حظيت الانتخابات البلدية في تركيا هذه المرّة بأهمية استثنائية، إذ إنها آخر انتخابات تجري في الفترة الرئاسية الأخيرة -وفق التشريعات الدستورية الحالية- للرئيس القوي، رجب طيب أردوغان. وبالتالي فإن هذه الانتخابات ونتائجها مؤثرة بشكل جوهري على تشكيل المشهد السياسي التركي وأولوياته وصراعاته استعدادًا للاستحقاق الانتخابي المقبل في العام 2028 والذي يمكن أن نطلق عليه عهد تركيا ما بعد أردوغان، الذي يعتبره الكثيرون بداية صفحة جديدة في تاريخ البلاد.
وفي هذا الإطار، استيقظت تركيا على خريطة انتخابية تجاوزت كل التوقعات خاصة من حيث إنها حملت مجموعة من المفاجآت الكبيرة لا سيما مع حلول حزب الشعب الجمهوري في المرتبة الأولى وتحقيقه نصرًا كبيرًا لأول مرة منذ عقود وتعرّض حزب العدالة والتنمية لهزيمة مدوية لأول مرة في تاريخه.
نتائج الانتخابات: عرض موجز
بلغت نسبة المشاركة في هذا الاستحقاق الانتخابي 78.11% وشارك فيها 48 مليون ناخب من أصل أكثر من 61 مليون ناخب مسجل، في أقل نسبة مشاركة منذ العام 2004. ووفق النتائج غير الرسمية، صعد حزب الشعب الجمهوري إلى الصدارة بنسبة 37.76% بمقدار 17.385.867 صوتًا بينما تراجع حزب العدالة والتنمية إلى المرتبة الثانية بنسبة 35.48% بمقدار 16.339.297 صوتًا. وبذلك ولأول مرة في تاريخ المنافسة المستمرة بين هذين الحزبين أصبح الفرق بينهما 2.26% أي بمقدار 1.046.570 صوت لصالح الشعب الجمهوري.
من حيث توزيع البلديات؛ لطالما كان تركيز الأحزاب على الفوز بالبلديات الكبرى البالغ عددها 30 بلدية تشمل مدنًا تضم كتلة سكانية كبيرة تقدر بنسبة 72% من عموم سكان تركيا. ومن هذه البلديات حصل الشعب الجمهوري على 14 بلدية بينها أكبر خمس مدن تركية بعدما كان يمتلك 11 منها سابقًا، كما تقدم على مستوى بلديات مراكز المدن البالغ عددها 51 بلدية ليرفع حصته من 10 بلديات سابقًا إلى 21 بلدية حاليًا. وتمكن في هذا السياق من تثبيت سيطرته على ولايات الشريط الساحلي لبحار المتوسط وإيجه ومرمرة مع اختراق مجموعة وازنة من ولايات غرب تركيا الداخلية التي لطالما كانت قلاع قومية.
في المحصلة، تمكّن الشعب الجمهوري من الفوز في بلديات كبرى وبلديات مراكز مدن كانت تعتبر قلاعًا تاريخية لخصومه خاصة العدالة والتنمية محققًا ذلك في ظروف استثنائية تميّزت بأن التحالف الحاكم حافظ على تماسكه بينما تفتت تحالف المعارضة ودخل في منافسات داخلية.
هذه الانتخابات ونتائجها مؤثرة بشكل جوهري على تشكيل المشهد السياسي التركي وصراعاته استعدادًا للاستحقاق الانتخابي المقبل عام 2028 والذي يمكن أن نطلق عليه عهد تركيا ما بعد أردوغان.
على الجهة الأخرى، فشل العدالة والتنمية في تحقيق هدف استعادة البلديات التي خسرها عام 2019 لا سيما إسطنبول وأنقرة، وتراجعت حصته من البلديات الكبرى من 15 بلدية سابقًا إلى 12 حاليًا بما فيها خسارة بلديات مهمة مثل بورصا. وعلى مستوى بلديات مراكز المدن أيضًا فاز العدالة والتنمية بمجموع 12 بلدية مركز مدينة من أصل 24 بلدية كان يسيطر عليها سابقًا في خسارة كبيرة حتى في مناطق لطالما اعتبرت قلاعًا له، مثل خسارة بلديات مراكز مدن أضيمان، وكيليس (كلاهما في مناطق كارثة الزلزال)، وأفيون كاراحيصار (الولاية التي تأسس فيها الحزب). إضافة إلى ذلك، تلقى العدالة والتنمية ضربة كبيرة على مستوى بلديات أقضية المدن التي سيطر على 745 بلدية منها في العام 2019 ليتراجع هذه المرة بشكل حاد إلى 356 بلدية بما يشمل أقضية ذات وزن استراتيجي في المدن الكبرى.
تعتبر خسارة العدالة والتنمية لبلديات الأقضية في المدن الكبرى نهايةً لسيطرته على الأغلبية في مجالسها البلدية. فرغم خسارته للبلديات الكبرى في إسطنبول وأنقرة في العام 2019 إلا أنه ظل يحافظ على الصدارة في بلديات أقضيتها والأغلبية في مجالسها بما منحه هامشًا لمناكفة رؤسائها المعارضين. لكن تمكّن الشعب الجمهوري من تحقيق اختراق كبير جدًا رفع فيه عدد بلديات أقضيته في إسطنبول من 14 سابقًا إلى 26 بلدية حاليًا بينما تراجع العدالة والتنمية من 24 سابقًا إلى 13 بلدية. وأيضًا رفعها في أنقرة من ثلاثة سابقًا إلى 16 بلدية على حساب العدالة والتنمية التي تراجعت سيطرته من 19 بلدية سابقًا إلى 8 بلديات فقط.
كان من اللافت بروز نجم حزب الرفاه الجديد الإسلامي الذي يخوض الانتخابات المحلية لأول مرة منذ تأسيسه في العام 2018. تمكن هذا الحزب من الحلول ثالثًا بحصوله على نسبة 6.19% من الأصوات في زيادة بمقدار الضعف تقريبًا عن أصواته في انتخابات العام 2023. وجاءت نسبة كبيرة من الأصوات التي حصل عليها هذا الحزب من معاقل المحافظين، وعلى حساب حزب العدالة والتنمية وفي أماكن سيطرته التقليدية فانتزع منه بلديتيْ أورفا الكبرى ومركز مدينة يوزقات مع تمكنه من الفوز في 39 بلدية قضاء معظمها على حساب الحزب الحاكم أيضًا. حلّ حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، ممثل الحركة الكردية، رابعًا، محافظًا على نتيجته السابقة مع نجاحه في زيادة عدد بلديات مراكز المدن التي يسيطر عليها من خمس إلى سبع بلديات من خلال استعادة بلديات شرناق وآغري من العدالة والتنمية.
أما حزب الحركة القومية، حليف العدالة والتنمية، فحلّ خامسًا بحصوله على 4.98% من الأصوات. علمًا أنه دخل تحالفًا مع العدالة والتنمية بحيث لم يقدم مرشحين أصلًا في 52 بلدية بينهما 28 بلدية كبرى مقابل حصوله على دعم حليفه في سبع مدن بينها بلديتان كبيرتان. وقبل الانتخابات كان الحركة القومية يمتلك بلدية كبرى و10 بلديات مراكز مدن ليخسر البلدية الكبرى وينخفض عدد بلديات مراكز المدن التي يسيطر عليها إلى ثمانية بعد خسارته كوتاهيا وكاستمونو لصالح الشعب الجمهوري. أما الحزب الجيد الذي حل سادسًا فقد تعرض لهزيمة كبيرة بعد انخفاض أصواته إلى نسبة 3.77% بمقدار 1.734.406 صوت وعجزه عن تحقيق أهدافه بالفوز بعدة مدن كبرى وحصوله فقط على بلدية مركز مدينة واحدة هي بلدية نيفشهر و24 بلدية قضاء على مستوى تركيا.
كيف نفهم البطاقة الصفراء؟
رغم أن الفارق بينهما كان 10 أشهر فقط، جاءت نتائج هذه الانتخابات مختلفة بشكل صادم عن الانتخابات العامة والرئاسية الماضية. فكيف نفهم هذا التحول؟
عند النظر من زاوية هزيمة العدالة والتنمية التاريخية لا يختلف أحد على أن ملف الاقتصاد يتربع على رأس قائمة أسباب الهزيمة خاصة في ظل تجرّع البلاد وصفة علاج مُرَّة تستند إلى برنامج اقتصادي تقشفي. ففي ظل مشكلة التضخم والغلاء المعيشي، وعلى عكس انتخابات العام 2023، لم يتبن أردوغان مقاربة اقتصاد الانتخابات التي يقدم خلالها وعودًا اقتصادية كبيرة تخاطب مخاوف وتحديات فئات وازنة في المجتمع التركي. وبالتالي التزم الرئيس بالبرنامج الاقتصادي التقشفي معبرًا مرارًا عن ثقته ودعمه للبرنامج مع وعوده للشارع بأنه سيحل الأزمات بشكل دائم في المستقبل المنظور كما في حديثه المتكرر عن بدء انخفاض التضخم في النصف الثاني من العام الجاري.
وضمن الملف الاقتصادي، لعبت فئات بعينها دورًا رئيسًا في خسارة العدالة والتنمية للأصوات، إذ خسر الحزب بفارق ملحوظ في المدن الكبرى التي يعاني سكانها بشكل أكبر من الغلاء المعيشي ما دفعهم للتصويت ضد الحزب الحاكم، كما شكلت مظلومية المتقاعدين عاملًا في هذا الملف، إذ ورغم اعتراف أردوغان بأن الرواتب التي يتلقونها غير كافية إلّا أنه طالبهم بالصبر وانتظار نتائج البرنامج التقشفي المُر، فيما دعمت مطالبهم أحزاب المعارضة. وفي الوقت نفسه، يمكن ربط تراجع العدالة والتنمية ونزيفه بشكل مستمر[1] في كل استحقاق انتخابي بطول بقائه في السلطة بحيث أصابه الترهل وتجمعت عوامل غضب متنوعة ضده بما أفقده شرائح انتخابية مختلفة، كما لعب دورًا في ذلك صعود جيل شاب يبدو أقرب لفكرة التغيير.
أوضحت هذه الانتخابات أنه حتى الناخب الموالي للعدالة والتنمية سئم من المشاكل الاقتصادية إلى درجة أنها تفوقت لدى بعضهم على الولاء الأيديولوجي ما يجعل تحقيق انفراجات اقتصادية ملموسة أولوية بالنسبة للحزب الحاكم.
سبب آخر يراه البعض مؤثرًا في هذه النتيجة وهو استمرار التجارة مع «إسرائيل» في ظل الحرب على غزة الأمر الذي أثار حفيظة شريحة متنوعة من المواطنين حتى من الكتلة المحافظة الداعمة للعدالة والتنمية. سعى الغاضبون من استمرار التجارة مع كيان الاحتلال إلى تحويل الانتخابات إلى فرصة للتعبير عن عدم رضاهم عن الموقف الرسمي، وبالفعل انتشرت في يوم الانتخابات صور متنوعة لناخبين أبطلوا أصواتهم بكتابة شعارات منتقدة للحكومة في ملف غزة بالتحديد. وفي الوقت نفسه، حضر هذا الملف بشكل واضح في الجدل الانتخابي بين السلطة والمعارضة في ظل مطالبات أحزاب مثل الشعب الجمهوري، والسعادة، بوقف التجارة مع اعتبار زعيم حزب الرفاه الجديد، فاتح أربكان، بكل صراحة استمرار التجارة مع «إسرائيل» أحد أسباب خسارة العدالة والتنمية.
يمكن القول إن هذه الانتخابات شهدت تصويتًا عقابيًا، تحديدًا من شريحة وازنة من ناخبي العدالة والتنمية، وفيما امتنع البعض عن التصويت، وهو ما يفسر انخفاض نسبة المشاركة بنسبة 10% عن تلك التي كانت في العام الفائت، اتجه البعض نحو خيار آمن، وهو حزب الرفاه الجديد، القريب أيديولوجيًا من المحافظين، والذي تمكن من زيادة أصواته إلى الضعف على حساب الحزب الحاكم. يبرز في هذا السياق تساؤل رئيس عن سبب ظهور ردة الفعل القاسية هذه لدى جزء من الشريحة المحافظة في الانتخابات المحلية وليس في الانتخابات العامة لا سيما وأن الفارق الزمني بينهما ليس كبيرًا.
ويمكن القول إن الناخب المحافظ الذي اعتاد التصويت للعدالة والتنمية وكَوَته نار المشاكل الاقتصادية بما يفوق التحمل حاول استغلال الفرق بين الانتخابات المحلية والعامة لتوجيه رسالة قاسية لكن محسوبة للحزب الحاكم فيما يمكن اعتباره «بطاقة صفراء» للسلطة. إذ إن تأثير الانتخابات المحلية محدود على السياسة الداخلية والخارجية بالمقارنة مع الانتخابات العامة، بما يعني أن هزيمة العدالة والتنمية لن تؤثر بشكل مباشر على استقرار البلاد وشكل الحكم فيها، لكن تراجعه المحلي سيكون إنذارًا شديد اللهجة يدفعه للتغيير مع منحه فرصة لذلك. وهنا يمكن القول إن سلوك الناخب المحافظ المستاء وإن كان تعبيرًا واضحًا عن الغضب على العدالة والتنمية فإن توقيته وسياقه يعني أيضًا أنه لا يزال لا يثق كفاية بالمعارضة.
صعود «الشعب الجمهوري»
رغم أن تراجع العدالة والتنمية بذاته كان من بين أبرز أسباب تقدم الشعب الجمهوري إلا أن ذلك وحده ليس سبب هذا التحول الكبير في ظل ظروف تفتت المعارضة. حافظ الشعب الجمهوري على أصواته عند حوالي 13 مليون صوت في انتخابات العامين 2019 و2023، بينما صعدت أصواته بشكل دراماتيكي إلى مستوى 17 مليون اليوم. يمكن ربط هذا الصعود المفاجئ بأسباب متنوعة منها استراتيجية «تحالف تركيا» التي تبناها الحزب بعد فشل مساعيه للتحالف بشكل رسمي مع بقية أحزاب المعارضة. تركز هذه الاستراتيجية على تجاوز الأحزاب السياسية والسعي لمخاطبة ناخبيها بشكل مباشر من خلال التركيز على تخويف الناخب المعارض من احتمالية فوز العدالة والتنمية لدفعه للتصويت لمرشحي الشعب الجمهوري.
فإضافة إلى المترددين، تشير الأرقام إلى تمكّن الشعب الجمهوري من جذب أصوات ناخبي الحزب الجيد القومي وحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب الكردي في العديد من المدن الكبرى وهذا ما يُلاحظ من التراجع الكبير لهذين الحزبين كما في نموذج إسطنبول وأنقرة (فمثلًا حصل الحزب الجيد فقط على نسبة 0.63% في إسطنبول ونسبة 0.90% في أنقرة). دمجَ الحزب المعارض هذه الاستراتيجية بنجاح مع المشاكل الاقتصادية لا سيما ملف المتقاعدين ليحوّلها إلى جزء أساسي من أطروحته السياسية تجاه الناخبين، في إطار دعوته المستمرة لهم برفع البطاقة الصفراء في وجه السلطة. وبذلك نجح في إخراج المحليات من خانة المنافسة على الخدمات التي يبدو العدالة والتنمية متفوقًا فيها إلى خانة الجدل السياسي والاقتصادي المستمر.
وكذلك، يمكن القول إن شخصيتي رئيسي بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، وأنقرة الكبرى، منصور يافاش، لعبتا دورًا مركزيًا في نصر الشعب الجمهوري. فهذان المرشحان ليسا النموذج التقليدي للشعب الجمهوري بحيث أن لهما امتدادات أيديولوجية مختلفة تمنحهما مرونة كافية لمخاطبة مختلف الشرائح السياسية في تركيا بما وفر لهما طيفًا متنوعًا من الناخبين وفارقًا واسعًا عن خصومهما (أكثر من 28% في أنقرة وأكثر من 11% في إسطنبول). يتميز إمام أوغلو ويافاش أيضًا بأن لديهما كاريزما بارزة لدى ناخب المعارضة الذي يبحث عن شخصيات قيادية يصطف خلفها بعد سلسلة من الهزائم المريرة في السنوات الماضية. وعليه يمكن القول إن هذه العوامل مجتمعة وغيرها ساهمت في منح الشعب الجمهوري قدرة على جذب كتلة تصويتية ضخمة منحته هذا النصر التاريخي. وبذلك وبينما كانت أحزاب المعارضة منقسمة ومتصارعة كان الناخب المعارض بمختلف مشاربه متحدًا ضد العدالة والتنمية أولًا، في حين كانت أحزاب التحالف الحاكم متحدة لكن ناخبها منقسمٌ ومستاءٌ.
الطريق إلى 2028
لا تعني هزيمة العدالة والتنمية فقط خسارة بلديات مختلفة بما توفره من إمكانيات مادية مهمة ووصول إلى كتلة انتخابية ضخمة، بل وأيضًا تراجعًا معنويًا يتزامن مع صعود منافسين جدد أكثر شبابًا لديهم حضور كبير. يبرز في هذا السياق رجل إسطنبول الصاعد إمام أوغلو باعتباره شخصية قوية جامعة يراها الكثيرون في المعارضة مناسبة للترشح للرئاسة وقادرة على الفوز بها خاصة في فترة ما بعد أردوغان. وبالتالي فإن هذه الهزيمة تعني بأن أردوغان سيمضي سنوات ولايته الرئاسية المتبقية في الصراع مع مرشح أو مرشحين منافسين في ربيع حياتهم السياسية. وبذلك قد يواجه أصعب أربع سنوات في حياته السياسية كلها، خاصة وأنه يريد تجنب سيناريو تفكك العدالة والتنمية وخسارته قوته كما حصل تاريخيًا مع أحزاب تركية أخرى خسرت وزنها بمجرد غياب قيادتها الكاريزمية.
وبناء على هذا ينتظر أردوغان تحدي كبير زاد صعوبة مع هذه الهزيمة غير المسبوقة وهو تحدي إيجاد وتمكين خليفة له قادر على الحفاظ على تماسك الكتلة المحافظة الضخمة ومواجهة مرشحي المعارضة استعدادًا لاستحقاق العام 2028.
وأيضًا أوضحت هذه الانتخابات أنه حتى الناخب الموالي للعدالة والتنمية سئم من المشاكل الاقتصادية إلى درجة أنها تفوقت لدى بعضهم على الولاء الأيديولوجي ما يجعل تحقيق انفراجات اقتصادية ملموسة أولوية بالنسبة للحزب الحاكم. وبالتالي فإن الرسالة التي وصلت للعدالة والتنمية تجعل مستقبله مرتبطًا بقدرته على حل الأزمة الاقتصادية. تشير هذه التحديات المعقدة إلى أن العدالة والتنمية يحتاج إلى خوض مرحلة مراجعة ذاتية تدفعه إلى تجديد نفسه على شتى المستويات وتقديم صورة مجددة (العدالة والتنمية الجديد) مع توفير أجواء داخلية وخارجية مناسبة للاستقرار خاصة اقتصاديًا وإلا فإنه قد لا يتمكن من تجاوز التحديات التي تنتظره.
بعد فترة ثبات نسبي في خريطتها الانتخابية طوال العقدين الماضيين يبدو أن تركيا دخلت مرحلة جديدة قد يصعب حتى على أحزابها السياسية توقعها في المستقبل.
ومن ناحية أخرى، يمكن القول إن أبرز نتائج اللوحة الانتخابية الجديدة على الشعب الجمهوري هي منحه دفعة كبيرة جعلته يستيقظ من صدمة هزيمة العام 2023. فإضافة إلى الدفعة المادية الكبيرة التي ستزيد من قوته وقدرته على التأثير والتواصل عبر موارد بلديات جديدة، تمكن الحزب على المستوى المعنوي من استعادة الأمل ومنحه لقواعده وجمهور المعارضة من جديد. وكذلك استطاع كسر العديد من المسلّمات التي ظلت رائجة طوال عقدين مثل انحباسه في حاجز خفي عند مستوى 25% من الأصوات، وتفوق العدالة والتنمية وصعوبة اختراق قلاعه، وغياب الشخصيات الكاريزمية القوية العابرة للمعسكرات السياسية في صفوفه. يرى الكثيرون أن نصر 31 آذار يمثل مفتاح نصر المعارضة في عهد ما بعد أردوغان لا سيما في ظل صعود أسماء قوية وتمكنها من الفوز رغم تفكك المعارضة.
لا يخفى على أحد أن إمام أوغلو الطموح للرئاسة حصل بشكل خاص على دفعة كبيرة للسعي لهدفه بحيث أصبح أبرز شخصيات المعارضة بفضل شراكته في التغيير داخل الشعب الجمهوري ونصره بفارق واسع في إسطنبول. وبذلك، وبافتراض استمرار نزيف العدالة والتنمية، يملك الشعب الجمهوري فرصة واعدة للمنافسة على حكم تركيا في العام 2028 خاصة إن تمكن من تجاوز عدة تحديات؛ منها تجنب العودة إلى العقلية العلمانية المتشددة التي حشدت المحافظين مرارًا لصالح العدالة والتنمية، وإثبات نفسه عبر خدمات بلدية قوية بعيدًا عن الفساد، والحذر من الوقوع في صراع داخلي مدمر على هوية المرشح الرئاسي. وكذلك من المهم الإشارة إلى أن القيادة الجديدة للشعب الجمهوري التي يتزعمها ثنائي أوزل-إمام أوغلو تنظر إلى هذه النتائج بأنها موافقة شعبية على أدائها بما يعني تثبيت جذورها داخل الحزب وتوفير الاستقرار الحزبي وتأجيل أي معارضة داخلية.
وعلى خلاف الأزمات الداخلية المتوقعة في أحزاب مختلفة مثل الحزب الجيد بعد هزيمته والأحزاب الصغيرة المتنوعة بعد فشلها في تحقيق اختراق انتخابي ملموس، تمكن حزب الرفاه الجديد من تثبيت حضوره في السياسة التركية بقوة. إذ اقترب بشكل كبير من الوصول إلى العتبة الانتخابية البرلمانية البالغة 7% بشكل منفرد، ومنحه ذلك دفعة مادية ومعنوية جديدة بما سيزيد من استقلاليته بحيث لا يحتاج التحالفات مع الأحزاب الأخرى. من المتوقع أن يركز الرفاه الجديد في الفترة المقبلة على تقديم نفسه كبديل آمن للمحافظين خاصة المنفضين من حول العدالة والتنمية بما سيجعله أحد أبرز منافسيه، وفي الوقت نفسه، يمكن أن يتحوّل زعيمه أربكان إلى أحد أبرز المنافسين على الكتلة المحافظة في تركيا ما بعد أردوغان.
على أي حال، تظل نتائج الانتخابات وعلى ثقلها على العدالة والتنمية عند مستوى بطاقة صفراء تحذيرية بلهجة شديدة خاصة في ظل قدرته على الاستمرار في السلطة لأربع سنوات مقبلة. لكنها في الوقت نفسه أعادت ترتيب السياسة التركية من جديد بحيث سلبت الجميع أريحية الفوز السهل وأعادت حالة التوازن التنافسي القاسي بحيث تجبرهم على العمل بتفانٍ استعدادًا للاستحقاق الانتخابي المصيري المقبل. فبعد فترة ثبات نسبي في خريطتها الانتخابية طوال العقدين الماضيين يبدو أن تركيا دخلت مرحلة جديدة قد يصعب حتى على أحزابها السياسية توقعها في المستقبل. وهنا يبقى السؤال الرئيس هو هل يتمكن العدالة والتنمية من الاستفادة من فرصة السنوات الأربعة القادمة أم أن الشعب الجمهوري سيحوّل زخم نصره إلى رافعة تاريخية تحمله إلى السلطة؟
-
الهوامش
[1] حصل حزب العدالة والتنمية على 19.766.640 صوتًا في العام 2019 وعلى 18.586.137 صوتًا في العام 2023. فيما تراجعت أصواته بشكل دراماتيكي إلى مستوى 16.339.297 صوتًا في هذه الانتخابات.