ثورة السابع من أكتوبر: غزة وآفاق المعركة 

الأحد 14 كانون الثاني 2024
منزل مدمر في غزة
فتى يجلس فوق ركام منزل دمر بقصف إسرائيلي في مخيم رفح. 1 كانون الثاني 2024. أ ف ب.

هذه المقابلة جزء من ملف «مائة يوم من الحرب: غزة والمستقبل».

في السابع من أكتوبر الفائت، فاجأت حركة المقاومة الإسلامية حماس، «إسرائيل» والعالم بتنفيذها عملية طوفان الأقصى، والتي اجتاحت عبرها قوات المقاومة مستوطنات غلاف غزة، وقضت على الفرقة الجنوبية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأسرت أكثر من مائتي إسرائيلي. لتعيد مع هذه العملية القضية الفلسطينية إلى واجهة النقاش، لا عربيًا فقط وإنما على المستوى العالمي. وتشنّ «إسرائيل» منذ ذلك اليوم حرب إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني في غزة، قاتلة أكثر من ثلاثين ألف شخص، وتقصف جنوب لبنان وسوريا، وتقتحم الضفة الغربية بشكل يومي، وتعتقل الآلاف من الفلسطينيين. ويتطور المشهد على المستوى الإقليمي بشكل غير مسبوق.

ضمن تغطيتنا لمائة يوم على الحرب، أجرينا حوارًا مع الكاتب الفلسطيني ساري عرابي، وفيه يجيب على مجموعة من الأسئلة بينها؛ كيف كان الوضع العام في فلسطين قبل السابع من أكتوبر، وما الذي تقوله لنا قدرة حماس على شنّ هذه العملية غير المسبوقة من حيث الحجم والتأثير والتداعيات، في ظل ما كان يقال حول أن حركة حماس قد هجرت المقاومة وأنها حركة مردوعة، كما نسأله عمّا تبع ذلك اليوم الذي حاولت قوات الاحتلال عبر المجازر المروّعة طمسه من وعي الفلسطينيين، وعن نظرة حماس لليوم التالي. 

حبر: قبل الحديث عن السابع من أكتوبر، من المفيد أن نلتفت لما كان عليه الوضع في الفترة السابقة على الطوفان؛ فهل يمكن لك أن تقدم لنا عرضًا لما كان عليه الوضع قبل الطوفان؟ 

ساري عرابي: نستطيع القول إن القضية الفلسطينية، قبل السابع من أكتوبر، كانت تعيش حالة من الانسداد التاريخيّ لم تكن موجودة من قبل. وهو انسداد ناجم عن مجموعة من العوامل؛ بينها ما نتج عن مشروع التسوية الذي أصبح أمرًا واقعًا والفلسطينيون غير قادرين على تجاوزه، وفي الوقت نفسه، كان سببًا في انقسام الفلسطينيين، وفي مصادرة الأدوات والإمكانيات النضالية منهم. وكانت إمكانيات تجاوز ذلك صعبة، إذ هنالك موقف رسمي داخل الضفة الغربية مناوئ للمقاومة وفكرة المواجهة، ويفضل مشروع التسوية، وفي غزة حالة مقاومة يسعى الاحتلال إلى تحويلها إلى عبء على الجماهير داخل القطاع، بفعل حصار مُطبِق منذ العام 2007، لم تفلح مختلف الجهود في كسره. 

بالنسبة للسلطة الفلسطينية فقد تحوّل مشروعها، مشروع التسوية، إلى جسر إسرائيلي تتمدد من خلاله نحو العالم، وهذا بدأ طبعًا منذ التسعينيات، إذ بدأ الاحتلال بتكوين علاقات مع دول كانت تاريخيًا مؤيدة للحقوق الفلسطينية مثل الهند واليونان. وظلّ هذا الأمر يتمدد ويتطور إلى أن استطاعت «إسرائيل» اقتحام العالم العربي، فمدّت جسورًا معه، وصولًا إلى اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية غير المسبوقة، لأنها اتفاقيات تحالفية، وبالتالي صار هنالك اصطفاف عربي حقيقي في الخندق الإسرائيلي، ليس على مستوى الممارسة فقط، وإنما على مستوى الخطاب وعلى مستوى الدعاية كذلك. ولأول مرّة في تاريخنا نرى هيئات عربية تتبنّى السردية الإسرائيلية؛ يعني أنت في تلك الدول لا تستطيع أن تدعم المقاومة إذ تسجن أو تطرد، وتستطيع في الوقت عينه أن تقول إن المسجد الأقصى ليس مكانًا مقدسًا، أو أنه للإسرائيليين، منغمسًا في الدعاية والرواية الصهيونية.

ومع مشروع ترامب، يمكن القول إن مشروع التسوية قد وصل إلى أقصى ما يمكن له أن يصل إليه؛ أن يبقى الوضع القائم قبل السابع من أكتوبر قائمًا، تبقى السلطة الفلسطينية بحدودها اليوم على ما هي عليه ولكن تُسمّى دولة، وتبقى المستوطنات، وتبقى الحواجز، ويحق لقوات الاحتلال أن تدخل أراضي السلطة وقتما تريد، وتعتقل كما تريد، ويبقى الأسرى في السجون. ومنذ ذلك الوقت بدأ نتنياهو بالحديث عن ضم مناطق في الضفة الغربية للكيان الإسرائيلي. 

في الضفة الغربية، سعت السلطة وداعموها لإنجاز هندسة اجتماعية، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. فتم تصوير الصراع مع حماس، بعد العام 2007، على أنه أولوية على الصراع مع الاحتلال، وفي أقل الأحوال سوءًا محاولة المساواة بين السلطة وحماس للقول إنّه لا توجد مقاومة صادقة. واقتصاديًا، جرى ربط المجتمع الفلسطيني بصورة شبه كاملة ومطبقة بالمؤسسة الاقتصادية الإقراضية، وخلقت فقاعة نيوليبرالية من حيث نمط الحياة، فتحولت مدينة مثل رام الله إلى كوفي شوب كبير، بنمط حياة «جذاب»، وسُعيَ إلى محاولة استنساخه في مدن أخرى. هذا النموذج المعتمد على الإقراض المفرط، وعلى هذا النمط من الحياة، يتعارض تمامًا مع النضال ضد الاحتلال، إذ يصير أيّ مكتسب على هذا الصعيد قيدًا ثوريًا أمام الناس. وثقافيًا، وإضافة إلى تغيير المناهج المدرسية، حاولت السلطة خلق رموز للشعب الفلسطيني غير رموزه المعتادة من المناضلين والشهداء. وقد صاحبَ كل هذه التغييرات طبعًا، بطشٌ أمني، ركز أساسًا على حركة حماس، لكنه كذلك شمل الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وكوادر في حركة فتح. وكل هذا في مسعى لخلق ما سمّاه الجنرال كيث دايتون الفلسطيني الجديد. 

أمّا في قطاع غزة، فكان الوضع كالتالي، حصار مطبق منذ العام 2007، وأحد أشكال خطورة هذا الحصار هو أنه يخلق ظروفًا متباينة بين التجمعات الفلسطينية المختلفة. بعد أن نجحنا كفلسطينيين، في بلورة هوية وطنية جامعة بعد النكبة، جاءت اتفاقية أوسلو، وبعدها سياسات الاحتلال، وعملت على خلق شعوب فلسطينية، بظروف سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية متباينة. فمع أوسلو، أخرج أهلنا في الأراضي المحتلة العام 48 وأخرج اللاجئون من الصورة، ومع الحصار سعى الاحتلال إلى خلق شعب فلسطيني في الضفة الغربية مختلف عن الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة، وتحويل الضفة إلى نموذج يغرى الفلسطينيون في غزة به، بمعنى أن من لا يقاوم يحظى بحياة اقتصادية أفضل. وأراد الاحتلال من وراء هذا أن يقول للفلسطينيين في غزة أن مأساتكم سببها السلاح، وانكم إن أردتم ان تعيشوا أفضل فعليكم تسليم سلاحكم. 

بكلمات أخرى، سعى الاحتلال، ومن ورائه النظام الإقليمي العربي، إلى ابتزاز الفلسطيني في لقمة عيشه، وفي كرامته، وقد حاولت قيادة حماس أن تحلّ هذا الأمر من خلال المصالحة مع السلطة، ومع اتفاق الشاطئ، واتفاق القاهرة (2017) حلّت اللجنةَ الإداريةَ المكلفة بإدارة شؤون القطاع، وقالت للسلطة نحن مستعدون لإعطائكم كلّ شيء، باستثناء سلاح المقاومة وبنيته التحتية. وهو ما رفضته السلطة، وهو رفض من الواضح أنه مرتبط باشتراطات إسرائيلية وأمريكية، وكأنه كان يراد أن يبقى قطاع غزة محاصرًا، وأن يبقى الإنسان في قطاع غزة مبتزًا بكرامته ولقمة عيشه، وأعتقد أن هذا كان من أكثر الأمور التي كانت تضغط على عصب المقاومة داخل قطاع غزة فرأت أنّ ابتزاز الفلسطيني في لقمة عيشه لا ينبغي أن يستمر.

في الخلاصة نحن أمام المشهدية التالية؛ تكبيل القدرات النضالية في الضفة الغربية تمامًا، مع تحوّلها إلى ساحة مستباحة تمامًا للمستوطنين، مع ممارسة للهندسة الاجتماعية على الفلسطينيين على أساس ما يسمّى بالانقسام الفلسطيني بمعنى تحويل الصراع مع حماس إلى أولوية مقدمة على الصراع مع الاحتلال، وهذا بات ممارسة عملية دائمة للسلطة، ومحاولة هندسة المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا كذلك، من أجل صرف المجتمع عن القيام بواجبه التاريخي عن مواجهة الاحتلال، واستفحال إسرائيلي واستفحال يميني والتعامل مع القضية الفلسطينية وكأنها غير موجودة. 

وإزاء هذا الانسداد التاريخي على المستوى الداخلي وعلى مستوى الصراع مع الاحتلال، والذي أوضحت أبرز ملامحه، كان لا بد للانفجار أن يحصل. وهنا أعتقد أن السابع من أكتوبر كان بمثابة ثورة، وثورة برأيي هو التوصيف الأنسب لما حصل؛ ثورة وقف خلفها تنظيم مسلّح، تنظيم كانت توجه له منذ فترة أسئلة عمّا يفعله، أسئلة من قبيل «أينكم عما يحصل للضفة، للأسرى، للقدس؟ً». 

أمّا ما أعنيه بكون السابع من أكتوبر ثورة، فهو أنه وعلى امتداد الثورة الفلسطينية المعاصرة، منذ الستينيات، كانت هنالك دومًا قواعد وسقوف حرصت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على عدم تجاوزها بحجة عدم منح «إسرائيل» ذرائع للهجوم على الفلسطينيين، وأن تبقى دائمًا نوافذ للحوار مع الأمريكيين ومع النظام العربي الرسمي. ما حصل في السابع من أكتوبر كان كسرًا لكل هذه القواعد وتجاوزًا لكل المخاوف من الذرائع وتجاوزًا لكل الحرص على أي علاقات مع النظام الدولي أو مع النظام الإقليمي العربي لأن كل تلك القواعد سواء أكانت قواعد النقاش السياسي أو قواعد الفعل النضالي لم تفض إلا إلى تكبيل الفلسطينيين والوصول بنا إلى حالة الانسداد التاريخي. كما كان السابع من أكتوبر فعلًا استثنائيًا غير مسبوق تاريخيًا في النضال الفلسطيني على مستوى الحجم والنوع والطبيعة والتداعيات، وبالتالي نحن نستطيع أن نسميه ثورة بهذا الاعتبار. 

مائة يوم مرّت على طوفان الأقصى، وعلى الحرب الإبادية التي تشنّها «إسرائيل» على القطاع منذ ذلك اليوم. هل يمكن لك أن تحدثنا عمّا يعنيه قيام مقاومة محاصرة في قطاع جغرافي صغير للغاية بتنفيذ عملية مثل هذه، وعمّا يعنيه كذلك استمرارها في تنفيذ العمليات ومواجهة الاحتلال رغم مائة يوم من العدوان، وأخيرًا ما يتطلبه ذلك من تجهيزٍ سابقٍ على العملية، من تحضير مادي ومعنوي؟

من الممكن لنا أن نتحدث عن مرحلتين من الحرب، المرحلة الاولى كانت يوم السابع من أكتوبر، وهو يوم يسعى الإسرائيلي إلى محوه من وعي الفلسطينيين تمامًا. وبفعل المجازر والفجيعة والدمار الهائل الذي ارتكبه الاحتلال يمكن للبعض أن ينسى حجم الإنجاز الذي حققته المقاومة في ذلك اليوم.

مجرّد حدث السابع من أكتوبر يدل على أن المقاومة الفلسطينية في غزة جادة جدًا، وأنها بالتعبير العامّي «قاعدة لإسرائيل» ومواجهتها، وأنها تقوم باستثمار كلّ الموارد المتاحة من أجل المواجهة. 

ليس مردّ نجاح المقاومة في ذلك اليوم غفلة إسرائيلية كما يتم تصويره أحيانًا، وإنما مرده هو دراسة المقاومة لـ«إسرائيل»، وهنا نتحدث عن دراسة ممتازة للمجتمع الإسرائيلي وللجيش والمخابرات، وعن دراسة لتقنيات الرقابة والضبط والسيطرة الإسرائيلية، وبعد دراستها وضعت لها كل الحلول الممكنة. 

مجرّد حصول السابع من أكتوبر يدل على مقاومة كرّست نفسها لمواجهة إسرائيل، وليس أمامها إلّا تحقيق إنجاز ينتقل بالقضية الفلسطينية في سياق تحرير فلسطين. وقناعتي، أن كتائب القسام تتبنّى رؤية تحرير فلسطين، وكل ما يمكن أن يجري من خطاب سياسي إنما هو مناورات ضمن هذه الرؤية العامة. 

بعد مائة يوم على المعركة يمكن القول إن إسرائيل لم تفهم حركة حماس، وبالتالي هنالك إشكالية في إدارتها للمعركة وفي الأهداف التي وضعتها، وفي المقابل، كانت حماس، عند قيامها بطوفان الأقصى، مستعدة بصورة حقيقة لكل الاحتمالات.

سمة أخرى تتميّز بها المقاومة وهي حسن استثمار الموارد. ربما تكون حركة حماس من أفقر حركات المقاومة في المنطقة من حيث الموارد، إذ نتحدث عن مقاومة ليس لها دولة ظهير يمكن أن تساعدها بشكل مباشر، وخطوط إمداد الحركة بالموارد طويلة جدًا، وربما يضيع قدر كبير من هذه الموارد على الطريق. كما نتحدث عن شريط ساحلي صغير جدًا، وعدد سكانه بسيط للغاية، ويفتقر للتضاريس التي عادة ما تستغلها حركات المقاومة من جبال وغابات وغيرها، وبالتالي فإننا نتحدث عن ظروف شبه مستحيلة في ظلّها تمكنت المقاومة من تحقيق إنجاز السابع من أكتوبر. 

وأن تتمكّن المقاومة بعد ذلك اليوم، من الصمود في مواجهة هذه الحرب الطويلة، التي هي ربما أطول حروب إسرائيل، ما بعد النكبة، حتى أن قادة جيش الاحتلال يعترفون بإنهاك جيشهم وجنودهم، كل هذا يدل على جدية المقاومة.

كما يمكن الحديث عن الاستثمار العظيم للموارد، وهنا نتحدث عن مسألتين، استثمار الموارد البشرية، واستثمار الموارد المادية. 

على مدى سنوات استثمرت المقاومة في عقول أبنائها، واجتذبت أفضل العناصر في المجتمع، من مهندسين وعلماء وكفاءات، وتواصلت مع علماء من فلسطين ومن خارجها لخدمة أغراض المقاومة ومشروعها. ومن الجدير بالملاحظة هنا هو أن الإسرائيليين لطالما استخفوا بالعلاقة بين الإسلاميين والعلوم التطبيقية من منطلقات عنصرية مفادها عدم قدرة العربي والمسلم على التعامل مع العلوم، وهناك جهات في مجتمعاتنا تسرّبت لها هذه النظرة، لكن ما نتعلمه من تجربة المقاومة الممتدة هو أنها تتعامل مع العلوم بمنتهى الجدية، وهنا من الجدير أن نتذكر أن معظم كوادر الإسلاميين إنما يأتون من كليات الهندسة وكليات العلوم. 

وبالإضافة لهذا، من اللافت مقدار استفادة المقاومة من التجارب السابقة، ومقدار التطوّر الذي يحصل عليها مع كلّ مواجهة جديدة مع الاحتلال، فكتائب القسام وحماس في العام 2008، ليست ذاتها في حرب العام 2012، ولا هي ذاتها في حرب 2014، ولا هي ذاتها في سيف القدس، وهنا نتحدث عن نقلات نوعية في مديات زمنية قصيرة للغاية. وبالتالي يمكن لنا أن نتأكد أن القسام ستستفيد من المعركة الجارية اليوم على مستوى البنية، وعلى مستوى إدارة المواجهة مع الاحتلال في المواجهات المستقبلية.

يتحدث الاحتلال عن تفكيك قدرات حركة المقاومة في شمال قطاع غزة، هذا في الوقت الذي قصفت فيه صواريخها تل أبيب قبل أيّام فقط. كيف تقرأ هذه التصريحات، وما الذي يعنيه كون المقاومة لا زالت فاعلة وحاضرة في شمال قطاع غزة، رغم مرور هذه المدة على بدء العدوان؟ وكيف تغيرت تكتيكات المقاومة مع انسحاب الاحتلال من أجزاء واسعة من شمال القطاع؟

على ذكر الاستفادة من التجارب السابقة، من الواضح أن الاحتلال لم يستفد منها. بعد حرب تموز 2006، كان من ضمن الانتقادات التي وجهها تقرير فينوغراد لحكومة الاحتلال هو أنها دخلت الحرب بأهداف كبيرة، ثبت أنها عاجزة عن تحقيقها، وذلك لأن مفهوم النصر والهزيمة في إطار الحروب غير المتناظرة مفهوم مختلف عن الحروب العادية. 

في الحروب غير المتناظرة يكون السؤال: هل استطاعت القوة الأكبر تحقيق أهدافها من الحرب أم لم تستطع؟ أمّا بالنسبة للمقاومة فهذه المعركة، هي معركة أخرى ضمن صراع طويل، وبالتالي لا يكون السؤال المطروح عليها كم أوقعنا فيهم من خسائر وكم أوقعوا فينا. 

رفع الاحتلال مع بداية الحرب أهداف عديدة، بينها القضاء على حركة حماس، وأحيانًا كان يخفف لهجته بالقول إن الهدف هو القضاء على مقدرات الحركة. وبالتالي، الإسرائيلي ورّط نفسه عبر الإعلان عن أهداف، إن لم يستطع تحقيقها، سيكون في وعي الناس مهزومًا. لأن القضاء على حماس يتطلّب احتلالًا للقطاع، وامتلاكَ الكيان الإسرائيلي وجيشه الإرادة والقدرة والجرأة والشجاعة للدخول بين تجمعات الفلسطينيين ولو دفع من الأثمان ما دفع، وواضح تمامًا أنه لا يستطيع ذلك. وبالتالي هو اعتمد في سعيه للقضاء على حماس على الكثافة النيرانية الهائلة والقصف السجادي. لكن من الواضح أن هذا غير كافٍ، وأن المقاومة قد أعدّت بنية تحتية قادرة على المواجهة، تقوم على أكثر من عامل، بينها بالطبع الأنفاق، وهنا استفادت المقاومة من تربة قطاع غزة الرملية، فسعت لإنجاز أنفاق قادرة على مقاومة القنابل الخارقة للتحصينات التي زودت بها الولايات المتحدة «إسرائيل»، لكن الأنفاق لم تكن سلاحها الوحيد.

إذ استفادت من الدمار الهائل الذي خلفه قصف الاحتلال، والذي سعى من خلاله لخلق حالة من الترويع والصدمة والرعب ولتهجير السكان وإثارتهم على المقاومة وفرض الهزيمة والاستسلام عليها. استفادت المقاومة من هذا الدمار عبر استخدامه للتمترس والتنقل عبره. بل وربما يحمي هذا الركام البنية التحتية الأصلية؛ الأنفاق.

وفي مقابل دراسة المقاومة لـ«إسرائيل»، لم تدرس هذه الأخيرة حركة حماس بشكل جيد. وهذه إشكالية عند الإسرائيلي، وهو قد اعترف بها، اعترف أنه لم يدرس حماس كما يجب، واعتقد أنها كانت حركة مردوعة كل همّها إدارة السكان والبحث عن حلول اقتصادية لهم. لكن في طوفان الأقصى اتضح أنه ليس فقط هذه الحركة غير مردوعة، بل أنها الحركة الأكثر ثورية وجذرية في تاريخ النضال الفلسطيني، وأن لديها استعدادًا للذهاب إلى أماكن غير مسبوقة. وهنا ربما أشير إلى طرفة وهي أنه ومن بين الفصائل الفلسطينية، ربما كانت الحماس الفصيل الذي تعرّض لأكبر قدر من الاتهامات من قبيل أنه فصيل محافظ على مستوى الصراع، كما شُكِّك مرارًا في مقاومته وفي استعداديته للاستمرار. 

وكما فهمت «إسرائيل» حماس خطأً قبل السابع من أكتوبر، فإنها فهمتها خطأ كذلك بعدها، وافترضت أنه من خلال القتل والترويع والمجازر يمكن لها أن تفرض عليها الاستسلام، ولم تفهم أن من قام بهذا العمل الثوري سيكون مستعدًا لمواجهة مختلفة داخل القطاع، وهو مستعدّ لكل الاحتمالات، رغم إدراك الحركة بالطبع أن الإسرائيلي قادر على تحقيق إنجازات تكتيكية، مثل اغتيال قادة ومقاومين، واكتشاف أنفاق ومخازن سلاح، وهذا ليس شيئًا استثنائيًا أو معجزًا ووارد بالطبع أن يحصل.

في الخلاصة، أعتقد أن هنالك إشكالية في إدارة «إسرائيل» للمعركة، وفي الأهداف التي وضعتها، وفي فهمها للحركة، وفي اتباعها للغريزة الانتقامية. لكن الأهم هو أن هذه المقاومة كانت مستعدة بصورة حقيقية لكل الاحتمالات على ساحة قطاع غزة، ربما في التقدير السياسي لم يكونوا يتوقعون هذا المقدار من التوغل، لكن على المستوى العسكري كانوا مستعدين له. 

يتحدث الإعلام الإسرائيلي والأمريكي عن «المرحلة الثالثة» من الحرب، وهي مرحلة يفترض أن ينتقل فيها القتال إلى شكل مختلف، بحيث تنسحب قوات الاحتلال من بعض المواضع فيما يتم التركيز أكثر على القيام بعمليات خاصة، من قبيل الاغتيالات والضربات الجوية المركزة والعمليات الموضعية. ما الذي يعنيه هذا الانتقال العملياتي بالنسبة للمقاومة، وكيف يؤثّر على مستقبل الحرب؟ 

علينا أن نتذكر أن الاحتلال منذ بداية الحرب يتحدث عن مراحل، ولم يكن واضحًا ما الذي يعنيه بالمرحلتين الثانية والثالثة، وهذا كان ينم عن شكل من الارتباك. لكن الآن اتضح ما الذي يعنيه، وهو تخليص الجيش من انغماسه بين السكان، وأن ينتقل هو من حالة استنزاف يعيشها إلى أن يستنزف هو المقاومة، عن طريق بقاء الحصار والقصف الجوي المركز وبقاء عمليات أرضية مركزة. لكن هل سينجح؟ هذا يطرح علينا مجموعة من الأسئلة السياسية والاستراتيجية، ويقودنا إلى نقاش أكبر. 

وجود قوات الاحتلال داخل مناطق عازلة في القطاع لن يحميها من الصواريخ قصيرة المدى، وقد لاحظنا أن هذا هو أهم تكتيكات المقاومة في مواجهة الاحتلال في هذه المناطق، وهذا أصلًا كان سبب خروج الاحتلال من القطاع عام 2005. في الانتفاضة الثانية، كان الفلسطينيون داخل قطاع غزة يعتمدون على الصواريخ قصيرة المدى وعلى قذائف الهاون، وأحيانًا على اقتحام المستوطنات، وهو ما دفع قوات الاحتلال للخروج. وبالتالي لو أعاد الإسرائيلي احتلال القطاع فحتمًا ستلجأ المقاومة لذات الأساليب التي أخرجته أوّل مرة.

ما يحصل اليوم بمثابة استعصاء غير مسبوق في تاريخ الكيان الإسرائيلي. فهو لا يستطيع اليوم فرض خياراته، ولا التكيف مع مقاومة أثبتت أنها جادة، وأنها يمكن أن تذهب أبعد مما يتصور، وأنها يمكن أن توجّه ضربات استراتيجية.

كما تملك المقاومة ورقة هامة للغاية، وهي الأسرى الإسرائيليون. صحيح أن أحد أهداف طوفان الأقصى كان تحرير الأسرى الفلسطينيين، لكن هذه الورقة ستستخدم كذلك للتأثير على مجريات الحرب، والتأثير على القرار السياسي والعسكري وعلى المجتمع الإسرائيلي. وبذا، حتى لو بقي الاحتلال داخل مناطق في القطاع هو مضطر في النهاية إلى عمل تسوية ما مع المقاومة. 

بقاء الاحتلال في القطاع لا يوفر للمقاومة أدوات جديدة لاستهدافه فقط، وإنما كذلك يمنح المزيد من الشرعية للمقاومة. إذ بالنسبة للفلسطيني في غزة، يعدّ تواجد الإسرائيلي في المكان غير معتاد أبدًا، على خلاف الوضع القائم حاليًا في الضفة حيث تنتشر الحواجز والمستوطنات. هذا التواجد الإسرائيلي سيخلق المزيد من الشرعية لمقاومة الاحتلال، ويخلق إجماعًا حولها، وسيزداد الالتفاف حول حركة حماس من أجل إخراج الاحتلال من القطاع. وبالتالي لن يستطيع الاحتلال البقاء في غزة لوقت طويل، على خلاف ما يعلن ويتوعد.

ما يحصل اليوم بمثابة استعصاء غير مسبوق في تاريخ الكيان الإسرائيلي، على مدى سنوات احتلاله. كان الإسرائيلي مقتنعًا دومًا بإمكانية فرضه لخياراته على العرب، سواء بالقوة العسكرية أو بجرّ لعرب لمفاوضات أو لسلام إسرائيلي. لكنه لا يستطيع اليوم فرض خياراته، ولا التكيف مع مقاومة أثبتت أنها جادة، وأنها يمكن أن تذهب أبعد مما يتصور، وأنها يمكن أن توجّه ضربات استراتيجية. ناهيك عما يحصل في جنوب لبنان، واضطرار عشرات آلاف المستوطنين للنزوح، وعجز الحكومة الإسرائيلية عن إعادتهم لبيوتهم. 

وبالتالي، هنالك أسئلة جوهرية أمام الإسرائيلي. في الماضي، كان يمكن لـ«إسرائيل» عند مواجهة دولة عربية أن تحيّدها بأساليب مختلفة، لكن اليوم، يتعامل الإسرائيلي مع قوى غير دولتية، في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، قوى جادة وقادرة على مراكمة قدراتها وأدواتها، وتمتلك الخيال، وعندها استعداد للذهاب بعيدًا، وهو ما يمثّل مشكلة غير مسبوقة للإسرائيلي. 

وأمام هذا الواقع فإن الخيارات الإسرائيلية محدودة؛ هو لا يستطيع تفكيك حماس، لأنه كما قلت إن أراد تفكيكها يجب أن يحتل القطاع طويلًا، وهو ما يفكر به ويريده نتنياهو، لكن الجيش الإسرائيلي على ما يبدو لا يقبل بهذا الطرح، لأن في هذا استنزافًا له. أما حلفاء نتنياهو في اليمين الصهيوني فهم يريدون أكثر من هذا، إذ يطالبون بإعادة الاستيطان في غزة، وهذا بالطبع حماقة على المستوى الاستراتيجي. 

الاستراتيجيون في الكيان يتحدثون عن كون كلّ هذه الحلول إشكالية، وتعيد الصراع إلى نقطة الصفر، وتغمس الكيان وسط الفلسطينيين، وهذا يعني مشاركة مزيد من فئات الشعب الفلسطيني في المقاومة بحيث لا تعود المقاومة قائمة على فصائل نخبوية مسلحة، كما أن هذا سيعني إيقاف الجسور التي مدّتها «إسرائيل» نحو مناطق مختلفة في المنطقة. أمّا العودة من القطاع دونما إنجاز حقيقي، فهذا يعني بدء حالة من التفكك في المجتمع الإسرائيلي، إذ أن تماسكه مرتبط بالشعور بالأمن والثقة بالجيش والمخابرات، وهذه المسألة من أبرز ما يفكر به جنرالات الجيش، ناهيك عن المشكلة الشخصية عندهم، وهم الذين شعروا بالمهانة مما حصل يوم السابع من أكتوبر.

وبالتالي، وفي ظلّ كل هذه السيناريوهات الصعبة، التي يناقشها الإسرائيليون، قد يكون السيناريو الأكثر ترجيحًا هو الخفض المتدرج لوتيرة الحرب من أجل الخروج منها.

في مواجهة مسعى «القضاء على حماس»، الذي وضعه قادة الاحتلال هدفًا لحربهم على القطاع، تصدرت مقولة «حماس فكرة»، في محاولة للقول إنه من غير الممكن القضاء على فكرة مقاومة الاحتلال. لكن هذه العبارة لا تلتفت إلى أن حماس حركة اجتماعية، متجذّرة في المجتمع الفلسطيني، وتحديدًا في غزة. هل يمكن لك أن تعرض لنا ما الذي يعنيه كوْن حماس حركة اجتماعية؟

هنا الإجابة من شقين؛ بلا شك أن حركة حماس ليست كتائب القسام فقط، وإن كان القسام هو أهم ما لدى حركة حماس، إذ يعطيها الزخم والمشروعية والشعبية الأكبر، وفي الوقت نفسه حماس ليست هي إدارة القطاع، وقد ثبت في أكثر من حادثة أن حماس مستعدة للتخلي عن هذا الدور. 

هنالك مشكلة في عدم قدرة العديد من المتابعين للمشهد على التعاطي مع حركة حماس، وباقي الأطر النضالية ذات المرجعية الإسلامية في الجامعات والنقابات وغيرها، على أنها انبثاق من مجتمعاتها، وهي ليست تنظيم القاعدة ولا هي داعش، جاءت للمجتمع من مكان آخر، كما حاول الغرب تصويرها بعيد السابع من أكتوبر. 

وأكبر دليل على هذا هو أن حركة حماس عندما انطلقت عام 1987، فإنها بدأت حركة قوية، ولذا استطاعت الانتشار بشكل واسع في عموم فلسطين، ففرضت أيام فعالياتها وأيام إضرابها الخاصة بها، في موازاة فعاليات القيادة الوطنية الموحدة لمنظمة التحرير، والتي كانت تضمّ جميع فصائل المنظمة.

السؤال هنا، كيف يمكن لحركة ناشئة أن تحجز لنفسها مكانًا في مقابل قوى متجذرة موجودة بصيغتها النضالية منذ الخمسينيات لو كانت غريبة فعلًا عن مجتمعها ولم تكن لها جذور فيه؟ وهنا نحن لا نتحدث عن جماعة لها شكل مختلف من التدين، لا في المظهر، ولا في الممارسة، وخطابهم لا يركز على قضايا طائفية، وهم منذ البداية غير منسلخين عن قضايا المجتمع.

لن أعود هنا إلى تاريخ حركة الإخوان المسلمين داخل فلسطين، وهو تاريخ يعود لعام 1945، وإنما سأعود إلى سبعينيات القرن الفائت، حيث شكل عدد من المعتقلين ما سمي وقتها الجماعة الإسلامية داخل السجون، وهي إطار جمع عددًا من الأسرى الإسلاميين من مشارب مختلفة، كانوا متدينين، وبعضهم جاء من فصائل منظمة التحرير، وأخذوا قرارًا بالتدين وتبني الخط الإسلامي. ومنذ ذلك الوقت وضعت الحركة الإسلامية كلّ ثقلها خلف الكتل الإسلامية في الجامعات. وهنا من الجدير بالملاحظة أنه عند الحديث عن جامعة النجاح، على سبيل المثال، وهي بمثابة قلعة لمنظمة التحرير ولحركة فتح، ومع ذلك فازت بانتخاباتها الطلابية الكتلة الإسلامية مرتين متتاليتين أواخر السبعينيات. وكذلك كان الحال في جامعة بيرزيت، التي يمكن وصفها بأنها جامعة ليبرالية، كانت في جذورها تابعة للجامعة الأمريكية في بيروت، وفي أوّل انتخابات تخوضها الكتلة الإسلامية، في مواجهة كتل فصائل منظمة التحرير، فإنها حصلت على نسبة 45% من الأصوات، وبالتالي أنت تتحدث عن مجموعة تفوز بالانتخابات الطلابية مع بداياتهم ومع تأسيسهم، وهذا يعني أن لهم جذورًا اجتماعية سابقة على هذا التأسيس. وكذلك كان الحال في غزة، والتي شهدت عملًا كبيرًا على العمل المؤسساتي، مثل الجمعية الإسلامية والجامعة الإسلامية وغيرها.  

وهذا لم يتغير بعد عودة منظمة التحرير، واتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة، إذ ظلت الكتلة الإسلامية تفوز بالانتخابات الطلابية في جامعة بيرزيت، والتي يمكن القول إنها الجامعة الأكثر قدرة على تمثيل المزاج العام للفلسطينيين في الضفة، لأنها جامعة كبيرة في وسط الضفة، وتستقطب طلاب من كافة مناطق الضفة، ولا كلية شريعة فيها، ومع ذلك كانت الكتلة الإسلامية تفوز في معظم انتخاباتها منذ أوسلو وحتى ما يسمى بالانقسام 2007. 

وهنا يمكن أن نتحدث بثقة عن كون الإسلاميين في فلسطين حالة طبيعية داخل المجتمع، لها تجليات أهلية واجتماعية وطلابية، وبالطبع تجليات دعوية. كانت موجودة ومتجذرة في المجتمع حتى قبل كتائب القسام وقبل حماس.

وبالتالي حماس حركة منبثقة عن المجتمع، متجذّرة فيه، وفكرة القضاء عليها عبر القضاء على كتائب القسام أو عبر القضاء على حكمها في غزة، فكرة غبية لا معنى لها. لا بل على العكس، هذا الكلام عن السعي للقضاء عليها يعطيها مشروعية أكبر، فمثلًا، في آخر استطلاع أجراه مركز البحوث المسحية، كانت نسبة الأصوات التي ستحصل عليها حماس في أي انتخابات، في الضفة أعلى منها في غزة، وبالتالي نحن نتحدث عن حالة تعاطف شعبي هائل مع الحركة بغض النظر عن نتيجة الحرب. 

بالتالي حماس لا يمكن القضاء عليها، ليس فقط بوصفها فكرة، وإنما بوصفها حركة اجتماعية متجذرة في المجتمع الفلسطيني. لكن لو سلمنا بإمكان القضاء عليها، فإنه لا يمكن منع نشوء تجليات إسلامية جديدة في المجتمع الفلسطيني، وكذلك لا يمكن القضاء على استمرارية المقاومة داخل المجتمع الفلسطيني. صحيح أن المقاومة يمكن أن تفتر لسنوات مثلًا، لكنها تعود وتتجدد باستمرار، وهذه هي تجربتنا منذ الستينيات وحتى هذه اللحظة

قبل أيّام، قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية إنه يأمل أن يكون وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قد «استخلص العبر من الأشهر الثلاثة الماضية وأدرك أخطاء واشنطن في دعمها للاحتلال»، وبعد هذا التصريح بأيّام، صرّح من جديد قائلًا إن هذا العدوان أمريكي إسرائيلي. ما أود سؤالك عنه هو، ومن خلال قراءتك لتجربة حركة حماس الطويلة، كيف تنظر الحركة للولايات المتحدة ودورها في الصراع في المنطقة وعلى فلسطين، وهل من تغيرات تجدر الإشارة إليها في هذه النظرة؟

أعتقد أن نظرة حماس إلى الولايات المتحدة، تشبه إلى حد كبير، نظرة باقي الفاعلين الفلسطينيين إليها، إذ ترى أن السبب في قوة «إسرائيل» ووجودها واستمرارها هي الولايات المتحدة، وهذا بالحد الأدنى يجعل منها عدوًا للشعب الفلسطيني.

وما كشفت عنه الحرب الأخيرة هو أن الولايات المتحدة منخرطة مباشرة في الحرب، ليس فقط عبر التمويل والدعم وتوفير الغطاء القانوني والسياسي، بل ومن خلال المشاركة الفعلية، عبر قيادات حضرت في مجلس الحرب، وعبر تقديم النصائح والاستراتيجيات، وهي من تطيل أمد الحرب عبر إفشال قرارات إيقافها في مجلس الأمن. 

حماس تدرك هذا بكل تأكيد، لكن سياسة حماس وهي السياسة القابلة للنقاش، هي أنه وباستثناء «إسرائيل»، والعداء الصارخ معها والموقف الجذري منها، فإن حماس معنية بالسعي لتحييد أكبر قدر ممكن من الخصوم، وبفتح ما أمكن من مساحات للحوار والنقاش. وبذا لو طلب الأمريكان الجلوس مع حماس في مرحلة ما فإن الحركة غالبًا لن ترفض، وهو ما تقوله الحركة دومًا أنه وباستثناء «إسرائيل» لا مشكلة لديها في الحديث مع أي طرف في العالم. 

لفهم هذا الموقف لا بد من النظر إلى البيئة الإقليمية، والتي لا تساعد حماس على أخذ موقف أكثر ثورية تجاه الولايات المتحدة. فكما نعلم جميعًا، وكما أوضحت منذ قليل، نحن نتحدث عن حركة محاصرة، بحاجة لأصدقاء وداعمين، لكن الحركة لا تحظى بظهير عربي يتبنى موقفًا استراتيجيًا قادرٍ على تحمل أعباء دعم حركة حماس. ويبدو أن الدعم الإيراني غير كاف، ولا هو كفيل بحيث يدفع الحركة كي لا تلقي بالًا للأمريكان. 

البيئة الإقليمية غير داعمة للنضال الفلسطيني، وقد كانت هذه مشكلة للمقاومة الفلسطينية على الأقل منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، وهو ما يفسر عدم قدرة المقاومة في الحروب السابقة على تحقيق إنجازات سياسية، إذ هذا غير ممكن في وسط بيئة، إن لم نقل إنها معادية للمقاومة، فإنها غير متعاطفة معها على الأقل، وليس لديها استعداد لدفع أثمان. وهذا ما كشفت عنه الحرب الحالية كذلك، إذ لا نجد أي موقف متقدم أو جذري من الدول العربية تجاه الحرب. 

وبالتالي ما تراه حماس هو ضرورة السعي لتحييد الأعداء أو لفتح مساحات نقاش، من دون أن تبني آمال عريضة أو أوهام، وحتى لو كان ذلك بالعلاقة مع الولايات المتحدة، على خلاف قيادة منظمة التحرير التي كانت لديها منذ العام 1974 على الأقل رؤية للتسوية، والتي كانت تنظر إلى الجلوس مع أي طرف أمريكي على أنه إنجاز كبير. 

بعد السابع من أكتوبر، تمت محاولة دعشنة الحركة، وعزلها ونزع الشرعية عنها، وهنا كان من المفيد أن يصرّح قادة حول العالم أن حماس ليست داعش، وأنها حركة تحرر. ولذا كان مفيدًا الموقف التركي من هذه المسألة، رغم كل النقد المستحق الذي تطرحه الأطراف المختلفة تجاه تركيا ومواقفها. 

تدرك حماس أن الولايات المتحدة تتعامل معنا بعدوانية، لكن نظرة الحركة قائمة على حصر المواجهة، لا على مستوى الممارسة الفعلية فقط وإنما على مستوى الخطاب كذلك، مع «إسرائيل». وترى فيه الخيار الأفضل ضمن الجغرافيا السياسية القائمة اليوم.

وفي الوقت نفسه ترى الحركة أنه ليس من مصلحتها أن تكون محاصرة في كلّ مكان، وألّا يجد أنصارها في الغرب أنفسهم متهمين بالإرهاب، أو غير قادرين على الحركة، وهذا مفيد لأغراض عملية، وهو مفيد لغايات محاولة عزل «إسرائيل»، وهو مهم على المستوى التراكمي، إذ يعترف الناس بحق الفلسطينيين، ومشروعية المقاومة الفلسطينية.

أعادت معركة طوفان الأقصى، الحديث حول حلول نهائية للقضية الفلسطينية، فاستعادت الإدارة الأمريكية حلّ الدولتين بعد سنوات من الإهمال. هل لحركة حماس رؤية واضحة معلنة حول الحلّ النهائي للقضية الفلسطينية، وأي تأثيرات يحملها طوفان الأقصى على الوثيقة السياسية للحركة التي صدرت في العام 2017، وكان فيها شكل من أشكال القبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران؟ 

حتى هذه اللحظة لا يبدو أن طوفان الأقصى قد ألغى الوثيقة السياسية للحركة، أو دفع نحو إعادة التفكير بها. الوثيقة السياسية لحماس صدرت بعد حوالي أربع سنوات من النقاش، وحتى الآن هنالك أوساط في الحركة لديها نقد للوثيقة، على اعتبار أن حلّ الدولتين لا يمكن أن يتحقق، وإن كان حل الدولتين كما تطرحه الوثيقة يقوم على تفكيك الكيان الإسرائيلي عبر مطالبته بعودة اللاجئين إلى الداخل المحتل، وهو ما يعني بالضرورة تفكيك الكيان، وبالتالي نحن نتحدث عن شكل من أشكال تحرير فلسطين. 

ما أعتقده هو أن حماس بحاجة اليوم إلى إعادة النظر في وثيقتها السياسية، وبحاجة إلى إعادة النظر إلى النقاش السياسي، وإلى إعادة النظر في أدبياتها منذ دخولها السلطة عام 2006. 

لكن فلنعد للخلف قليلًا، إلى لحظة تأسيس السلطة، والتي تأسست على الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، ومنذ تلك اللحظة بات السؤال المطروح على القوى المعارضة لأوسلو هو أمامكم خياران إمّا الموافقة على مشروع السلطة، أو أن تصبحوا أعداء «للمشروع الوطني» وبالتالي تملك السلطة مشروعية استهدافكم. وبالفعل هذا ما حصل منذ العام 1994، إذ أخذت السلطة باعتقال أعضاء حماس، واستمرّ هذا حتى العام 2000 مع انطلاقة انتفاضة الأقصى، والتي رُفِع فيها شعار: شركاء في الدم، شركاء في القرار. ومن خلال ما صاحب الانتفاضة من إعادة لتشكيل المشهد الفلسطيني، تمكّنت حماس في غزة على الأقل من إعادة تشكيل نفسها، بعد سنوات من تعرّضها للتفكيك، وسعت إلى ألّا يعود الزمن للوراء، إلى ذلك الزمن الذي كانت فيه حركة مستضعفة، يجري اعتقال كوادرها وقياداتها. وبالتالي، يمكن القول إن اللحظة الفارقة في تاريخ كتائب القسام إنما هي انتفاضة الأقصى التي مكنتها من إعادة بناء نفسها. صحيح أنها استفادت من أحداث أخرى مثل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 2005، ومن الحروب التي خاضتها، لكن النقطة الأبرز هي الانتفاضة، لتدخل بعدها إلى انتخابات العام 2006، والتي دخلت حماس عبرها السلطة بشكل ما. 

وهنا لا بد من التفكير في ممكنات السلطة. هل يمكن بناء مشروع تحرري من داخل السلطة؟ أم أن هذا سيخلق لك من التعقيدات الشيء الكثير، بمعنى لن يكون ممكنًا أن تطالب «إسرائيل» بأموال المقاصة، وفي الوقت ذاته ترمي صواريخ باتجاهها؟ وبالتالي أنت بحاجة إلى مشروع تحرري أكثر جذرية من الواقع القائم حاليًا، لأنك لن تكون قادرًا على إنتاج حركة تحرر وطني من داخل السلطة، بالشروط التي وضعت لأجلها السلطة، حتى لو حكمت السلطة أفضل نخبة وطنية ممكنة، إذ أن طول أمد مشروع السلطة، والارتباط العضوي بينها وبين الاحتلال يجعل من ذلك مستحيلًا. وبناء على هذه الرؤية أعتقد أن على حماس الخروج من الكلاشيهات المتعلقة بالتسوية وحل الدولتين والمصالحة الوطنية، وطرح رؤية جديدة مبنية على السابع من أكتوبر. وبما أن السابع من أكتوبر كان ثورة في الفعل النضالي يجب أن تكون هنالك ثورة في الأفق السياسي وفي المخيال السياسي للفلسطينيين عمومًا، ولقيادة حركة حماس على وجه التحديد. 

لكن الأمر الملح اليوم على قيادة الحركة، وهو مفهوم تمامًا، هو وقف العدوان ورفع الحصار، وهو أوجب الواجبات. وهذا الأمر من الممكن أن يفضي بصورة أو بأخرى إلى أن تضطر الحركة إلى تقديم خطاب سياسي مقبول للوسطاء وللقوى الدولية، بحيث يدفع الاحتلال إلى الخروج من قطاع غزة وإلى وقف العدوان. 

ما أحاول قوله هو أن التدمير الذي قامت به «إسرائيل» في حربها على القطاع، عامل أساسي يمنع خلق ثورة سياسية موازية للفعل النضالي العسكري، هذا بالإضافة إلى العوامل التي كنت ذكرتها من حشر السلطة وأوسلو للفلسطينيين في الزاوية، والبيئة الإقليمية غير المساندة. 

كيف تنظر المقاومة الفلسطينية لمسألة اليوم التالي على الحرب؟ قبل أيّام، صرح القيادي في الحركة أسامة حمدان أن تصور الحركة هو حكومة انتقالية تحكم غزة والضفة لعام، لها مهمّتان رئيستان: إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، والبدء بعملية الإغاثة وإعادة الإعمار. يأتي هذا الطرح في مقابل طروحات أمريكية عن عودة السلطة لحكم القطاع، وطروحات صهيونية عن تواجد أمني صهيوني طويل الأمد في القطاع، وحكم مدني ما، تتباين هوية القائمين عليه. هل يمكن لك أن تضعنا في صورة نقاش «اليوم التاليً»، ومدى ارتباطه بتحرير بعض القيادات الفلسطينية من سجون الاحتلال، مثل مروان البرغوثي؟

يمكن القول إن النتائج العسكرية للحرب هي ما سيحدد الإجابة على سؤال اليوم التالي. لدى الأمريكان والإسرائيليين، وحلفائهم من العرب، رؤية مشتركة تقريبًا، تنص على أنه ما لم ينجز في الحرب سينجز في السياسة. وهنا نتحدث عن إضعاف حركة حماس سياسيًا، والقضاء على حكمها في القطاع، أو على الأقل توفير مخرج للإسرائيلي من خلال عدم استمرار حماس في إدارة شؤون القطاع بعد الحرب، ضمن تسويات سياسية معينة، وهو ما سيمثل فرصة للقيادة الإسرائيلية لتقول إن إنجازًا ما قد تحقق من الحرب.

أعتقد أن حماس تدرك، وبعد هذه الحرب الطاحنة، أنها لا تستطيع أن تحكم قطاع غزة وحدها، إلّا إن حصل انتصار مدو وانكفأ معه الإسرائيلي، ووقتها يمكن للحركة أن تفرض شروطها كما تشاء. 

التحدي الأساسي لمرحلة ما بعد الحرب هو ملف إعادة الإعمار، هؤلاء الناس الذين دمرت بيوتهم ونزحوا لا يمكن أن يبقى حالهم على ما هو عليه اليوم، وإذا كان هذا الملف مرهونًا بتسوية سياسية ما فأعتقد أن حماس مضطرة للتعامل معها، وربما يكون الحل الأفضل للحركة هو حكومة تكنوقراط، (غير سياسية)، تكون بمثابة وسيط لإعادة الإعمار وبعدها تجري الانتخابات العامة. 

 وهذا يعيدنا إلى السؤال السابق، حول النقاش السياسي الذي يجب أن يكون متسقًا مع عظمة ما حصل في السابع من أكتوبر. لكن هذا النقاش غير حاصل اليوم، وربما يكون تعويل حماس على تغيير ما جوهري يحصل في نخبة السلطة الفلسطينية، بحيث تحصل إمكانية تقارب معها، مثل أن يخرج مروان البرغوثي من الأسر، وهو ما سيتيح إمكانية للاتفاق على برنامج وطني ونضالي أفضل مما هو عليه الوضع اليوم. لكن كما قلت منذ قليل، كلّ هذه السيناريوهات منوطة بنتائج الحرب.

Leave a Reply

Your email address will not be published.