أوغلو على نقد فشل حكومات العدالة والتنمية في تحقيق وعودها في أهداف رؤية العام 2023 التي أعلنت عنها في العام 2011، خاصةً على صعيد دخل الفرد ومعدلات البطالة والتضخم. إضافة إلى تركيزه على ملف الزلزال وتداعياته، عبر الهجوم على ما يعتبره فشل الحكومة في الاستعداد للزلزال والتعامل معه. ويقدم نفسه كمرشح قادر على التعامل مع آثار الكارثة بصيغة أفضل، خاصة وأنه يعد المتضررين بإعادة إعمار بيوتهم دون دفع أي مبلغ مالي.
سياسيًا، وإضافة إلى نجاح المعارضة في تشكيل الطاولة السداسية التي تجمع مختلف توجهات المجتمع التركي الأساسية بين علمانيين، وإسلاميين/محافظين، وقوميين، ودخولها الانتخابات موحدة رغم أزماتها، حصل كلتشدار أوغلو على دعم جبهة معارضة واسعة، شملت 17 حزبًا سياسيًا، أغلبها أحزاب صغيرة. إضافة إلى الدعم المهم غير المباشر الذي قدمه حزب الشعوب الديمقراطي (اليسار الأخضر) الكردي، الذي يمتلك كتلة انتخابية وازنة تتراوح بين 8% و11%، من خلال عدم تقديم مرشح مستقل والتلميح بكلتشدار أوغلو كمرشح توافقي للمعارضة. تصب حالة الإجماع هذه في سعي المعارضة تكرار السيناريو التوافقي الذي حدث في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى في العام 2019، التي فاز بها حزب الشعب الجمهوري عبر اللجوء إلى هذه الاستراتيجية، وهو ما يستفيد منه كلتشدار أوغلو.
تحظى انتخابات الرابع عشر من أيار بخصوصية رمزية وعملية مميزة تجعلها لحظة مصيرية في تحديد مسار تركيا في قرنها الثاني، بما يدفع كافة الأحزاب في السلطة والمعارضة للعمل المكثف على الفوز بها.
من اللافت هنا أن هذا الطيف المعارض الواسع منح كلتشدار أوغلو قدرة إعلامية ملحوظة، خاصة من خلال تضافر ماكينات حزبية مختلفة لدعمه، وفي الوقت نفسه يوظف كلتشدار أوغلو مختلف أدوات وسائل التواصل الاجتماعي بشكل ملحوظ، ما يمنحه حضورًا قويًا عليها ويسهل اختراقه لفئات فاعلة فيها كالشباب. فمثلًا، حظي فيديو نشره مؤخرًا على تويتر، يُعلن فيه عن هويته العلوية، بأكثر من 103 مليون مشاهدة للتغريدة وأكثر من 29 مليون مشاهدة للفيديو خلال ثلاثة أيام فقط، في رقم قياسي للرجل وللسياسة التركية ككل. إضافة إلى ذلك، يتبنى كلتشدار أوغلو في السنوات الأخيرة خطابًا مختلفًا عن الخطاب التقليدي لحزب الشعب الجمهوري، من خلال استراتيجية المصالحة وطلب العفو التي يوظفها لمد الجسور مع الفئات المعروفة بصراعاتها التاريخية مع حزبه وعقليته الكمالية التقليدية. ويسعى من خلال ذلك إلى رسم صورة المرشح التوافقي القادر على تجاوز الاستقطاب الاجتماعي والسياسي الذي يتهم أردوغان بتأجيجه للسيطرة على مؤيديه، لا سيما المحافظين منهم.
وفي سياق مختلف، وعلى عكس تحالف الشعب، تمكن تحالف الأمة من التوصل إلى صيغة تعاون تقلل التنافس الداخلي فيه، إذ تقدم تحالف الأمة بقائمتين انتخابيتين فقط، بعد أن دخلت الأحزاب الأربعة الصغيرة فيه الانتخابات عبر قوائم الشعب الجمهوري وتحت شعاره؛ حيث منح حزب الشعب الجمهوري 71 مقعدًا لحلفائه الصغار من أصل 600 مقعدًا، وفي الوقت نفسه اتفق حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد على التعاون في 16 ولاية لا تحظى المعارضة فيها بنفوذ قوي وتعتبر قلاعًا للعدالة والتنمية ولحزب الشعوب الديمقراطي، بحيث يدعم الجيد مرشح حليفه الشعب الجمهوري في تسعة منها، بينهما يدعم الشعب الجمهوري الجيد في سبعة منها.
وفي سياق متصل، يواجه خطاب كلتشدار أوغلو المنفتح تحديات مختلفة، خاصة من حيث قدرته على إقناع الفئات التي يستهدفها. فرغم أن خطاب المصالحة يبدو أكثر فعالية في مخاطبة الشباب الذين لم يعيشوا فترات الصراع الأيديولوجي السابقة، إلا أنه يظل عاجزًا عن تحقيق اختراق كبير لدى الشرائح الأخرى. إذ من المتوقع أن تكون هذه الانتخابات مقياسًا حقيقيًا لمدى نجاح هذا الخطاب في تحويل كلتشدار أوغلو لمرشح توافقي عابر للمعسكرات السياسية والاجتماعية. كما تجدر الإشارة إلى الآثار الجانبية لاستراتيجية المصالحة على قواعد حزب الشعب الجمهوري الأصلية، خاصة وأن البعض في التيار الكمالي يرفضها ويرى فيها تخليًا عن قيم الجمهورية التاريخية. وفي هذا السياق يركز المرشح الرئاسي وزعيم حزب البلد المنشق عن حزب الشعب الجمهوري، محرم إنجه، بشكل خاص على هذه النقطة، وتحديدًا اتهام القيادة الحالية للشعب الجمهوري بالابتعاد عن مبادئ الكمالية وقيمها وتقديم نفسه كطريق ثالث وممثل حقيقي لهذه الأيديولوجيا أملًا في سحب الأصوات من كلتشدار أوغلو.
اقرأ/ي أيضا:
لكن العقبة الأهم أمام كلتشدار أوغلو وتحالفه هي قدرتهما على إقناع الجماهير بصيغة الحكم الجماعي التي يطرحانها. إذ يتبنى تحالف الأمة صيغة حكم تشارك فيها الأحزاب الستة بشكل فعال ومباشر، خاصة في القرارات الاستراتيجية، ليس عبر الوزارات فقط، بل وعبر منصب نائب الرئيس أيضًا، فيما يعتبر مثالًا للحكم بالعقل الجمعي في مواجهة حكم الرجل الواحد الذي يمثله تحالف الشعب. وهنا لا يحتفظ الناخبون الأتراك بالكثير من الذكريات الجيدة مع الحكومات الائتلافية، خاصةً أن فترات حكمها شهدت الكثير من الأزمات التي انعكست سلبًا على البلاد سياسيًا واقتصاديًا، فمن الممكن أن توحي هذه الصيغة بالضعف وتعيد شبح عدم الاستقرار، خاصة أن أحزاب تحالف الطاولة السداسية من خلفيات متباينة وأحيانًا متناقضة، ما يجعل التحالف بيئة خصبة للأزمات السياسية، وهذا ما يركز عليه أردوغان في هجومه المستمر على خصومه.[2] وفي هذا السياق، يرى البعض بأن أزمة المرشح المشترك داخل الطاولة كانت نموذجًا عمليًا على الأزمات التي قد تعيشها البلاد في ظل هذا الحكم الائتلافي.
وعند الحديث عن أزمة المرشح المشترك، يمكن القول إن انعكاساتها ستستمرّ أيضًا. إذ يرى البعض أن وصول كلتشدار أوغلو إلى موقعه كمرشح توافقي لم يكن بالتراضي تمامًا، بل بالإكراه، خاصة في حالة الحزب الجيد الذي رفض ترشح كلتشدار أوغلو على اعتبار أنه ليس أوفر الخيارات حظًا في مواجهة أردوغان. ورغم أن الأحزاب الستة تمكنت من رأب الصدع بينها والعودة إلى التحالف، إلا أن ذلك لا يضمن توجهات ناخبيها بالكامل، لا سيما أن بعض ناخبي الحزب الجيد القوميين غير الراضين عن كليتشدار أوغلو وعلاقاته مع السياسة الكردية، قد يفضلون خيارات أخرى كأوغان أو إنجه. ومن ناحية أخرى، تُعرف الثقافة السياسية التركية بتفضيل الشخصيات الكاريزمية القوية، بل وحتى الصدامية، الأمر الذي يفتقر إليه كليتشدار أوغلو بوضوح، ما يقلل قدرته على التأثير بالناخبين وإقناعهم. لكن ورغم ذلك، يتبنى الرجل استراتيجية لمحاولة تعويض هذا النقص تتمثل بالتركيز على الخطاب الهادئ التصالحي على اعتبار أن الشعب تعب من الاستقطاب المستمر ويبحث عن خطاب أقل صدامية.
وفي الوقت نفسه يرى البعض في هوية كلتشدار أوغلو العلوية مانعًا أمام تصويت بعض فئات الناخبين له، لا سيما من المحافظين والقوميين. وفي هذا السياق جاء الفيديو الشهير الذي نشره حول هويته كرد على هذه المخاوف، إذ أعلن فيه صراحةً عنها في واحدة من المرات القليلة التي قام فيها بذلك طوال مسيرته السياسية، حيث شدد على ضرورة إنقاذ البلاد من النقاشات المذهبية التي يمكن أن «تسحبها إلى الشرق الأوسط الذي تحول إلى مستنقع»، كما أشار إلى أهمية الشباب في هدم هذا النظام التمييزي واقتلاعه من جذوره، معربًا عن أن أمله بأن يبلّغ الجميع النظام الذي يرفض أن يحكم العلويون بأن الصادقين والخلوقين يمكنهم الحكم -على حد تعبيره-. أدت هذه التصريحات إلى ردود فعل مختلفة، فبينما دعمها معسكره من المعارضين مشيدًا بشجاعته، ركز تحالف الشعب على رفضها على اعتبار أن مشكلته مع كلتشدار أوغلو ليست علويته، وأن الأخير يحاول خلق مظلومية مصطنعة. بل ووصل الأمر إلى حد هجوم زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، على كلتشدار أوغلو واتهامه بالعودة إلى «سياسة الهوية» بدفع من الإمبريالية العالمية، في محاولة لتهييج الحساسيات العرقية والمذهبية في تركيا.
سيناريوهات الرابع عشر من أيار
بدايةً، من المهم الإشارة إلى أن استطلاعات الرأي الحالية ليست معيارًا دقيقًا لمقاربة نتائج الانتخابات التركية، على اعتبار انحياز شركاتها الواضح وتناقضاتها الكثيرة، ما يدفع إلى النظر إليها من باب الاستئناس فقط. وعليه، تشير الخطوط العريضة لمعظم استطلاعات الرأي الحالية إلى أن عامل هجرة الأصوات إلى إنجه وأوغان قد يكون مؤثرًا من حيث زيادته لاحتمالية ذهاب الانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية تتركز في الغالب بين أردوغان وكلتشدار أوغلو. وفي هذا السياق لا تنظر العديد من الأصوات المعارضة بإيجابية إلى الجولة الثانية، بل يضغط إعلامها بشكل ملحوظ على إنجه للانسحاب على اعتبار أنه يقسم الأصوات ويقامر بمستقبل البلاد عبر دفعها إلى جولة ثانية قد تمنح أردوغان فرصًا أفضل في الفوز. من اللافت هنا أنه وباستثناء الاستطلاعات المنحازة علنًا، فالفرق بين أردوغان وكلتشدار أوغلو في سيناريو الجولة الثانية في الغالب ينحصر في نسبة بسيطة تتراوح بين 1% و2%، ما يعني أن التنافس بين الطرفين على أشده، لا سيما على الأصوات المترددة.
هذه الانتخابات قد تكون مقدمة لعهد جديد في تركيا، من الممكن أن يفتح الباب أمام تغير في النخب السياسية التركية، بل وحتى في خريطة البلاد الحزبية.
أما على مستوى الانتخابات العامة، فتشير أغلب المعطيات الحالية إلى أن العدالة والتنمية، ورغم كونه لا يزال الحزب الأول في تركيا، إلا أن تحالفه قد يخسر الأغلبية اللازمة للفوز في البرلمان (301 نائبًا من أصل 600). وفي الوقت نفسه لن يتمكن تحالف الأمة من حسم البرلمان أيضًا، إذ يتوقع أن يحصل الطرفان على نسب متقاربة، ما يشير إلى احتمالية دخول البرلمان في حالة تفتت يعجز فيها أي طرف عن السيطرة عليه، ما قد يجعل تحالف العمل والحرية -الذي يتزعمه حزب الشعوب الديمقراطي- بمثابة كتلة مفتاحية في البرلمان القادم، إضافة إلى إمكانية حدوث مفاجآت مع بعض الأحزاب الصغيرة وإن كانت فرص حدوث ذلك ضئيلة.
بعيدًا عن استطلاعات الرأي، التي يمكن القول إنها تحولت من أداة لقياس الرأي العام إلى أداة لضبطه وتوجيهه، هناك عدد من السيناريوهات المتوقعة للانتخابات الحالية، أولها فوز أردوغان بالرئاسة وخسارة تحالفه الأغلبية في البرلمان (مع الاحتفاظ بالثلث الضامن). ينبع هذا السيناريو من فكرة أن أردوغان لا زال يمتلك «سحره» كقائد مخضرم قادر على توحيد جبهة واسعة من الشعب التركي، خاصة في ظل تفوق كاريزمته على خصمه. وهذا السيناريو قد ينتج عن عقاب الشارع للعدالة والتنمية على الأزمات الأخيرة، وكنتيجة لعوامل أخرى مثل الانشقاقات التي عاشها الحزب في السنوات الماضية، والانخفاض الملحوظ الذي تكاد تجمع عليه جميع الاستطلاعات في أصوات أكبر حلفائه؛ حزب الحركة القومية.
ورغم أن النظام الرئاسي الحالي يمنح الرئيس صلاحيات تنفيذية واسعة تمكنه حتى من تشكيل الحكومة دون العودة للبرلمان، إلا أن هذا السيناريو سيكبل قدرة أردوغان وحزبه على سن مختلف القوانين (مثلًا قانون الميزانية) ما قد يحد من مجال حركته على المستويين الداخلي والخارجي ويدفعه إلى السعي للتوصل إلى تفاهمات -وربما تقديم تنازلات- مع بعض أحزاب المعارضة في العديد من الملفات.
السيناريو الثالث هو فوز كلتشدار أوغلو بالرئاسة، وفشل تحالفه في تحقيق الأغلبية البرلمانية اللازمة. يرى البعض أن الرغبة في التغيير، التي تعززها حالة الغضب من العدالة والتنمية وتحالفه، قد تساهم في توحد العديد من الشرائح الاجتماعية خلف شخصية كلتشدار أوغلو وخطابه الجديد، بما يوصله إلى مقعد الرئاسة ولو بفارق محدود. لكن هذا التوحد خلف كلتشدار أوغلو من المحتمل ألَّا يساهم في اختراق الحاجز النفسي في التعامل مع حزب الشعب الجمهوري، بما يحرم المعارضة من الأغلبية البرلمانية ويجر تحالف الشعب إلى التعاون مع قوى برلمانية أخرى أبرزها حزب الشعوب الديمقراطي. لكن هذا الخيار نفسه وإن كان حلًّا لمشكلة، فمن المحتمل أن يولد مشكلة أخرى قد تهدد تماسك تحالف الأمة، خاصة أن القوى القومية داخله (الحزب الجيد) متحفظة، بل وربما معارضة، لأي تعاون علني وواضح مع الحركة السياسية الكردية.
السيناريو الرابع هو الفوز بالرئاسة والبرلمان. رغم أن تحالف الأمة تبنى استراتيجيات انتخابية متنوعة للحرص على الفوز بأكثر من 300 نائب برلماني، مع طموح بالحصول على الأغلبية اللازمة لتغيير الدستور، إلا أن سيناريو فوزه بالرئاسة والبرلمان معًا يبدو حتى الآن أضعف السيناريوهات، وإن كان محتملًا، خاصة وأن الشك الذي يحيط بالنموذج الائتلافي الذي تتبناه المعارضة وأزماته الممكنة يعد أحد أبرز العوامل التي قد تحول دون تحقيقها لفوز ساحق.
ختامًا، تحظى انتخابات الرابع عشر من أيار بخصوصية رمزية وعملية مميزة تجعلها لحظة مصيرية في تحديد مسار تركيا في قرنها الثاني، بما يدفع كافة الأحزاب في السلطة والمعارضة للعمل المكثف على الفوز بها. ويبدو أن هذه الانتخابات قد تكون مقدمة لعهد جديد في تركيا، من الممكن أن يفتح الباب أمام تغير في النخب السياسية التركية، بل وحتى في خريطة البلاد الحزبية. لذلك من الضروري الإشارة إلى أنه رغم كافة التوقعات والسيناريوهات، إلا أن الأبواب مشرعة أمام مختلف المفاجآت التي ستؤثر بشكل ملحوظ على الداخل التركي ودور أنقرة في المنطقة والعالم.
-
الهوامش
[1] من الجدير بالذكر هنا أن حزب الشعب الجمهوري أعلن رفعه دعوى قضائية على إدارة قنوات TRT الرسمية بسبب عدم ردها لمرتين على طلبات الحزب بنشر دعايته الانتخابية على قنواتها، وتجنبها منح مرشحه أي مساحة من بثها، وتجاهلها مظاهرات الحزب المختلفة، فيما اعتبره انحيازًا من مؤسسة ممولة من الضرائب العامة وبالتالي يجب أن تكون محايدة.
[2] يطلق أردوغان تسمية «الائتلاف السباعي» على تحالف الأمة على اعتبار أنهم ائتلاف مفكك يعد بالأزمات المستمرة، وأن عضوهم السابع هو حزب الشعوب الديمقراطي الذي يعتبر التعاون معه تعاونًا مع الإرهاب، وفق مقاربة ترى بأنه امتداد سياسي لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا في تركيا.