من السهل العثور على أسيرٍ فلسطينيّ سابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي للتحدّث إليه، هناك قرابة مليون فلسطيني من الضفة وغزة والقدس دخلوا السجون الإسرائيليّة مرة واحدة في حياتهم على الأقل منذ هزيمة حزيران 1967.
نهايات شهر نيسان الماضي، التقت مجموعة من قدماء الأسرى كانوا قد اعتقلوا في فترات مختلفة في بيت عمر العسّاف، الذي دخل عقده الثامن، جاءوا لتهنئته بالخروج من الأسر بعدما أمضى فيه قرابة ستة أشهر. اعتقل العسّاف، وهو منسق المؤتمر الشعبي الفلسطيني، أواخر أكتوبر الماضي، للمرة العاشرة في حياته -أو ربما الخامسة عشرة، لا يتذكر عدد المرّات بالتحديد من كثرة ما اعتقل- أولها قبل أكثر من 40 سنة، ومن يجلسون معه كانوا قد اعتقلوا قبله، بعضهم أواخر العام 1967.
قد تكون المجموعة في تلك الجلسة اختلفت خلال نقاش بعض القضايا السياسية، لكنها كانت متفقة على أن الفترة التي يمر بها الأسرى في سجون الاحتلال حاليًا لا تشبه أي فترة سابقة من عمر الحركة الأسيرة. إذ إن قريحة حرّاس السجون تفتقت عن أكبر استعراض إذلال داخل السجون بعد السابع من أكتوبر، مثل إجبار الأسرى على الركوع خلال عمليات العد، وإبقائهم في الملابس نفسها لأشهر مع لترات قليلة للاستحمام، مغلقين عليهم الغرف لفترات طويلة، ويقدّمون لهم الأكل بالملاعق حتى فقدت أجساد الآلاف منهم كيلوجرامات من لحمها.
يجري هذا في السجون التابعة لإدارة مصلحة السجون وعددها 23 مركز تحقيق وتوقيف وسجن. في سجون أخرى حديثة التشييد مخصصة لأسرى قطاع غزة، وتتبع المخابرات والجيش مثل سدي تيمان، كان الوضع أسوأ، جُمّع الأسرى ما بين 100-200 أسير في برَّاكيات، وأُجلسوا على الأرض طوال اليوم، ممنوعون من الحديث مع بعضهم، مكبلي الأيدي إلى الوراء، ليلًا نهارًا تقريبًا، تحفر القيود في لحم أيديهم، وحين تعطب الأيدي بفعل ضغط القيود، تُبتر دون تخدير في نفس المعتقل، بمباركة الأطباء الصهاينة.
في بيانها المشترك إلى وسائل الإعلام، استخدمت المؤسسات التي تنشط في الدفاع عن الأسرى، لوصف عدد الأسرى جملًا مثل: «ما لا يقل عنّ» و«قد يكون هناك أسيرات» و«لا يوجد معطيات واضحة» و«من هم موجودون في معسكرات احتلال غير معروفة»، وعشرات الأسرى ممن «استشهدوا في معتقلات ومعسكرات اعتقالات لم يفصح عن هوياتهم»،[1] إذ لا تسمح «إسرائيل» لا في المعتقلات الجديدة ولا القديمة للمنظمات الدولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أو المحامين، أو عائلات الأسرى بزيارتهم، ولهذا تغيب الأرقام الدقيقة.
بالمجمل، تقدّر هذه المؤسسات عدد الأسرى والمعتقلين بنحو 9700 فلسطينيًا، بالإضافة إلى ما لا يقلّ عن 1400 أسيرًا من قطاع غزّة ممن صنفتهم «إسرائيل» بالمقاتلين «غير الشرعيين»، ومنهم عدد من النساء الغزيّات يُحتمل أن يكن موجودات في معسكرات الجيش، بالإضافة إلى 16 جثة أسير ممن استشهدوا بعد السابع من أكتوبر، وكُشف عن هوياتهم، فيما جثامينهم محتجزة.
مع الوقت، بنى الأسرى جسمًا تنظيميًا داخل السجون يتشكّل فيه عدّة لجان، لكل لجنة اختصاص في إدارة شؤون الأسرى اليوميّة، ولجان أخرى ممثلةً بالفصائل للمفاوضة مع إدارة السجون في حالات التحرّك الجماعي.
لمرحلة قصيرة، عقب هزيمة حزيران عام 1967 اعتقل الاحتلال آلاف الفلسطينيين المقاومين أو الناشطين في الشأن السياسيّ، حيث تجمّع الأسرى في البداية حسب صلة القرابة أو القرية الواحدة أو المدينة الواحدة، وتعاملت معهم «إسرائيل» كأفرادٍ وعرّضتهم للإهانات والضرب. لكن، قبل أن ينتهي عقد الستينيات بدأ الأسرى في التحرّك الجماعي فأحرقوا -مثلًا- محتويات الزنازين وأضربوا عن الطعام من أجل تحسين شروط أسرهم، كإدخال الكتب أو الأقلام أو زيادة مدة زيارة الأهل.
ومع الوقت، بنى الأسرى جسمًا تنظيميًا داخل السجون يتشكّل فيه عدّة لجان، لكل لجنة اختصاص في إدارة شؤون الأسرى اليوميّة، ولجان أخرى ممثلةً بالفصائل للمفاوضة مع إدارة السجون في حالات التحرّك الجماعي. وعقدت هذه اللجان برامج من أجل صقل شخصية الأسير داخل السجون، واهتم بعضها بتهيئته لفترة ما بعد السجن حين يتحرّر في صفقة تبادل، أو عند إنتهاء محكوميته.
يستطيع الأسير السابق وليد الهودلي الذي أمضى قرابة 14 عامًا متفرقات في الكثير من سجون الاحتلال بدءًا من العام 1979 أن يتذكّر دور هذه اللجان بحكم إشرافه على واحدة منها: «كان دورنا في قيادة الحركة الأسيرة أن يتحوّل السجن من مكان لقتل الوقت وأن يفرّغ السجانُ الإنسانَ من محتواه الوطني والإنساني ليتحول إلى أكاديميات تتصل بالإنسان أكاديميًا وأمنيًا ونضاليًا».
في واحدة من هذه الدورات درس الأسرى العقلية الصهيونية لمدة عام، في كل ثلاثة أشهر يدرسون جانبًا محددًا مثل السياسي، والاقتصادي، وحتى الأمنيّ. وعاين الهودلي النشاط اليومي لقيادة الأسرى كذلك مثل مروان البرغوثي في سجن «هداريم» في الدراسات الأكاديمية، ويحيى السنوار في سجن عسقلان في الترجمة والبحث والقراءة.
نهاية هذه الدورات يتخرج الأسير بشهادة، وبوعي في كيفية مواجهة السجّان في التحركات الجماعية، ضمن إطار حركة سياسية منتمية، أساسها الاشتباك مع مصلحة السجون بطريقة واعية، تقوم على معادلة «العذاب المشترك»؛ أيّ أن تشكل المواجهة أرقًا للسجان فيصير استقرار السجون مصلحة مشتركة عند الأسرى والسجّانين.
في حال رفضت إدارة السجون تنفيذ مطالب الأسرى المتعلقة بتسهيل حياة السجون أو التجاوز عليهم، ينفّذ الأسرى إضرابات جماعية عن الطعام، أو يحرقون محتويات السجن، وقد يصل الأمر إلى قتل أحد السجانين: «الأسرى بيتعذبوا، فيها تنقلات تعسفيّة، عزل قيادات، ضرب للبرنامج الثقافي. كذلك موجود هذا الضرر عند مصلحة السجون، وقف الإجازات، واستنفار دائم، ويبذل [السجّانون فيها] مجهود أكبر، لذلك تاريخيًا صار هناك اتفاق ضمني، يخفّف الأسرى التوتر مقابل حصولهم على ما يسهّل حياتهم في الأسر».
بعد توقيع اتفاق أوسلو بين «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية، تراجع تأثير الحركة الأسيرة، الأمر الذي جعل إدارة السجون تصعّد من حملتها ضدهم وتتراجع عن إنجازات الأسرى السابقين، كما حدث الأمر نفسه مع اندلاع الانتفاضة الثانية بعد أن أُسر آلاف الشبان حديثي التجربة الاعتقالية في السجون.[2] لكن الحركة الأسيرة كانت تظهر بين فترة وأخرى وتتحرك جماعيًا، رغم تطوير «إسرائيل» أساليب السيطرة عليها ومحاولة هندسة وعي الأسرى، وتغيير شكل القمع والتعذيب ليكون مركبًا وحداثويًا يتماشى مع خطاب «حقوق الإنسان».[3]
مع هذه السنوات، وبسبب الفداء الذي فقد لأجله الأسير حياته الطبيعية، وما يتعرض له داخل السجن، شكّلت قضيّة الأسرى عند الشعب الفلسطيني واحدةً من القيم الجامعة لهوية كفاح الفلسطينيين ضد الاحتلال.
قبل طوفان الأقصى بيومين
في الخامس من أكتوبر الماضي، قررت قيادة 5200 أسير فلسطيني في سجون الاحتلال إغلاق كل أقسام السجون، في خطوة تحذيرية ضمن برنامج تصعيدي مع إدارة السجون سيبدأ يوم الأحد الثامن من أكتوبر، ويشمل تعطيل الفحص الأمني للأسرى، والاعتصام في ساحات السجون، وتكرار إرجاع وجبات الطعام، واحتمالية إضراب مفتوح عن الطعام أو المواجهة الجسدية مع السجّانين.
كانت هذه الخطوة ذروة مواجهة الحركة الأسيرة مع التوجهات الجديدة لوزارة الأمن الإسرائيلية برئاسة إيتمار بن غفير الآتي إلى حكومة ائتلافية بعدة شروط منها تمرير قانون يتيح إعدام الأسرى، وسحب الجنسية وطرد أسرى القدس والأرض المحتلّة العام 1948.
كانت محاولات تفكيك تنظيم الحركة الأسيرة قد تنامت السنوات الأخيرة في عهد بن غفير وسلفه غلعاد أردان، لكنها ظلت تؤجل بطلب من الاستخبارات تخوفًا من تفجّر الوضع الأمني خارج السجون.[4] ومع السابع من أكتوبر وجدت «إسرائيل» في قانون الطوارئ فرصة لإقامة استعراض وحشيّ ضد الأسرى.
لم يكن التعذيب والتعذيب المفضي إلى الموت لأجل الانتقام فحسب، وإنما من أجل الوصول إلى هدف سياسي مستقبلي يهدف إلى وقف مسيرةٍ تمتد لعشرات السنوات من جهود بناء حركة أسيرة سببت أرقًا للاحتلال، بسبب قدرتها على التحرك جماعيًا داخل السجون، وما تلقاه من تحرّك عسكري ومدني خارج السجون.
في سجن «عوفر»، وعند فورة الأسرى التي تقلصت لربع ساعة كل ثلاثة أيّام بعد السابع من أكتوبر، سمع الأسير، ومنسق اللجان الشعبية لمواجهة الاستيطان والجدار في الضفة الغربيّة، منذر عميرة، رجاءات أسير مسنّ لأحد السجّانين لتزويده بجرعته من دواء القلب. لم يبدُ على السجّان الاهتمام، فقدّر عميرة أن معرفته باللغة العبرية قد توصل رسالة الأسير بشكل أفضل، فتقدّم وشرح للسجّان حاجة الأسير، ليصرخ السجّان فيه: «مين إنت؟ ممنوع تحكي باسم حدا هون، تحكي باسمك بس». وهذا ملخص ما تسعى إدارة السجون جاهدةً للحفاظ عليه الآن في السجون، ألا يكون هناك بوادر تمثيل للأسرى، أو قيادات لهم، بعدما عزلت القيادات القديمة وأخضعتهم للتعذيب بعد السابع من أكتوبر مباشرة، ما يضمن لها عدم وجود تحرك جماعيّ للأسرى.
لم يكن التعذيب والتعذيب المفضي إلى الموت لأجل الانتقام فحسب، وإنما لوقف مسيرةٍ تمتد لعشرات السنوات من جهود بناء حركة أسيرة سببت أرقًا للاحتلال، بسبب قدرتها على التحرك جماعيًا داخل السجون، وما تلقاه من تحرّك عسكري ومدني خارج السجون.
في هذه المرحلة، طال التعذيب المراحل الثلاث التي يمر بها الأسير، كما شهدها العسّاف؛ أثناء الاعتقال، وفي التحقيق، وداخل السجن. لقد رأى العسّاف لأول مرة شبابًا غير قادرين على المشي جرّاء الضرب، وأسرى كبارًا في السن أجبروا على المشي بين الممرات بأرجل مكسورة. وكان التعذيب في الفترات السابقة عادة ما يكون خلال فترة الاعتقال والتحقيق، لا بعد النقل إلى السجن، حتى في فترة الحروب مثل حرب «إسرائيل» على لبنان العام 1982 التي شهدها الهودلي وهو معتقل.
يصف العساف يومًا واحدًا من فترة اعتقاله التي امتدت لأشهر بعد السابع من أكتوبر: غرفة فيها ستة أسرّة، حُشر فيها 12 أسيرًا، عليهم نفس الملابس منذ أشهر، لا يستطيعون غسلها أو تبديلها. في الصباح يوزع عليهم علبة لبنة تزن حوالي نصف كغم للغرفة، ومعها لكل أسير نصف ملعقة مربى و375 غرام خبز. ثم يُسكب لهم على الغداء نصف كأس أرز ومعه ملعقة أو اثنتين من حساء بقوليات مثل الفاصوليا أو البازلاء، ربما يكون هناك حبتا فليفلة أو بندورة للغرفة كاملة. يكرّر المعلومة حتى لا يُفهم أنه يبالغ: «جزرة واحدة، جزرة واحدة لعشرة أشخاص، ليس مرة أو مرتين، كل يوم»، يقول العسّاف الذي خسر خلال أشهر الأسر قرابة 30 كغم من وزنه.
خلال اليوم، ليس هناك ما يفعله الأسرى غير الجلوس وانتظار العدّ، يأتي السجانون ويطلبون منهم الركوع، وفي مرات تقبيل علم «إسرائيل». وتُقدّم لهم وجبات فاسدة، وليس هناك مجال للاعتراض، في واحدة من المرّات كان عميرة شاهدًا عليها، أخبر الأسرى السجّان بأن وجبة الإفطار غير مطهوة، «بعد ربع ساعة دخلت الكيتر [وحدة مختصة بقمع الأسرى] مع كلابها الغرفة وبدأوا الضرب، والسحب من الغرفة باتجاه الكوريدور تحت الضرب العنيف».
تدرس الحركة الأسيرة تحركها، في بداية الحرب تداولت بعض قيادات الحركة الأسيرة في سجن واحد على الأقل سؤالًا مركزيًا، هل يمكن تصعيد المواجهة مع السجّانين؟ جاء التقدير في الأسابيع الأولى من الحرب بضرورة الانتظار إلى حين انتهاء المعركة في غزة، وتجنب الدخول في المواجهة لأن «إسرائيل» تستغل ظرف الحرب لممارسة التعذيب والقتل دون سقوف، بالإضافة إلى أن الشارع الفلسطيني منشغل بشهدائه والحرب في غزة، وهو أحد العوامل التي يعوّل الأسرى عليها حين يتحركون للمواجهة.
حين طالت الحرب، وبسبب ارتفاع الضغط على الأسرى، دخل بعضهم في مواجهة فردية مع سلطات الاحتلال. من بين 16 من الأسرى الذين استشهدوا بعد السابع من أكتوبر كان بعضهم قد استشهد بسبب دفاعه عن نفسه ضد الإهانة، فتعرّض لضرب شديد، وقد وثّقت مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان حالة واحدة على الأقل من هذه الحالات كما تقول تالا ناصر من المؤسسة. في حالات أخرى وصل اليأس من التعذيب ببعض الأسرى حدّ محاولة الانتحار، في حالتين في سجنين مختلفين على الأقلّ، كما قال أسيران قابلناهما.
ختامًا، ما الذي تقوله سيرة الحركة الأسيرة الممتدة في عشرات السنوات؟ أولًا، ما من وضع استمرّ على حاله داخل السجون رغم قسوة الاحتلال وسعيه بشكل منهجي لتصفية قضية الأسرى. وثانيًا السجون لها أيّام، سواء تلك التي أقيمت منذ عشرات السنوات، أو التي شيّدت خلال الحروب، يومًا ما لن تكون موجودة، وسيختفي معها السجّان، مثلما حصل في سجون أنصار جنوبيّ لبنان، وسجون نخل وأبو زنيمة في صحراء سيناء والتي كانت مخصصة لأسرى من قطاع غزّة.
-
الهوامش
[1] وهي هيئة شؤون الأسرى والمحررين، نادي الأسير الفلسطيني، مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان.
[2] عيسى قراقع، وعبد الرازق فراج، أحوال الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد ،18 العدد 69 (شتاء 2007)، ص 164.
[3] وليد دقة، صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب، سلسلة أوراق الجزيرة (15) الدار العربية للعلوم ناشرون، ومركز الجزيرة للدراسات، ط1، 2010 ص 20 – 21.
[4] عبير بكر، الأسرى الفلسطينيون وحالة الطوارئ الإسرائيلية، مجلّة الدراسات الفلسطينية عدد 137، ص 104.