لم يعد سرًّا أنّ ما يشهده لبنان حاليًّا بات يمكن تصنيفه كأحد أكبر الانهيارات المصرفيّة التي شهدها التاريخ الحديث، إن لم يكن أكبرها على الإطلاق، فيما يشير البنك الدولي إلى أن ما يمر به لبنان قد يمكن تصنيفه كأحد أشد ثلاث مآزق اقتصاديّة عالميّة منذ منتصف القرن التاسع عشر. بالنسبة إلى القطاع المالي بالتحديد، أي المصارف التجاريّة والمصرف المركزي معًا، تركّزت عوارض هذا الانهيار على شكل فجوة كبيرة من الخسائر المتراكمة في الميزانيات، تجاوزت قيمتها في نهاية شهر أيار الماضي حدود 77.88 مليار دولار، من أصل أكثر من 144.92 مليار دولار من الأموال المودعة في القطاع من قبل المودعين والمصارف الأجنبيّة، ما يعني أن الخسائر أكلت أكثر من 53% من هذه الأموال. وكنتيجة لهذا الحجم الضخم من الخسائر المتراكمة، ترك الانهيار المصرفي آثاره القاسية على شكل تراجع كبير في التحويلات الماليّة الواردة إلى لبنان، ما أدّى إلى تسريع انهيار سعر صرف الليرة اللبنانيّة، كما انعكس على شكل قيود مشددة على السحوبات النقديّة من المصارف والتحويلات إلى الخارج.
لكنّ جميع المؤشّرات تدل على أنّ أسوأ ما يمكن أن يواجهه المقيمون في لبنان جرّاء أزمة المصارف لم يحصل بعد. فتدريجيًّا، وبحلول الربع الثاني من السنة الحاليّة، بدأت المصارف اللبنانيّة تواجه أزمة انحسار نطاق علاقاتها مع المصارف المراسلة الأجنبيّة في الخارج، من خلال إقفال حسابات المصارف اللبنانيّة لدى المصارف المراسلة الأجنبيّة. علمًا بأن المصارف المراسلة الأجنبيّة هي صلة الوصل الوحيدة التي يعتمد عليها لبنان للتواصل مع النظام المالي العالمي، ما يعني أن هذه الظاهرة من شأنها أن تهدد بعزلة البلاد ماليًا عن العالم الخارجي. أما التطوّر الأخطر الذي حصل بالتزامن مع هذه الظاهرة، فهو المصاعب التي بدأ المصرف المركزي في مواجهتها عند محاولته فتح الاعتمادات في الخارج، مع الإشارة إلى أنّ الاعتمادات هي وسيلة دفع معتمدة عالميًّا في التجارة الدوليّة.
باختصار، بدأت كل هذه الأحداث تهدد لبنان بالخروج من النظام المالي الدولي، ما يمكن أن يحوّل البلاد إلى جزيرة معزولة اقتصاديًّا. لكنّ أهم ما استجدّ أيضًا خلال الأشهر الماضية، كان انخفاض حجم التداولات الماليّة المحليّة عبر المصارف اللبنانيّة إلى أدنى مستوياتها، بالإضافة إلى انخفاض مستوى الاعتماد على وسائل الدفع المصرفيّة للغايات التجاريّة، إلى الحد الذي يشير إلى تحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد قائم على تداولات النقد الورقي، الخارج عن تداولات المصارف المحليّة أو الأجنبيّة. وبذلك، بات يمكن القول إن غالبيّة تداولات البلاد التجاريّة باتت تتجه إلى الخروج من النظام المالي كليًّا، في شكل قاسٍ من أشكال الإقصاء أو الاستبعاد المالي الجماعي، أي انقطاع الصلة بالخدمات الماليّة الأساسيّة، وهو ما سيترك تداعيات خطرة على نوعيّة الحياة في لبنان.
وهكذا، كانت الأزمة الماليّة اللبنانيّة تتحوّل خلال الأشهر الماضية من أزمة ائتمان تطال سلامة الودائع الموجودة في القطاع المصرفي، إلى أزمة شاملة تفقد القطاع المصرفي اللبناني قدرته على تقديم أبسط أشكال الخدمات المصرفيّة. مع العلم أن هذه التطورات تمثّل منعطفًا مستجدًا وخطيرًا، ومختلفًا تمامًا عن نوعيّة المخاطر التي واجهها القطاع المصرفي خلال العام الماضي.
أزمة مع المصارف المراسلة
أزمة المصارف اللبنانيّة مع المصارف الأجنبيّة المراسلة التي انفجرت خلال الأشهر الماضية، لم تكن سوى نتيجة مجموعة من العوامل التي تراكمت على مدى السنوات الخمس الماضية. فسنة 2016، ومع تسارع عمليات تحويل الأموال من النظام المالي اللبناني إلى الخارج، لجأ المصرف المركزي إلى عمليات استثنائيّة عُرفت في ذلك الوقت بالهندسات الماليّة. هذه العمليات، قامت على عرض أرباح طائلة للمصارف اللبنانيّة، مقابل نقل سيولتها من الخارج إلى خزائن المصرف المركزي، حيث كان الهدف من هذه العمليات تعويم موجودات المصرف المركزي بالسيولة بالعملات الأجنبيّة.
بموازاة العزلة التي بدأت تعاني منها البلاد اقتصاديًّا، بدأت جميع التداولات الماليّة المحليّة تخرج تدريجيًّا من النظام المصرفي بشكل كامل، لتتجه نحو نظام التداول بالنقد الورقي.
وبالفعل، تجاوبت المصارف اللبنانيّة مع هذا المسعى ونقلت معظم سيولتها من حساباتها في المصارف المراسلة إلى المصرف المركزي في لبنان، وهو ما أدّى إلى تقليل هامش الربح الذي تحققه المصارف المراسلة الأجنبيّة من التعامل مع المصارف اللبنانيّة، نتيجة انخفاض أرصدة مصارف لبنان لديها منذ سنة 2016. ومع حصول الانهيار المالي في لبنان في أواخر 2019، وإعلان الدولة اللبنانيّة امتناعها عن سداد ديونها في شهر آذار 2020، سارعت المصارف المراسلة إلى تحصيل الديون والتسليفات التي منحتها للمصارف اللبنانيّة، بالنظر إلى ارتفاع مخاطر التعامل مع مصارف لبنان خلال الأزمة، بالإضافة إلى هبوط قيمة سندات الديون السياديّة اللبنانيّة التي كانت مودعة في الخارج كضمانة لهذه الديون. وبذلك، تقلّصت مجددًا ربحيّة المصارف المراسلة من تعاملاتها مع مصارف لبنان إلى أدنى حدود.
وفي مقابل انخفاض عوائد تعامل المصارف الأجنبيّة المراسلة مع المصارف اللبنانيّة في الخارج، كانت مخاطر هذه التعاملات ترتفع مع تفاقم عوارض الأزمة الماليّة اللبنانيّة. فالتحويلات الماليّة التي كانت تمر عبر المصارف المراسلة، انطلاقًا من المصارف اللبنانيّة، كانت غالبًا ما تتم مقابل إيداعات نقديّة مباشرة من قبل العميل طالب التحويل، بالنظر إلى فقدان الثقة بالمصارف وعدم استعداد العملاء لترك أرصدة وازنة في حساباتهم المصرفيّة. ولذلك، كانت هذه التحويلات تحمل في طياتها مخاطر تبييض الأموال، بالنظر إلى صعوبة تتبّع مسار هذه الأموال قبل إجراء التحويلات.
لكل هذه الأسباب التي تراكمت طوال الفترة الماضية، شهدت المصارف اللبنانيّة في الربع الثاني من هذا العام موجة إقفال لحساباتها لدى المصارف المراسلة في الخارج، ما جعل الكثير من المصارف المحليّة غير قادرة على تلقي أو إرسال التحويلات المباشرة مع الخارج، إلا في حال تمرير التحويلات عبر مصرف لبناني آخر لم يفقد بعد حساباته لدى المصارف الأجنبيّة. ومع تقلّص نطاق تعاملات المصارف اللبنانيّة مع المصارف المراسلة، بدأت المصارف اللبنانيّة تواجه مصاعب أخرى، من قبيل فقدانها القدرة على تمويل آلية الدفع عبر البطاقات المصرفيّة الدوليّة، أو فقدانها القدرة على فتح الاعتمادات المطلوبة كوسيلة دفع في عمليات التجارة الدوليّة. أما الخطر الرئيسي اليوم، فهو إمكانية فقدان آخر ما تبقى من حسابات قليلة مازالت تملكها المصارف اللبنانيّة في الخارج، ما قد يهدد بوصول البلاد إلى مرحلة العزلة الماليّة التامّة.
في الوقت نفسه، كان المصرف المركزي نفسه قد بدأ بمواجهة مصاعب مماثلة مع المصارف المراسلة في الخارج، بعد أن بدأت هذه المصارف تقطع واحدة تلو الأخرى علاقتها به، وهو ما أدّى إلى تحذير حاكم المصرف من «وضع صعب» بات يتجه إليه المصرف نتيجة هذا الواقع. مع العلم أن البلاد تعتمد على المصرف المركزي منذ أواخر سنة 2019 لشراء العملة الصعبة من أجل استيراد القمح والمحروقات والدواء والمواد الغذائيّة، وهو ما يعني أن انقطاع علاقة المصرف بالنظام المالي العالمي قد يضع البلاد على حافة أزمة يصعب استيعابها.
عمليًا، برر حاكم المصرف المركزي هذه الأزمة بقرار الامتناع عن سداد الديون الذي اتخذته الحكومة في شهر آذار 2020، بالإضافة إلى «الحملات السياسية الدعائيّة ضد المصرف». لكن من الناحية العمليّة، كان من الواضح أن ثمّة حسابات أخرى دفعت المصارف المراسلة إلى اتخاذ هذا النوع من القرارات، منها ارتفاع مستوى المخاطر القانونيّة الناتجة عن التعامل مع المصرف المركزي اللبناني، خصوصًا بعد أن بات حاكم المصرف نفسه عرضة لتحقيقات بتهم اختلاس وغسل أموال في كل من بريطانيا وسويسرا وفرنسا. ومن ناحية أخرى، باتت تدرك جميع المصارف الأجنبيّة حجم الإشكاليّات المرتبطة بانفاق المصرف لما تبقى من سيولة بحوزته بالعملات الأجنبيّة، والتي تمثّل عمليًا آخر ما تبقى من أموال المودعين العالقة في النظام المصرفي اللبناني، التي أودعتها المصارف في المصرف المركزي.
نحو النقد الورقي
بموازاة العزلة التي بدأت تعاني منها البلاد اقتصاديًّا، والتي بدأت بتهديد ارتباطها بالنظام المالي العالمي، بدأت جميع التداولات الماليّة المحليّة تخرج تدريجيًّا من النظام المصرفي بشكل كامل، لتتجه نحو نظام التداول بالنقد الورقي. فحجم الاعتمادات المستنديّة، وهي إحدى وسائل الدفع المصرفيّة المعتمدة للاستيراد، انخفضت في الربع الأول من العام الحالي إلى مستوى 54.79 مليون دولار فقط، بعد أن بلغت في الفترة المماثلة من العام الماضي حدود 315.02 مليون دولار، فيما بلغت في الفترة المماثلة من العام 2019 -قبل حصول الانهيار- نحو مليار و918 مليون دولار. من الناحية العمليّة، لا يمكن تبرير هذا الانخفاض الضخم بضمور الحركة التجاريّة في البلاد فقط، إذ إن حجم الاعتمادات بحسب هذه الأرقام انخفض بنحو 84% بين عامي 2019 و2020، في حين أن حجم الاستيراد لم ينخفض بأكثر من 41% خلال عام 2020 مقارنة بالسنة السابقة. باختصار، ثمّة نسبة وازنة من العمليات التجاريّة باتت تتم خارج النظام المالي كليًا، وهو ما يفسّر هذه الأرقام.
حركة الشيكات التي تمر بالنظام المصرفي، شهدت ضمورًا موازيًا، حيث انخفضت قيمة هذه الشيكات بالعملة الأجنبيّة إلى نحو 2.83 مليار دولار في أول شهرين من هذا العام، مقارنة بنحو 8.02 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام الماضي، فيما انخفض عدد الشيكات الإجمالي بين الفترتين من 1.47 مليون شيك، إلى 469 ألف شيك فقط. مع العلم أن البلاد كانت تشهد خلال العام نفس طبيعة الانهيار والانكماش الاقتصادي، ما يشير إلى أن الضمور في حركة الشيكات بين الفترين يعبّر عن انسحاب التداولات الماليّة من المصارف، لا تراجع ظروف الأسواق التجاريّة فقط.
انقطاع اتصال البلاد بالنظام المالي العالمي تدريجيًّا، نتيجة أزمة المصارف المراسلة مع المصرف المركزي والمصارف التجاريّة، وخروج التداولات الماليّة من النظام المالي المحلّي، كلها علامات تشير إلى أن معظم المقيمين في البلاد في طريقهم إلى ما يُعرف بالإقصاء المالي، أو الاستبعاد المالي، أي إخراجهم من دائرة المستفيدين من خدمات الأنظمة الماليّة، وعزلهم عن عمليات النظام المصرفي التقليدي.
وعند تفشي الإقصاء المالي بهذا الشكل الواسع النطاق، فالنتيجة ليست سوى تفشي مروحة واسعة من الآثار السلبيّة، كتسهيل عمليات تبييض الأموال، وتحميل التداولات الماليّة مخاطر معاملات النقد الورقي، بالإضافة إلى صعوبة تأمين التمويل المطلوب للمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم، في ظل تقلص دائرة الخدمات المصرفيّة. أما القطاع المصرفي التقليدي، فيقتصر دوره في هذا النوع من البيئات على تصريف الأعمال بغياب أي خدمات مصرفيّة فعليّة، من خلال اقتصار دوره على تأمين السحوبات والإيداعات النقديّة.