حملة «تحرير» الجزائريّات إبان الثورة: عنف حداثة الإكراه والاستغلال

الأربعاء 12 تشرين الأول 2022
نساء جزائريات
جزائريات ينتظرن دورهن تحت إشراف ضابط فرنسي للتصويت على استفتاء تقرير المصير في كانون الثاني 1960. أ ف ب.

لطالما شكّلت النساء الجزائريّات المسلمات أحدَ أهمّ الجسور الدعائيّة للاستعمار الفرنسيّ، بغرض تكريس ذاتِه قوّةً «تحديثيّةً إنسانيّةً» تستأهل السيطرة على الأراضي الجزائريّة، والتحكّم بمصائر ناسها. استبطنتْ هذه السرديّةُ النساءَ المسلماتِ كيانًا متجانسًا يعيش في طور ما قبل الحضارة والسياسة على حدٍّ سواء، ويخضع إلى العنف الأبويّ المحليّ المدفوع بـ«رجعيّة» الدين الإسلاميّ بدرجةٍ رئيسةٍ. كان هذا التعميم الاستشراقيّ المتخيّل إزاء الجزائريّات حِيلةً ضروريّةً في سبيل إمحاء السِمة الاستعماريّة الوحشيّة عن المشروع الاستيطانيّ الفرنسيّ في الجزائر، وإحلال عوضًا عنها السِمة الإنسانيّة المدفوعة بإنقاذ الجزائريات من شرك «اضطهاد» الرجال المحليين، لتعجيل إدخالهنّ ميادينَ الحداثة والسياسة والأنوثة العصريّة على حدٍّ سواء، وتسويغ التدخّل في حياة المجتمع الجزائريّ قاطبةً.

مع ذلك، لم يخُض الاستعمار الفرنسيّ غمارَ عنوان «تحرير» المرأة الجزائريّة بشكلٍ لحوحٍ ووفقَ حملةٍ مُمنهجةٍ سوى في أواخر خمسينيّات القرن الماضي، في خضمّ منتصف الثورة الجزائريّة، جاء ذلك بعد سنواتٍ طويلةٍ من عَسَفِهِ الاجتماعيّ والسياسيّ بالنساء الأصلانيّات. تُعزى هذه الانعطافةُ حيالَ الجزائريات على الصعيدَيْن الخطابيّ والماديّ، إلى تصدُّر الصحف الدوليّة صورَ مقاتلاتٍ جزائرياتٍ منخرطاتٍ في الحركة القوميّة المناهضة للاستعمار، يزعزعن استقرارَ التمثيلات الاستشراقيّة الجاهزة حول النساء العربيّات/ الإسلاميّات، عبْر ظهورهنّ مكشوفات الوجه والرأس، وبلباسٍ حداثيٍّ عصريٍّ، ينافحنَ عن بلادهنّ بوعيٍّ ثاقبٍ، ليفضي هذا أيضًا إلى خلخلة بعض التصوّرات الاستشراقيّة حول الطبيعة الجامدة للإسلام والمجتمعات التي تدِين به، والمحمولة بالضرورة على «جوهرانيّة عنفه» تجاه النساء المسلمات.

وفي حين تناقش هذه المقالةُ عمليّةَ بناء حملة «التحرير»، وآليات تلقّي الجزائريّات لها، بما يتضمّن تفكيك ديناميكيّات الإكراه والاستشراق الاستعماريّ التي سيّرتْ طريق الحملة، فإنها تستند إلى مرجعين مركزيَيْن؛ أولهما مقالة إليزابيث بيريج بعنوان «الحجاب أو حياة أخٍ: التلاعب الفرنسيّ بصور النساء المسلمات أثناء الثورة الجزائريّة»، والآخر كتاب فرانز فانون بعنوان «العام الخامس للثورة الجزائريّة».

سمعة فرنسا على المحكّ

أنتجتْ «صدمة» ظهور المقاتلات بالهيئة «الحداثيّة» تلك لدى كثيرين إعادةَ صياغةٍ لتصوّراتهم المستقرّة حول الحركتَيْن الاستعماريّة والقوميّة على حدٍّ سواء، لتتبدّى الأخيرة قد أفلحت فيما أخفقت الأولى في تحقيقه وادّعتْ تمثيله، على صعيد تمكين النساء من الانضمام إلى مسرح الحداثة السياسيّة والاجتماعيّة، ومساهمة النضال في دفقهنّ والمجتمع بوعيٍ جديدٍ حول الذات النسائيّة الفاعلة عمومًا، في وقتٍ كانت الحركةُ الاستعماريّةُ تتنصّل فيه من إحلال مجرّد إصلاحاتٍ بسيطةٍ تطال حياة الجزائريّة التي عاصرت بؤسًا كبيرًا تحت سلطتها العنيفة.

فبينما اجتمعت غالبيّة الأقلام الدوليّة على الاحتفاء المُطعّم بحسّ الدهشة من تمتّع الشابات الجزائريّات الثوريّات بمظهرٍ أنيقٍ وعصريٍّ يلامسُ شغافَ القلب بنظر الصحافيين، هدّدَ تلقّيهن على هذا النحو صورةَ فرنسا المتماسكة لعقودٍ طويلةٍ في العقليّة الدوليّة بكونها قوّةً ناشرةً للحضارة، ترغب في إدماج حيوات المسلمات في سكّة الحداثة خصوصًا، وإعادة تأهيل الأصلانيين بوجه «البربريّة» المحليّة الإسلاميّة عمومًا، لتبدو المسلمات بأقلّ مجهوداتهنّ الممكنة متكيّفاتٍ مع تمظهرات الحداثة وترجماتها، خلافًا لادّعاءات القوّة الاستعماريّة حول «تخلّفهن» الذي يتعذّر إزالتُه سوى بالسواعد الاستيطانيّة وإخضاعهنّ إلى مجالات الثقافة الفرنسيّة.

فاقمَ من أزمة فرنسا حلولُ تحوّلاتٍ وإصلاحاتٍ قانونيّةٍ تُعلِي من شأن النساء، وتعيد تشكيلهن بعين المساواة مع الرجال، وذلك في كلٍّ من المغرب وتونس المستقِلّتَيْن عامي 1956 و1957، والقريبتَيْن جغرافيًّا وثقافيًّا من الجزائر المستعمَرة التي كانت لا تزال أغلب نسائها، حينذاك، أميّاتٍ ومكبّلاتٍ بسلاسل العنف الاستعماريّ الأبويّ، دونما إخضاعهنّ إلى أيّ إصلاحٍ قانونيٍّ مماثل. في خضمّ ذلك، خرجتْ بحفاوةٍ عاليةٍ إلى ضوء الصحافة الدوليّة أيقونةٌ نسائيّةٌ إسلاميّة تُدعى لالة عائشة، بدتْ أيديولوجيّتها القوميّة منتميةً بقوّة إلى عوالم الحداثة والعصرنة، لتصدح علنًا بضرورة النهوض بواقع النساء المسلمات وتحسين أشكال حيواتهنّ. استقبلت الصحافة الدوليّة حضورَها القياديّ العصريّ في قضايا النساء المسلمات وحقوقهنّ، باعتباره شاهدًا على إمكانيّة إنتاج فاعليّةٍ محليّةٍ في مجال «تحديث» النساء المسلمات، دونما أن يُشترَط للغرب احتلاله موقعيّة الفاعل الأحاديّ في تذليل ذاك المجال.

وسط غمرة هذه المكتسبات للحراكات الوطنيّة، تدفّقت عدّة شهاداتٍ وصورٍ عبْر المجتمع الإعلاميّ الغربيّ، شكّلت موضعَ إدانةٍ قويّةٍ للممارسات الفرنسيّة في الجزائر. رَوَت تلك الشهاداتُ والصورُ قصصَ تعذيبٍ مروّعةً اختبرها الجزائريون والجزائريات أثناء استجوابهم/نّ من قبل سلطات الاستعمار الفرنسيّ، خاصةً ممّن ناضلَ تحتَ مظلّة جبهة التحرير الوطنيّ. تعرّتْ فرنسا من القناع «الإنسانويّ التحضيريّ»، بنظر صحافيين كثرٍ عملوا على مداولة حكايا تعذيب الجزائريين بالصدم بالكهرباء، وإرغامهم على شرب الماء حدَّ القيء، لتخشى السلطاتُ الاستعماريّة إلقاءَ الأمم المتحدّة العبءَ الكاملَ على كاهلها، وتسحب بساط الأراضي الجزائريّة من تحتها.

في هذا السياق، سطع نجمُ المقاتلة الجزائريّة جميلة بوحيرد، التي حظيت شهادتها وصورها بتضامنٍ عالٍ من قِبل المجتمع الإعلاميّ الدوليّ، بعدما ألقى الاستعمارُ الفرنسيّ القبضَ عليها، وأخضعها لاستجوابٍ قاسٍ على مدار 17 يومًا، بعدما أفلحتْ في زرع قنابل في الأحياء الاستيطانيّة للعاصمة الجزائريّة. تبدّى التضامنُ مشروطًا بعيش الأوروبيين شعورَ الوصل مع المظهر «الغربيّ» الذي تبدّتْ به بوحيرد، وليس مع تجربتها النضاليّة الإنسانيّة التي أفضتْ إلى مقاساتها تعذيبًا هائلًا، لتستحيل مأساتها أكثرَ صدقيّةً ومرئيّةً بنظرهم كتجلٍّ لإدراكهم الشعوريّ بأنّ بوحيرد تشبه أبناء جلدتهم في المقام الأول، وبالتالي تشبههم في كونها «إنسانًا» دونًا عن غيرها من الجزائريين والجزائريات.

واضعات الألغام: سامية لخضاري، وزهرة ظريف، وجميلة بوحيرد، وحسيبة بن بوعلي. المصدر: ويكيميديا.

انسحبتْ هذه الحال على ثائراتٍ جزائريّاتٍ أخرياتٍ ممّن تحدّرنَ من المناطق الحضرية وبضع عائلات نخبويّة مسلمة؛ إذ لم يكنّ أصلًا يرتدين الحجاب، انسجامًا مع النمط الثقافيّ الذي شكّل حيواتهنّ وأماكن ذاكرتهنّ، وتمتّعهنّ بمستوىً عالٍ من التعليم. تصف بوحيرد تجربتها القاسية في التحقيق المُشبّع بالتعذيب والإهانة، بالقول: «لقد جرّدوني من ملابسي وربطوني على مقعد، مع حرصهم على وضع قطعة قماش مبللة تحت الحبال التي تربطني، ثمّ قاموا بتثبيت ملامساتٍ كهربائيّةٍ لأعضائي التناسلّية، وأذني، وفمي، وراحتي يديّ، وحلماتي، وجبهتي. في الثالثة صباحًا أغمي عليّ، ولاحقًا أصبت بالهذيان. في كلّ مرّةٍ كان يعمل فيها أحدُهم على الآلة، كان آخرون يواظبون على تدوين الملاحظات». 

تكتيكات تملّق الجزائريّات

جرّاء كلّ «المفارقات» السابقة التي شوّشتْ على السرديّة التحديثيّة التحضيريّة للنساء المسلمات، والتي لطالما عملت السلطات الفرنسيّة على نثرها تجاه المجتمع الدوليّ، بل وهدّدتْ باضمحلال المُسوِّغات التي مكّنتها طويلًا من الاحتفاظ بالجزائر، برزتْ حاجةٌ ماسةٌ لديها، في ذروة الثورة الجزائريّة، لإعادة ترميم صورتها المُهتزّة، واستعادة صدقيّة خطابها «الإنسانيّ/ الإنقاذيّ» تجاههنّ في الفضاءات الدبلوماسيّة والإعلاميّة الغربيّة، خصوصًا في ظلّ مواجهتها منافسًا شرسًا، كجبهة التحرير الوطنيّ، من جهة قدرتها على استحداث تأثيراتٍ بصريّةٍ وعسكريّةٍ من وراء استدخالها الجادّ للنساء الجزائريّات في مشروع الانفكاك عن البنية الاستيطانيّة، وظهورهنّ «متحضّراتٍ» في عناية الثورة التي روّج الاستعمارُ عداءَه لها من مدخل «تخلُّف» القائمين عليها.

وبينما اختزَنَ الترميمُ التمثيليّ مسعىً ماديًّا لفرنسا بعدم خسران مصالحها الاستيطانيّة والاقتصاديّة في الجزائر، وتبرير بقائها هناك كخدمةٍ حضاريّةٍ مُلّحةٍ لصالح المجتمع الجزائريّ، لم تكُنْ عمليّةُ إعادة تشكيل خطابها وتفاعلاتها الماديّة مع النسيج المحليّ بعد تلك الانتكاسات، لتتمّ دون العبور الاستغلاليّ لبوّابة النساء الجزائريّات اللائي لم تهدّد صورُ بعضهنّ المشبّعة بمعاني العصرنة والعنفوان ديمومةَ المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ ورسوخَه المنشود، بالقدر الذي هدّدهُ تجاوزهُنَّ عتبةَ الانخراط الفكريّ في الحركة القوميّة باتجاه تأديتهنّ مهمّاتٍ عسكريّةً دقيقةً مثّلتْ عصبًا مركزيًّا في إبقاء ثورة الجزائريين مُتّقدةً حتى الاستقلال. حملتْ هذه الهواجسُ أبعادًا رمزيّةً خاصةً من ناحية تهديدها مستقبل الاستعمار في العالم قاطبةً، نظرًا لشَغْلِ الجزائر المستعمَرة التي كانت تأوي مليونَ مستوطنٍ، موقعَ المستعمَرة الأوروبيّة الأكثر صمودًا زمنيًّا في أفريقيا.

تحقّقتْ سياسة الترميم عبْر تفعيل الاستعمار الفرنسيّ تكتيكَيْن مركزيَيْن، تمثَّلَ أولُهما في تنشيط سياسة التملّق الفعليّ للجزائريات المسلمات، تحديدًا عبْر إيهامهنّ باقتحامهنّ مجالَ المشاركة السياسيّة من أوسع أبوابه، بعد السماح لهنّ بالتصويت لأوّل مرّةٍ على استفتاء انقلاب 13 أيار لعام 1958، على الدستور الجديد المُقترَح من قِبل ديغول. أمّا الثاني فتمثّلَ في ابتكار تمثيلاتٍ متخيّلةٍ للنساء الأصلانيات الجزائريات والمستوطنات الفرنسيات على حدٍّ سواء، بما ينطوي على إنتاج أحداثٍ ونصوصٍ وصورٍ تعكس واقعًا مُحرَّفًا إزاءهنّ، ويحقّق إعادةَ تشكيل الصورة التي يظهرن بها أمام العين الدوليّة والمجتمع المحليّ ذاته. 

في هذا السياق، استحالتْ «الاحتفالاتُ» العلنيّةُ لخلع جزائرياتٍ حجابهَنّ وحرقه أمام الكاميرات، أبرزَ السياسات الاستعماريّة الكسولة في تلفيق فاعليّة فرنسا في إحلال تحوّلاتٍ تحديثيّةٍ مُحسّنةٍ لحيوات المسلمات، بغرض إعادة تسويغ مشروعها الاستعماريّ الاستيطانيّ، بعدما أضحتْ سمعته على المحكّ في الساحة الدوليّة التي نجحت الثائرات الجزائريات، بـ«حداثتهنّ» الخاصّة، في العبور إليها دون تدخّله. يتأتّى هذا عبر خلق شرخٍ حادٍّ بين جبهة التحرير الوطنيّ والجزائريات اللاتي كان يعي المستعمِر حقيقة تشكيلهنّ أكثرَ من نصف المجتمع الأصلانيّ آنذاك، ومدى تمثيلهنّ موردًا حيويًّا حاسمًا في رَفْد الحركة الوطنيّة بقوى عسكريّة وسياسيّة تلبّي انتصارَ مشروعها. بذا، كان استهدافُ الحجاب انعكاسًا لتلبية رغباتٍ سلطويّةٍ في عدم ترك أيّ مساحةٍ أو أيقونةٍ ممكنةٍ تمثّل الفسيفساء الاجتماعيّة الجزائريّة، مهما صغرتْ أو بسطتْ، دون الإمعان في اختراقها وتفتيتها، خاصةً في ظل هواجس عسكريّة تستشرف قدرةَ الجزائريّات على إفشال مشروع الجزائر الفرنسيّة. 

الجزائريات ديكورًا في السياسة الفرنسية 

في ضوء ما تقدّم، ونظرًا لتعذُّر تصديق الصحافة الدوليّة لما يرْشح بشكلٍ صريحٍ من فرنسا الاستعماريّة بعد الإفصاح عن شهادات التعذيب، استدعى التكتيكان السابقان تدشينَ «المكتب الخامس» عام 1957، ليعمل مصفاةً دعائيّةً خفيّةً تُغربِل الصور والنصوص والمعلومات المتدفّقة من الجزائر، تزامنًا مع تقييد حركة الصحافة الأجنبيّة، ليعيّن المكتب بالنهاية المنتجاتِ الأكثر مثاليّةً للاستهلاك الفرنسيّ المتروبوليّ والعالميّ، وكذلك المحليّ. تكفّلَ المكتب بترويج أسطورةٍ محوريّةٍ تقضي بحرمان المجتمع الأصلانيّ لنسائه من الانخراط في الحياة العامة والسياسيّة، إلى أنْ تدخّلتْ فرنسا «المتحضّرة» وسمحتْ لهنّ بذلك، بمنحهنّ حقوقًا سياسيّةً ونيابيّةً؛ على سبيل مشاركتهنّ للمرّة الأولى في «الاستفتاء الشعبيّ» على دستور شارل ديغول المقترح عام 1958، بجانب انضمام ثلاثِ مندوباتٍ جزائريّاتٍ إلى الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة.

تكمُن المفارقةُ هنا في أنّ ما استدعى ترويج تلك الأسطورة إدراكُ فرنسا الواعي بحقيقة فتْحِ الثورة الجزائريّة مساحاتٍ جديدةً للنساء من جهة التشارُك مع الرجال المجالَ النضاليّ القوميّ بالهيئة «الحديثة»، وزعزعة بعضِ المواريث الأبويّة في تنظيم الحياتَيْن الخاصّة والعامة، بما اشتمل على نفاذ الجزائريّات إلى مزيدٍ من المجالات التي كانت محظورةً عليهنّ قبلًا. تزامنتْ هذه التقدميّة الأصلانيّة مع التخلّف الاستعماريّ الذي انطوى على تشكيل لوبي نيابيّ وقفَ ضدّ منح الجزائريات الحقَّ السياسيَّ في التصويت لسنواتٍ طويلةٍ، خشيةَ توسيع دائرة الناخبين المسلمين، فضلًا عن تقييدهنّ بسلاسلَ استعماريّةٍ مغمّسةٍ بتعذيبهنّ واغتصابهنّ.

إنّ المفارقة السابقة التي ارتبطتْ بتسجيل الشرطة الاستعماريّة أسماءَ نساءٍ مسلماتٍ مثّلنَ حلقةً مركزيّةً في اجتماعات الأحزاب الجزائريّة، أثارتْ قلقَ المنظومة الاستيطانيّة من مجالاتٍ تتعدّى منافسة الحراك الوطنيّ الجزائريّ لها من ناحية تمثيل النساء وصورتهنّ ضِمنه في المشهد العالميّ، باتجاه الخشية من تعاظُمِ قدرة جبهة التحرير الوطنيّ على استقطاب الجزائريات لصالحها، ومساهمتهنّ النشطة في تحقيق نصرٍ عسكريٍّ يفكّك البنية الاستيطانيّة. وعليه، فإنّ اندفاع السلطات الاستعماريّة إلى تصدير وجوهٍ نسائيّةٍ جزائريّةٍ مُنتخَبةٍ بفضلها إلى المشهد العالميّ، مثل النائبتَيْن ربيحة قبطاني ونفيسة سيد كارا، هدِفَ إلى استمالة مزيدٍ من الجزائريات لصالح تثبيت مشروع الجزائر الفرنسيّة، وقطْع الوصل بينهنّ وبين المظلات الفاعلة النضاليّة، بغرض إلحاق هزيمةٍ معنويّةٍ وماديّةٍ بفكرة الاستقلال واستراتيجيّاتها العمليّة.

كان استهدافُ الحجاب انعكاسًا لتلبية رغباتٍ سلطويّةٍ في عدم ترك أيّ مساحةٍ أو أيقونةٍ ممكنةٍ تمثّل الفسيفساء الاجتماعيّة الجزائريّة، مهما صغرتْ، دون الإمعان في اختراقها، خاصةً في ظل هواجس عسكريّة تستشرف قدرةَ الجزائريّات على إفشال مشروع الجزائر الفرنسيّة

عملتْ آلة البروباغندا الاستعماريّة، المتمثّلة في المكتب الخامس، في أحد كتيّباته المعنونة بـ«ثورة مايو حرّرت المرأة الجزائريّة»، على إعادة تأطير الممارسة الانتخابيّة للمرأة الجزائريّة بكونها «تأكيدًا لشخصيّتها، وتطوّرًا بيّنًا لصالح تحرّرها في ظلال فرنسا، بغية إحقاق فعلٍ إيمانيٍّ؛ الإيمان بالجزائر الجديدة التي تشهد مساواةً بين الرجل والمرأة في السياقات العائليّة والمدنيّة العامة». وفي حين ساهم هذا في حجْبِ البنية التاريخيّة القمعيّة للاستعمار الفرنسي تجاه المسلمات الجزائريّات، فإنّ الدعاية الفرنسيّة حول تتويج الجزائريات على عرش السياسة بمناصب عليا، ظلّتْ ملتزمةً بالخطّ الاستشراقيّ من جهة اختزال «تطورهنّ» السياسيّ في لباسهنّ ومظهرهنّ المتحوِّلَيْن بفعل بصمتها «الاستثنائيّة» عليهنّ.

نساء جزائريات يصوتن للمرة الأولى في استفتاء 28 أيلول 1958. 

في الواقع الفعليّ، جرى تحييد النظر إليهنّ بوصفهنّ سياسياتٍ زميلاتٍ يستدعينَ الترحيب باقتراحاتهنّ وآرائهنّ السياسيّة، ليجري تنميطهنّ كـ«ديكور» صوريٍّ باتَ بمكنته الآن دخولُ حلبة المنافسة على المسرح الدوليّ ضدّ صور المقاتلات الجزائريات المُحتفى بهنّ ذوات الهيئة الأوروبيّة. في هذا السياق، تمّ تظهير النائبة ربيحة قبطاني كنموذجٍ ناصعٍ على تحويل امرأة مسلمةٍ عاديةٍ إلى أخرى فرنسيّةٍ حديثةٍ، ليُنحَّى جانبًا ما الذي تنتوي إحقاقه سياسيًّا، مقابل التحديق في كونها ربّة منزل وأمًّا لثلاثة أطفالٍ، قد نجحتْ فرنسا في «انتشالها» من «عتمة» الأبويّة المحليّة إلى «ضوء» التقدميّة الفرنسيّة والأناقة العصريّة. 

تنسحب ذات الحال على الجزائريّة نفيسة سيد كارا التي تباهت الحكومة الاستعماريّة الفرنسيّة بتعيينها أوّلَ وزيرةٍ مسلمةٍ للدولة في خضمّ الثورة الجزائريّة، ليُكرَّس النظرُ إليها من قبل المسؤولين الفرنسيين كفُرجةٍ مشهديّةٍ استدعتْ قدومَ وفدٍ إعلاميٍّ خاصٍّ من اليابان لمواكبة صورتها وخطاباتها التي كانت تلقيها ملقّنةً ومكتوبةً على يد المستوطنين الفرنسيين، وفي مهماتٍ ضحلةٍ وهامشيّةٍ كزيارة رياض الأطفال. ففي شهادةٍ متأخّرةٍ لها، أعربتْ نفيسة سيد كارا عن شعورها باستغلال السلطات الاستعماريّة لها لِما كانت تمثّلهُ من مكسبٍ دعائيٍّ لصالح تثبيت مشروعها بوجه الثائرات الجزائريات.

«كرنفالات» خلع الحجاب وحرقه

مع ذلك، لم تكن عمليّة سرقة ألسنة الجزائريات المسلمات، وحجب أصواتهنّ وكلماتهنّ مقابل «تصنيع» صورهنّ، مُختزلةً في «الصفوة السياسيّة» التي تم اختيارها، بل امتدّتْ لتحاول شمْلَ جميع الجزائريات المسلمات من مدخل الحجاب والزي أثناء الثورة الجزائريّة. انخرطَ الجيش الاستعماريّ الفرنسيّ في إنتاج أحداثٍ وصورٍ جرى ترتيبها بشكلٍ استباقيٍّ، لتكون مظاهرة 17 مايو في أعقاب الانقلاب الديغولي لعام 1958 إحدى ترجمات ذلك؛ إذ خلعت 12 امرأةً جزائريّةً الحجابَ الأبيض الكبير، وشرعنَ في حرقه أمام الملأ، تحت شعاراتٍ وهتافاتٍ تصدح «دعونا نكن مثل النساء الفرنسيات». 

أسقطتْ هذه الفعاليّات الملفّقة على الحجاب حِملًا ثقيلًا قضى بتعيينه الحائلَ المركزيَّ دون التواصل بين المجتمعَيْن المحليّ والفرنسيّ، باعتباره حاجزًا يخفي الوجوه ويُبدّد الثقةَ بين المجتمعات المستعمِرة والمستعمَرة، انطلاقًا من أنّ رجال الأخيرة يعاملون نساءهم أفضل بقليل من «المتاع»، بحسب فيلم «إسقاط الحجاب» المُنتَج من قِبل بروباغندا المكتب الخامس سيء الذكر. ابتغتْ هذه السرديّةُ دفعَ المسلمات إلى الاقتناع بأنّ إنهاء الحرب يقع على عاتقهنّ بطيهنّ صفحة التشبّث بالحجاب، وخضوعهنّ تدريجيًّا إلى معايير المرأة الأوروبيّة «المتحضّرة»، على اعتبار أنّ الحرب لم تكن لتندلع لولا وجود صدامٍ مستمرٍ بين الثقافة الإسلاميّة المتخيّلة الدنيا ونظيرتها الغربيّة المتخيّلة العليا.

في حين كان المستوطن الفرنسيّ مُستميتًا في نزعه الحجابَ عن وجوه الجزائريات، تحت عناوين تمكينهنّ وتصديرهنّ إلى الحيّز العام، فإنّه أعاد تشكيل الحجاب، كأداةٍ جديدةٍ مُندرِجةٍ ضمن عُدّة التعذيب في سجونه، لتُربَط به النساء من أطرافهنّ في غرف التعذيب.

كما لا يمكن إغفال أنّ الأولويّة الاستعماريّة «لتحرير» المرأة الجزائرية بحثّها على خلع الحجاب، كانت مدفوعةً بتراثٍ استشراقيٍّ كسولٍ يستبطن الحجاب تاريخيًّا كعلامةٍ بصريّةٍ قمعيّةٍ يسهُل على المراقبين الدوليين ملاحظةُ إزالته، كبرهانٍ على تغييرٍ «تنويريٍّ» دوّنتهُ فرنسا في حيوات المسلمات أثناء الحرب التي اختطفتْ بعضُ المقاتلات القوميات ضوءَها منها، ودون الحاجة إلى مشاريعَ جوهريّةٍ حقيقيّةٍ تعدّل من حيواتهنّ اقتصاديًا واجتماعيًّا، لتنظر إلى رفع الحجاب كآليّة إقناعٍ أقلّ جهدًا وتكلفةً من الممكنات السابقة، على صعيد برهنة وجود «تغييرٍ» يطال حياة المسلمة الجزائريّة بفضلها.

لا يمكن فهم الحملة الممنهجة السابقة دون تفكيك الآليات الاستعماريّة في التقاط الصور المُدعِّمة للحملة، وما نشطتْ في مواراته وحجبه من عوالمَ حقيقيّةٍ، وممارساتِ إكراهٍ وقسرٍ بحقّ الجزائريّات المسلمات. فمن ناحيةٍ، حجبتْ كاميرات الجيش الاستعماريّ التي التقطتْ «مهرجان» خلع الحجاب، طبقةً مركزيّةً من طبقات الواقع الحقيقي الذي كانت تحياه معظم نساء «المهرجان»؛ إذ كان بعضهنّ متحدّراتٍ من نخبٍ محليّةٍ مسلمةٍ تقطن في المناطق الحضريّة، ولم يكنّ في الأصل يرتدين الحجاب، مثل «مونيك أميزيان» التي أُرغمتْ على تمثيل دور الأيقونة المركزيّة لـ«احتفالات» خلع الحجاب، بغرض إنقاذ شقيقها القوميّ المعتقل من القتل. طمستْ صورُ «انتشائها بالحريّة» سياسةَ التهديد والترهيب التي تعرّضت لها أميزيان؛ إذ دخل الجيش الاستعماريّ إلى مدرستها، مُنذِرًا إيّاها بضرورة خلعها الحجاب أمام حشدٍ من الناس، وإلّا سيكون القتلُ مصير شقيقها، وهي التي لم تكن ترتدي الحجاب من قبل أساسًا. تأتّى تصدير أميزيان أيقونةً مركزيّةً لتلك الاحتفالات كسياسة التفافٍ على العجز الاستعماريّ عن التعثُّر بنساءٍ مسلماتٍ يبتغين خلع الحجاب في المجال العام، حيث كان المستعمِر يقترب منهنّ في الشوارع لإقناعهنّ، لكن دون جدوى. 

إنّ لجوء السلطات الاستعماريّة إلى صورٍ مُمسرحةٍ ومشاهدَ تمثيليّةٍ مُوحَّدةٍ تحرّض على ممارسةٍ جمعيّةٍ لخلع الجزائريات حجابَهنّ، كان يهدف إلى طمس التنوّع الذي تعيشه الجزائريات المسلمات في أنماط حياتهنّ اليوميّة ومواقفهنّ؛ ذلك أنّ إقرارها بالطبيعة المعقّدة للمجتمع الإسلاميّ الجزائريّ، وإيمان أعضائه بقراءاتٍ دينيّةٍ مختلفةٍ تؤطّر أدوار الجنسين والعلاقات بينهما، كان سيقوّض قدرتها على إطلاق تعميماتٍ استشراقيّةٍ كسولةٍ تجاه الجزائريات، وبالتالي سيجعلها عاجزةً عن تصدير «رسالتها الحضاريّة» بالأريحيّة المنشودة أمام المجتمع الدوليّ. 

مونيك أميزيان، تقرأ بيان «التحرر» مكرهة من قبل الاحتلال الفرنسي لإنقاذ شقيقها من القتل، في 26 أيار 1958.

وفي حين كانت ألسنة الجزائريات تنتمي إلى لهجاتٍ متعدّدةٍ، ولغتَيْن محليّتَيْن مختلفتَيْن، وعاداتٍ ثقافيٍّة متباينةٍ، حيث لم يكن من عُرف نساء منطقة القبائل التحجّبُ أمام الغير، يمكن القول إنّ اصطناع تجانُس النساء الجزائريات في المواد الدعائيّة، وفق نسخةٍ موحّدةٍ جوهرانيّةٍ من الإسلام والحياة الثقافيّة، وترتيب فعاليّاتٍ مُلفّقةٍ تستهدفهنّ، يعبّران في جوهرهما عن رفض معظمهنّ لمشروع الجزائر الفرنسيّة، وإدراكهنّ المستقبلَ المثاليّ المتطلّعات إليه من باب الحركة الوطنيّة الجزائريّة، ما يفسر عجزَ الحركة الاستعماريّة عن إيجاد نماذج حقيقيّة متعطّشة لخلع الحجاب من النساء الجزائريّات.

من ناحيةٍ أخرى، يمكن القول إنّ السلطات الاستعماريّة الفرنسيّة، في غمرة ادعائها «تحريرَ» الجزائريات المسلمات أثناء ثورة أهل البلاد، عمدتْ إلى نزع الفاعليّة عنهنّ، بالتعاطي معهنّ كضحايا عاجزاتٍ، وكائناتٍ مفعولٍ بهنّ يتلقَيْن «التحوّل» على يد الفرنسيات الفاعلات بجدارةٍ. نجد هذا مُتجليًا في عديد الصور التي التقطها المصورون العسكريّون ضمن حملة كشف وجوه الجزائريات العاديات ورؤوسهنّ، لتلعب المستوطنات الفرنسيات دورَ «البطلات المخلّصات» لهنّ من عَسَفِ «الرجعيّة الأبويّة والدينيّة»، برفعهنّ ضمن إطار الصورة الحجابَ عن وجوه الجزائريات، بينما تظهر الأخيرات مجرّدَ خاضعاتٍ متلقّياتٍ للفعل. 

 فيما مالتْ عمليّةُ إنتاجٍ أخرى للصور من وراء عقد مقارناتٍ صريحةٍ بين الأوروبيات والجزائريات المسلمات اللائي ظهرْن برداءاتهنّ المحليّة الشعبيّة، وبلا مساحيق تجميلٍ وتصفيفاتِ شعرٍ عصريّة كما الفرنسيات، إلى تحريض المُشاهِدين على تذويت فكرة حاجة الجزائريات إلى قطع طريقٍ شاقّةٍ ليبلغْنَ مرتبةَ الفرنسيّات ويصبحن مُتعادِلاتٍ معهنّ، من حيث عصرنتهنّ واستهلاكهنّ المنتجات الأوروبيّة والأمريكيّة، على نحوٍ يستدعي عُمرًا طويلًا للمشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ تحت غطاء الحاجة الزمنيّة الطويلة للسلطات الفرنسيّة في إعادة تأهيل المسلمات وتقويم أنماط حياتهنّ. تساوقَ مع هذا فنانون فرنسيّون اشتغلوا على إضفاء الطابع الجنسانيّ على الحجاب الذي أعادوا قراءتَه كعلامةٍ ثاقبةٍ على «آخريّة» المجتمع الجزائريّ «القمعيّ»، ليحوّلوا بذلك التخلّيَ عن الحجاب إلى علامةٍ على التنصّل من تلك الآخريّة، وبدء التماهي مع الفرنسيّة الاستعماريّة. 

«ألستِ جميلة؟»

لم تتوقّف بروباغندا المكتب الخامس عند هذا الحدّ من التهييج الإعلاميّ لكرنفالات خلع الحجاب أمام الجمهور في ذروة الثورة الجزائريّة، إنما اتّبعتْ وسائلَ أخرى تلعب على وتر الأنوثة المُختزلة بمعياريّتها الأوروبيّة، وتهدف إلى إثارة الإحساس بنقص الأنوثة أو انعدامها لدى الجزائريات المحجّبات. تمّ ذلك عبْر الملصقات الدعائيّة بالدرجة الأولى، التي كرّستْ معادلةً أحاديّةً للجماليّات الأنثويّة، بل وفرزت المرأة المسلمة إلى كيانٍ أنثويٍّ من عدمه، مُسترشِدةً بذلك بخلع الحجاب كعلامةٍ على الثقة بالجمال الذي تتمتّع به بعضُ الجزائريات، مقابل الوصم الضمنيّ لنظيراتهنّ المحجّبات بالقبح والافتقار إلى علامات الأنوثة التي يفترض بهنّ الإفصاح عنها، بغية تمكين الرجال الفرنسيين من مداعبة تخيّلاتهم الاستشراقيّة الجنسيّة حيالهنّ. 

جاء ذلك في ملصقٍ تحتلّ فيه الجزائرياتُ المحجّباتُ موقعَ المؤخّرة، فيما تحتل نظيراتهنّ اللائي باشرنَ بكشف جزءٍ من أوجههنّ موقّع المقدمة، مع عبارةٍ مُحمَّلةٍ بسؤالٍ استنكاريٍّ «ألستِ جميلة؟»، وأخرى من مثل «كوني امرأةً مثل الأخريات». تزامنَ هذا مع تصدير السلطات الاستعماريّة إلى الحيّز العام شخصيّةً دينيّةً وازنةً روّجتْ بدورها لخطابٍ يكسر العلاقة ما بين الحجاب والإرث الإسلاميّ، بغرض طمأنة الجزائريات بأنّ إقدامهنّ على خلع الحجاب لن يزعزع صورتهنّ أمام أنفسهنّ والمجتمع الجديد بكونهنّ مسلماتٍ صالحاتٍ. امتدّ التلفيقُ الاستعماريّ ليطال التمثيلاتِ المنتشرةَ للمسلمة الجزائريّة على البطاقات البريديّة، المحمولة على مظهرها «البدائيّ» وتعرّضها لمصفوفة الاضطهاد الأصلانيّ، مُساهِمةً بذلك في صياغة مخيّلات الفاعلين الدوليين ومعتقداتهم الاستشراقيّة الجامدة حول النساء المسلمات ومجتمعاتهنّ. 

ديناميكية الحجاب بعين الثورة الجزائريّة

مقابل الإمعان الاستعماريّ في تجميد رمزيّة الحجاب (الحايك الجزائريّ) كعلامةٍ على «القمع الإسلاميّ» والتراتبيّة الجندريّة التي تستوجب التبديد، تمكّنت الثورة الجزائريّة من إضفاء الطابع الديناميكيّ المتحوّل على الحجاب، وإشباعه بحزمةٍ من الوظائف والمعاني المتعدّدة والمتضاربة، بما ينسجم والتبدُّل في الشروط الموضوعيّة التي تخضع لها معركةُ التحرير. فلطالما مثّلَ التشبّثُ بارتداء الحجاب أداةً للمقاومة بوجه آلة الرغبات الاستعماريّة في نزع «الحايك» عن أجساد الجزائريّات، كبوصلةٍ نحو تشظية الهويّة الثقافيّة للجزائر وتكريس تبعيّة الرجال والنساء على حدٍّ سواء، بذريعة أنّ «الرجل الأبيض يحمي المرأةَ الملوّنةَ من الرجل الملوّن».

ظلت الدعاية الفرنسيّة حول تتويج الجزائريات على عرش السياسة بمناصب عليا، ملتزمةً بالخطّ الاستشراقيّ من جهة اختزال «تطورهنّ» السياسيّ في لباسهنّ ومظهرهنّ المتحوِّلَيْن بفعل بصمتها «الاستثنائيّة» عليهنّ

في غمرة المقاومة تلك، تطلّبتْ إحداثيّاتُ ميادين الثورة إضفاءَ تشكيلاتٍ سيميائيّةٍ وعمليّةٍ جديدةٍ على الحايك الجزائريّ، تقضي بدورها بأنّ خلعه مُلهمٌ من الناحية الوظيفيّة للمعركة، لتمكين المقاتلات من «التسلّل» إلى المدن والمستوطنات الأوروبيّة في بلادهنّ، بغية تنفيذهنّ أعمالًا كفاحيّةً ضدّ المجتمع الذي يستعمرهنّ. وإذ استحال خلعُ الحجاب في نقطةٍ زمنيّةٍ محدّدةٍ ضربًا نضاليًّا لا مناصَ منه لتبديد أيِّ ريبةٍ محتملةٍ قد يثيرها مظهرُ الثائرات الجزائريّات «الغازيات» بأعين المستعمِرين، بما يخدم إنجاح مهماتهنّ النضاليّة المُوكَلة إليهنّ، فإنّ نجاح هذا التكتيك يستبطن براعةَ الثورة في استغلال الصور النمطيّة الاستشراقيّة التي عادةً ما شكّلَ المستعمِرُ الفرنسيّ النساءَ الأصلانيّاتِ من خلالها، وتضمّنتْ بالضرورة استبعادًا لاحتماليّة عدم ارتدائهنّ الحجاب في حيواتهنّ اليوميّة. 

وبينما طوّعتْ بعضُ المقاتلات الجزائريّات هيئتهنّ الجديدة بلا غطاء وجه ورأس، في سبيل زرع القنابل والأسلحة بخفّةٍ في أجسادهنّ، لتفجيرها بوجه المستوطنين في مستعمراتهم الحديثة، فإنّ أجسادهنّ انصهرتْ ضمن موقعٍ ديالكتيكيٍّ جديدٍ تطلّب جهدًا نفسيًّا لإعادة صياغة ذواتهنّ وحركاتهنّ ضمن الحيّزات العامة الاستيطانيّة، بما يتلاءم مع مطامح الثورة وتحقيق نجاحاتٍ عسكريّة. بطبيعة الحال، عاشتْ أجسادهنّ رحلاتٍ ديناميكيّةً شاقّةً ما بين «إطلاق العنان» لها ونسج علاقاتٍ مربكةٍ معها، بنزع الحايك عنها حالَ «غزوهنّ» جغرافيات المستعمِرين، وبين العودة إلى إرثهنّ المحليّ وارتداء الحايك فورَ دخولهنّ جغرافيات مجتمعهنّ المستعمَر.

 تصف الثائرة الجزائريّة حينذاك، مليكة إغيل أحريز، هذه الرحلة التي تضمّنتْ إعادة تشكيلها علاقةً جديدةً ودقيقةً مع جسدها وحجابها، بغاية تهريب الرسائل بين الأحياء الأوروبية والقصبة الجزائرية التي مثّلت معقلَ جبهة التحرير، بالقول:

«لقد كان شعري يواجه الريح … للعودة إلى القصبة، كنت أوقف سيارتي في شارع النصر … كان يمكن للمرء أن يراني أخرج من السيارة على الطراز الفرنسي، وكنت أدخل شقتي حيث أرتدي حجابي ومنديلي، وأخرج محجّبة وأتوجّه إلى القصبة. كنت أقوم بتسليم ما كان من المفترض أن أوصله، وألتقط ما كان من المفترض أن يخرج من القصبة؛ على سبيل الرسائل والأسلحة. كنتُ أمرّ بنفس زوبعة الحركات. في ردّهة الشقّة، أخلع الحجاب، وأضع الشفاه والنظارة الشمسيّة، وأخرج وأصعد مرّةً أخرى إلى سيارتي الجميلة».

في خضمّ الثورة، انكشف أمرُ عددٍ من أولئك الثائرات الجزائريّات، ليتم تقييدهنّ وأَسرهنّ في ظروفٍ لاإنسانيّةٍ، مثل جميلة بوحيرد وسامية لخضاري وزهرة ظريف التي أبانت التحقيقات معها عن وجود مخطّطٍ لإنشاء فيلقٍ نسائيٍّ ثوريٍّ. سرعان ما استدعت الريبةُ الاستعماريّةُ المُستجدّةُ من أجساد النساء غير المحجبات التي قد تحتضن الأسلحة بين جنباتها، العزوفَ عن خلع الحجاب ضمن متطلّبات المرحلة الثوريّة، ليضحي الالتزامُ بارتدائه أداةً نضاليّةً تتيح مساحاتٍ معقولةً من تهيئة أجساد الجزائريّات لتخبئة القنابل والرسائل بين جنباتها. بذا، تتبدّى دلالة الحجاب الرمزيّة ومساره الوظيفيّ في الحياة اليوميّة للمجتمع الجزائريّ، يتحرّكان بنشاطٍ بفعل زمن معركته الثوريّة ومجريات ميدانها وتطوّراته، خلافًا للرجعيّة الاستعماريّة في تسكين الحجاب كأيقونةٍ للرجعيّة المحليّة، لتنتصر موضعة الحجاب في قلب السياسيّ والاجتماعيّ على اختزاله الاستعماريّ إلى مجرّد تصوّراتٍ ثقافويّة منفيّة السياسة والواقع المعيش. كما لا يمكن إغفال محوريّة الثورة الجزائريّة، بما أتاحته من مجالات تنقُّل الجزائريّات بين مواقعَ متناقضةٍ في علاقاتهنّ مع أجسادهنّ، في مساعدتهنّ على اكتشاف مناطق الراحة والتحرّر الطوعيّ خاصتهنّ، أكان بالإبقاء على الحجاب أو خلعه. 

أشكال الرفض لمشروع «التحرير»

رغم كلّ المساعي الاستعماريّة السابقة، من وراء حملة «تحرير» الجزائريّات المسلمات، إلى تدجينهنّ وضمهنّ إلى الفلك المعاديّ للحراك الثوريّ، نتيجةَ فاعليّتهنّ غير المسبوقة تحت مظلّته، غير أنّ معظم النساء أبدَيْن أشكالًا ضمنيّةً وصريحةً من رفض تلك الحملة، على نحوٍ استبطنَ تمتّعًا بوعيٍّ قوميٍّ حادٍّ مكّنهنّ من التقاط الأهداف الحقيقيّة لمشروع «التحرير» ذاك. فمن جهة، لم تستكن الجزائريات لعمليّة إرغامهنّ على خلع الحجاب كشرطٍ ضروريٍّ لإصدار بطاقات الهويّة لهنّ في وقتٍ متأخّرٍ من الثورة الجزائريّة، ضمن ممارسات إحكام السيطرة على النسيج الاجتماعيّ الجزائريّ وضبط إمكاناته إحصائيًّا وحيويًّا. قابلتْ غالبيّة الجزائريات هذه الأساليبَ الإكراهيّةَ التي انطوتْ على ما اعتبرْنها إهانةً لعاداتهنّ الثقافيّة الحياتيّة، بازدراءٍ واستهجانٍ كبيرَيْن، لنلمس هذه المشاعرَ في صور بطاقات الهويّة التي التقطها الجيش الفرنسي لهنّ، حيث كنَّ ينظرن إلى الكاميرا ببالغ الازدراء وهنّ مُكرهاتٌ على نزع النقاب عن وجوههنّ. 

من جهةٍ أخرى، عبَّرَ استمرارُ انخراط الجزائريّات في الميدان النضاليّ المحمول على محو الاستعمار الاستيطانيّ الفرنسيّ، عن مقاومةٍ صريحةٍ وواعيةٍ لحملة «تحريرهنّ»، وإخفاق الأخيرةِ في إحقاق معظم أهدافها. فبحسب فرانز فانون، ابتغت السلطات الاستعماريّة من وراء تلك الممارسات، تفتيت النسيج المجتمعيّ وشرذمة نسائه عن رجاله في صياغة تشكلاتهم/نّ السياسيّة والاجتماعيّة، ليمتدّ الاستهدافُ من حدود الجزائريات باتجاه ضرب مكامن القوة المعنويّة والاعتداد الثقافيّ الأصلانيّ عند الرجال الجزائريين، من بوّابة تبديد «التحرير» مشاعرَ الوصل المصيريّ مع نسائهم، بما يضمن كسر إرادة الحركة الوطنيّة نحو الاستقلال. 

غير أنّ الحراك الثوريّ كان مُتيقّظًا لكلّ ما جرى ذكره، لتنغمس جبهة التحرير الوطنيّ في الدراسة النقديّة لحملة «التحرير»، مُنتهيةً إلى أنّ رغبةَ المستعمِر في تصميم المجال الوجدانيّ للجزائريات المسلمات، بحضّهنّ على استشراف راهنهنّ ومستقبلهنّ المثاليَيْن حصرًا في كنفه، مدفوعةٌ برغبةٍ عظمى في إماتة المدّ النسائيّ المقاوم، وتقويض ممكناته المستقبليّة، كشرطٍ مرجعيٍّ لضمان حسم المعركة الكبرى عسكريًّا لصالحه.

عنف حداثة حملة «التحرير»

بينما كانت صور الاستعمار الفرنسيّ وحناجره تصدح بخطابات «تحديث» المسلمات الجزائريّات، وتقويم الحيوات التي يعشنها، كانت أطوار الحداثة التي يتحجّج بها لتأهيل المسلمات أثناء سَيْر الثورة الجزائريّة، هي ذاتُها تنتج عنفًا جسديًّا ورمزيًّا فظًّا تجاههنّ، وتعيد إنتاجه بإخضاعهنّ إلى أشكالٍ مميتةٍ من التعذيب، وتهجيرهنّ قسرًا من منازلهنّ لتوطينهنّ في المخيّمات. وظّفَ الجلّادون تجلّيات الحداثة، على سبيل المياه العادمة والكهرباء، في عمليّة نحْتِ آثار التعذيب على أجساد المناضلات الثوريّات، لُتمرَّر الكهرباءُ على أعضائهنّ التناسليّة، وتُدقّ البراغي على جوارحهنّ. بلَغت فظاعة الحداثة الاستعماريّة مبلغَ اغتصاب المُقاتِلة القوميّة جميلة بوباشا، بالاستعانة بزجاجة الكوكا كولا التي تُعدّ علامةً مهمةً من علامات الاستهلاك المُستجدَّة التي أفرزتْها الحداثة المُعولَمة. 

وفي حين كان المستوطن الفرنسيّ مُستميتًا في نزعه الحجابَ عن وجوه الجزائريات، تحت عناوين تمكينهنّ وتصديرهنّ إلى الحيّز العام، فإنّه أعاد تشكيل الحجاب الذي تنصّلَ من دورة حياته الواقعيّة، كأداةٍ جديدةٍ مُندرِجةٍ ضمن عُدّة التعذيب في سجونه، لتُربَط به النساء من أطرافهنّ في غرف التعذيب. جاء هذا بالتزامن مع تعذيب النساء الحوامل بإرغامهنّ على الجلوس على بطونهنّ، في الوقت الذي كان يُصدِّر فيه المستعمِرُ رغبتَهُ في «تحديث» النساء من باب رغبته في تحويلهنّ إلى ربّات بيوتٍ معاصراتٍ، يحقّقْنَ الرفاهيّة لأطفالهنّ وذواتهنّ. 

بالمجمل، يمكننا الخلوص إلى أنّ مفارقةَ احتلال أحد الأعضاء المركزيين لحملة «التحرير»، جاك ماسو، مكانًا محوريًّا في الإشراف على ممارسات اغتصاب السجينات الجزائريّات، بما يمتدّ إلى مفارقة شغْل زوجته، سوزان ماسو، مكانًا حيوّيًا في حركة التضامن النسويّ الفرنسية، تعكس رمزيّةً عاليةً من جهة تكثيفها شكلانيّةَ وصوريّةَ عمليّةِ «التحرير» الاستعماريّ للنساء المسلمات، والتي لطالما شكّلتْ غطاءً خطابيًّا على سلب حريّة النساء وطمس فاعليّتهنّ، بل وتعدّديّة أشكال العنف الاستعماريّة، المُمارَسة بأنماطها السريعة والبطيئة ضدّ الجزائريّات، خاصةً ضدّ من انتمين بوفاءٍ إلى سنوات التضحية الكامنة في الثورة الجزائريّة المجيدة. 

خاتمة

إنْ تمعنّا جيدًا بكيفيّة تشكُّل حملة «تحرير» الجزائريات المسلمات، وتفاعلات الأخيرات معها أثناء اشتعال الثورة الجزائريّة، فيمكننا القول إنّ هذه الحملة يستوجب توظيفُها في سياق التدليل على دور الفاعليّة العظيمة للإنسان الأصلانيّ في تحريض المستعمِر على تحريك عقله، وصياغة أفكار جديدةٍ يكون بمقدورها التجاوبُ مع أفكار المستعمَر وممارساته النضاليّة من حيث التخريب عليها وتطويق قواها. بكلماتٍ أخرى، يحفّزنا التأمّل في مشروع «تحرير» المسلمات الجزائريّات، على إعادة قراءة ممارساتٍ استعماريّةٍ كثيرةٍ بشكّل يُغلِّب اعتبارَها أطوارًا «معقلنةً» من ردود الفعل والاستجابة الوجوديّة لفعل المستعمَر المقاوم، على التعاطي معها كأفعالٍ يقرّرها المستعمِرُ بالدرجة الأولى، ويتفاعل معها المستعمَرُ على هيئة ردودِ فعلٍ ليس إلا.

بذا، فإنّ المشاركة الفاعلة للجزائريّات المسلمات في دفع الثورة الجزائريّة إلى الأمام على الصعيد الماديّ، وإرغام المجتمع الدوليّ على استحداث نظرةٍ غير مألوفةٍ تجاههنّ وثورتهنّ على الصعيد الرمزيّ التمثيليّ، تتبدّى الفعلَ الأصلانيَّ المؤسّسَ لصياغة المستوطن الفرنسيّ مشروعَ «تحريرهنّ»، ليمثّل الأخيرُ مجرّدَ انعكاسٍ لذاك الانغماس النسائي، وردّ فعلٍ على ظهورهنّ «الحضاريّ» بمعزل عنه، مُستقرِئًا بداخله هواجسَ انهيار المنظومة الاستيطانيّة، والتي أثارتْها بالضرورة بصمةُ المقاتلات المسلمات لنيل الاستقلال في خضمّ الثورة الجزائريّة. هكذا يُضحي مشروعُ «تحرير» المسلمات، في ضوء الوعي بمسوّغات تدشينه، بمثابة فرصةٍ نقديّةٍ لنا للتحرّر من ذهنيّة المستعمَر المُكبَّلة بأسطورة الفاعليّة المطلقة للمستعمِر في تصميم ممارساته القهريّة والتدجينيّة بحقّ المستعمَر على حدٍّ سواء، مقابل إرساء ذهنيّةٍ أخرى تُموضِع المستعمَر فاعلًا مركزيًّا في عمليّة تعيين المستعمِر مشاريعَه، وتجديد أدواتِه باستمرارٍ.

من جهةٍ أخرى، يمكننا القول إنّه على الرغم من إخفاق مشروع «تحرير» المسلمات الجزائريات في النيل من المجتمع الأصلانيّ ونسائه في غمرة الثورة الجزائريّة، غير أنّه سجّلَ اختراقًا ملحوظًا من جهة تلقّي غالبيّة المجتمعات الإعلاميّة والدبلوماسيّة الدوليّة دعايتَه الممنهجةَ بعين الحقيقة الثاقبة، لا الخطاب الناشئ عن نظامٍ معرفيٍّ مُندغمٍ في نظام سلطةٍ استعماريّةٍ تلجأ إلى قوى التلفيق والتلاعب بالنصوص والصور، لإحقاق رغباتها الاستعماريّة الاستيطانيّة. وعليه، فإنّه بعدما أُدرجتْ خطاباتُ فرنسا وتمثيلاتُها «الحداثيّةُ» في خانة الاتّهام والشكوكيّة، على إثر قصص التعذيب والاغتصاب، واجتياح صورِ المناضلات القوميّات بحلّتهنّ «الحديثة» المشهدَ الدوليّ، تمكّنتْ بروباغندا «المكتب الخامس» من نقلها إلى مصاف الصدقيّة والاحتفاء بـ«إعادة تشكيلها» حيواتِ المسلمات نحو «المصائر المثاليّة»، خاصّةً من جهة إقناع العالم بعزوف الجزائريّات عن الدخول إلى المجالات العامّة، والانغماس في المشهد السياسيّ، قبل بدء حملة «تحريرهنّ». 

بتعبيراتٍ أخرى، إنّ ظَفْرَ الاستعمار الفرنسيّ في رحلة منافسته الخطابيّة للحراك المُجابهِ له على استحقاقه «الاحتفاظَ» بالجزائر و«رعايةَ» شعبها، يُعزى إلى تغافُلِ العين الدوليّة عن قراءة مُنتجات «المكتب الخامس» الموجَّهة إلى الاستهلاك العالميّ أثناء الثورة الجزائريّة، بشرط استحضارها هويّةَ المُنتِج السياسيّ، وكيفيّةَ جريان عمليّة الإنتاج، والظروفَ المُواكِبَةَ لها، مقابل استدخالها حِزمةَ النصوص والصور الاستعماريّة المُرتّبة سلفًا ضمنَ عمليّة اشتقاق واستخلاص المعرفة «الحقيقيّة» منها حول عيش الجزائريّات المسلمات حياةً مُحدَّثةً رغيدةً محفوفةً بالعصرنة والتحرّر، على نحوٍ أدرجَ فرنسا ضمن المواقع المعرفيّة الدالّة على «نموذجيّة» كينونتها باعتبارها «مشروعًا للحداثة والتنوير». 

يستدعي ما سبق إعادةَ قراءةِ هذا التراث الاستعماريّ الذي نعيش اليوم زمنَ «تحريره البطيء» من «أسْر» سلطاته الأرشيفيّة والمتحفيّة، على أساس النظر إلى منتجاته النصيّة والبصريّة كعملياتٍ متواترةٍ من إنتاج المعرفة والتلاعب بها، لتحثَّ المتفاعلين معها على التشكيك بمشاهدها الإخراجيّة النهائيّة، والحفر في طبقات ما قادَ إليها، بما يشتمل على تفكيك أنماط العلاقات المنسوجة بين النساء الأصلانيّات ونظيراتهنّ المستوطنات داخل حيّزاتها، علاوةً على التمعُّن في أوجههنّ وإيماءاتهنّ، وحركة أجسادهنّ في الفضاءات التي يتموقعنَ فيها، كالمرأة التي تبدو مشدوهةً من ذراعيها اللتَيْن أقدمتْ إحدى المستعمِرات على كشفهما في المجال العام، أو تلك التي ترمق الكاميرا بنظرةٍ مُشبّعةٍ بالازدراء.

في الختام، نستنتج أنّ النبش في تاريخ حياة الصورة إلى حدود ما يسبق التقاطها وتجميد «واقع» الجزائريّات داخل إطارها في خضمّ الثورة، يجلب إلى حاضرنا شظايا عنفِ «التحرير» المطموسة والمتناثرة بين صورةٍ هنا ومُلصقٍ وممارسةٍ مخفيّةٍ هناك. ففي اللحظة التي نشهد فيها مُوالَفَةً بين تلك الشظايا، ينزاح القناع الإنسانويّ عن حملة «تحرير» الجزائريّات، ليتراءى لنا القسرُ والاستغلال وسلب الحريّات، من قلب تمظهرات الحداثة الاستعماريّة على سبيل التعذيب والسيطرة الحيويّة على الجزائريّات، الوجهَ الفعليّ المتخلّف لمشروع «التحرير» الاستعماريّ في الزمن التقدّميّ للثورة الجزائريّة.

  • الهوامش

    Perege, Elizabeth. «The Veil or a brother’s life: French manipulations of Muslim Women’s images during the Algerian War, 1954- 62.» The Journal of North African Studies 20, no. 3 (2015): 349- 373.

    فانون، فرانز. العام الخامس للثورة الجزائريّة. ترجمة: ذوقان قرقوط. بيروت: دار الفارابي، 2004.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية