في العشرين من تشرين الثاني الماضي، أي بعد مرور أكثر من شهر على بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، استضافت هيئة البث الإسرائيلية طبيبًا يعمل في إحدى المستشفيات الإسرائيلية، في خطوة قالت المذيعة إنّها تهدف إلى تعريف الجمهور الإسرائيلي على وضع الجنود المصابين خلال المعارك المتواصلة في قطاع غزة. ومع أن الطبيب لم يعرض أي أرقام حول عدد الإصابات في صفوف جيش الاحتلال، إلا أن المذيعة قررت حينها أن تبدأ مقابلتها بمقدمة طويلة بررت فيها أن المعلومات التي سيقدمها ضيفها لا تهدف إلى «إحباط الروح القتالية عند المجتمع الإسرائيلي»، وإنما إلى إطلاعه على كافة التفاصيل.
أيام قليلة بعد تلك المقابلة، وبعد ضغوطات مستمرة من صحيفة «هآرتس»، قرر جيش الاحتلال أن يكشف للمرة الأولى عدد الإصابات في صفوفه، مزودًا الصحيفة بأن العدد وصل إلِى ألف مصاب خلال المعارك في قطاع غزة وعلى الجبهة اللبنانية، وهو رقم شككت فيه الصحيفة، وقالت إنه من خلال مراجعة أعداد المصابين الذين وصلوا إلى المستشفيات فإن الرقم الحقيقي يبلغ أضعاف ما أعلنه الجيش. وبحسبها، فقد رفض الجيش في البداية إفادتها بالمعلومات حول أعداد المصابين في صفوفه، رافضًا توضيح سبب الامتناع.
لاحقًا، قرر جيش الاحتلال نشر أعداد مصابيه بشكل رسمي على موقعه، معلنًا إصابة 1593 جنديًا، وهو ما دفع وسائل إعلام إسرائيلية عدة للتشكيك مرة أخرى فيما يعلنه جيش الاحتلال، والعمل على نشر أعداد المصابين من خلال مراجعة الأرقام التي تصل المستشفيات الإسرائيلية.
تشكيك في الأرقام
مع إضافة الجيش خانة مخصصة لعدد المصابين والقتلى من جنوده عبر موقعه الرسمي، مدعيًا أنه يحدث البيانات والأرقام عند الساعة الواحدة ظهرًا من كل يوم، يدرك أي زائر للموقع أن الأرقام لا يتم تحديثها فورًا، حتى إن الأرقام الجديدة التي يعلن عنها المتحدث باسم الجيش نفسه في كل مؤتمر لا تضاف إلا بعد أيام. وفي آخر تحديث له، أعلن جيش الاحتلال أن عدد المصابين من جنوده وصل 2828 جنديًا منذ السابع من تشرين الأول الماضي، منهم 1276 منذ بدء العملية البرية في القطاع، وتوزعت الإصابات منذ بدء الحرب بين 1665 إصابة بجروح طفيفة، و734 بجروح متوسطة، و429 بجروح خطيرة.
خلال الفترة الماضية، أقر مسؤولون وأطباء في المستشفيات الإسرائيلية أن عملية نشر أعداد المصابين تخضع في معظم الوقت لرقابة جيش الاحتلال، وأن الجنود المصابين يرفضون التحدث إلى وسائل الإعلام. فيما أكد أطباء آخرون أن المستشفيات الإسرائيلية لم تشهد مثل هذه السياسة في التعامل مع الإصابات في الحروب السابقة.
في محاولة لوضع تصور أولي حول أعداد المصابين من جنود الاحتلال، قالت صحيفة هآرتس بعد مراجعة أعداد الواصلين إلى المستشفيات الإسرائيلية إنّ هنالك فجوة كبيرة بين ما أعلن عنه جيش الاحتلال وبين ما أعلنت عنه المستشفيات الإسرائيلية. ومن خلال رؤية أعداد المصابين الذين وصلوا إلى المستشفيات، يتضح أن العدد هو ثلاثة أضعاف ما أعلنه الجيش، إذ في الوقت الذي أعلن فيه جيش الاحتلال أن أعداد مصابيه بلغت 1595، كانت المستشفيات تصرّح بأن عدد المصابين بلغ 4591 مصابًا. فيما أكدت صحيفة يديعوت أحرنوت أنه وحتى تاريخ التاسع من كانون الأول، بلغت أعداد المصابين في جيش الاحتلال أكثر من خمسة ألف جندي. لاحقًا، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن المستشفيات الإسرائيلية تعاملت مع ستة آلاف إصابة من كافة الرتب العسكرية في جيش الاحتلال. فيما نشرت يديعوت آحرنوت في الثامن من شباط الحالي أن عدد مصابي الجيش بلغ قرابة 13 ألفًا، ما يجعل من هذه الحرب الأعلى في عدد مصابي الجيش، في كلّ حروب دولة الاحتلال، باستثناء حرب النكبة التي بلغ عدد المصابين فيها 15 ألفًا.
جدل حول نوعية الإصابات
منذ بداية التوغل البري في قطاع غزة، انشغل محللون وصحفيون إسرائيليون بالإشارة إلى أن المعارك البرية ستكبّد جيش الاحتلال خسائر بشرية كبيرة، خصوصًا وأن المعادلة العسكرية الأساسية تقر بأن المجموعات المسلحة أقدر على خوض حروب المدن من الجيوش النظامية، فيما تخوف محللون آخرون من أن شكل الإصابات في تلك المعارك سيكون مختلفًا عن حروب «إسرائيل» السابقة، حتى عن تلك التي خاض فيها جيش الاحتلال مواجهات برية طويلة نسبيًا مثل حرب تموز في عام 2006، لأن جيش الاحتلال كان ينوي منذ اللحظات الأولى خوض حرب طويلة في غزة، على عكس ما كان يريده في حروبه السابقة.
بعد مرور 100 يوم من الحرب على غزة، كشف موقع «والاه» العبري أنه تم تصنيف ما يقارب من أربعة آلاف جندي على أنهم معاقون بفعل الإصابات التي تعرضوا لها في قطاع غزة وخلال المعارك على الحدود الشمالية مع لبنان، مرجحًا ارتفاع الرقم إلى 30 ألفًا، وهو عدد وصفه الموقع بأنه الأعلى في حروب «إسرائيل» السابقة من حيث نوعية الإصابة، مشيرًا إلى أن جيش الاحتلال يمتنع عن الكشف عن أعداد الجرحى فى صفوفه في محاولة لحماية «الروح المعنوية».
ترافقت إعلانات وسائل إعلام إسرائيلية عن أعداد المصابين مع تحذيرات أطباء إسرائيليين يستقبلون الجنود المصابين من أن المستشفيات الإسرائيلية «لم تمرّ بشيء كهذا في تاريخها»، بسبب شكل الإصابات وأعدادها.
وبحسب التعريفات الإسرائيلية، فإن عملية تصنيف الجندي «معاقًا» تخضع لعدة شروط قانونية وطبية، وتركز بالأساس على إثبات لجنة طبية نسبة «عجز» ما لدى الجندي المصاب، تكون عائقًا أمام استمراره في تأدية عمله، سواء علي الصعيد النفسي أو الجسدي، وتختلف الامتيازات التي يحصل عليها الجندي حسب نسبة «العجز» التي تثبته اللجنة الطبية المخصصة لفحص ذلك.
وفتحت الحرب على غزة نقاشًا طويلًا حول قدرة المؤسسات الإسرائيلية على تحمل تكاليف مثل هذه الأرقام من أعداد المعاقين، خصوصًا أن الحكومة في حالة «إسرائيل» مضطرة لتغطية تكاليف علاج المعاقين وأجورهم الشهرية (حسب نسبة العجز)، وهو ما دفع المؤسسات إلى «عرقلة» الموافقة على طلبات الجنود بتشخيصهم على أنهم «معاقون». ويسود التخوف في «إسرائيل» من أن أعداد كبيرة من الجنود المعاقين في هذه الحرب هم من فئة الشباب، وهو ما يعني تكلفة إضافية كبيرة، لأن القوانين الإسرائيلية تلزم الحكومة بدفع تعويضات للجندي المعاق مدى الحياة.
وترافقت إعلانات وسائل إعلام إسرائيلية عن أعداد المصابين مع تحذيرات أطباء إسرائيليين يستقبلون الجنود المصابين من أن المستشفيات الإسرائيلية «لم تمرّ بشيء كهذا في تاريخها»، بسبب شكل الإصابات وأعدادها، إذ اعترفت رئيسة قسم إعادة التأهيل في وزارة الأمن الإسرائيلية ليمور لوريا أن المستشفيات تستعجل في إخراج الجرحى من أجل استقبال مصابين جدد حتى قبل الانتهاء الكامل من علاجهم. وأضافت أن 58% من مجمل المصابين يعانون من إصابات خطيرة في اليدين والقدمين، وقد احتاج جزء منهم إلى بتر أحد أطرافه للبقاء على قيد الحياة، فيما تعرّض 12% من الجرحى إلى تهتك في الأعضاء الداخلية، و7% إلى إصابات تضر بسلامتهم العقلية، مرجحةً ارتفاع هذا الرقم لأن الإصابات التي تؤثر على العقل يتم استكشاف معظمها بعد أشهر.
وبحسب تصريحات صحفية لمدير وحدة جراحة العظام في مستشفى سوروكا فإن 80% من الجنود الجرحى الذين يصلون من قطاع غزة كانوا مصابين بإصابات في الأطراف العلوية والسفلية، مضيفًا أن العديد من الجرحى فقدوا أطرافهم في هذه الحرب. تصريح يؤكد فيه الطبيب على اعترافات كوادر طبية أخرى بأن هذه الحرب شهدت نوعية إصابات ذات طابع معقد وخطير لم يشهده جيش الاحتلال في حروبه السابقة.
إعادة مساءلة القدرة العسكرية لجيش الاحتلال
منذ اليوم الأول للحرب على غزة، أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو الرجل الذي تمثل هذه الحرب بالنسبة له موضوعًا مصيريًا يقاتل فيها على مستقبله السياسي، أن التوغل البري في قطاع غزة لم يكن خيارًا سهلًا، إذ عمد مقربون منه منذ الأيام الأولى، بحسب ما كشفت تقارير إسرائيلية، إلى إدارة حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تروّج لمخاطر الدخول البري إلى غزة، وتطالب بتأجيلها حتى تدمير جميع أنفاق حركة حماس باستخدام القصف الجوي، وهو رأي تبناه نتنياهو ودفع باتجاهه خلال النقاشات في مجلس الحرب الإسرائيلي. وبحسب صحيفة يديعوت أحرنوت فقد كرر مقربون من نتنياهو مشاركون في الحملة تأكيدهم على أن «حياة الجنود الإسرائيليين تأتي في المقام الأول».
لاحقًا، ومع بدء التوغل البري وتصاعد الإشارات بأن خسائر جيش الاحتلال في غزة وعلى الجبهة اللبنانية باتت أكبر مما كان المجتمع الإسرائيلي يتوقعه، بدأ مسؤولون إسرائيليون ومحللون سياسيون بالتشكيك في قدرة جيش الاحتلال العسكرية على متابعة الحرب بنفس أسلوب القتال، في وقت انهارت فيه التصورات الإسرائيلية عن منظومة «الجيش الصغير ذو القدرات الذكية» الذي عملت «إسرائيل» على تطويره خلال السنوات الماضية من خلال التركيز على القدرات التكنولوجية في القطاع العسكري، وعاد السجال حول تجنيد المتدينين إلى الطاولة مرة أخرى.
وفي مقال لها تعقيبًا على مقتل 21 جنديًا وضابطًا إسرائيليًا، في 23 كانون الثاني، وصفت زعيمة حزب العمل السابقة شيلي يحيموفيتش، قرار الحكومة الإسرائيلية بالاستمرار في الحرب مع كل هذه الخسائر بأنه أشبه بـ«لعبة المقامرة»، التي تدفعك الخسائر الكبيرة فيها إلى المواصلة والاستمرار رغم حساباتها غير المنطقية، قائلةً إنّ هذه هي حصيلة الاندفاع نحو «هدف وهمي ومتغطرس ومخفي». رأي انضمت فيه يحيموفيتش إلى تصورات محللين إسرائيليين عديدين يرون أن نمط القتال الحالي الذي يعتمده جيش الاحتلال «لن يحقق» أهداف الحرب التي وضعها.
دفعت خسائر جيش الاحتلال في قطاع غزة، تحديدًا تلك التي حصلت خلال محاولة جنود إسرائيليين الدخول إلى أنفاق حركة حماس، بعض المسؤولين الأميركيين أيضًا إلى التشكيك في قدرات «إسرائيل» العسكرية، والقول إنّ «جيش الاحتلال مدرّب على تدمير الأنفاق فقط، لكنه لا يملك خبرة في البحث عن المحتجزين فيها»، وهو ما تظهره مقاطع مصورة عديدة نشرتها كتائب القسام، تكشف كمائن تعرض لها جنود جيش الاحتلال خلال محاولتهم اختراق أنفاق غزة. مشاهد دفعت المسؤولين الأميركيين إلى التشكيك أيضًا في قدرة «إسرائيل» الاستخباراتية، خصوصًا مع حديث صحيفة «وول ستريت جورنال»، في 28 كانون الثاني، عن أن 80% من أنفاق حركة حماس لا تزال في حالة «سليمة» رغم القصف الإسرائيلي المتواصل على مناطق متفرقة من القطاع.
دفاعًا عن «الروح المعنوية»
على غرار ما افتتحت به مذيعة هيئة البث الإسرائيلية، قررت صحف إسرائيلية عدة أن تفتتح أو تنهي تقاريرها بالإشارة إلى أن جيش الاحتلال يرفض الاعتراف بالأرقام الرسمية لحصيلة مصابيه حفاظًا على «الروح المعنوية» للمجتمع الإسرائيلي.
ومنذ بدء الحرب على غزة، تحديدًا بعد عملية «طوفان الأقصى»، التي استطاعت فصائل المقاومة الفلسطينية فيها كسر صورة جيش الاحتلال أمام العالم وأمام المجتمع الإسرائيلي، سعى الجيش عبر موقعه الرسمي إلى نشر فيديوهات كانت أقرب إلى الاستعراضية لمعاركه في قطاع غزة، ترافق ذلك مع نشر جنود إسرائيليين عبر صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة يتباهون فيها بتدميرهم منازل المدنيين في غزة، وحتى بمحاولتهم «إذلال» الفلسطينيين في الضفة الغربية. مشاهد كثيرة كان واضحًا أنها تهدف إلى استعادة صورة فقدها جيش الاحتلال في الساعات الأولى من صباح السابع من أكتوبر، وما زال حتى هذه اللحظة يقاتل من أجل استعادتها.
رغم محاولته ضبط ما ينشر في وسائل الإعلام منذ الأيام الأولى من الحرب على غزة، لم يستطع جيش الاحتلال الاستمرار في بناء سرديته البطولية، خصوصًا بعد أن دخلت فصائل المقاومة في هذه المعركة الإعلامية.
رغم محاولته ضبط ما ينشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ الأيام الأولى من الحرب على غزة، بما فيها حجب المعلومات عن أعداد المصابين، لم يستطع جيش الاحتلال الاستمرار في بناء سرديته البطولية، خصوصًا أن فصائل المقاومة استطاعت أيضًا الدخول في هذه المعركة الإعلامية، من خلال توثيق عملياتها التي كان من السهل على أي مشاهد لها، أن يدرك حجم الخسائر الكبيرة في صفوف جيش الاحتلال بفعلها.
لا تمثل هذه العمليات المستمرة لعرض صورة البطولة في المجتمع الإسرائيلي في ظل الحرب استعارة رمزية فقط، وإنما تلعب دورًا حاسمًا في المحافظة على «الإجماع» الإسرائيلي بما يتعلق بمواصلة القتال، الذي تهدد شكل المعارك والخسائر الحالية بفقدانه وتراجع نسبة التأييد الإسرائيلي له. ففي حين اعتبر المحلل الإسرائيلي عاموس هارئيل أن «استمرار شكل المعارك بصورها الحالية يعني سيلًا متواصلًا من الأخبار عن موت الجنود الإسرائيليين»، قال إنّ استمرار تأييد الإسرائيليين للحرب يرتبط بشرطين يتضاءلان تدريجيًا مع مرور الوقت، وهما «وجود هدف واضح للحرب، وفهم أن النصر أمر ممكن التحقيق»، مرجحًا أن يتراجع التأييد الشعبي للحرب مع مرور الوقت.
وبالتأكيد، لا يتعلق الأمر فقط بالمعارك المتواصلة في قطاع غزة، ففي وقت يؤكد فيه مسؤولون إسرائيليون استعداد جيش الاحتلال لخوض حرب مفتوحة في لبنان في حال استدعى الأمر ذلك، قال وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، إنّ «إسرائيل» لا تريد أن تكون في وضع تضطر معه إلى خوض حرب مع «حزب الله». تصريح يبدو أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتخوف «إسرائيل» من ارتفاع خسائرها في هذه الحرب، خصوصًا وأن التقديرات تشير إلى أن القوة الصاروخية لـ«حزب الله» أعلى بكثير من تلك الموجودة في غزة.
في ظل كل هذه المؤشرات، يبدو الشارع الإسرائيلي متهشمًا من الداخل، وعادت الخلافات السياسية إلى السطح مرة أخرى، وبدأ المسؤولون الإسرائيليون بتراشق الاتهامات حول طريقة إدارة الحرب، بعدما تمكن خطاب «القضاء على حركة حماس» من توحيد الصفوف في الأشهر الأولى من الحرب، بعد فترة شهدت فيها «إسرائيل» أحد أشد الخلافات السياسية داخلها.